تتشبث الأغصان بأوراقها الصفراء التي لا تتوانى عن تركها بنفخة ريح خفيفة تشبث الجسد بروح ميتة لا خوفا من الفراق أكثر منه أملا في معيّة، لا يدري أي منهما أن في التخلي عن ماهو ميت سيأتي مكانه مايزهو ويزهر بحياة..
هكذا (حمزة ) تشبث بالسنوات التي كانت كلما مضت أطفأت جزء من روحه وكذبة الحب الملمحي خوفا من التلاشي في منفاه، خوفا من أن يفقد وجوده المادي ويستسلم ليكون شبح من أشباح المقبرة كما يطلقون عليهم..
الساحة التي كان يقضي فيها سويعات ينفض فيها جسده رطوبة المهجع ورائحة الغمالة عن روحه لمَ أصبح يقف بحماس عليها كأنها بوابة السماء التي ترتفع فوقه تنير أماله؟
لمَ أصبح النسيم الذي يلاطف خديّه مثله مثل قبلات أمه الصباحيّة؟ لمّ أصبحت حرارة الشمس التي تنفذ إلى جلده دافئة ككف أبيه المربتة على كتفه؟ لمَ أصبحت زقزقات أسراب الطيور وهي تبتعد كصوت أصدقائه؟
لمَ أصبح كل شيء حوله ينبض بالحياة وتحول هذا القبر فجأة إلى مكان يمكن الإستمتاع فيه نوعا منا؟
راح يهمس بينه وبين نفسه ياترى ما الذي تغيّر؟ ..
إنت ياحمزة!
قالها (عزيز )ببشاشة وهو يقطع عليه خلوة تأمله فسأله (حمزة) بغرابة:
أنا!، إزاي ياعم عزيز؟
فشدً على ذراعه وسارا معا حتى نهاية الساحة وجلسا جنبا إلى جنب فقال:
الكلمة ليها تأثير عظيم على النفس ياحمزة، عشان كده الكلمة الطيبة أسبق من العمل الطيب!
إللي إتغيّر إنك كنت معزول عن العالم برا حاسس إنك مش إنسان عادي زيهم، شبح جوة مقبرة، كنت بتحاول تثبت لنفسك إنك عايش بالرسايل اللي كنت بتكتبهم لنسمة، الألم قتل كل حاجة جواك و الحب كان الطريقة الوحيدة عشان تعيش،
بس رسايل هبة رجعت فيك الحياة، إنت كنت محتاج كلام، محتاج رد يخليك تحس إن فيه عالم تاني غير هنا، إنك مش منسي!، الرد!
طب قولي إحساسك كان إيه لما مسكت أول رسالة بعد أربع سنين في المقبرة دى؟
هز (حمزة )كتفاه وقال:
لو قلتلك إني كنت عايز أعيط هتضحك عليّا؟ بس كنت فاكرها من نسمة.
ضحك العم (عزيز )وقال:
شعورك كان بسبب الرسالة نفسها مش هيفرق مين بعتها، نسمة، ولا أهلك، ولا هبة! إنت كنت في حالة من فرط الشعور، مرة وحدة صحيت جواك كل المشاعر دفعة وحدة مع بعضها وبقوة
الفرح، الخوف، الانبهار، الدهشة، الشك، المفاجئة، الحزن، بقيت زي المنتشي بعد فترة انقطاع!
قال (حمزة) بسخرية وهو يضحك، لأول مرة:.
مدمن، ومنتشي!، أنا، مشكور ياعم عزيز!
فقهقه العم (عزيز )وقال وهو يربت على ركبته:
ودمك خفيف ومرح كمان! وعد هبة رجعلك الأمل بالحياة ياحبيبي وخلى وشك ينور بالضحكة الحلوة دي، يارب ترافقك دايما!
فقال( حمزة )بحيرة:
إزاي صدقتني وهي متعرفش حاجة عن حياتي، لاء وكمان راحت لأهلي واتبنت قضيتي وبتساعدهم وواخدة بالها منهم، حتى إنها راحت لنسمة.
ضحك بسخرية وأردف:
-نسمة! معقولة أنا كنت أعمى بحب نسمة؟!
بدا على( عزيز) التفكير للحظات ثم قال:
ظهر اليقين ، هرجع بيك ياحمزة لقصة سيدنا يوسف عليه السلام، السيدة زوليخة شغفها حبا حتى هامت على وجهها، بعدما كانت عزيزة فقدت كل شيء، مالها، جاهها، بصرها وصحتها وأخذت السنين جمالها وهي لاتزال تذكر يوسف حتى إذا مرت على مكان شمت فيه ريح يوسف فقالت والله إنه يوسف مر من هنا!
وبعد الكفر آمنت فظهر يقين ربك وحدثت المعجزة فأوحى ربنا إلى يوسف فدعا لها فعادت صبية جميلة جدا جدا، فزال شغف الحب واعتكفت حتى صارت لاتشعر بيوسف وهو واقف أمامها بعد أن كانت تشم ريحه قبل أن تراه!
شغفته ياحمزة ولم تعشقه! تعلقت بيه لأنها رأت فيه شيء غريب، وبهت الشغف حين أيقنت أن رب المعجزات فوق كل شيء!
بالظبط زيك يا حمزة! كنت شغوف بنسمة لأنك كنت فاكر حبك ليها هيخلصك ويهون عليك العذاب ولما ظهر الحق بهت الحب وفضي القلب وزال الشغف، فيه وجع طبعا بس هيطيب مع الزمن..
أما هبة فحكايتها زي الملك اللي قال أفتوني في منامي و سعى عشان يبريء يوسف ويخلي النسوة اللي اتبلت عليه تعترف بذنبها، صدق يوسف من كلامه زي هبة ماصدقتك من رسايلك إلى كانوا زي رؤية الملك بالنسبة ليها…
صلي ياحبيبي صلاة حمد وشكر لربنا وخليك على يقين إنه هينصرك ويكرمك بعد السنوات العجاف اللي صبرت فيهم..
أخذ( حمزة )يد العم (عزيز )وقبلها ثم قال:
ربنا ما يحرمني منك، كإنك الوحي اللي بيثبت قلبي ياعم عزيز والعوض عن فراق أبويا…
مسح (عزيز )على رأسه بحنان، سورة يوسف أحسن القصص يرجع إليها العم (عزيز) دائما لمواساة( حمزة) في ظلماته وطمأنة روحه، لم( حمزة) حصرا عن بقية المعتقلين؟ لأن( حمزة) هو الوحيد بدون قضية، الذي أدين ظلما، الذي ذنبه أنه لم يرتكب ذنبا، أما البقية فبطريقة ما قد أخطأوا رغم نواياهم ومعتقداتهم حتى العم (عزيز) الذي أعطى ثقته لحزب ظن أنه جُمع على كلمة الله فكان الله بريء منهم والعباد.
الشرك الذي يقع فيه الحب هو الإنتظار بقلق وعذاب إلى اللاوقت، أتظنين أنك تستطيعين المقاومة دون أن ينكسر قلبك لذكرى وتتبلل وسادتك من شوق؟ أنا سأفعل، من أجلك لأنك تستحقين!
لا تدري( هبة) لما قفزت في بالها كلمات (حمزة) التي قرأتها في إحدى رسائله فزفرت لتخرج مابصدرها من ضيق:
حمزة، ياحمزة انا بفكر فيك أكتر من إبني سيف!
عادت تنظر إلى ساعة يدها للمرة لم تعد تتذكر كم ثم حدثت نفسها مجددا:.
اتأخر كده ليه؟ لا أنا ورايا طفل هينسى إني أمه كده!
دقائق أخرى تمر وقد طلبت مشروبا ثالثا وبالها الواسع أصبح كثقب إبرة، وماهي لحظات حتى رأته يدخل متجها نحوها بعدما وزع نظره على الطاولات باحثا عنها…
تقدم منها وجلس إلى طاولتها وهو يعتذر عن التأخير بسبب حالة طارئة في المشفى فقالت:
ولا يهمك يادكتور هشام مش هاخد من وقتك كتير..
فقال متسائلا:
سامعك يا أستاذة هبة، قلتي هتكلميني بخصوص نور، خير، فيه حاجة!؟
جمعت (هبة) يديها على الطاولة وقالت:
نور بتمر بأوقات صعبة جدا، باباها بيضغط عليها عشان ارتباطكم وهي مش عايزة…
قاطعها قائلا:
مش عايزة إيه؟ بصي يا أستاذة دي حاجة تخصني أنا ونور…
قاطعته (هبة) ببرود وهي تحمل كأس عصيرها:
أووه. إنت منهم بقى!
غضن حاجبيه وقال بنفاذ صبر:
أفندم!
فقالت:
يعني، بتحط عينك على نور رغم إنك عارف إنها مش بتحبك بس راضي إنك تجوزها غصب..
قال بغضب:.
غصب! غصب إزاي، إنتي مجنونة ياست إنتي! نور بنت عمي…
فقاطعته قائلة:
وأنا أولى بيها من الغريب! مش كدة؟
ده كلام الزمن الجميل مابقاش منه دلوقتي…
هااا هتسمعني ولا هتخبط في الكلام؟
طالعها (هشام )بغضب فأردفت:
نور بنت حساسة جدا مش هتقدر تجبر نفسها تعيش معاك مجبورة حتى لو اتجوزتوا وبقيتوا ببيت واحد، حياتها هتبقى جحيم وحياتك ألعن، نور بتحبك كأخ وابن عم جدع بيقف جنبها فليه عايز تدمر العلاقة الجميلة بينكم!
فكر كويس يادكتور المحبة مش بالعافية، هي بتحبك بس مش الحب اللى عايزه منها فإيه اللي يجبرك تعيش مع واحدة مابتحبكش، دي حياة كاملة وعيلة ومشاركات…
قاطعها وهو يقف مغادرا:
أبعدي عن نور أحسنلك لو شفتك جنب منها هزعلك!
وغادر كالعاصفة بينما رددت:
أبو شكلك رزعتني ساعة على الفاضي ماخدتش منك حق ولا باطل، قال دكتور قال، أقطع إيدي لو ماكنش بتاع بهايم بتفكيره ودماغه بتاعت ابو جهل دي!
جمعت أشياءها من فوق الطاولة و وضعت ثمن المشروبات داخل الفاتورة وخرجت متوجهة إلى الموقف الذي ركنت فيه سيارتها…
لايزال جالسا في سيارته ولم يشغلها حتى، حين رأته ابتسمت إبتسامة نصر وقالت:
شكل دماغه بتستوعب بالبطيء هروح أزن شويتين كمان…
اقتربت منه ومالت إلى الشباك وقالت:
معايا حق مش كده!
فقال بهدوء:
أنا بحبها، من زمان جدا، ماقدرش أعيش من غيرها، هخليها تحبني، اكيد هتحبني لما تقرب مني وتعرفني أكتر!
قالت بهدوء:
ازاي يعني! تنام هشام تصحى حسن وهتعرفك وتقرب منك مثلا؟ إنتو في وش بعض من أول مااتخلقتوا، مش بتعرف حد أكتر منك، هي بتعتبرك أخوها، أخوها ياهشام!
فقال بصوت عال عصبي:
إنتي بتصعبيها كده ليه؟
شعرت( هبة) بحزن في صوته، شعرت بصدق حبه، تبا! إنه حقا يحب (نور)، يالها من مصيبة كيف ستحلها إذن، هذا ال(هشام )لن يتنازل عن حبه كما هو واضح؟
شغل محرك السيارة فهدرت لتستفيق (هبة) من شرودها وهي تبتعد عن طريقه بينما غادر يقود بسرعة كالمجنون..
فعادت (هبة) تحدث نفسها من جديد:
ياحظك يانور، حب ثلاثي يامفترية!
هعمل إيه دلوقتي، هروح ل عز ولا أروح لنور؟
أمممم، هروح لسيف أحسن!
واستقلت سيارتها وغادرت إلى منزلها.
وصلت (هبة) إلى المنزل وكالعادة استقبلها صوت (سيف) الباكي وصوت جدته التي تحاول تهدئته فأسرعت نحوهما وهي تردد أنا جيت ..
وضعته والدتها بين يديها وقالت بامتعاض:
بقيتي بتتأخري كتير ياست هبة!
طبعت( هبة) قبلة على وجنة صغيرها وأخرى على وجنة والدتها وقالت وهي تهز (سيف) الذي سكن في حضنها:
بعتذر ياماما، الأيام دي مضغوطة جدا، الشغل على مشكلة نور على مذكرة تخرجي، كل ده على دماغي فحاسة إني ضايعة مني…
قالت( مها):
هاتي سيف وادخلي خدي دوش يكون خلص الرضعة وتنامو سوا…
ناولتها (هبة) الصغير بسرعة كأنها كانت بحاجة إلى ذلك وأمها قرأت أفكارها…
وبمناسبة الأفكار، راحت (هبة )تفكر في خطة تجعل والد (نور) يلين قليلا، شخصا كهذا لن يلينه شيء سوى بعض تأنيب الضمير الذي يحفز ظهور طبعه الحنون فلمعت عيناها وأنهت حمامها بسرعة ثم أخذت هاتفها و هاتفت والدة( نور) واستحثتها كثيرا من أجل أن تحدث (نور) لخمس دقائق لا غير..
انتظرت قليلا ليصلها صوت( نور) المتعب فقالت:
عاملة إيه يانور؟
قالت(نور):.
وده بردو سؤال يتسئل ياهبة؟ هكون عاملة إزاي وأنا محكوم عليا الجواز غصب ومسجونة بين أربع حيطان في بيت أبويا!
قالت(هبة)بشفقة:
هانت يانور! اسمعيني كويس…
وقالت( هبة) وسمعت( نور)، ثم أنهت المكالمة بسرعة فدخلت عليها والدتها تحمل (سيف) النائم وصحن به شطيرة لتسد بها (هبة) جوعها، فأخذت تقضم منها بتلذذ وعاد صوت هاتفها يرن من جديد برقم غريب فنهرتها والدتها قائلة:
اذا البتاع ده صحى سيف هطردك برا البيت!
ضحكت (هبة )وهي تضعه على الوضع الصامت ونهضت تسير إلى الخارج وهي تجيب:
ألو مين معايا!
جاءها صوت امرأة تقول:
مساء النور يا أستاذة هبة! أنا وفاء عامر أم نسمة.
شعرت( هبة )بالغرابة فقالت:
أهلين بحضرتك!
فأردفت (وفاء ):
كلمتني نسمة عن اللي حصل لحمزة، أنا آسفة بجد عليه، من الأول قلت لنسمة إنك غلطانة في حقه بس ماسمعتش كلامي ومشيت ورا كلام أبوها واتجوزت جوازة بتدفع فيها تمن كسر قلب حمزة..
المهم ده مش موضوعنا، أنا بكلمك عشان عايزة أساعد حمزة، أنا عرفت إن جوزي وأخوه كان ليهم يد في اللي حصل، بنفوذهم وعلاقاتهم منعوا تصريح الزيارات عن حمزة، وكانوا سبب في تلفيق اتهامات تانية، لأن جوزى كان بيمول جماعة عماد وأخوه بيساعده..
فقالت( هبة ):
كده القضية كبيرة ولبسوها لحمزة منتهزين فرصة الأحداث اللي كانت ملخبطة البلد..
فردت (وفاء):.
للأسف!، لو لقينا عماد واعترف – وهيعترف لأنه جبان ومالوش صاحب غير المصلحة والفلوس- هنطلع حمزة من أول جلسة..
تدفق الحماس إلى قلب (هبة )وقالت:
تعرفي عماد فين؟ يعني ممكن نلاقيه بسهولة؟
فأجابتها (وفاء):
خليها عليا أنا هدور عليه وأستدرجه بالفلوس وهلبسه في حاجة تخلي البوليس يقبض عليه وكده هنبتزه عشان يشهد..
فقالت( هبة):.
بس كده هو مش غبي عشان يعترف على نفسه ويلبس قضية كبيرة، وكمان جوزك هيتذكر اسمه ويتسحب على التحقيق..
قاطعتها (وفاء) قائلة:
جوزي مش بني آدم يا هبة! مايستاهلش أفكر فيه ولا أخاف على إسمه، أنا عايزة أريح ضميري مع ربنا وأكون بريئة من عمايله، ولو اتسجن هيبقى حقيقي عملت حاجة كويسة ونضفت البلد من شخص قذر…
المهم، هشوف هتصرف إزاي وأكلمك تاني!
فقالت (هبة ):
الجلسة بعد أسبوع، مافيش قدامنا وقت كتير!
فقالت( وفاء )تطمئنها:
أنا اتحركت فعلا، أوعدك هتسمعي أخبار حلوة اليومين الجايين دول.
انتهت المكالمة التي حملت إلى قلب( هبة) الكثير من السرور فراحت تردد بسعادة:
هتطلع ياحمزة، هتطلع!
ثم عادت إلى جانب صغيرها ونامت براحة.