قصص

الجواب الاخير

قعدت على الرصيف، حطيت وشي بين إيديا وسيبت نفسي، انهارت، عيطت، دموعي نزلت غصب عني في الشارع رغم إن انا عمري ما عملتها، لكن وقت ما كنت مداري وشي ودموعي ووانا في قمة انهياري، حسيت بإيد بتتحط على كتفي ومعاها سمعت صوت واحدة ست..
-هون على نفسك ياابني.. هون على نفسك ياحبيبي، العُمر مافيهوش كتير عشان نضيعه في الحُزن والعياط.
رَفعت وشي وبصيتلها، كانت ست عجوزة مُشردة، وشها متوسخ وشعرها مُجعد وهدومها مبهدلة.. مسحت دموعي وبصيت قصادي، بصيت للشارع ونسيت الدنيا، نسيت انا مين ومكانتي ايه، كل اللي كنت عاوزه في الوقت ده اني افضفض، وبالفعل فضفضت.
-مش دايمًا الحزن والعياط بيبقوا أسوء حاجة ممكن يمر بيها الانسان، عندك انا مثلًا.. مُخرج شاب ومستقبله في حياته المهنية مفروش بالورد، لكن في الحياة العامة، حياتي ضايعة.. وكل ده ليه، بسببها، هي السبب.. منها لله.
لما قولت كده للست من غير ما ابصلها، ردت عليا وقالتلي..
-مين هي؟!.. حبيبة؟.. خطيبة؟.. زوجة؟
جاوبتها وانا لسه باصص للشارع..
-لأ، أمي.. أمي النهاردة بوظت خطوبتي عشان سبب تافه؛ الهانم اعترضت على الجوازة وبوظتها بحجة انها مستكترة المهر، لا وايه، لما جيت الومها قالتلي ان الجوازة دي مش نافعاني، اهل العروسة شكلهم طماعين ومش واخدين الموضوع على انه حياة واسرة، هم واخدينه على انه تجارة وصفقة!.. كلام خايب وعبيط كانت بتبرر بيه موقفها.
-طب وهي هتبرر ليه؟!.. بلاش، هي ايه مصلحتها في إنها تبوظ فرحة ابنها، ده غير ان ايه مصلحتها في انها تقفل باب جواز ورزق غير انها شايفة ان الباب ده فتحته غلط.. ثم انت بتتكلم عنها كده ليه؟!.. دي امك، يعني مافيش حد في الدنيا هيحبك ولا هيخاف عليك قدها.
بصيتلها ورديت عليها وانا عنيا بتدمع..
-بس انا.. انا كنت بحبها..
-مش كل الحب ينفع يبقى جواز.. طب اقولك، انا هحكيلك حكاية جايز تفهم منها حاجة، او جايز لما تسمعها وتركز في تفاصيلها، تفهم ان امك كانت رايدة لك الخير… من فترة كده كان في شاب اسمه احمد صقر، احمد ده كان غني ومتجوز وعايش مع مراته وامه وعياله، بس بين يوم وليلة الحال اتبدل، مرات احمد عرضت عليه انه يضارب بمعظم فلوسه في البورصة، وبررت ده بأنها بتكسب وان جوز صاحبتها عمل منها ملايين، لكن ام احمد وقتها ماعجبهاش الكلام، وقفت قصاد مرات ابنها وقالتلها لأ، انا ابني مش هيضارب بفلوسه في حاجة مش مضمونة، هو كده كده بيشغل الفلوس اللي ورثها من ابوه في شغلانته وتجارته اللي ورثها من اهله.. بس وقتها احمد ماسمعش كلام امه، واللي قالته مراته اتنفذ، راح وسحب معظم فلوسه من التجارة وابتدا يضارب بيها، ولحسن حظه ان الفلوس زادت وكترت، ومع كترها الدنيا احلوت في عينه وافتكر انه كده خلاص، بقى ملك على الدنيا ومافيها.. لكن تعرف، الأم رغم ده كله قلبها كان حاسس، حذرت احمد اكتر من مرة وقالتله بلاش، كفاية لحد كده وخد اللي كسبته ورجعه للتجارة من تاني، لكن احمد ماسمعش الكلام، بل بالعكس، اتخانق مع امه خناقة كبيرة وعاملها بقسوة، ومع الوقت، الأسهم اللي كان مراهن عليها خسرت والفلوس طارت.. وبسبب ضياع الفلوس واحمد اتشل، وطبعًا مراته بعد مرضه وافلاسه، سابته وراحت عند اهلها، طب تعرف سابته ليه، سابته لانها من الأول ماكانتش هتستحمله لو كان فقير..
-طب والأم؟
-مش مهم الأم، المهم انت.. المهم قرارك ياابني، انت دلوقتي في إيدك كل حاجة، في إيدك انك ترجع لامك ولمستقبلك وتقفل الصفحة دي وتبدأ صفحات جديدة، او تبعد عنها وتمشي بدماغك وتعمل زي ما احمد عمل.. ها؟.. هتختار ايه؟!
سرحت، مخي راح لبعيد، رسمت سيناريوهات وافتكرت مواقف بيني وبين البنت اللي كنت بحبها وربطت الخيوط ببعض، ومع تربيطي لكل حاجة واقتناعي بكلام الست، قومت وقفت في مكاني وزعقت بلهفة..
-ام احمد وامي معاهم حق، كفاية لحد كده، ايوه كفاية لحد كده..
وبسرعة طلعت اجري على بيت، بوست ايد امي واتناقشنا وابتدينا نوصل لحل، ايوه امي كل اللي قالته كان صح، واكبر دليل على كده هو كلام الانسانة اللي كنت فاكر انها بتحبني تاني يوم.. هي تاني يوم خيرتني بين انها تفضل معايا او لا، وبين إن انا اسمع كلامها وكلام اهلها واجي على نفسي وكرامتي، بس على مين، انا خدت الموضوع تحدي ومشيت، ولما مشيت ربنا عوضني بالأحسن في شغلي وكمان قابلت انسانة ارتاحتلها.. وفي يوم ما روحت عشان اتقدم للأنسانة الجديدة دي، وقبل ما اروح انا وامي لبيتها، روحت لمكان الست المُشردة، ماكانتش قاعدة!.. بصيت حواليا واستغربت، ومع استغرابي وتدويري عليها بعنيا، لمحت كشك سجاير على الناحية التانية.. عديت الشارع وروحت عند الكشك وسألت الشاب اللي واقف جواه..
-مساء الخير ياعمهم.. ماتعرفش الست اللي كانت بتقعد على الرصيف اللي قصادك ده راحت فين؟!
هرش في راسه وبعد كده قالي بلهفة..
-اااه.. الست سعاد، ياعمنا دي الله يرحمها، ماتت من يجي شهرين ونص كده، فضلت تكح وتكح لغاية ما سلمت السر الإلهي، وبعدها، جت الاسعاف شالتها، وبعد كام يوم عرفنا انها ماتت ودفنوها في مدافن الصدقة، ألا هو انت تعرفها؟!
-يعني.. شوية.
-طب الله يباركلك، لو تعرفها ويعز عليك أمرها، خد الجواب ده ووصله لصاحب نصيبه، اصلها الله يرحمها قبل ما تموت بأسبوع، اديتهولي وقالتلي اخليه معايا لحد ما يجي حد من طرفها ويسأل عليها، ولو حد جه وسأل ابقى اديله الجواب ده.. وبيني وبينك انا لما فتحته مافهمتش حاجة، اصل انا مابعرفش اقرا، ولما خليت حد يقراهولي عرفت ان فيه حوار، وانه لازم عشان يوصل لصاحبه، يوصل لعنوان في اسكندرية، وانا بيني وبينك مابفضاش، انا يادوبك من الكشك للبيت ومن البيت للكشك.
خدت منه الجواب وفتحته وانا بسأله..
-طب ومابعتوش عالعنوان ليه؟!
-ماجاش في بالي.. وبعدين انا خوفت لا ادخل في سين وجيم.
ماهتمتش بكلامه وبدأت اقرا اللي مكتوب في الجواب..
“ابني الحبيب: احمد صقر.. انا عارفة ياابني انك زعلان مني بعد اخر خناقة درات بيننا، وعارفة كمان ان قرار طردك ليا ماكنش بإرادتك، ده كان من وسوسات مراتك.. احمد ياابني، لو بتقرا الجواب ده ابقى انا موتت.. سامحني ياابني لو في يوم قسيت عليك، وارجوك.. ارجوك ادعيلي بالرحمة.. امك اللي روحها فيك ومتعلقة بيك”
مسحت دموعي وطبقت الجواب وحطيته في جيبي، وبعد ما مشيت وروحت قريت الفاتحة والدنيا مشيت تمام، تاني يوم سافرت اسكندرية وروحت عالعنوان اللي مكتوب في الجواب، بس لما وصلت اتفاجأت إن الڤيلا صاحبها باعها وراح عاش في بيت اهله القديم في شارع فؤاد.. ولما عرفت البيت ووصلتله، اكتشفت ان احمد مشلول وعايش لوحده، ايوه.. احمد اتشل من حوالي شهر ونص، وده بعد ما خسر كل فلوسه اللي ورثها عن ابوه في البورصة، ومراته بعدها طلبت منه الطلاق وخدت ولاده وراحت عاشت بيهم عند أهلها.. بس المشكلة ماكانتش في الجواب اللي اديته لاحمد ومشيت، ولا حتى في إن احمد نفسه يبقى ابن الست، المشكلة الحقيقية كانت في الحكاية نفسها، ازاي انا شوفت الست دي من حوالي شهر ونص وحكتلي حكاية ابنها، وهي اصلًا ميتة من شهرين ونص!!
ايوه دي مشكلة كبيرة وحكاية أمرها غريب، لكن الأهم والأغرب من الحكاية ومن معرفتها لموضوع شلل ابنها رغم موتها، والاغرب من ظهورها جنبي وهي ميتة، هو انا.. حكايتي انا وحياتي اللي اتغيرت بسبب حكاية حكتهالي ست.. او بمعنى أوضح، حكاية حكهالي شبح ست ميتة.. ومن هنا سألت نفسي سؤال، هي ليه ظهرتلي في الوقت ده بالذات وحكتلي حكايتها، وليه انا دلوقتي وبعد مرور سنين، وبعد ما اتجوزت وخلفت، ليه جاي وبحكيلك او بحكِيلك الحكاية دي دلوقتي.. مش يمكن على رأي ام احمد عشان اوصلك رسالة واقولك كلمتين على لسانها.. كلمتين لسه صداهم بيرن في وداني لحد النهاردة.. (المهم انت.. المهم قرارك ياابني، انت دلوقتي في إيدك كل حاجة، في إيدك انك ترجع لامك ولمستقبلك وتقفل الصفحة دي وتبدأ صفحات جديدة، او تبعد عنها وتمشي بدماغك وتعمل زي ما احمد عمل.. ها؟.. هتختار ايه؟! )..ها.. قولي، هتعمل ايه.. هتقفل القديم وهتبدأ من جديد، ولا هتختار انك تهد كل حاجة؟!
تمت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى