تكملة الحلقة السابعة و الثلاثون من رواية انت لي
في البداية ذهبنا إلى مكتب المحامي أبي سيف الذي سار بسيارته إلى جوارنا … ثم إلى مكتبين آخرين … كان وليد يبقينا في السيارة و يرافق المحامي ، ثم يعود إلينا و يذكر المكان التالي و ينطلق نحوه !
في وقت انتظارنا كنا أنا و أمي نتبادل الأحاديث، بينما رغد لائذة بالصمت المغدق ! لم أتعمّد مخاطبتها فأنا لم أنس بعد كيف رمت بالهاتف صوب وجهي و لا كيف طردتني من غرفتها ذاك الصباح … إلا إنني أشعر الآن بشفقة عليها لا أدرك ما مصدرها !
عاد و ليد و قال :
” سنذهب إلى مكتب إدارة المصنع الآن ! قد يطول مكوثنا هناك … أأعيدكن إلى البيت ؟ “
و استدار إلى الوراء موجها نظراته و كذا سؤاله إلى رغد !
رغد قالت :
” سنبقى معك “
لا أدري أي متعة تجدها هذه الفتاة في البقاء حبيسة السيارة في انتظار عودة وليد ! وددت أن أعترض إلا أن مبادرة وليد بتشغيل السيارة و من ثم اللحاق بسيارة المحامي جعلتني ألتزم الصمت …
حين وصلنا إلى المكان المنشود أصابتني الدهشة !
كان مبنى كبيرا مؤلف من عدّة طوابق … حديث الطراز و يبدو فاخرا !
قال وليد و هو يركن السيارة في أحد المواقف و يبتسم :
” هنا إدارة مصنعك ِ يا أروى ! هذا المبنى كلّه ملكك ! “
دهشت، و ابتسمت في آن واحد … و راودتني رغبة في إلقاء نظرة شاملة
قلت – و أنا أمد يدي إلى مقبض باب السيارة و افتحه – :
” سألقي نظرة “
و خارج السيارة وقفت أنا و تبعني وليد و جعلت أتأمل المبنى الضخم الذي يفترض أن يكون ملكي !
قلت :
” كل هذا … لي !؟ “
ابتسم وليد و قال :
” هذا لا شيء ! حين ترين المصنع ستفاجئين ! … هنيئا لك ! “
شعرت ببهجة كبيرة اجتاحت قلبي … قلت :
” أتمنى أن أراه من الداخل ! “
فكر ول
يد قليلا و تردد فقلت :
” ألستُ أنا المالكة ؟ ألا يمكنني إلقاء نظرة سريعة على ممتلكاتي ؟ أرجوك وليد ! “
ابتسم وليد و قال :
” لا أعرف إن كان هناك سيدات في الداخل… ! لم يسبق لي الدخول و لكن … لا بأس إن كانت هذه رغبتك ! “
فرحت كثيرا و أمسكت بيد خطيبي في امتنان …
ما الذي سيجعلني أشعر بسعادة أكثر من هذه ؟؟ لدي خطيب رائع يقف إلى جواري … و أمامي مبنى ضخم هو ملكي و جزء من ثروتي … لا شك أنني هذه اللحظة أسعد الناس
الحمد لله
وليد أشار على أمي و رغد أن تنزلا … ثم لحقنا نحن الأربعة بالمحامي و وجدنا في استقبالنا أناس آخرون، رافقونا داخل المبنى إلى المكان المنشود !
و المكان المنشود كان المكتب الرئيسي للمبنى … مكتب المدير !
ما إن دخلنا حتى وجدنا أناس آخرون في استقبالنا … أظنهم دهشوا لدى رؤيتنا نحن الثلاث – أنا و أمي و رغد – نسير خلف الموكب ! لكن ذلك لم يمنعهم من الترحيب بنا عامة …
دُعينا للجلوس في مكان جانبي … بعيدا عن الآخرين …
فيما كنّا نعبر الغرفة شاقات طريقنا نحو المقاعد، كانت عيناي لا تتوقفان عن التجول و النظر إلى كل ما حولي … في دهشة و إعجاب !
كم كان مكتبا فخما و راقيا ! كل أثاثه يشير إلى مدى البذخ الذي كان عمّي رحمه الله يعيش فيه !
استقرّت عيناي أخيرا على الحائط خلف المكتب مباشرة …
هناك عُلقت صورتان كبيرتان جدا لرجل كهل و شاب صغير… في إطارين أسودين !
إنهما عمّي و ابنه الراحلان، رحمهما الله !
توقّفت برهة أتأمّل الصورتين … لهذين الشخصين اللذين ما عرفتهما يوما في حياتي … و ها هي ثروتهما الضخمة تصبح فجأة بين يدي !
” سبحان الله … أتصدّق يا وليد ؟ “
قلت ذلك و التفت إلى وليد متوقعة منه أن يكرر التسبيح … و يمنحني ابتسامة عذبة و مطمئنة من شفتيه … لكن … لم يبد على وليد أنه سمع شيئا مما قلت …
وليد كان يحدّق تجاه الصورتين بحدّة و تعبيرات وجهه غاضبة و مكفهرّة
عجبا ! لماذا ينظر وليد إلى هاتين الصورتين بهذا الشكل ؟؟
” وليد …؟؟ “
رمقني وليد بنظرة غريبة و مخيفة … و عاد يدقق النظر تجاه الصورتين
أليس هذا غريبا ؟؟
” عمّار !! “
تصوروا ممن خرجت هذه الكلمة أشبه بالصيحة المباغتة ؟؟
من رغد !
التفت إلى رغد لأتأكد من أن أذني لم تكن تتخيل … فرأيت رغد تحدّق هي الأخرى تجاه الصورتين و قد علا وجهها الذعر !
و الآن ماذا ؟؟
رغد تلتفت إلى وليد بسرعة … ثم إلى الصورة … و تشير بإصبعها نحو صورة عمّار ابن عمّي … و تعود للهتاف :
” عمّار !! “
ثم تلتفت إلى وليد و تقول بذعر :
” إنه هو ! أليس كذلك ؟ هو … هو “
وليد يحدّق برغد الآن … و مزيج من الغضب و التوتر و القلق و تعبيرات أخرى أجهل تفسيرها بادية على وجهه جاعلة منه جمرة ملتهبة !
رغد ألقت علي نظرة سريعة ، ثم على الصورتين ، ثم على وليد الذي كان لا يزال يحدّق بها … و هتفت :
” وليد ! “
وليد اقترب من رغد و قال :
” أجل … إنهما عم أروى و ابنه “
بدا الذهول الفظيع على وجه رغد … و كأنها اكتشفت أمرا خطيرا لم تكن تعرفه ! أما الذهول الذي على وجهي أنا هو لأنني لم أكتشف بعد ماذا يدور من حولي ؟!
رغد أمسكت بذراع وليد و هتفت :
” أخرجني من هنا ! “
تحوّلت نظرات وليد إلى القلق و الخوف الفاضحين و فتح فمه و لكن ما خرج منه كان النفَس خال ٍ من أي كلام !
قالت ذلك رغد و ضعت يدها الأخرى على صدغيها كمن يعاني من صداع شديد… !
” رغد “
ناداها وليد بصوت حنون قلق فلما رفعت بصرها إليه … مالت بنظراتها نحو الحائط فأغمضت عينيها بسرعة و أخفتهما خلف يدها و صاحت :
” أرجوك.. “
من فوره وليد حثّها على السير متراجعين نحو الباب … و كانت لا تزال متشبثة بذراعه … و خاطبنا قائلا :
” هيا بنا “
أنا و أمي و لأننا لم نفهم أي شيء … تبادلنا النظرات المستغربة المذهولة… و لحقنا بوليد و رغد على عجل … وسط أنظار الاستغراب من الأشخاص الآخرين !
إن في الأمر سر ما !
ما عساه يكون ؟؟؟
رغد بين يدي منهارة و مرتبكة…
و أنا مذهول و مأخوذ بالدهشة … إن من رؤية وجه عمار الخسيس يبتسم تلك الابتسامة الحقيرة … و التي تستفز حتى أتفه ذرات النفور في جسدي … أو من تأثّر رغد بالصورة … و الذعر الذي علاها … و الذي يؤكد أنها لا تزال تذكر وجه عمّار … بعد كل تلك السنين
و كيف لوجه مجرم كهذا أن يُنسى ؟؟
طفلتي الصغيرة لا تزال تحتفظ في ذكرياتها بصورة للشاب الحقير الذي تجرأ على اختطافها ذات يوم …
ذلك اليوم الذي غير مجرى حياتي … و حياتها كذلك …
فتحت باب السيارة الأمامي الأيمن و جعلتها تدخل و تجلس عليه … و جلست من ثم إلى جوارها … كانت لا تزال في نوبة المفاجأة و النفور …
وصلني صوت أروى – و التي جلست خلفي – تقول :
” ماذا هناك ؟؟ “
لم أجب
” وليد ما الأمر ؟ “
قلت بغضب :
” الزمي الصمت يا أروى رجاء ً “
قالت ليندا :
” أخبرانا ما الخطب “
قلت:
” الصمت رجاء “
و أدرت مفتاح السيارة في ذات اللحظة التي ظهر فيها أبو سيف و هو يقول :
” ما المشكلة ؟ “
أخرجت رأسي عبر النافذة و أجبته :
” لنؤجل الأمر للغد “
كنت أرى رغد و هي تضع يدها على صدغيها و يعبّر وجهها عن الألم بين الفينة و الأخرى … فأدرك أنها الذكريات تعود إلى رأسها و تعصرها ألما… فأدوس على مكابح السيارة غيظا …
عندما وصلنا إلى المنزل أوت رغد إلى غرفتها مباشرة … هممت باللحاق بها فاستوقفني سؤال أروى :
” ماذا هناك يا وليد ؟ هل لا شرحت لي ؟ “
قلت بسرعة :
” فيما بعد “
و تابعت طريقي إلى غرفة رغد …
كان الباب مغلقا، طرقته و ناديت رغد فأجابت :
” نعم ؟ “
و كان صوتها متحشرجا مخنوقا …
قلت :
” أيمكنني الدخول ؟ “
أجابت :
” ماذا تريد ؟ “
قلت :
” أن نتحدّث قليلا “
” دعني و شأني “
آلمني ردها هذا فعدت أقول :
” أريد أن أحدثك يا رغد … أيكنني الدخول ؟ “
و لم تجب
عدت أسأل :
” أأستطيع أن أدخل يا رغد ؟ أرجوك ؟ “
و لكنها أيضا لم تجب …
أرجوك يا رغد لا تزيدي عذابا فوق عذابي …
أخذت أطرق الباب و أناديها حتى قالت أخيرا
” دعني بمفردي يا وليد “
استدرت ُ للخلف في يأس … فوجدت أروى تراقبني عن بعد … و لابد أن عشرات الأسئلة تدور في رأسها … كما تدور عشرات بل مئات الذكريات المريرة في رأسي و تفقده أي قدرة على التفكير السليم …
استدرت ُ نحو الباب مجددا و قلت مخاطبا رغد :
” لا لن أدعك بمفردك يا رغد ! سأدخل “
تكملة الحلقة السابعة و الثلاثون
قلت :
” سأدخل رغد ! “
على سريرها كانت صغيرتي تجلس و عيناها موجهتان نحوي …
تقدمت خطى نحوها و أنا أقول :
” أيمكنني أن أدخل ؟ “
و أعرف أنني في الداخل و أنني سأدخل من كل بد !
قلت :
” أنا آسف ! “
طأطأت رغد رأسها هاربة من نظراتي…
اقتربت منها أكثر و أكثر و قلت :
” أأنت ِ بخير ؟ “
و استطعت أن أرى دمعة تهوي من عينها لتبلل يديها المضمومتين فوق ركبتيها …
اقتربت أكثر و أكثر حتى صرب جوارها مباشرة … و قلت بصوت حنون أجش :
” لم أجد داعيا يدفعني لأن … أخبرك … بأن أروى هي ابنة عم عمّار…. و أن الثروة التي حصلت عليها كانت … لعمّار و أبيه “
رغد رفعت نظرها إلي و صرخت :
” لا تذكر اسمه أمامي “
جفلت … أخذني الذهول … و ابتلعت لساني … رغد رمقتني بنظرة عميقة غصت في جوفها فغرقت … و لاطمتني أمواج الأفكار و الهواجس … و لم أدر ِ أين كنت و متى كنت … و على أية حال قد كنت …
تعود للإمساك برأسها كمن يحاول جاهدا منع الذكريات من الظهور فيه …
تتلاعب بي الأفكار و التخيلات حتّى تثير جنوني…
ماذا حصل؟ ماذا لم يحصل؟
أجيبيني يا رغد …؟؟
و لم تزد حيرتي إلا حيرة …
قلت :
” حسنا يا رغد…
بعد دخولي إلى السجن، تعرّفت إلى نديم، والد أروى رحمه الله… و قد ساعدني كثيرا و أحببته محبة خالصة في الله.. و قبل موته أوصاني بعائلته خيرا… و لم يكن يعرف … أنني … “
و لم أكمل، استدرت للخلف لأتأكد من أن أروى على مبعدة و لا تسمعنا… ثم اقتربت من رغد أكثر و أضفت ُ هامسا :
” أنني أنا من قتل … ذلك الوغد “
بدا التفهم على تعبيرات وجه رغد فقلت ُ مترددا و مخفضا صوتي حد الهمس بل حد السكون :
” وهذا… ما لا تعرفه أروى أيضا “
و تنهّدت بمرارة و حيرة و أضفت :
” و ما أخشى عواقبه … “
شعرتُ بشيء يسيطر على فكري فجأة… تبدلت تعبيرات وجهي إلى الجدية و الحزم… و تطايرت سهام شريرة من عيني… و شعرت بشياطين رأسي تتعارك في داخله…
كانت رغد تراقبني بقلق و حيرة… و بالتأكيد سمعتني و أنا أعض على أسناني فيما أضيّق فتحتي عيني و أشد على قبضتي بإصرار و أقول :