صدمة ورحيل ثم عودة
كانت تتكئ برأسها على صدره، تستمع إلى دقات قلبه المنتظمة، رفعت رأسها تطالع عيناه المغلقتان، يبدو نائما…
لا…
لم يحن وقت النوم بعد…
فلم أشبع توقى إليك…
ولم أخبرك عن وحشتي عند الفراق…
لم أخبرك عن جلوسي كل يوم في حجرتي تجوس أصابعى على ملامح صورتك التي لاتفارقنى…
لم أخبرك عن شوق يستبد بى فأحيط ذاتي بذراعي لأستعيد دفئك الذي يغادرنى بغيابك ويتركنى لصقيع موحش يمزق أوصالي…
لم أخبرك عن شموعي التي تنطفئ في الغياب وتشتعل فقط لوجودك…
لم أخبرك عن هذا الأنين الصامت في قلبى والذي أكتمه عمن حولى لأكون بخير أمامهم بينما أنا أذوى دونك…
لم أتوسل إليك البقاء.
ولن أرجوك أن لا ترحل…
وبم يفيد الرجاء وأنت في النهاية ستفعل…
وستتركنى مجددا أعانى مرارة الفراق…
أحيا في الظاهر، ولكنني أموت بالأعماق.
تنهدت بحزن ثم همست بإسمه، تململ في نومه فنادته مجددا، فتح عيناه في تلك اللحظة يطالعها بحيرة قائلا: انتى لسة منمتيش يارحمة؟
هزت رأسها نفيا قائلة: مش عارفة أنام، إسهر معايا حبة، ليه مستعجل على الفراق؟
ظهر الحزن في عينيه وهو يقول: مين قالك إنى مستعجل، أنا بستنى اليوم ده كل سنة عشان أرجعلك، معقولة تفتكرى إنى ببقى عايز أفارقك بمزاجي.
إشرأبت بعنقها تقبله في وجنته قائلة: طب خلاص متزعلش، صحيح قوللى، إنت ليه بترجع في اليوم ده بس مع إن الأحسن لو رجعت في عيد جوازنا مثلا؟
شرد بعينيه قائلا: عشان اليوم ده هو بالنسبة يوم فرحتى الحقيقية، اليوم اللى اتولدتى فيه من جديد، اليوم اللى رجعتيلى فيه من الموت.
ليطالعها بإبتسامة حانية وهو يقول: بذمتك، مش اليوم ده يستاهل أحتفل بيه كل سنة؟
شعرت بكيانها يتبعثر إضطرابا وهي تتذكر ذلك اليوم برهبة، لقد كادت أن تلقى حتفها في هذا المنزل لولا أن أنقذها هذا الرجل الذي تعشقه، لتقول بتوتر: متفكرنيش ياخالد، لولا وجودك وقتها أنا كنت مت مع إنهيار البيت.
تأملها بنظرة متفحصة شعرت بها تنفذ إلى أعماقها وهو يقول: طب مش فاكرة إيه اللى حصل بعدها؟
توتر جسدها بالكامل وإستقامت جالسة وهي تقول: لأ مش فاكرة.
إستقام بدوره وهو يقول: مش معقولة يارحمة، أكيد فاكرة بعد ماخرجتك من البيت حصل إيه.
نهضت تقول بعصبية: قلتلك مش فاكرة. مش فاكرة.
نهض بدوره يواجهها قائلا بحزم: لازم تفتكرى يارحمة، مينفعش تتجاهلى اللى حصل وكأنه محصلش.
أغروقت عيناها بالدموع وهي تقول بصوت مرتعش: ليه ياخالد؟ ليه عايز تفكرنى، انا ماصدقت نسيت.
تأملها بحب قائلة: عشان بحبك، مش عايزك تتمسكى بالأوهام، عشان بحبك نفسى تكملى حياتك ومتقفيش في مكانك، عشان بحبك لازم أفكرك باللى حصل، أفكرك إنى رجعت للبيت عشان أنقذ إبننا جلال…
قاطعته وهي تضع يدها على أذنيها ترفض أن تسمع، تصرخ قائلة: أسكت، مش عايزة أسمع.
ليردف متجاهلا صراخها وهو يقول: كان في إيدى خلاص وكنت خارج من البيت بس البيت إنهار قبل مااخرج ومع إنهياره مات جلال…
ظلتت تردد بهستيرية: قلتلك أسكت، كفاية ياأخى حرام عليك…
ولكنه تجاهلها مجددا وهو يقول: ومش هو بس اللى مات في اليوم ده، أنا كمان مت. مت يارحمة ومبقاليش وجود غير في خيالك وبس…
صرخت مرارا وتكرارا: أسكت ياخالد، أبوس إيدك كفاية. كفاااية حرام عليك.
إختفى (خالد)من أمامها في تلك اللحظة لتطالع هي مكانه بصدمة قبل أن تناديه بصراخ يقطع نياط القلب: لأ، متمشيش. إرجعلى ياخالد، أنا آسفة. صدقنى أنا من غيرك مش هقدر أعيش. خالد متمشيش. خااالد.
فتح الباب فجأة وظهرت خالتها على عتبته تطالعها في جزع قائلة: رحمة.
إندفعت رحمة إلى حضن خالتها لتضمها الأخيرة بقوة، بينما تشهق (رحمة)وهي تقول: جلال ابني مات ياخالتى وخالد كمان، كلهم ماتوا وسابونى لوحدى، سابونى لوحدى ليه؟ مخدونيش معاهم ليه؟ انا عايزة أموووت. مش عايزة أعيش. مش عايزة أعييييش.
ربتت خالتها على ظهرها تقول من خلال دموعها: إستغفرى ربك يارحمة، ليه كدة بس يابنتى؟ عايزة تموتى وتسيبينا، ده احنا ملناش غيرك يارحمة.
تراخى جسد(رحمة)بين يديها لتشعر بالفزع، نادت بكل قوتها وحيدها، الذي دلف إلى المنزل بسرعة وماإن راى هذا المشهد حتى إنخلع قلبه خوفا على تلك الشاحبة كالموتى بين يدي والدته، ليسرع إليها ويحملها بين يديه، يدلف بها إلى حجرة النوم ويمددها على السرير، يدلك يدها الباردة بيده بينما باليد الأخرى اخرج هاتفه وإتصل بطبيبها يخبره ان يأتى، بأقصى سرعة.
جلس بجوارها يمسك إحدى يديها بين يديه، ويطالعها بقلب يتمزق الما على حالها…
هي…
صديقته ورفيقة عمره…
حبيبته منذ أن أدرك الحب…
لقد بالغ في أحلامه…
فأحرقه جمر الحقيقة
هي أبدا لم تشعر به…
بقي فقط ابن خالتها وصديقها…
فأحرقه لهيب الفراق حين احبت زميلها بالجامعة وتزوجته…
رأى عشقها الساطع في عينيها فإبتعد مجبرا…
ووارى عشقه بصدره كي لا يشعر بعذابه أحد…
ولكن يبقى قلب الأم يخبرها بمكنون صدر وليدها…
علمت والدته بما يحتويه قلبه من حب دفين يعذبه، فارادت ان تزوجه عله ينسى…
ولكنه أبى…
فلا توجد إمراة على وجه الارض تنسيه (رحمته)…
نعم( رحمته) هو فهي تخصه وحده لا غير…
حتى وإن كان هذا في مخيلته وحسب…
حين توفي زوجها وطفلها واصابها هذا الإنهيار العصبي الشديد، لم يفارقها للحظة، إستسلمت لغيبوبة كادت ان تودى بعقله هو، لم يكن ينام، لم يأكل او يشرب…
فقط يصلى ويبتهل عودتها من الله، ولقد اجاب دعواته…
نعم عادت…
ولكنها عادت تنادى (خالد)…
تمحى من عقلها ذكرى وفاته ووفاة طفلها، عادت تتحدث عنه وكأنه حي يرزق، تحكى له دوما عنه، ويكتم مشاعره في قلبه مستمعا إليها…
حبيبته تتحدث عن رجل آخر بعشق…
تبا، إنه أمر يفوق إحتماله، يلقيه في جحيم مستعر، ولكنه يتحمل، من أجلها هي.
ثلاثة سنوات مضت منذ وفاة زوجها وهو يعيش دون أمل في حب يجمعهما، أو مشاعر تحملها إليه، ولكنه يكتفى بوجودها فقط إلى جواره، يسير كل عام في هذا اليوم هائما في الطرقات وكانه يسير على جمر مشتعل وهو يدرك ان خيالها الآن يجسد غريمه ليعيش معها هذا الحب الذي يتمنى ان يعيشه هو معها.
تصيبه افكاره بالجنون، يغار من رجل ميت، وهم لا وجود له، تمزقه مشاعره، ولكنه لا يملك سوى الصبر حتى تعود إليه (رحمة )وقد افاقت من اوهامها…
لقد اخبره الطبيب انها في طريقها لذلك الآن وتصريحها اليوم لوالدته بموت كل من (خالد)و(طفلها الصغير)خير دليل على ذلك. هكذا يتمنى، لا يريد أن يبنى آمالا لتؤول إلى اوهام، سينتظر ويرى، ولكنه أبدا لن ييأس.
قبل يدها المستكينة بين يديه ثم طالعها للحظات، يتأملها بعيون دامعة، أرجع خصلة من شعرها خلف أذنها وهو يقول بحنان: وعد منى ادام ربنا أعوضك عن كل لحظة حزن عشتيها ياحبيبتى، بس فوقى. كونى بخير عشانى. عشانى أنا وبس.
كانت والدته تطالعه من باب الحجرة الموارب، تنهمر دموعها بصمت، اغمضت عيناها وهي تبتهل بدورها قائلة: يااااااااارب.
عند الصدمات.
نقف عاجزين عن إبداء رد فعل طبيعي، ونعجز عن إدعاء الهدوء.
البعض منا يصمت، والآخر يضحك، والبعض يبكى أو يهزى فقط ليحافظ على سلامة عقله من الجنون.
فقد بات المرء مبصرا، يعانق الحقيقة بكل قهر وألم.
يحتاج وقتها لأن يبتعد عن كل البشر.
يجلس وحيدا في مكانه.
يعالج خيبات الأمل.
ويتجرع مرارة الحقيقة.
ويسكن أحزانه الثائرة.
يحتاج وقتها لإن يتوقف عن التفكير.
فكثرة التفكير في صدماته قد يؤثر على عقله.
ويصيبه بالجنون.
يتمنى لو كان جمادا لا يملك عقلا ليفكر او قلب ليشعر.
يتمنى لو كان حبات رمل ليبتلعه جوف الأرض.
يتمنى لو صار أي شيئ. عدا كونه إنسانا.
نزلت دموعها أمطارا، تنعى زوجا رحل وطفل رحل بدوره ولم تتذكره سوى الآن. تدرك أنها عانت مرارة الفقد بقوة حتى أنها نحتها عن عقلها كي تحافظ على سلامته، فماإستطاعت إلى النسيان سبيلا، وها هي تتجرع مرارة الذكرى مجددا، توقن أنها لن تنجو تلك المرة من أفكارها التي تحثها على شيئ واحد. الرحيل بصمت، فلم تعد الحياة كما كانت ولن تعود كما أرادت بعد رحيل أسباب حياتها. زوجها وطفلها.
رحل طيف (خالد)، ذلك الرمق الاخير الذي تمسكت به بقوة كي تستطيع الحياة، ومع رحيله تأججت نيران قلبها، وثارت مشاعرها. تتنازعها آهات الأنين وتقتلها جروحها النازفة، في بحر أحزانها تسير بمركب الالم يإن مجداف صمتها المرير ويطالبها بالإستسلام للغرق، فاللقاء يبعث الحياة والرحيل هو مؤشر للموت.
طالعت هذا السكين الصغير الذي تشذب به أوراق ورودها، أمسكته بعيون فارقت الحياة، تقربه بيد مرتعشة من رسغها، ترددت للحظة ولكنها عادت لتفكر.
ألم بسيط وينتهى عذابها.
وجرح صغير يقضى على جرحها الأكبر.
خطوة واحدة وتقترب من أحبتها.
ولكن صدى صوت والدتها طغى على صوت شيطانها.
يدوى في آذانها الآن بإصرار.
أسميتك رحمة لترحمى من في الأرض فيرحمك من في السماء.
أنثرى ورود الرحمة في طريق الناس لتحصدى عبق الذكرى بعد الرحيل.
هديتي أنتى فصيرى هدية لكل من يصادفك في طريق الحياة.
وكونى له، رحمة ترجى.
تذكرت في تلك اللحظة ربها ورحمته التي وسعت كل شيئ، تتذكر أن في عدم أبدية الحزن رحمة منه، وأن كل حزن إلى زوال، فإن قنطت من رحمته الآن فستخسر دنياها وآخرتها، إن قنطت من رحمته الآن ستخسر عطفه وحنانه الذي رزقها منهما رحمة تمثلت في خالتها وابن خالتها، واللذان عوضاها عن خسارتها الفادحة. فغيرها قد يفقد مثلما فقدت هي، فيجد نفسه وحيدا في طرقات المجهول، دون يد حانية تساعده.
دلفت خالتها في تلك اللحظة لتجدها تقف في منتصف الردهة وتمسك السكين تضعه على رسغها، كتمت شهقتها بقوة وهي تضع يديها على ثغرها، لتطالعها (رحمة)بعيون غشيتها الدموع، بينما وصل (جلال)ليطالع هذا المشهد بوجل، قبل ان تترك (رحمة)السكين ليقع أرضا وهي تندفع بإتجاه خالتها لتضمها بقوة بين ذراعيها، تبكيان سويا بحرقة، تطلقان سراح تلك الدموع التي حبساها طويلا. تندمج مشاعر الفرحة بعودتها مع مشاعر الألم، لتحين من(رحمة)نظرة إلى هذا الذي يقف كتمثال جامد يطالعهما، لا يجعله حيا سوى عيون غشيتها الدموع، قطراتها تسقط على وجنتيه، بصمت.