في قصر واسع ينم عن الرفاهيه التي أمتلكها أصحابه…
جلس بدر الجمّال مشدود الوجه متجهم وكأنهم يغرزون وتدًا بقلبه أمام المأذون الذي كان يعقد قرانه على كتلة الغرور ذات الخصلات النارية، تلك الفتاة التي يكرهها ويمقت كل صفاتها أيسل الرافعي…
ظل يراقب ملامحها عله يجد بها حزن او إنكسار ولكنها كانت ثابتة هادئة تحمل بريقًا غريبًا لا يدري مصدر توهجه أهي السعادة ام القهر المكتوم، ولكن على أي حال تبدو صامدة ليس وكأنها اُجبرت على هذه الزيجة!..
عاد بذاكرته لذلك اليوم الذي طلبت فيه والدتها أن يتزوج أبنتها…
فلاش باك
-قولي يا ست فاطمة شغل إيه؟
قالها بدر بتركيز مُسلطًا سوداوتاه على السيدة الحنون التي ربت أيسل بعد أن وجدتها شريدة في الشارع دون أهل…!
تنهدت فاطمة متفحصة كامل هيئته، بدءًا من شعره الاسود الغزير الناعم وسمار بشرته الرجولية الحادة، هبوطًا لجسده الطبيعي بالنسبة لرجل في منتصف الثلاثينات من عمره..!
ثم قالت بنبرة عملية جافة:
-انا كنت عرفت في مرة إنك عليك ديون، وتقريبًا أنت بتحاول تسدها، صح؟
اومأ برأسه على مضض دون رد، وعاد ينظر لها بأعين تنبض حدة قبل أن يسألها:
-وده إيه علاقته بالشغل اللي حضرتك قولتي عليه؟
قالت دون مقدمات:.
-مهو الشغل ده إنك تتجوز أيسل وفي المقابل هساعدك تسد ديونك، لازم تكتب كتابك عليها وإلا بنتي هتضيع مني، أهلها اللي رفضوا يقابلوني زمان عشان ياخدوا بنتهم اللي تاهت، جايين دلوقتي لما شافوها يفتكروا إن ليهم بنت كبيرة وحلوة عشان يشغلوها معاهم في الكباريه المقرف اللي هما شغالين فيه وبيهددوني يجبولي البوليس ويقولوا اني خطفاها من زمان لما كانت طفلة 4 سنين!
لم يبدو لها بدر متأثرًا كثيرًا إذ ظل محافظًا على جفاف ملامحه من شتى التعبيرات…
لتتابـع بنبرة حملت توسلًا خافتًا:
-ماقداميش حل غير ده، ساعتها حتى البوليس مش هيقدر يعملهم حاجة
رفع بدر كتفاه معًا وقال مستنكرًا بنبرة أجشة:
-حضرتك ماشاء الله مش ناقصة فلوس وممكن أي حد من معارفك يخلصلك الحوار ده!
هزت رأسها نافية بشيء من اليأس:
-لأ، انا ماضمنش يا بدر، مش كل حاجة بتمشي بالفلوس! دي بنتهم فعلاً وممكن يثبتوها عليا إني خطفتها زمان وخبيتها عنهم وياخدوها من حضني ساعتها ممكن يجرالي حاجة
لانت ملامح بدر نوعًا ما وكأنها استطاعت إمالة عقله الجامد بمبرراتها، فسألته بلهفة:
-ها قولت إيه؟ هتساعدني وأساعدك، وهيبقى مجرد كتب كتاب وجواز ظاهري بس لمدة قليلة جدًا!
ثوانٍ من الصمت مرت ولسانه ثقيل بحروف تتنازع نزعًا للخروج من بين شفتاه المشدودة بقسوة وهو يبتسم ساخرًا في استنكار:
-ويا ترى الهانم الصغيرة عارفة إنها هتتجوز نجار بيجي يشتغل في القصر بتاعهم؟
زفرت مطولة بعمق، وببسمة حانية على ذكر سيرة أيسل أردفت بهدوء:
-متقلقش، أنا بعمل ده لمصلحة أيسل وهي هتفهم ده كويس
نهضت مقتربة منه تربت على كتفه برفق، ثم لانت نبرتها كثيرًا وهي تخبره:.
-خد وقتك في التفكير يا بدر، وحقك ترفض بس افتكر إن أنا محتاجة مساعدتك
اومأ بدر موافقًا برأسه، ثم نهض يعدل من ملابسه مغمغمًا بصوت أجش:
-بعد اذنك يا ست فاطمة
ثم غادر بصمت تام تتابعه فاطمة بعيناها، ذاك الرجل منذ أول يوم رأته وهو يثير إعجابها بشخصيته الرجولية الجذابة المنغلقة، الغريبة الحازمة!
يبدو كجوزة الهند قاسية خارجيًا ولكنها لينة، لينة جدًا من الداخل…
وبما أن مُدللتها الصغيرة تعشق الصعوبات والتحديات لم تجد سوى ذلك الجلف لتُعجب به وهو الذي لا يعيرها أدنى اهتمام..!
عودة للواقع
صوت المأذون الهادئ نجح في إنتشاله من عمق الذكريات وهو يقول:
-اتفضل حضرتك امضي
وبالفعل أمسك بالأوراق متنهدًا بقوة، ليُنهي كل شيء، هو قد قرر وانتهى الامر..!
وما إن إنتهت مراسم كتب الكتاب حتى صدحت الزغاريد عن بعض العاملات بالقصر..
فتنفست أيسل بصوت مسموع مغمضة عيناها، من المفترض أن تكون سعيدة، لقد أصبحت زوجة الرجل الذي زار أحلامها مرارًا وتكرارًا ليزيدها تيممًا به، وفي ذات الوقت يؤلمها قلبها لأنها تتزوج بتلك الطريقة وبسبب الاشخاص الذين هم من المفترض أهلها، فما عادت تشعر بأي شيء، وكأن كل شعور ناقص فلم تعد تستطع ترجمة أي شعور..!
غادر المأذون والشهود، لينهض بدر شامخًا برأسه يهتف بخشونة:
-أنا هاخرج شوية يا ست فاطمة اظبط حالي زي ما اتفقنا
-تمام، وشكرًا يا بدر
قالتها فاطمة ثم اومأت برأسها موافقة بقلة حيلة وهي تراقب ملامح أيسل التي تشنجت وكأن احدهم يعتصر قلبها بقبضة الغيرة الدامية..!
رفعت فاطمة رأسها تلحق بـ بدر قبل أن يغادر لتردف بهدوء:
-طب اقعد أنت وأيسل الاول يا بدر عشان لو عاوزين تتكلموا في أي حاجة.
دقيقتان تقريبًا استغرقهم بدر في التفكير ليومئ برأسه متقدمًا من أيسل التي كانت تضع قدم فوق الاخرى وتنظر لأصابعها المتشابكة بصمت، ليخترق صوته الرخيم عزلتها وهو يخبرها:
-يلا!
بالفعل نهضت بهدوء قاتل تتقدمه متوجهة نحو احدى الغرف الفارغة، دلفت هي اولًا وهو خلفها، ثم جلست أيسل على الكرسي تضع قدم فوق الاخرى كعادتها، دون أن تلحظ تلك العينان السوداوتان التي تراقبها مستنفرة من تلك الحركة التي تُرجمت له على نحو الغرور!.
جلس هو الآخر أمامها، ليبدأ بدر كلامه هاتفًا بصوت أجش ثابت وعيناه تلتقط نظراتها المستكينة بخواء غريب…
-اولاً ده وضع مؤقت اجباري وهيعدي لكن لازم نحط النقط على الحروف عشان الوقت ده يعدي بدون مشاكل.
اومأت أيسل برأسها، وملامحها تنبض بالتساؤل قبل لسانها وهي تردد ببرود:
-عارفه كل ده، ادخل في الموضوع على طول يا بدر.
إستفزه برودها وحدتها فراح ينتقد أول شيء يرفضه تمامًا في ذلك المزيج الغريب من الهدوء والرقة والحدة:
-اولاً اللبس الضيق ده تنسي إنك تلبسيه طول ما إنتي على ذمتي
قال كلامه مشيرًا للبنطال الضيق الذي ترتديه، فأومأت هي برأسها ساخرة بتلقائية:
-طبعًا طبعًا أومال.
-أنا مش بهزر، ومفيش داعي للبواخة والسخرية دي!
غمغم بها بحروف مشدودة بالغضب، فظهرت ابتسامة ساخرة على وجهها وإندثر خواء عيناها وتلك الغيرة الهوجاء تبعثره محتلة ساحة عيناها، لتستطرد بشراسة:
-أنت مايخصكش أصلًا ألبس إيه، الكلام ده تقوله للهانم اللي بتحبها اللي مش قادر تستنى على بُعدها وعايز تجري تروحلها وكتب الكتاب معداش عليه ١٠ دقايق!
ثم نهضت والغيرة تتبلور في نظراتها الشرسة لتتابع محاولة الثأر لكرامتها:.
-وياريت تفضل فاكر الكلمتين اللي أنت لسه قايلهم، ده وضع مؤقت إجباري
كادت تسير لتتخطاه ولكن يده حالت دون ذلك، فقبض على ذراعها بقوة يوقفها ناهرًا إياها بسيل من الغيظ تدفق بين حروفه:
-انتي عارفه انا كام سنة؟ انتي ٢١ وانا ٣٣ ياللي مبتحترميش كبير ولا صغير!
-ايه يعني ١٢ سنة مش حوار
تمتمت بها ببرود حافظت عليه، فنظر لها من أعلاها لأسفلها متجاهلًا استفزازها، ليتابع بصوته الأجش:.
-ولما تكوني بتتكلمي مع حد لازم تتعودي تحترميه وخصوصًا جوزك، أنا مش موظف عندك يا هانم هترميلي كلمتين وتمشي!
رفعت حاجباها ساخرة باستنكار باندفاع وحدة غير مقصودين:
-فعلًا؟ متأكد من الحتة دي؟
كان متيقنًا، ستظل طيلة تلك الفترة اللعينة تذكره أنه النجار الذي يعمل في خدمتهم…!
ضغط بيده على ذراعها أكثر، وهو يحدق فيها، لمحت تلك الإهانة تنحر كبريائه بين أغوار عيناه التي أصبحت أشد ظلمة وقسوة…!
ففتحت فمها تحاول التبرير بحروف مشتتة، ونظرة عيناه تشعرها أنه ذئب يعج عويله نظراته ولا يغادر حنجرته:
-أنا، آآ يعني بص أنا كنت…
فخرج صوته هادئًا وكأن الكون يخلو من أي اصوات سواه، وحادًا وكأنه شفرة لامعة:
-إنتي واحدة والدتها كانت مفكره إنها كده بتدلعها وبتعوضها لكن هي في الحقيقة فشلت في تربيتها!
تناثر إعتذارها مع مهب الريح وراحت تستمر في عنادها وترفعها عن اخطاءها:.
-أنا ولا مدلعه ولا متربتش انا اتربيت كويس غصب عن أي حد، وانا مش طفلة وعارفه كويس أنا بقول إيه بس أنت اللي عايز تتكلم وتتنطر ومحدش يرد عليك.
حاولت نزع ذراعها من بين قبضته بالقوة، فاصبحت أمامه ليعود هو ويجذب يداها معًا بقوة خلف ظهرها، ثم اقترب منها حتى أصبح ظهرها ملتصق بصدره، ليقترب من اذنها هامسًا بخشونة لاذعة وكرهه لها يتضخم بين ضلوعه:.
-إنتي طفلة بالنسبالي، وطفلة مش متربية كمان وأنا اللي هاربيكي وهعرفك ازاي تتعاملي مع الكبار وتبطلي النفخه الكدابة اللي انتي فيها دي!
لم تنتبه لأي كلمة مما قالها، تلك الحرارة التي تسكن جسده من الغضب والانفعال، ألهبت مشاعرها الفوضاوية بمجرد أن شعرت بها، أنفاسه، رائحة عطره، للحظة شعرت أنها تستطيع ترجمة شعورها، أنها مطمئنة مغمورة العواطف بين أحضانه، مجروحة المشاعر من كرهه نبذه ونقده المستمر لها، مجروحة الكرامة لشعورها انه مجبر على ذلك الزواج، تغار بجنون من حبه لأخرى، وقلبها يتلوى لوعة كلما تذكرت أن كل ذلك بسبب والديها الجشعان..!
إنتبهت له حينما دفعها بعنف بعيدًا عنه، لتحجب خصلاتها الحمراء الطويلة المجعدة الرؤية عن عيناها، فأكمل هو بنفس العنفوان الذكوري:
-وبالنسبة لشعرك أنا مقدرش أجبرك على الحجاب، لكن طول ما انتي برا شعرك ده يبقى ملموم
فرددت بنبرة أبية لا تتطابق مع لحن الرضوخ الذي يطمح له:
-ولو معملتش كده هتعمل إيه يعني!؟
فاقترب هو منها ليتلمس الجزء القليل الذي ظهر بسبب الحركة من بطنها أسفل التيشرت القصير، فارتجفت بعنف ما إن شعرت بملمس كفه الخشن على جلدها وكأن لمسته تفاعلت مع عاطفتها الحارة فأحرقتها…
و تلك الرجفة وصلته بشكلٍ ما مرسلة له شعور لحظي غريب تأججت فيه غريزته الذكورية، ليعيد نظرته للجمود وهو يستطرد بتوعد قاسٍ:.
-طالما إنتي عندك استعداد إن أي راجل يشوف جسمك متفصل كده وممكن يبان منه قدام اي حد كمان، يبقى لو شوفتك لابسه كده صدقيني هتلاقيني قطعت الهدوم دي وما هيهمني أي حاجة! فضيحة بفضيحة.
لم ينتظر ردها بل غادر تلك الغرفة متنفسًا الصعداء، يلعن ذلك اليوم الذي وافق فيه على تلك الزيجة، بينما هي تبتلع ريقها بقلق متساءلة بحسرة، هل هي رخيصة تتعمد إظهار جسدها لتلك الدرجة بنظرة؟..
****
على الطرف الآخر في احدى قرى الصعيد…
جلست ليال بتلك الغرفة بمفردها تنظر لنفسها في المرآة، تتحسس تلك العباءة البرتقالية المُطرزة التي بدت وكأنها صُنعت لها خصيصًا، اليوم ستُزف عروس للرجل الوحيد الذي عشقته، مقسومة هي نصفين، نصف سعيد يرقص فرحًا بما استطاعت فعله، ونصفها الآخر تصدعت فيه تلك السعادة كلوح ثلج مزقته تصدعات قاسية وهي تتذكر ما فعلت بأنانية لتحصل على حبها…
تنهدت بعمق وهي تبتسم ساخرة، صدق حدسها، فقد كان يونس متجاهلها تمامًا منذ ذلك اليوم المشؤم، لا يوجه لها أي كلمة إلا اذا كان احدهم متواجد، وقد أخبروا أهل البلد أن يونس كان قد خطب احداهن وجاء بلدته ليتزوجها عليها وسط أهله…
أمسكت ليال الفرشاة بشرود متنهدة وهي تفرد خصلاتها السوداء على ظهرها، ثم بدأت تمشطها ببطء، وفجأة وجدت الباب يُفتح بعنف ويونس يدخل بهمجية وقد نسي أن يُغلق الباب خلفه فأغلقه نصف غلقة دون قصد، ثم تقدم منها لينفجر غضبه المكتوم في وجه ليال كالشظايا القاتلة وهو يزمجر:
-عملالي فيها عروسة بجد يا بت انتي وقاعده في اوضتي اللي مكنتيش تحلمي تدخليها!
أمسك الفرشاة من بين يداها عنوة ليرميها أرضًا بعنف ثم امسك ذراعاها معًا وعيناه تُطلق وحوش ليلها الأسود فتُصيب ليال بالفزع رغمًا عنها، ليهزها صارخًا بانفعال مفرط:
-عملتي كده لية!؟ مين مسلطك عليا ردي
ردمت ليال خوفها وهي تجيب بصوت حاولت جعله ثابت:
-محدش مسلطني! أنت اللي مش فاكر اللي حصل يا يـ…
وضع كفه على فمها يضغط عليه ليكتمه بعنف وهو يهتف من بين أسنانه محذرًا:.
-اياكي تنطقي أسمي اياكي، انا كنت يونس بيه او استاذ يونس وهفضل بالنسبالك كده
حركت رأسها بقوة محاولة التملص من بين قبضته، حتى أنزل هو يداه فانزلقت حروفها الشرسة من بين شفتيها بتلقائية تتحداه الرفض:
-مبقتش يونس بيه، بقيت يونس وبس، يونس جوزي سواء رضيت او مرضتش.
كلما ذكرته بعجزه وضعف موقفه، كلما ذكرته أنها أخذت مكان لم يكن لها يومًا، شعر أن الجنون ليس ذرة مما يشعر به، وباتت تصرفاته مجرد خيط تتلاعب به شياطينه!..
دفعها بعنف للخلف وهو ممسكًا ذراعها فسقطت على الفراش شاهقة من المفاجأة، لتجده يميل هو بكليتيه عليها حتى أصبح فوقها دون أن يمسها، مقتربًا منها كثيرًا أنفاسه المشتعلة بغضب أسود تصفع بشرتها القمحية، وعيناه السوداء التي تصرخ بالغضب كانت في مواجهة خضار عيناها الغامق…
ليدب على الفراش بجنون بيداه من حولها وهو يصرخ بصوت عالي نسبيًا:.
-هتنطقي وتقولي حقيقة اللي حصل غصب عنك مش بمزاجك وانا وانتي والزمن طويل
كان تنفسها مضطرب وعالي، قُربه بهذه الطريقة يُذيبها ويُذيب قوتها الوهمية، يُذيب الأنثى التي تتمنى لحظة قرب واحدة، ودقات قلبها تفضحها فتدوي لتُحيي السكون باهتياجها…
-ابعد يا يونس
قالتها بصوت مبحوح تقاوم تلك العاطفة المتدفقة بحرارة والتي بعثرت مكنونات صدرها، ليدب هو على الفراش مرة اخرى مغمغمًا بغيظ:.
-قولت يونس بيه متنسيش نفسك يا بيئة
فراحت تردد بعناد قاصدة استفزازه:
-يونس يونس يونس يونس يونس
وفجأة وجدته يُزيح بيداه الطرحة الصغيرة التي كانت ملفوفة عند عنقها، فلم تلحق الاعتراض إذ وجدته يدفن وجهه في رقبتها بغتةً وشفتاه قد أحرقتها حينما مستها للحظة، للحظة فقط، فشعرت برعشة عنيفة في تلك اللحظة حينما شعرت بملمس شفتاه الغليظة على رقبتها…
تكومت حروفها في حلقها عاجزة عن النطق، وكأنها اصبحت مُلقاه بين جحيم من المشاعر التي تختض داخلها بعنف…
ليبعد هو في الدقيقة التالية ينظر عند الباب ليجد أن الخادمة التي كانت تراقبهم قد رحلت، فعاد ينظر لـ ليال التي كانت مغمضة عيناها ويداها تقبض على شرشف الفراش بعنف…
فعقد ما بين حاجباه وهو يحدق بها بصمت دون أن يشعر أنه يدقق النظر لها بدءًا من رموشها الكثيفة المشتدة حول جفناها، هبوطًا بملامحها الصغيرة القمحية وشفتاها الصغيرة ككل شيء فيها و…
استفاق سريعًا لنفسه فنهض مبتعدًا عنها وهو يتابـع بصوت أجش:.
-اوعي تفكري إني عملت كده عشان جمال عيونك، أنا اصلاً بقرف منك، ده بس عشان البنت اللي بتشتغل هنا جات وكانت واقفة قدام الباب وأحنا مش ناقصين فضايح وبلاوي تانية بسبب خدامة زيك!
تبخرت سطوة العواطف وقد أصبحت كرامتها جمرة تتفاقم لتنطلق من بين حروفها وهي تنهض مقتربة منه لترد عليه بنفس الحدة ولكنها هادئة:
-كداب يا يونس، ماتقدرش تنكر إني بأثر فيك كأنثى ولو بنسبة واحد في الميه!
كلما حاول حجم غضبه جاءت لتبعثره بكل غباء…
أمسك ذراعها ليلويه خلف ظهرها بعنف ويصبح ظهرها ملاصقًا لصدره وهو يلقي إهانته المتعمدة عند اذنها ببحة رجولية حادة غاضبة:
-أنتي مش انثى اصلًا
ثم وقعت عيناه على شعرها الذي كان تمشطه، تعيش بكل أريحية بينما هو يتلوى بمرارة الفراق اللاذعة!..
في اللحظة التالية ودون شعور كان يفتح الدرج بيد ويُكبلها باليد الاخرى، فأخرج مقص ليترك يدها ويمسك خصلاتها معًا بعنف جعلها تتأوه متألمة وهي تصيح فيه:
-سيب شعري يا همجي بتوجعني
ولكنه لم يتركه بل دون مقدمات قصه بغل حتى أصبح قصير نسبيًا وهو يزمجر بحقد وصلت رائحته لها بوضوح فمزق احشائها:
-و آدي شعرك اللي فرحانة بيه وبطوله وعماله تسرحيه، أتمنى تكوني مبسوطة.
ثم ألقى المقص ارضًا وخصلات شعرها المقصوصة أيضًا، بينما هي مبهوتة مكانها تحدق بخصلاتها السوداء الطويلة التي داسها وهو يمر ليهمس لها بقسوة سقطت عليها كالسياط:
-ملهوش أي قيمة رخيص واخره تحت رجلي، زيك بالظبط!
ألهذه الدرجة يكرهها ويود فعل أي شيء فقط ليؤلمها، بل ألهذه الدرجة أوجعت قلبه هي..؟!
في القصر الذي تقطن به أيسل…
كان بدر في حديقة القصر ينوي المغادرة حينما أتاه الاتصال من مريم، تلك الفتاة التي كان يهيم بها عشقًا فتقدم لخطبتها وبالفعل اصبحت خطيبته ولكنه إنفصل عنها بعد فترة بسبب التصادم الذي حدث في الماضي وفرق بينهما، ولكنه عاد قريبًا منها حينما شعر أنها على وشك الإنهيار وحيدة…!
أجاب على الهاتف بصوت هادئ متزن:
-ايوه يا مريم
أجابته بصوت مبحوح تسأله:
-أنت فين يا بدر؟
-منا قولتلك يا مريم هبقى مشغول بخلص كل مشاويري عشان الفترة اللي هقعدها في القصر معاهم، مش فهمتك كل حاجة؟!
سمع صوتها الذي اختنق بشرنقة بكاء وهي تردف باستعطاف متعمد:
-كده يا بدر من أولها هتسيبني قاعده لوحدي كتير عشانها! امال لو كان جواز بجد كنت عملت إيه، انت عارف إني بكره الوحدة، بدر ماتسبنيش لوحدي عشان خاطري.
أغمض عيناه متنهدًا بصوت مكتوم، تستغل مشاعره نحوها لتُلين قلبه بإنهيارها الزائف…!
فقال بعدها بحنو:
-حاضر يا مريم، هعرف الست فاطمة بس وهاجي ابات في المنطقة عندنا مش هبات هنا
لم تخفى عنه لذة الانتصار التي صاحبت جملتها وهي تتشدق بـ:
-تمام، مستنياك متتأخرش عليا
-متقلقيش، سلام
-سلام
أغلق الهاتف ويداه تغوص بين خصلاته السوداء الطويلة ليستدير ويعود لداخل القصر…
وقف أمام فاطمة يعد كلماته بحذر، ليهتف بجدية:
-انا متأسف يا ست فاطمة بس انا مش هقدر أبات هنا على الأقل ٣ ايام تاني
سألته فاطمة بلهفة عابسة:
-لية بس إيه اللي حصل يا بدر؟
بنفس الهدوء رد شارحًا كل شيء بصدق تغلغل حروفه:.
-البنت اللي كانت خطيبتي وبنت عمي في نفس الوقت واللي هي تعتبر كل عيلتي زي ما قولتلك، لسه مش متهيئة نفسيًا لفكرة إني ابعد عنها ولو مؤقتًا، فـ انا مضطر أمشي ولو حصل أي حاجة بتليفون واحد تلاقيني عندك
عقدت فاطمة ما بين حاجبيها بقلق ومن ثم أستطردت مستنكرة:.
-تمشي ازاي بس، وافرض جم في اي وقت ومعاهم البوليس، وكمان الموضوع لازم يبان قدام الناس طبيعي عشان لو الشياطين دول فكروا يسألوا او يعملوا اي حاجة ويتنصحوا علينا، دول هيعملوا أي حاجة عشان ياخدوها مني
هز بدر رأسه بأسف، وقال:
-انا عارف ومقدر خوف حضرتك، بس انا كمان خايف على مريم خصوصًا إنها تعبانة نفسيًا شوية الفترة دي.
للحظات صمتت فاطمة تفكر في حل لتلك المعضلة، هي لا تريد أي ثغرة في الموضوع ولن تترك أي شيء للحظ…!
تشدقت بنبرة حازمة قطعت بها الصمت:
-خلاص يبقى تجيبها تعيش معانا التلات اسابيع دول، القصر واسع ويسع من الناس الف!
لا ينكر، تفاجئ باقتراحها الذي لم يخطر بباله اطلاقًا، ولكنه يعد حل اوسط..
فنطق بما يُقلقه من ذلك الاقتراح:
-طب والناس؟ وبنت حضرتك تفتكري هتقبل بالوضع ده؟
لم تحتاج فاطمة وقتًا للتفكير فقالت:.
-الناس هنقولهم إنها اختك مش ازمة
ثم تنهدت بقوة، تتخيل القهر الذي سيسقط على صغيرتها كدلو ماء بارد قاتلًا مشاعرها الحارة المتدفقة..!
ثم تابعت بنبرة يائسة قليلة الحيلة:
-وأيسل انا هقولها وهتكلم معاها متقلقش، ماقدمناش حل إلا ده
اومأ بدر مؤكدًا برأسه، ليتنحنح بخشونة بعدها:
-طب هستأذن حضرتك همشي انا بقا وبأذن الله هجيب مريم ونيجي بليل.
اومأت فاطمة برأسها موافقة على مضض، ليغادر بالفعل بينما هي جالسة تفكر كيف ستصدم أيسل بما سيحدث…
بعد فترة وصل بدر العمارة التي يقطن بها هو ومريم، كلاً منهما في شقة صغيرة بمفرده..
طرق الباب منتظرًا أن تفتح له، وبالفعل فتحت له ليدلف فأغلقت الباب خلفه ودون مقدمات إرتمت بين أحضانه تحاوط خصره بقوة، تصنم هو لدقيقتان يحاول إيجاد رد الفعل المناسب الذي يرضي عقله ويرضي جنونها، ولكن سطوة عواطفه في تلك اللحظات كانت أقوى من عقله لتخضعه لها فضمها هو الاخر بقوة له…
رفعت رأسها بعد دقائق تحدق به مدققة النظر لسواد عيناه العميق، لتحاوط وجهه الأسمر بكفيها البيضاوان ومن ثم تهمس بهدوء شديد:
-بدر، اوعى تنسى أنت اشتغلت عندهم لية ووافقت تتجوزها لية اصلًا يا، أنت بتعمل كده عشان تنتقم ليا منها، اوعى تنسى ده.
اومأ بدر مؤكدًا برأسه بصوت أجش جامد يُهدئ شياطينها التي تجن بتلك الرغبة الانتقامية:
-متخافيش مش ناسي، مش ناسي ومش هنسى إني بعمل كل ده عشان تنتقمي منها يا مريم!