الحب رحمة ترجىروايات رومانسيه

الحب رحمة ترجى للكاتبة شاهندة الفصل الخامس

عودة الغائب.

كان صوت التلفاز عاليا ليطغى على صوت أفكارها التي باتت تؤرقها، فليلة البارحة جلست مع نفسها وحدثتها بصراحة شديدة، حتى أنها إتهمت نفسها بخيانة (خالد). نعم. فلم تعد تذكره كما يجب ولم تعد تشتاق إليه كما كانت تفعل. فحتى الافكار تخون عندما تحيد عن الحوم حول هذا الذي أحبته من كل قلبها وأحبها بدوره، تزوجا وهما مازالا في الجامعة كان هو في السنة الرابعة وكانت هي في السنة الأولى، عاشا سويا سنوات سعيدة في مسكنهما الصغير، حتى إنهار العقار الذي يقطنان به، فإضطرا للسكن في تلك الشقة التي منحتهما إياها خالتها(فاطمة)ولأجل أن يستعيد (خالد)كل مافقداه في إنهيار العقار، أسرع بالسفر إلى الإمارات والعمل هناك، يأتى كل سنة ويبقى ليوم واحد فقط ثم يسافر باليوم التالى تاركا إياها تعانى الوحدة في غيابه، رفقائها هم ورودها وخالتها وابن خالتها(جلال). كانت راضية تماما تكتفى بتلك الخطابات التي يبعثها إليها زوجها، وهذا اليوم الذي يعود فيه في كل عام. حتى الآونة الأخيرة، لا تدرى لما لم يعد هذا كافيا؟

زاد شعورها بالوحدة.
تنتابها أفكار لا تود الخوض فيها.
ازدادت نوبات نسيانها…
والأدهى هي تلك المشاعر الباهتة والتي لاتدرى كيف تفسرها…
يزداد كل يوم يقينها بأن هناك شيئ خاطئ في حياتها ويجب أن تكتشفه وتصححه.

إنتبهت من أفكارها على صوت مذيعة الأخبار وهي تعلن عن قصف جديد من العدو الصهيوني على غزة، وإنهيار المبانى وموت العديد من الضحايا تحت الأنقاض. كانت العديد من الصور البشعة تعرض أمامها، تمزق قلبها ألما، وهي ترى وجوه الضحايا الغارقة بالدماء. أدمعت عيونها وهي تدعو على هذا العدو الغاشم، تطلب من الله الإنتقام لكل هؤلاء الضحايا، لتهتز الرؤية أمامها فجأة ويطل مشهد آخر لها تقف في منتصف دمار، صراخ وعويل في كل مكان. وصوتها ينادى مرارا وتكرارا: خااالد. يا جلاااال.

وفجأة إنهار جزء آخر من العقار ومع إنهياره صرخت في مخيلتها لتتزامن تلك الصرخة مع صرخاتها في الواقع، ثم إنهيار كلي لها وإغماءة تسحبها لسواد سحيق. لا قرار له.

خرج الطبيب من حجرتها تتبعه( فاطمة )ليقول (جلال )بلهفة: خير يادكتور. رحمة مالها؟

قال الطبيب بهدوء: ياأستاذ جلال، دى حاجة طبيعية جدا في حالتها، ذاكرتها بتحاول ترجع بكل قوتها وفي نفس الوقت هي بتقاومها بكل قوتها برده، فبيحصل صراع جامد مابينهم، بيضطر فيه الجسم إنه يريحها من الصراع ده بالهرب داخل حالة من الإغماء أو النسيان، لإن أغلب نتايج الصراع ده بتبقى الجنون، العقل وقتها مبيقدرش يتحمل الحقيقة فبينهار، ولغاية النهاردة عقل مدام رحمة مش قادر يتقبل الحقيقة ولحد ده ما يحصل هتتعرض هي للنوبات دى.

قالت(فاطمة) بلوعة: ياحبيبتى يابنتى.
بينما قال (جلال): وحالتها يادكتور حضرتك مش شايف فيها أي تقدم؟
قال الطبيب: لأ طبعا، فيه تقدم وتقدم ملحوظ جدا كمان، في الفترة الأخيرة مقاومتها للذكريات بتضعف والدليل هي زيادة النوبات اللى بتجيلها، وده ملوش غير معنى واحد، ان الحالة أكيد بتتحسن والأمل بيكبر.
قال(جلال): الحمد لله، طيب هنتصرف معاها دلوقتى إزاي يادكتور؟

قال الطبيب: متعملوش اي حاجة، هي غالبا هتصحى مش فاكرة حاجة عن الذكريات دى، عقلها الباطن هيحتفظ بيهم من تانى، أهم حاجة زي ماقلتلكم إنكم توفرولها الراحة النفسية ومتوتروهاش، كمان متجيبولهاش سيرة عن اللى حصل معاها عشان متحاولش تفتكر غصب عنها وتضغط على أعصابها، وأهم حاجة إنكم تكونوا جنبها في كل وقت. ولو حصل حاجة بلغونى.

هز (جلال)رأسه بينما إستأذن الطبيب بالمغادرة، ليوصله(جلال) ثم يعود إلى والدته، رآها تجلس على الأريكة بعيون دامعة، فإقترب منها وجلس أمامها على ركبتيه يمسك يديها بين يديه وهو يقول بحنان: قومى ياأمى، قومى إرتاحى في سريرك انتى تعبانة وأنا هقعد جنبها وآخد بالى منها.

طالعته بحزن قائلة: شايل هم الكل ياحبيبى ومش شايل هم نفسك، هتفضل تتعذب ويانا لحد إمتى؟ طول عمرك شايل فوق طاقتك ياضنايا، ولسة مكمل. لا كليت ولا مليت.

قال بإبتسامة: ربنا رءوف رحيم ياأمى، قبل مابيبعت الإبتلاء بيقدرنا عليه ويزرع في قلوبنا صبر وجلد عشان نقدر نتحمله، بيزرع في قلوبنا رحمة عشان منقساش على الدنيا ونآمن إنها زي صوابع البيانو بالظبط عشان نعزف عليه وتكون المعزوفة حلوة لازم نضغط على الصوابع السودة والبيضا مع بعض، يعنى لازم عشان نعيش حياة حلوة ان احنا نمر بالحلوة والمرة مع بعض، زي مافيه يوم حلو هيكون فيه يوم مر بس المهم ان في الآخر اننا هنعيش الحياة ونستمتع بيها بحلوها ومرها.

ضمت (فاطمة) أصابعها على يديه قائلة: ربنا يكملك بعقلك ياإبنى ويسعد قلبك دنيا وآخرة.
إبتسم قائلا: أيوة ياامى، هو ده اللى عايزه منك، دعوة من قلبك تيسرلى الصعب وتنور طريقي.
قالت(فاطمة) بحنان: داعيالك ياابنى في كل وقت وأدان.
ثم نهضت تنهضه معها قائلة: روح انت نام وأنا هبات معاها، انت وراك نباطشية الصبح بدرى في المصنع ولازم تنام، متقلقش علية. أنا هنام جنبها بعد ماأصلى الفجر وأدعيلكم ياولادى.

طالعها(جلال)للحظة، يدرك أنها لن تخضع لطلبه وتذهب لكي ترتاح، ليهز رأسه بقلة حيلة، قبل ان يقول: تصبحى على خير.
قالت بمودة: تلاقى الخير ياضنايا. تلاقى الخير.
غادر المنزل بينما (فاطمة)تردد: اللهم أجرنا في مصيبتنا وإخلف لنا خيرا منها، اللهم أجرنا في مصيبتنا وإخلف لنا خيرا منها.

تأملت نفسها في المرآة للمرة الأخيرة، مالت تقرص وجنتيها قليلا لتزيد من حمرتهما، بشرتها شاحبة بعض الشيئ على غير العادة فقد حباها الله بجمال طبيعي جعلها لا تهوى أدوات الزينة، التي تفسد بساطتها، تلك البساطة التي تعشقها ويعشقها بدوره، (خالد).

تنهدت إثر ذكر إسمه في طيات عقلها ليتردد صدى شوقه بين جنبات قلبها، نظرت إلى ساعتها التي تشير إلى الخامسة، تأخر عزيزها تلك المرة على غير العادة، أمسكت طرف فستانها بتوتر، تتساءل…
هل تأخرت طائرته أم تأخر هو في الوصول إليها؟
قد عطلته زحمة الطريق ربما؟!
لابد وأنه الآن عالقا في إحدى سيارات الأجرة، يلعن كل مايؤخره عن العودة إلى حبيبته وزوجته، العودة إليها هي، رحمته.

لا بأس. بضع دقائق أخرى ستتحملها من اجله، ستنتظره بينما تلقى نظرة على تلك الأطباق التي أعدتها له، تتاكد من أن كل شيئ على مايرام، كل شيئ كما يفضله زوجها، تماما.
طرقات على الباب جعلت دقات قلبها تخفق بجنون، أسرعت إلى الباب تفتحه بملامح ملهوفة ومشرقة كشمس دافئة في وسط سماء صافية، مالبثت أن خبت إشراقتها حين طالعها وجه خالتها بدلا من حبيبها الذي تنتظره بشغف، تأملتها خالتها قائلة: إيه يابنتى؟ لسة مجاش؟

تنحت(رحمة) جانبا، تفسح لها الطريق للدخول قائلة بأسى: لأ، لسة وقلقانة عليه أوى ياخالتى.
دلفت خالتها إلى المنزل وهي ترمق طاولة الطعام بنظرة رضا قائلة: عملتيله الأكل اللى بيحبه…
ثم إلتفتت إليها وهي تردف قائلة بحنان: متقلقيش شوية وهتلاقيه بيخبط على الباب.
هزت (رحمة)رأسها فقالت الخالة: مش عايزة حاجة من عمك حسن الخردواتى؟
قالت (رحمة): انتى نازلة السوق؟!

أومأت الخالة برأسها قائلة: أيوة. هجيب شوية حاجات ومش هتأخر، كنتى قلتى لجلال إنك عايزة تروحي لعمك حسن فقلت أشوفك لو محتاجة حاجة أجيبهالك منه بالمرة.
إبتسمت (رحمة)قائلة: كنت عايزة خيط صوف أحمر، عشان البلوفر اللى بعمله لخالد.
ظهرت لمحة من الحزن عبرت سريعا عينا تلك السيدة الطيبة قبل أن تطرق برأسها قائلة: ربنا يباركلك فيه يابنتى، همشى بقى عشان إتأخرت.

إقتربت منها و قبلتها في جبهتها ثم غادرت بسرعة، فأغلقت (رحمة )الباب، تتنهد بعمق،
تحب تلك السيدة بقوة. وكأن والدتها لا تزال حية، بعثت إلى تلك الحياة في هيئة خالتها.
طرقات أخرى ليخفق قلبها مجددا بجنون، فتحت الباب على الفور فتوقف الزمن…
فأمامها وقف حبيبها…
هذا الذي غاب عنها عاما كاملا فإشتاقت إليه روحها…
هذا الذي انتظرت ان تتكحل عيناها برؤيته طويلا…

هذا الذي مازالت أنفاسه عالقة بأنفاسها، فتتنفس فقط كي تشعر به…
هذا الذي يحتويها بين ذراعيه فيمنحها دفئا لا تمنحه إياها شمس الظهيرة في نهار شتوي بارد…

لم تنتظر غمرته بل ألقت هي بنفسها بين ذراعيه لتنتهى غربتها التي لاتفارقها بغيابه، تتأكد من انه أخيرا أمامها، لتنمحى كل الظنون. ولم يتوانى هو عن ضمها إلى صدره يتنفسها عشقا ويشبع روحه المشتاقة إليها، همسته أذابت كيانها بالكامل حين تهدج صوته قائلا: رحمتى.
سحبته للداخل وهي تدور به قائلة بعشق: قلب رحمتك وعمرها ودنيتها كلها ياحبيبى.

ضحك وهو يوقفها يسحبها متجها إلى الباب يغلقه بقدمه قائلا: بشويش يامجنونة، الناس كلها هتسمعك.
هزت كتفيها قائلة: يسمعوا ميهمنيش، انا عايزة الكل يعرف إن حبيبى وجوزى رجعلى بالسلامة.
لتتخصر قائلة: حقى ولا مش حقى ياسى خالد؟!
سحبها من ذراعها لتعود مجددا إلى حضنه قائلا: حقك ياقلب خالد وحقى كمان إنك متخرجيش من حضنى طول ماانا هنا معاكى.
تنهدت بحزن قائلة: انت لسة هتسافر تانى؟

أخرجها من حضنه وهو يطالع عيناها الحزينتان قائلا بحنان: هانت ياحبيبتى، سفريتين كمان وهكمل حق الشقة وهرجع أعيش معاكى علطول.
قالت متذمرة: ونجيب شقة تانية ليه؟ ماهنا كويس.
قرص وجنتها بخفة قائلا: انتى عارفة إن الشقة دى بتاعة جلال ابن خالتك، ومسيره في يوم هيتجوز فيها…

أصابتها تلك الفكرة بغصة مجددا ولكنها تجاهلتها وهو يستطرد قائلا: كتر خيرها خالتك لما بيتنا وقع، عرضت علينا نعيش هنا لحد مانجيب شقة وانا مبحبش أطمع في كرم حد، سفريتين كمان وأجيب شقة لينا وأوعدك بعدها إنى مسافرش تانى أبدا.
لم تنفرج أساريرها فقرص وجنتها مجددا قائلا: إبتسمى بقى، وحشتنى إبتسامتك يارحمتي.

رغما عنها ظلل ثغرها إبتسامة أطاحت بعقله فمال يقبل ثغرها بشوق شاركته إياه، ترفض الإستسلام لحزنها لمكوثه فقط لليلة واحدة معها كعادته وسفره قبل إستيقاظها، فهو يكره لحظات الوداع. وتقرر أن تنعم معه بكل لحظات السعادة التي تستطيع الحصول عليها. فقد باتت في الآونة الأخيرة مثقلة بالأحزان، فجاءت عودة زوجها لتمحى كل الأحزان والشكوك، تترك فقط في قلبها، كل العشق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى