المنتحر ساعات بتحس ان حلك الأمثل هو الأنتحار، هتبقى مُجرد المشاعر.. مش هتحس بوجع بعد كده، ولا حتى الحزن هيتسرب لقلبك، لكن الواحد بدأ يحس إنه اصلا معندوش مشاعر، مشاعرة ماشية في اتجاة واحد بس، هو اليأس، فقدان الشغف.. الشغف اللي مات مع خسارة أول وأخر صديق ليك في حرب أنت مالكش ايد فيها، بالبلدي كده اللي كنت فاكرهم اخواتك، كانو سم.. سم بياكل في جسمك لغاية ما وصلك لمطاف تفكيرك واقف فيه على شيء واحد، وهو فقدان الروح للجسد.. الموت، لكن الموت لو ماكنش هيجي لوحده، فيكون لي سبب، وده تعريف مفصل للانتحار.. الانتحار اللي بدأ عقلي يلجألة بشكل مرعب الفترة دي.. فلو لاقيتني جثة، أرجوك خدني عظة ومتجرحش مشاعر اللي حواليك.. انت مش عارف كلمة منك ممكن توصلة لي ايه.
أنور توفيق.
دي كانت رسالة في شقة مُغلقة، لجثة لقيناها مُسممه في شقة بمنطقة مقطوعة ، زي ماتقول كده منطقة السكان فيها قليلين شوية..
من الواضح جدًا قصاد كل اللي سمع أو قرأ الرسالة دي إن الضحية ماتت مُنتحرة لأسباب واضحة جدًا، ويمكن تكوت مقنعة في مُجتمع واخد السخرية أسلوب حياة بالنسبالة، ده كله جه تحت حديث صغير بيني وبين شادي دراعي اليمين لما قولتله:
-بقولك ايه يا شادي، انت فاهم كويس أوي أن دي قضية فيها روح ماتت.
-يا شريف باشا قولتلك أن القضية مقفولة، الرسالة واضحة اهي مش محتاجه، اصل بالعقل كده يا شريف باشا… من الواضح ان الجثة دي مُسممة، وده لما لقينا السم في الدرج، ده الجثة قربت تعفن ومحدش سأل فيها يا فندم غير لما واحد ابن حلال الظروف جابته يشم ريحة نتنة طالعة من الشقة، ده الراجل بقاله اكتر من اسبوعين محدش بيسأل فيه!
لأول مره أتعصب على شادي من كلامه، يمكن عشان مريت بفترة زي دي في حياتي.. أو ممكن عشان خلى مشاعرة تتغلب على كل اللي اتعلمة في الاكاديمية.. فوقتها قولت:
-بقولك يا حضرة الضابط.. افتكر كويس إن انت متعلمتش كده في اربع سنين الاكاديمية اللي قعدتهم ده اولًا.. ثانيًا يا حضرة الضابط دي جثة، يعني هتتشرح، وهيطلع تحليل جنائي وغيره.. الرسالة دي دليل، لكن القضية لازم تتقفل صح، حتى لو كانت سهله.
عينه كانت نزلت الأرض، وقال بصوت مهزوز:
-أنا أسف يا شريف باشا، انا بس الحماس خدني وقولت احلل القضية بطريقتي.
حسيت إن كلامي جرحة فقولت:
-أنت مجتهد يا شادي، وتحليلك منطقي.. ولو عايز تنجح وتوصل للي انا دايما شايفة فيك، يبقى مقدامكش غير انك تكون عادي في انفعالاتك وتصرفاتك، ويالا يا حضرة الضابط اتفضل شوف شغلك.
وده يوم مُرهق، لكنه عدى على خير.. بالذات ان تحليل شادي المنطقي كان داخل دماغي قبل ما هو يقوله او يفكر فيه.. رجعت بيتي نمت نوم عميق بعد اسبوع شغل متواصل.. فريحت جسمي المهلك من الشغل.. اصل جنايات القتل مبقاش في اكتر منه.. بشر مسعورة، والدم بالنسبالهم بقى ميه.
روحت المكتب تاني يوم، جالنا مأمورية نروحها… فنزلت المأمورية والدنيا كانت مقفلة، يوم من أوله لأخره كان في حاجه غلط، وفي نص اليوم اتأكدت من الغلط ده لما نتيجة التحليل الجنائي والتشريح طلعت لجثة أنور.. واللي اكتشفنا منها إن أنور مامتش بسبب سم!.. هو اه ان الكوباية اللي لقيناها في المكان كان فيها سم، لكن من الواضح إنه متشربش منها حاجه اصلا، والمرعب إن المؤشرات بتقول ان أنور مات مخنوق، مخنوق ايه بقى… ده مات مقتول بعد ما لقوا أثار لخنق على رقبته ماكنتش باينة بسبب ان الجثة بقالها يومين متوفية، أو مقتولة… المديرية كلها اتقلبت على الموضوع، بالذات إننا محققناش مع حد لغاية دلوقتي، ده غير طبعًا اللي بلغ عن الحالة.. واللي هو استاذ عماد، وده اصلا كان مسافر بره مصر في الوقت اللي الجثة اتقتلت فيه، ده بعد ما شوفنا اوراق السفر اللي معاه وأتأكدنا فعلا من كل كلمة قالها.
ماكنش قدامنا وقتها غير التحقيق مع كل الناس اللي ليهم علاقة بي أنور، وده اللي عملناه بالفعل.. لكن عملناه بعد اللي لقيناه وده كله بعد تحقيق مفصل في الشقة مره تاني، ده لما لقينا أثار لأحتفال على الحيطان، وبواقي تورتة وجاتوة في الزبالة عفن.. وبعد الفحص في موبايل الجثة امبارح كانت اخر مكالمة من موبايل الجثة لشخص أسمه كريم عوض الله، ده غير المكالمات اللي جاتله من صحابه.. فماكنش قدامنا غير حاجه واحده، استدعاء كريم وكل اللي كانوا موجودين في الحفلة يومها.
رجعت القسم ريحت ساعة على ما المتهميين شرفوا.. كريم، يسرا، ممدوح، توفيق… اول واحد دخل ليا الاوضة كان كريم.. بالذات إن هو صاحب اخر مكالمة على الموبايل.
دخل كريم وقعد قصادي وبدأت أتكلم معاه بكل هدوء، لكن من الواضح ان الهدوء ماكنش الحل.. بالذات بسبب التوتر اللي كان فيه لما بدأ يتكلم وقال:
-ووو والله يا باشا انا اتصلت بيه اخر مره لما كنا تحت بيته ومستنيين حد يفتحلنا الباب…
ضحكت وقولت:
-انا عارف انك اتصلت بيه يومها، ومصدقك على فكرة.. بس بردو كان لازم انك تقولي اتصلت بيه تاني ليه الساعة 10 بليل وهو رد عليك.. الغريب بقى ان المكالمة دي بالذات في الموبايل ممسوحه.. ولو فاكر انك كده هتبقى ذكي فأنت متعرفش إننا ممكن نجيب المكالمة من الشركة سهل جدا.
-في يومها يا باشا انور كان تعبان نفسيًا، من الأخر كده كان عايز ينتحر، وأحنا كنا بعدنا عنه، مبقاش لينا مكان وسطيه.. هو بقى لوحده خالص، مش هقولك ياباشا اننا مش غلطانين، لا غلطانين اننا بعدنا عنه، لكن هو كان صعب الفترة الأخيرة، عصبي، خلقة ضيق… لدرجة إنه فتح موضوع هو وسارة تاني، وهي رفضت كالعادة.. بعدها أنور بعد خالص عننا افتكرناه اتجنن، حاولت كتير افضل جنية مقدرتش.. بالعكس كان بيصدني، لغاية ما في يوم وبعد مده كبيرة كنا بعاد عن بعض لقيت موبايلي بيرن برقم أنور، فتحت واتطمنت عليه كالعادة، لغاية ما عرفت انه عازمني على يوم معاه في شقته التانيه، في الحقيقة بالأول قولت انه مخبول.. واني مش هعتب عتبة بيته مره تاني لكني قولت أبقى اصيل للنهاية، واروحله… بالذات انه معندوش حد غيري يعتبر، لكني كنت غلطان، في الحقيقة هو اتصل بينا كلنا، لأنهم كلهم بعد المكالمة دي كلموني وقالولي إن أنور كلمهم.
وفعلا ليلتها كانت ليلة ملعونة.. لما روحنا لقيناه عامل حفلة لنفسه كالنا وشربنا والدنيا كانت زي الفل، بعدها يسرا تطوعت وقامت غسلت الاطباق، ده كله معادا كوباية الشمبانيا اللي في ايد أنور، حتى يومها استغربنا انه بيشرب شمبانيا.
لكن مش ده اللي كان مهم الحقيقة، بالذات انه واجه كل واحد فينا، سارة يومها كانت اتأخرت أوي، واحنا افتكرناها مش جاية الحقيقة، ولما هو زود في الكلام وزي ماتقول كده كان بيهلفط بكلام غريب انا مش قادر انساه، لسه سامع صوته في ودني وهو بيعيط ويقول:
-كلكم بيعتوني، وكل ده ليه!!.. عشان صاحبتكوا فكستلي وبعدت عني، ده بدل ماتعقلوها وتفهمومها اننا عمرنا ما كنا اخوات!!
قربت منه وقتها وفضلت اطبطب عليه، ماكنش قدامي غير اني اهدي، بالذات ان انا والرجالة كنا اتخنقنا، وانا ماكنتش عايز اسيبه في اللي هو فيه، لكن كل ده بعد ما كان قال كلام كتير ماكنش ينفع حد فينا يقعد في الشقة بعد اللي سمعوا.. بعدها سبناه ومشينا كلنا، مفيش غيري اللي كنت قاعد تحت البيت عشان عربيتي عطلت يومها للأسف، عرضوا عليا ياخدوني معاهم، بس ماكنتش اقدر اسيب العربية في حته مقطوعة زي دي وانا عايزها بكره… فطلبت من يسرا والباقي يبعتولي اي مكانيكي وهما طالعين على الطريق، وانا فضلت قاعد مستني المكانيكي لغاية ما يمشي.. لغاية ما لقيتها طالعة على السلالم وهي متعصبة، كان واضح جدًا عليها انها مش طايقة نفسها يا باشا.
اتعصبت عليه وقتها وقولت:
-ماتقول يا بني مين دي؟
-سارة.. سارة يا باشا كانت طالعة على السلم، جيت اطلع وراها لقيت المكانيكي وصل، خوفت لا يمشي فقولتله اللي فيها وفتحتله العربية، وخوفت لا يسرقها صراحه، فقولت اتصل بسارة اشوفها طالعة ليه في وقت زي ده.. وللأسف موبايلها ماكنش مجمع شبكة، فاتصلت بأنور، رنه في التانية رد عليا.. لكن الصوت كان مغلوش، كنت سامعة بيتخانق مع سارة.. كان بيزعق فيها ويقولها متقتلنيش، ارجوكي متقتلنيش.. الدم هرب من جسمي، سمعت صوت الميكانيكي بيقولي ان كل حاجه تمام، دورت العربية حتى من غير ماحاسب الميكانيكي وجريت، من ساعتها وانا قافل على نفسي يا باشا ومعرفش والله ايه اللي حصل لأنور غير لما جابوني لغاية هنا.
في اللحظة دي لقيت العسكري داخل عليها وبيقولي:
-لقينا المتهمة يا شريف باشا في بيت خالتها، وهي بره دلوقتي.
رديت عليه وانا باخد نفس عميق للي انا داخل عليه وقولت:
-خد يابني المتهم ده معاك، ودخلي اللي اسمها سارة دي حالا.
-تمام يا فندم.
وقتها كريم فضل يقول وهو قلقان:
-انا برئ يا باشا، والله العظيم برئ ومعملتش حاجه.
مردتش عليه، كان كل تركيزي في المجرمة اللي داخله عليا بالكلبشات وهي عنيها وارمة من العياط، اول ما عتبت عتبة الباب كانت بتصرخ وبتقر بكل حاجه لما قالت:
-والله ما قتلته، انا جيت متأخرة يومها ومعرفش انهم مشيوا، دخلت الشقة وسمعته بيهلوس.. كان بيكلم حد معرفوش، كان بينده حد باسمي مش موجود، لقيته بيخنق في نفسه زي المجنون وبيتهمني بأني انا اللي بخنقة.. كل ده وانا متكومة جنب الحيطة لغاية ما طلع انفاسة الاخيرة، لقيت كريم بيتصل بي وقتها، مسحت المكلمات وهربت.. اعصابي تعبت وصلت لبيت خالتي، لكن والله ما قتلته.. والله العظيم ما قتلته، مقتلتوش، والله مقتلتوش.
من بعدها اغمى عليها، قطعت في النفس.. اتنقلت على المستشفى ودخلت في غيبوبة، لكن في الاسبوعين دول اكتشفنا في الطب الشرعي ان اثار الخنق اللي في رقابته دي كانت فعلا من انور ذات نفسه ده لما لقينا تحت ضوافرة اثار دم، والدم ده كان دمه هو، ده غير طريقة الخنق… مش متخيل ان عشان شوية صحاب، وبعدك عن حب حياتك تنتحر بالشكل ده.. الناس بقت قاسية، لكننا قاسيين على نفسنا اكتر.
تمت
اندرو شريف