روايات كاملة

جثة شاهر الفصل الرابع و الاخير

الجزء الأخير
4
بدأ مروان دياب في تجهيز إجراءات الدفن، واتصل بتربي المقابر عشان يتصرفوا في فتح مدافن عيلة دياب، خاصة إنها لسه مقفولة ماكملتش ايام على جثة شاهر، فامكنش فيه حل غير فتح القبر ودفن مهران جنب ابنه، وبعد الدفن خد مهران العزا في أكبر قاعات في البلد، واتقلب القصر بحيطانه لسواد.. ضلمة قبور خدت جواه اهم اتنين في بيت دياب، ومسح الموت ذكرى ونسل مهران دياب..
من تاني يوم موت مهران، وتقريبا العيلة بقت حديث المدينة، مانشتات في الجرايد، وكلام كتير على جميع وسائل التواصل الاجتماعي، وكلها بتدور حوالين جملة واحدة “الموت الزاحف أنهى أسطورة اكبر رجال الأعمال”..
حاول بكل الطرق مروان يمنع الكلام عن أهله وعيلته، بس ماقدرش.. واستمر الحال ده فترة، لدرجة إن أسهم شركة دياب بدأت تتهز في السوق والبورصة، خساير كتير ماكنش ملاحق عليها مروان، وده بسبب موت الدماغ والمحرك للشركات، وكمان لقلة خبرته في البزنس.
ولتالت مرة بيتكرر نفس السيناريو لبيت دياب، أو بمعنى أدق اللي حصل، كان أخر ورقة تتحرق في نسل بيت دياب، وده لما اتصل واحد من الشركة بمراتي، بلغها بإن عمها مروان تعب ونقلوه على المستشفى.. اتصلت عليا أرمين تبلغني باللي حصل، وتطمن اذا كان عمها في المستشفى اللي بشتغل فيها او لا. فقولت لها:
-اتصلوا بيا وبلغوني، فبعت عربية إسعاف جابوه هنا.
قفلت معاها المكالمة، وروحت لغرفة العناية المركزة، مروان كان جاي خلصان، ضربات قلبه مش منتظمة وسريعة جدا، في لحظات اتحط على الأجهزة، كُنت واقف قصاده وسرحان في اللي بيحصل، والاقدار اللي بتلعب لعبتها مع العيلة دي، قرب مني واحد زميلي كان معايا في العناية المركزة، همس لي إنه عاوز يتكلم معايا في المكتب، هزيت راسي وخرجت معاه، بعد ما دخلنا، قعد وبدأ الكلام بسؤال:
-إنت اللي استقبلت حالة مروان بيه؟
-اه، بعد ما وصل بعربية الإسعاف دخلته فورا العناية المركزة، بس ايه سبب سؤالك؟
سكت لثواني وقال:
-فيه حاجة غريبة لاحظتها في الأشعة اللي اتعملت له، شوف كده.
مد الدكتور ايده بصورة لأشعة مروان، كمل كلامه:
-لو ركزت يا دكتور كريم، هتلاقي ان فيه تضخم بعضلة القلب مش طبيعي.
-ما ده شئ عادي، بسبب نقص الأكسجين المفاجئ في جسمه.
ركن ضهره على الكرسي وهز راسه:
-لا، لا الموضوع اكبر من كده، انت دكتور وفاهم، نقص الأكسجين مايعملش التأثير الرهيب اللي موجود في الأشعة.
قطع كلام الدكتور خبط على الباب، دخل واحد من طقم التمريض وفي ايده ظرف كبير، وده خاص بتقارير معمل التحاليل، اتكلم الممرض وقال:
-اتفضل يا دكتور نتيجة التحليل المبدأي لصورة دم مروان بيه.
لف وشه ناحيتي وكمل كلامه:
-زوجة حضرتك يا دكتور كريم بره، ومعاها الست هانم أمها.
طلبت منه يقعدهم في مكتبي لحد ما اجي، خرج الممرض من المكتب، بصيت على زميلي كان بيقرأ نتيجة التحاليل، نظراته كانت سريعة في قراية سطور التحليل، وعلى ملامحه توتر وقلق، بعد ما خلص.. رفع وشه من الورق وقال:
-تخميني طلع مظبوط.
-مش فاهم اقصد ايه يا دكتور، وضح لي ايه اللي قريته.
مد ايده بالتقرير وقال:
-زي ما توقعت، ضربات القلب السريعة، واختلال عضلة القلب، كانوا نتيجة جرعة عالية من مخدر الكوكايين.
عقدت حاجبي وفتحت التقرير، رديت عليه بعدم إقتناع بكلامه ;
-لا مستحيل، التقرير ده صورة أولية لتحليل الدم، يعني الدقة مش بنسبة عالية.
اتكلم بثقة:
-بس المخدر اللي من النوع ده، مش هيكون موجود في صورة الدم بشكل عشوائي، يعني تقرير زي ده حتى لو مبدأي مش هيقرأ خطأ.
جزء كبير من عقلي كان مصدق كلامه بحكم مهنتي، والجزء الباقي دخل في دوامة شكوك.. كل اللي جه في بالي حاجة واحدة.. معنى التحاليل دي، إن مروان احتمال يكون هو اللي ادا لشاهر المخدرات، اللي كانت سبب في انتحاره
قطع سرحاني باب المكتب لما اتفتح فجأة، كان واحد من الممرضين بينهج وبياخد نفسه بالعافية، اتكلم بفزع وقال;
-تعالوا بسرعة يا دكاترة العناية المركزة، عند مروان بيه.
خرجنا بسرعة وروحنا عنده، كان بياخد نفسه بالعافية وصدره بيطلع وبنزل بسرعة رهيبة، كان نفسه بيقل وضربات قلبه بتضعف، فوصلنا جهاز ضربات القلب لإنعاشه.. ٣ دقايق والجهاز الموصل بقلب مروان اترسم عليه خط عرضي، صوت إنذار بيؤكد وفاة مروان دياب.. اتنهدت بعجز قصاد جثة مروان، وكل تفكيري ازاي هوصل خبر موته لمراتي أرمين، فجعة الموت حصدت أرواح بيت دياب في خلال أيام، بس قدري وفر عليا كتير، وده لما لمحت أرمين وامها واقفين ورا شباك الاوضة، وواضح من الفزع والحزن اللي على وشوشهم، إنهم كانوا متابعين اللي بيحصل من بدري، فخرجت بسرعة عند مراتي عشان أواسيها لموت أخر فرع في عيلتها، أما حماتي كانت واقفة متسمرة مكانها، ما بين حزن بتحاول تداريه، وبين جبروت بنت البشوات.. ما اهتمتش بحزن بنتها وبكاها في حضني، كل اللي اهتمت بيه حاجة واحدة بس، اتلخصت في سؤال سألته:
-ايه سبب موت مروان؟
بصت لها بأستغراب، وجاوبتها بتعجب من كلامها:
-هو الموت له أسباب يا جيهان هانم؟!.. الموت نهاية حتمية، ساعة بتتحرك وفي ثانية عقاربها بتقف، ومهما كان السبب فدي النهاية.
ردت بحدة:
-فلسفة فارغة من دكتور متطفل، دخل حياتنا بالإكراه، واتحسب علينا فرد من العيلة.
رفعت أرمين وشها من حضني، اتضايقت من طريقة كلام امها معايا، بس هي كالعادة مادتهاش فرصة تكمل كلامها، قاطعتها وبصت لي وقالت:
-عرفت إن مروان مات بسبب السم اللي مات بيه أبني، وده مالوش الا معنى واحد.. إنه هو كان السبب في موت شاهر.
برقت عيني من اللي بتقوله:
-تخميناتك مالهاش أساس من الصحة، مافيش دليل أثبات على كلامك، وعلى العموم ده لا وقت ولا مكان مناسبين لرمي إتهامات، خاصة اللي بتتهميه حصل ابنك، وهيدفن جنبه خلال ساعات.
عقدت حواجبها يغيظ، ورفض لكل اللي بقوله.. قعدت مراتي على أقرب كرسي، وسبتهم ورجعت عشان اعمل الإجراءات اللازمة لتصريح دفن.. عدا اكتر من ربع ساعة، سمعت صوت مراتي بتزعق، فخرجت بسرعة اعرف السبب، وكالعادة مصورين وصحافيين، فلاش كاميرا بينور في وش مراتي وامها، والكل بيتسابق عشان يعرف أسباب انتهاء نسل عيلة دياب، واكيد خبر موته بجرعة كوكايين زيادة اتسرب، والا ماكنوش بيتصارعوا على مين اللي هيوصل للحقيقة الكاملة، بعدتهم عن مراتي وخدتها جوه مكتبي، ندهت على أفراد الأمن بعصبية، عشان سامحولهم يدخلوا المستشفى بالطريقة دي.. بعد ما هديت الدنيا، خلصت بسرعة الإجراءات وسط معاناة ومحاولات لتشريح جثة مروان، بس تقرير معمل التحاليل، ساعدني أنهي الموضوع بأقصى سرعة، على أساس إنه كان بيتعاطى مخدرات ومات بجرعة زيادة.. بس الموضوع مانتهاش بدفن مروان، بالعكس.. دي الحكاية اتقلبت لحكايات، وكانت اهم حكاية فيهم، والخبر اللي اتصدر معظم الجرايد، “موت رجل الأعمال بجرعة مخدرات زائدة، واتهام صريح من زوجة أخيه، بقتل ابنها بعد ليلة زفافه بيومبن”.. الربط بين موت مروان وشاهر والادمان آثر على أسم الشركات تأثير مباشر، وكانت النتيجة خسارة كبيرة في السوق، ماتحملتش جيهان هانم الصدمات المتتالية واتصابت بجلطة في المخ، آثرت على مراكز الحركة والكلام، وبعد محاولات من العلاج رقدت في السرير، وباقي أملاك عيلة دياب ورثتها بالكامل مراتي، وعملت لي توكيل رسمي لإدارة الشغل وإنقاذ ما يمكن أنقاذه.. حتى علاج أمها بعد رجوعها للبيت كنت انا اللي بتابعه.
عدا اكتر من ٦شهور على الأحداث اللي حصلت، نجحت بدرجة كبيرة إني أرجع الشغل زي ما كان في سوق العمل، ويمكن أحسن ما كان عليه، لحد ما في يوم سمعت خبطات على باب مكتبي في الشركة، وكانت السكرتيرة “نجوان”.. بصيت ناحيتها بطرف عيني وهي ماشية بميوعة، قربت من المكتب وحطت مجموعة من الأوراق، واتكلمت بطريقة مكشوفة استفزتني :
-الورق ده يا دكتور متأجل من امبارح، محتاج توقيع حضرتك ضروري، عشان شحنات الأدوية المطلوبة تتوزع على المخازن.
اتنفست بعمق، رفعت وشي عن الورق اللي كنت بقراه وبصت لها :
-وعشان تمضي أوراق، تتكلمي بالطريقة دي؟!
اتحركت وجت ناحيتي وعلى وشها ابتسامة خفيفة، وبنظرات عيون ثابتة حطت ايدها على المكتب، والايد التانية على الكرسي اللي كُنت قاعد عليه، ميلت عليا نص ميلة لحد ما بقي وشي في وشها، ما يفصلش بينا الا سنتيمترات بسيطة جدا، وكملت كلام بنفس طريقتها:
-اومال عاوزني اتكلم ازاي؟
جزيت على اسناني، وحطيت ايدي وفركت دقني بضيق، ورديت عليها بهمس:
-مايغركيش تعليم الجامعة وشهادة الدكتوراة، انا علمتني الحياة والدنيا حاجات اهم بكتير من شهادة ع الحيط، يعني من الاخر يا نجوان.. الشغل ده ما ينفعش معايا، اللي عملتيه قبل كده نجح اوي، وأنتي صراحة أدتيه على أكمل وجه، وفي المقابل خدتي قصاده كتير، فعاوزك توفري مجهودك للشغل أحسن، عشان انا مش شبهه.
ملامحها اتغيرت، والابتسامة اختفت من على وشها، فمديت ايدي وشلت ايدها اللي كانت محاصراني بيها، قومت من على مكتبي ووقفت قصاد الشباك وادتها ضهري، كملت كلامي وقولت لها:
-فهمتي يا نجوان اللي قولته، ولا أعيده تاني.. ولو استوعبتيه كويس، سيبي الأوراق عشان أوقعها واتفضلي على مكتبك.
ما اتكلمتش.. بس سمعت صوت خطواتها وهي خارجة من المكتب، ثواني والباب اتقفل.. فضلت واقف مكاني ببص في الفراغ، احساس بالبرودة اتملك جسمي، مع صمت المكان سمعت صوت أنفاس عالية، ابتسمت وبصيت حواليا.. كان قاعد على طرف الكنبة وبيبص لي بثبات، فاتكلمت وقولت له:
-ايه رآيك عجبتك؟
هز راسه بهدوء من غير ما يرد عليا، قطع كلامي رنة تليفوني وكان الاتصال من أرمين، رديت عليها وكان واضح على صوتها القلق، طلبت مني اجي البيت بسرعة عشان أمها تعبانة.. بعد ما قفلت معاها بصيت عليه بس كان مشي، فخرجت من مكتبي وركبت عربيتي في اتجاه البيت.. طلعت بسرعة لأوضة جيهان هانم، كانت أرمين قاعدة جنبها بتعيط ومش عارفة تتصرف، أمها كان وشها بهتان وبتاخد نفسها بالعافية، فشغلت جهاز التنفس وحطيته على وشها، وادتها العلاج المناسب لحالتها، بدأ نفسها يرتاح.. فبصيت لمراتي وقولت لها:
-قومي يا أرمين ارتاحي شوية في أوضتك، وانا هستنى جنبها لحد ما اطمن عليها واجي اطمنك.
هزت راسها بالموافقة وقامت خرجت من اوضة امها، قعدت على الكرسي اللي قصاد جيهان.. ميلت ناحيتها وسندت دراعي على ركبتي، رفعت وشي ناحيتها فلمحتها بتبص لي بطرف عينها.. ابتسمت وقولت لها:
-النهاردة بس أقدر اقولك اننا بنشبه بعض، الفرق بينا شعرة خفيفة جدا، كانت هي السبب اللي كونت شخصية جيهان هانم كتخدا، وفي المقابل كونت شخصية كريم علوان.
رجعت بضهري على الكرسي، خدت نفس عميق مع تبادل نظرات بيني وبينها، فكملت كلامي;
-أكيد طبعا مش فاهمة اقصد ايه، بس هريحك وهفهمك بحكاية هتعجبك، هتبسطك جدا.. من سنين كتير، كان فيه طفل صغير تقريبا عمره ١١سنة، بين يوم وليلة فاق على بكا امه والسواد مغطيها، لما سألها عرف إن السند الوحيد له في الدنيا مات ابوه.. حاولت الام بكل جهدها إنها تقاوم وتعيش، بس واضح انها خسرت حربها مع الحياة، ما قدرتش تعيش وتتعايش في دنيتنا.. فحصلت جوزها بعد فترة بسيطة، وفضل الطفل ده وحده بين أربع حيطان، الخوف والقلق كانوا أصحابه اللي بيونسوه في وحدته، ما هو اتيتم من الاسرة وكمان العيلة، لحد ماخبط باب شقته.. بص ناحية الباب بذعر وعيونه اتملت بالدموع، وقف وبص ناحية الباب، اتثبت في مكانه للحظات، متردد يخطي خطوة او يرجع لورا خطوات، لحد ما قطع تركيزه صوت الخبط، جسمه اتنفض.. فكان لازم يواجه قلقه، أقنع نفسه برجولة مبكرة لطفل ما اتعداش ال ١٢ سنة.. راح ناحية الباب ومد ايده اللي بتترعش وفتحه، كان راجل عارفه وعارف ملامحه كويس، بس قلة الزيارات وممكن قسوة القلب بتقطع حبال الود، كان اللي واقف خاله.. في اللحظة دي مشاعره اتلخبطت، ماكنش عارف يروح في اتجاه، يا ترى يسيب نفسه لأحساس الفرح لنجدة اتمثلت في صورة بني آدم ماشفوش من زمن، ولا أحساس الحزن لفراق اهله، ولا احساس السخط اللي كان ناحيته بسبب مقاطعة امه.. بس عارفة يا جيهان هانم، الأطفال في السن ده.. بيدوروا على الأمان، مايعرفوش معنى لمشاعرهم، فتلقائي بيروحوا ناحية اللي بيشيل منهم القلق، ويحسسهم بالأمان اللي افتقدوه، وده خلاه يترمي في حضن خاله ويبكي.. وحمد ربنا إن خاله بادله نفس مشاعره، احتواه وكأنه هو كمان كان محتاج وجوده.. واخيرا الولد رجع يتنفس من جديد، بس فيه حاجة حصلت سربت لقلبه الخوف، وده لما اتكلم خاله وقاله:
-مش هينفع اسيبك تقعد في الشقة لوحدك بالليل، انت هتيجي معايا.
استغرب الولد من كلامه وسأله:
-هروح معاك فين يا خالي؟
-مكان شغلي اللي بسهر فيه.
ابتسم الولد ووافق، ما هو مستحيل يفارقه لحظة، هو اصلا ماصدق لقاه.. قُرب الساعة ١٢ بالليل، خده من ايده وخرجوا، ركبوا عربيه وصلتهم قصاد مبنى كبير، وقف الولد لدقايق قصاد المبني وبص عليه بتركيز، رفع وشه لفوق لدرجة إنه ماكنش جايب أخرة بسبب ضلمة الليل، وبسبب شطارته في المدرسة، قرأ بسهولة يافطة كبيرة متعلقة على المبنى، النور اللي كان مغطيها فكره بأضواء أفراح شارعهم الصغير، كان مكتوب على اليافطة “مستشفى كتخدا الاستثماري”.. فوقه خاله بهزة خفيفة على كتفه وهو بيبتسم له، مسك ايده فحس إنه بيحضنه وبيقوله من غير كلام أنا جنبك.. فاتنفض قلبه واترعش من الفرحة.. بعد ما دخلوا من البوابه، الانظار اتوجهت ناحيتهم، واحد من أفراد الأمن سأله :
-اللي جاب لك يخليلك يا عم صديق، مين الواد الحلو ده؟
ابتسم واتكلم بهدوء وهو بيبص للولد:
-فعلا اللي جابلي يخليلي، ده في شوية أوراق ابن اختي، أما في الحقيقة هدية ربنا فيبقى ابني.
فرح الولد وكأن الدنيا رقصت له، خلاص هو مش محتاج حاجة من الدنيا، ربنا عوضه عن فقدان اهله، بقلب رق وحن عليه بعد اليتم.. كمل الولد مش وهو ماسك ايد خاله، لحد ما وصلوا لمكان جانبي معزول شوية، دخلوا ممر طويل.. الولد قلبه اتقبض وقلق لسبب مش عارفه، أو يمكن السبب شكل المكان نفسه، بس عقل طفل مش مفسر سبب احساسه، هدوء في المكان زود ضربات قلب الولد، فبدون ما يحس قبض على ايد خاله اكتر، حس خاله بتوتره فبص له وابتسم.. بادله الولد الابتسامة وكمل مشيوا.. لحد ما وصلوا لباب اخر الممر مد ايده وفتحه، دخلوا اوضة أغرب من كل اللي شافه، خوفه زاد أضعاف من شكلها وريحتها اللي كتمت صدره.. كانت مليانة أدراج كلها شبه بعضها، واللي رعب الولد اكتر، منظر الدم اللي مغرق الأرض، ساب خاله ايده وراح ناحية شاب كان واقف وهدومه غرقانه دم، قصاد الشاب جسم واحد عريان، كان فاتح عينه على آخرها ومبرق في السقف.. الدم كان بيخرج بكثافة من بطنه المفتوحة، أما الشاب كان في ماسك سكينة او ساطور ماكنش عارف ايه نوع الحاجة اللي ماسكها، وبيقطع رجل الراجل اللي دم بينزل منه، فمسك خال الولد في قميص الشاب واتكلم بعصبية;
-انت ايه اللي بتعمله يا ابن الكلب، انا بقالي فترة شاكك ان فيه حاجة غلط بتحصل هنا، بس كُنت بكدب نفسي، وبرغم اني شاكك فيك، بس طول الوقت بقنع روحي إنك عيل غلبان مغلوب على أمرك، وللسبب ده اشتغلت معايا في المشرحة وسط الأموات، عشان لقمة العيش، بس ما تخيلتش إنك نجس وحرامي بتنتهك حرمتهم.
شال الشاب ايد خال الولد بمنتهى القوة، زقه لورا في صدره بكفوف ايده اللي علمت على هدومه، ماقدرش يسند نفسه بسبب كُبر سنه فوقع على الأرض واتخبط في رأسه، قام نص قومه وهو بيتوجع، جري عليه الولد وقعد جنبه وعيط، خاف وشبح الموت والفراق ظهر له في زاوية من زاويا الأوضة، كمل الشاب كلامه بعصبية وغل، وهو بيشاور بأيده ناحية بطن الراجل المشقوقة:
-قبل ما تزعق لي، بص الأول بعينك وركز في الجثة، المفروض إنك بتشتغل في المشرحة من سنين وفاهم، دي منظر جثة اتشرحت ولا منظر جثة اتنهبت؟.. انا ولا حاجة يا عم صديق، طُعم صغير جنب الحيتان اللي فوق، هم اللي علموني يعني أيه المكسب السهل ورا تجارة الأموات، بس هم على كبير جثث تموت وتدخل المشرحة وتفضى من كل اللي جواها، وأجي انا اخلص وراهم شغل وانضف وساختهم.. عجبني الموضوع والفلوس الكتير، فقولت ليه انا كمان ماجربش حظي، فبقيت اتاجر في الحاجات الخفيفة، دراع، رجل.. وطلبة كلية الطب مابيصدقوا يلاقوا واحد زيي، تاجر أعضاء جوه مشرحة بس على صغير.. بعكس الحيتان الكبيرة.. مافيا، سوق الدم والأعضاء، والمتاجرة بلحم الجثث.. وطبعا كل ده كان من وراك، ماهم حافظينك كويس، راجل الأخلاق والمُثل العالية، أما أنا غيرك خالص، بمجرد ما شميت ريحة الفلوس واستبدلتها بريحة دم الجثث، رميت أخلاقي وضميري في مقلب الزبالة اللي برا المستشفى.
خال الولد كان بيسمع بعدم تركيز، بسبب وقعته على الأرض.. فضلت راسه تطوح لحد ما غمض عينه واتمدد مكان ما وقع، في اللحظة دي بص الشاب على خال الولد وخرج يجري، وفضل الولد مكانه بيبص لخاله في ذهول، اتعاد قصاده شريط ذكرياته اللي ماتعداش كام سنة، أدرك معنى الموت اللي بدأ يخبط على الإدراج اللي قصاده، عينه برقت وبدأ يتلفت حواليه بذعر.. فلمح بعنيه ناس شبه الراجل اللي نايم والدم لسه بينزل منه، منهم اللي قاعد في الركن، ومنهم اللي بيزحف وجاي ناحيته.. كلهم شبه بعض، العيون الفاضية، الوشوش الشاحبة، الاجسام الهزيلة المشقوقة، كانوا بيهمسوا ويزوموا من الألم والوجع.. رجع الولد بضهرا لورا، وانتبه لأصوات جديدة اختلطت بأصوات اللي معاه في المكان، فجري بسرعة واستخبى.. دخل من الباب الشاب اللي كان موجود، وكان معاه اتنين تانيين.. كانوالابسين بدل في منتهى الشياكة، ويبان على وشهم عز وجاه اختفوا من ملامح الشاب.. واحد منهم قال بعصبية:
-وانت يا بني آدم مش فهمناك تخلص بسرعة قبل ما ييجي.
رد عليه الراجل التاني، اللي كان بيتكلم بهدوء ورزانة:
-اللي حصل حصل يا مهران، خلينا دلوقتي في المهم، من فترة طويلة وانا عاوز اخلص من صديق، اللي كان موقفني عن ده، قلب أبويا الطيب اللي وصاني عليه، بس وصية ميت مش هتنقذنا من ايد الحي، كلمتين منه مش هيتصدقوا، بس هيسيبوا أثر وتساؤلات كتير احنا في غنى عنهم، جبت الحقنة اللي قولت لك عليها.
رد عليه مهران وقاله:
-ايوه جبتها يا عمي.
-اديها للولد ده عشان يديهاله في الوريد، وبسرعة قبل ما يفوق.
خد الشاب الحقنة من ايد الراجل اللي اسمه مهران، وقرب من خال الولد وحقنوا بيها في دراعه، قام الشاب من جنبه، لفوا وشهم ناحية الراجل اللي على الأرض، وفي لحظة جسمه بدأ يتنفض ويترعش بقوة، وفي اللحظة اللي بعدها سكون تام.. وكل حاجة انتهت وخلصت.
اتكلم الشاب وقال:
-هو كده مات يا بشوات، بس في حاجة نسيت اقولكم عليها، عم صديق كان معاه عيل صغير.
عقد مهران حاجبة وقال:
-عيل مين اللي كان معاه؟
-ماعرفش والله، بس اتلمحت بيه وقت خناقتنا، ودلوقتي اختفى.
-خلاص سيبك منه، اكيد عيل من الشارع ولا حاجة، صديق لا متجوز ولا عنده عيال، يلا.. انده لدكتور التشريح خليه يشرحه، ولو فيه حاجة تنفع يركنها على جنب، ولو أن ماظنش هيلاقي حاجة، ده راجل كبير وصحته معدومه، وبعد ما يخلص ارميه في اي قبر من مقابر الصدقة.
بعد ما خرجوا، اتسحب الولد وجسمه بيتنفض، بص ناحية خاله للمرة الأخيرة وخرج بره المستشفى، وسط دوشة دخول مرضى فامحدش انتبه لوجوده.. وبسبب ذكائه قدر يربط الشوارع ببعضها لحد ما وصل شقته، دخل وقفل الباب بيتحامى من مجهول مستنيه، اترمى بجسمه على كرسي وقفل رجله عند صدره، حط راسه بين رجليه وكان لسه بيترعش، لحد ما سمع صوت الباب بيتفتح، رفع وشه ببطء وبص ناحية الباب، كان خاله.. جه ناحيته وقعد جنبه، كان بنفس شكله وهيئته اللي سابها عليه وهو واقع في الارض.. لمس على شعره وقال بصوت مبحوح:
-ما تخافش ياحبيبي انا معاك، هفضل جنبك ومش هسيبك ابدا.
بص له الولد وابتسم، ماكنش مدرك في اللحظة دي ان اللي قاعد قصاده، مش اكتر من شبح خاله.. ويمكن كان عارف، بس بيوهم نفسه انه حقيقي عشان يقدر يكمل حياته، وفعلا.. الحياة استمرت بوجود الاموات جنب الاحياء.
خدت نفس عميق وغمضت عيني، رجعت فتحتها وبصيت لجيهان وقولت:
-الحب والكراهية بيتولدوا من رحم واحد، ويفضلوا في صراع لحد ما واحد منهم يغلب التاني، والغالب هو اللي بيسيطر، بيتحكم في كل حواس الجسم.. بيلغي القلب ويحوله لمجرد آله بتضخ الدم، ويسيب للعقل كل خيوط اللعبة، يحركها براحته زي عرايس الماريونيت، وانا.. الكره والحقد والغل، اختاروا يتحكموا ويجروا في جسمي زي كرات الدم.. ما هو يا جيهان هانم الولد اللي بحكيلك عنه يبقى انا.. الولد اللي خاله مات قصاد عينه على ايد جوزك، وابوكي.. رجال الأعمال المعروفين، بدأت اخطط وكانت البداية من عند أرمين، هي أسهل طريق ادخل بيه قصر مهران دياب، مانكرش اني حبيتها.. ويمكن دي المرة الوحيدة اللي قلبي نبض فيها بعد موته، بس حظها انها بنتكم.. وهمتها طبعا اني ماعرفش إنها من سلالة دياب وكتخدا، اتحملت منكم اهانات مايتحملهاش بشر، بس عشان احقق هدفي، والنتيجة كانت عظيمة.. بدات بشغلي في نفس المستشفى اللي اتقتل فيها خالي بدم بارد، حمدت ربنا ان ماحدش دور ورا اسم امي، ومن بعد الشغل كل الابواب اتفتحت قصادي بسهولة غير متوقعة، والفلوس الكتير تعمل المستحيل.. اول هدف كان ابنك شاهر، الوريث الوحيد لبيت دياب، يوم فرحه عملت معاه احلى واجب، ابهرته بحبايتبن هيخلوه يلمس النجوم ليلة دخلته، مع سيجارة متكلفة من عيل صايع، وخلصت قصته.. خاصة إن ابنك مالوش في جو الكيميا، فطبيعي هيصدق اني عاوز أوجب معاه، وعمره ما هيخطر بباله إني بديه اللي هيخلص عليه، وحصل اللي حصل وراح فيها.. تاني واحد ده ماتعبتش معاه، جت له من عند ربنا، مهران بيه دياب.. ماستحملش أن عرش مملكة دياب تتهز، فجالنا البيت متحمل على الاكتاف، وكانت فرصة لايمكن اضيعها.. دراسة الفارماكولوجي نفعتني جدا في اللحظة دي.. حباية من “السيانيد” كنت مجهزهاله، خدها من ايدي وبلعها.. وبعد شوية كنتوا جنبوا بتصرخوا عليه بعد خروج السر الالهي.. أما بقى تالت واحد ده جالي على طبق من دهب، ما هو النسوانجي ليه مليون مدخل، أسهل من وقوعه مافيش.. ومروان بيه كان بتاع حريم جامد اوي، والحمد لله “نجوان” السكرتيرة عندها استعداد للأنحراف all the time.. ظبطتهم بقرشين محترمين مع أمضاء على وصل امانة من غير ماتحس، ما هو اللي زيها مالهاش امان برضه، وفهمتها في الوقت المناسب تعمل ايه، وهي صراحة ما قصرتش.. كل ما تتخيليه عملته معاه، وفي الوقت المحدد مع انشغال الموظفين، دخلت له.. ضحكة حلوة مع كاس احلى تولت عقله.. بعدهم شوية ماية دايب فيهم كمية رهيبة من الكوكايين، وبعدهم اتخنق ووقف على راسه ملك الموت، كملت نجوان شغلها مسحت كل الاثار وفضلت تصرخ، لحد ما وصل عندي المستشفى.. كنت هريحه من الدنيا، بس الموت سابقني وخده، وانتي بغطرستك وقعتي، ماتحملتيش.. عشان بس تعرفي إن مافيش حاجة بتدوم، وكل حاجة دلوقتي بقت في ايدي، بتوكيل موثق من أرمين.
هزت رأسها جيهان بذعر وهي بتزوم، كانت بتاخد نفسها بصعوبة، فابتسمت وكملت كلامي:
-ماتخافيش بنتك في الحفظ والصون، دي برضه مراتي وساعدتني في كل ده، من غير ما تعرف.. وانتي للأسف العلاج اللي بديهولك هيفضل مرقدك كده باقي عمرك، وبصراحة انا نفسي تفضلي كده سنين، لا منك عايشة ولا منك ميتة، تشوفي وماتقدريش تعترضي، تسمعي وما تقدريش تتكلمي، عاجزة حتى عن إنك تحركي صوابع ايدك.. خلاص كده انا خلصت اللي عندي، أسيبك بقى تعيشي مع كوابيسك.
خرجت من اوضة جيهان كتخدا ومليت صدري بالهوا، دخلت اوضتي وبصيت على ارمين، كانت نايمة في سريرها وشعرها مفرود جنبها.. فبصت لها وابتسمت، خرجت للبلكونة وبصيت في الفراغ، مر قصادي كل حاجة عملتها، فافتكرت خالي.. وقولت لنفسي “عارف اني اخطأت، بس مش ندمان”..
“تمت”
#لمياءالكاتب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى