كان الجميع مجتمعون في حديقة المنزل يتناولون افطارهم سويًا، حتى هبت عليهم العاصفة التي تمثلت في حامد الذي وقف أمام باب المنزل يصرخ بجنون في حارسان المنزل:
-إبعدوا من قدامي قولتلكم هدخل يعني هدخل
والاخران لم يملكا سوى نفس الرد الذي بُرمجا على عدم الاستجابة إلا له:
-يا استاذ مينفعش، كفاياك مشاكل وامشي من هنا اصحاب البيت مش عايزينك تدخل
حينها ازداد صراخ حامد بجنون أكبر وهو يُخرج سلاحه من جيبه:.
-يا قاااااسم، تعالى انت وابنك عشان انا يا قاتل يا مقتول النهارده
تناهى صوته ليونس الذي هب منتصبًا يتجه نحو الخارج بسرعة يتبعه قاسم الذي اكفهرت ملامحه تنبئ بغضب يحاول كتمانه…
وما إن رآهم حامد حتى ازدادت حدته وهو يدفع الحارسان من أمامه، ثم زمجر موجهًا حديثه لقاسم:
-خليت إبنك ينتقم مني في بنتي الوحيدة يا قاسم! بردت نارك وحقدك؟
عقد قاسم ما بين حاجبيه بذهول وهو يردد مستنكرًا:.
-ينتقم إيه وجنان إيه، أنت بتقول إيه يا راجل أنت؟!
لتلوح تلك الابتسامة الساخرة المقيتة على ثغره ثم قال:
-بقول اللي بتحاولوا تخبوه، إبنك إعتدى على بنتي وأكيد أنت اللي خليته يعمل كده صح؟! طبختوها سوا بس يا ترى إبنك عارف إنك خليته يعمل كده علشان تنتقم مني علشان أخدت عشيقتك الفاجرة منك!
فتقدم منه قاسم بسرعة وقد أطاحت كلماته بالتعقل والثبات المُرصع داخل عقله ليشتعل عقله بالغضب الأسود، ثم زمجر فيه بعنف:.
-إخرس يا عيب عليك عيب، هي دي الرجولة لسه جاي تطعن في شرف مراتك اللي هو شرفك، وكمان تتهمني بحاجة معرفش ألفتها أمتى!
فهز حامد رأسه بسخرية مريرة ومن ثم ألصق الواقع بتبريرات واهنة من عقله المعبئ بدخان الحقد:
-على اخر الزمن أنت اللي هتديني دروس في الرجولة والأخلاق؟ وبعدين تبرر بأيه اللي ابنك المش محترم عمله في بنتي؟ إيه الصدفة جريحة للدرجة عشان يعتدي على بنتي انا بالذات؟!
كان يونس يراقبهما بعينان سوداوتان حادتان، وحدسه يخبره أن حديث ذلك الرجل حقيقي نوعا ما، ذلك الحقد الذي يُلطخ حدقتا حامد من المستحيل أن يكون زيفًا!..
اقترب يونس منه وهم أن ينطق ولكن ليال قاطعته متدخلة بصوت حازم لتهتف بما لم يتوقع أن تنطق به على مرمى ومسمع الجميع:
-يونس معمليش حاجة، ولو سمحت يا بابا امشي من هنا، يونس جوزي دلوقتي!
فتدخل يونس وعينـاه تحكي عن غضب واعر قادر على إبتلاعه في التو واللحظة وصرخ فيه بعروق بارزة:
-أيًا كان التأليف اللي بتقوله ده أحنا مش عايزين نسمعه، أحفظ كرامتك ونفسك وإبعد عن حياتنا انا لحد دلوقتي ماسك نفسي عشان أنت راجل كبير في سن ابويا!
في تلك اللحظات دلفت فيروز بخطى سريعة وخفيفة نحو الداخل لتقف جوار يونس واضعة يدها على فمها من الصدمة حينما رأت حامد ممسكًا بسلاحه، رآها جميع الواقفين ولكن لم يكن الوقت المناسب لسؤالها عن سبب تواجدها…
حينها أشهر حامد بسلاحه في وجه يونس وتمتم بحقد ليس غريبًا عليه:
-أنا المرادي مش همشي قبل ما أخد حقي وأنتقم منكوا انتوا الاتنين
وبمجرد أن رفع حامد سلاحه وجهزه للإطلاق إرتعدت فرائص فيروز لترتد مبتعدة عن يونس دون مقدمات، ربما هي تراه الشخص المناسب ليكون زوجًا لها، وربما تريد استعادته، ولكنها ابدا ليست مستعدة لخسارة حياتها في طريق العودة له!..
إهتزت عينـا يونس وهو يلحظ حركتها التلقائية جدًا والتي كانت كالأعصار هبت على تلك النطفة من العشق المتبقية لها داخله لتطيح بها مع مهب الريح…!
فيما تقدمت ليال وبنفس التلقائية لتقف أمام يونس تخفيه بجسدها وهي تهز رأسها نافية وبصوت يقطر منه الهلع:
-أنت بتعمل إيه حرام عليك، مش كفاية الحياه السودة اللي كنت معيشهالي كمان عايز ترملني وأنا في بداية حياتي؟!
كز حامد على أسنانه بغيظ والحقد يتضخم ويتضحم داخله، سابقا اخذ منه قاسم قلب زوجته ليحرمه نعيم الحياة الزوجية السعيدة، جعله يشعر بالنقص طوال حياته مع زوجته حتى كرهها وكره أبنته منها، والان ايضا قاسم يضعه وأبنته في حلبة على عتبة الموت، فيقتلها هو بغضبه او تقتله هي بحسرته فيخسر كلاهما ويخسر هو تحديدا تلك الحرب مرة اخرى…!
عاد ينظر لليال والشرر ينطلق من بين حدقتاه وهو يهدر فيها بنبرة غليظة قاسية:
-إبعدي يا انا عفاريت الدنيا بتتنطط قدام عيني دلوقتي
فتابع قاسم متدخلا والقلق ينهش قلبه المعطوب:
-طب سيب السلاح يا حامد ونتفاهم بهدوء
ليعلو صوت حامد منتفخا بالحقد كسيف أسود حالفا ألا يعود لغمده قبل أن يتلطخ بدمائهم:.
-مفيش بينا كلام وتفاهم، سنين وأنا كاتم في قلبي بس خلاص، لحد هنا وكفاية مش هسيبك تبوظ حياتي اكتر يا قاسم يا بنداري
حينما رأى يونس أن الجنون قد بلغ أقصاه لدى حامد، مد يده ممسكًا بليال يحاول إبعادها من أمامه متمتمًا بصوت مكتوم حاد:
-اوعي يا ليال
ولكن ليال لم تعيره إنتباه وتشبثت بمكانها كدرع واقي له، ثم أعلنت في وجه والدها علها تردعه عن جنونه وحقده:.
-لو مش هتمشي إلا لما تقتله فعلاً يبقى لازم تقتلني أنا الأول، لأني مش هقف أتفرج وأنت بتموت الشخص الوحيد اللي حياتي متمثلة فيه!
وتلك اللحظة كانت نقطة فاصلة في حياة يونس، وقوفها أمامه على أتم الاستعداد لتموت من أجله دون تفكير، وعلى عكس تلك التي حقد على ليال من أجلها..
جعله يشعر فجأة بكيانه كله يرتعش وقد تبخر ذلك الشبح الذي كان يقف حائلاً بين مشاعره الحارة التي فاضت تجاه ليال وبين نقطة الاستسلام لتلك المشاعر…!
فشعر بعاطفته تبزع من مغارة الصمت والتخفي معلنة وجودها، معلنة إنتصارها وإنهزام حقده، معلنة أن ليال لم تكن تستحق حقده يوما…
ثم إنتبه لـ ليال التي تقدمت من حامد بهدوء وبخطواته ثابتة هاتفة:
-كفياك خراب في حياتي عشان خاطر ربنا
أصبحت أمام حامد فأمسكت بسلاحه وهي تهز رأسها نافية بإصرار إستفز حامد:
-مش هسيبك تقتل حد
ليرفع يده الاخرى عاليًا ليصفعها بعنف دون لحظة تردد وقد أعماه حقده عن كل شيء:
-غوري من وشي يا بنت ال.
ثم جذبها من حجابها بعنف وهو يهزها صارخًا فيها بغل وكأنه ليس والدها ابدًا ولا التي يتحدث عنها زوجته بينما ليال تتأوه بألم:
-ما انتي بنتها وتربيتها هتوقع منك إيه، لازم تبقي زيها وتتدافعي عن واحد اتعدى على عرضك وعرضي!
ليتقدم منه يونس يصرخ فيه بنفاذ صبر وقد شعر بكل خلية به تهتاج بحمائية وهو يراه يضرب ليال، ليال خاصته هو…
-قسما بالله لو ايدك اتمدت عليها تاني ما هعمل اعتبار لسنك، وبعدين مين قالك التخريف ده!
ليشير حامد برأسه تجاه فيروز التي كانت تراقب ما يحدث بصمت وترقب، ويردد ساخرا:
-قريبتك اللي قالتلي، سبحان الله إتفضحتوا منكوا فيكوا
ليضيق يونس ما بين حاجبيه بعدم استعياب:
-قريبتي مين!
وحينما وقع ناظريه على فيروز أدرك سبب وجودها، وفُتحت بصيرته المعمية ليرى خيوطها التي أحاكتها حولهم كالأخطبوط..!
فراحت فيروز تدافع عن نفسها بسرعة مبررة:
-أنا عملت كده علشان أخرجها من حياتنا بالعافيه زي ما دخلت حياتنا بالعافيه، مكنش في طريقة غير دي يا يونس
ليجذبها يونس من ذراعها بعنف ودماؤوه تغلي بالغضب لتفور على عيناه فتجعلها تلمع من شدة إشتعالها:
-اخرسي، إنتي مين سمحلك تتدخلي في حياتي تاني مش اللي بينا كان انتهى
لتهز فيروز رأسها نافية بدموع تماسيح تحاول إستعطافه:.
-لا يا يونس انا عرفت إنها كدابة وخبيثة وعملت كده عشان تبعدنا عن بعض، سامحني بس انا بحبك ومستحيل ابعد عنك تاني
فدفعها يونس بعنف نحو الخارج وصاح فيها بنفاذ صبر، لا يطيق كلمة اخرى منها:
-امشي يا فيروز، إمشي من هنا دلوقتي حالا
تقهقرت فيروز للخلف بأنفاس مهدورة، ترمق ليال بنظرة سوداء لو كانت تقتل لأردتها قتيلة ثم اومأت برأسها ليونس وهي تغادر:
-ماشي يا يونس همشي بس مش هخسر بالسهولة دي.
كان حامد يتابع ما يحدث، وعقله يخبره أن هناك شيء خاطئ لا يفهمه، استغل لحظة شروده الحارس الذي كان خلفه بخطوة فضربه من الخلف بعنف حتى سقط السلاح من يد حامد فرفع الاخر سلاحه بوجهه وهو يحذره بقوة:
-اقف مكانك اوعى تعمل اي حاجة حياتك هتروح فيها
تنفس حامد بصوت مسموع وهو يحدق بذلك الحارس، ثم إنتبه حينما نطق قاسم بصوت صلب رغم الوهن الذي أصابه به الزمن:.
-طلعه برا يا حمدي، واطلع على المركز قول للمأمور إني عايز اعمله محضر وإنه بيتعدى عليا باستمرار وانا هاجي وراك
اومأ الرجل برأسه مؤكدًا وهو يشير لحامد بسلاحه نحو الخارج:
-اتحرك قدامي يلا
كز حامد على أسنانه بغيظ رهيب حتى أصدرت أسنانه صكيكًا عاليًا، لن يتركهم، لن يتركهم ولو كان اخر يوم في حياته ولن يسمح له بأخذ ابنته الوحيدة منه…!
بمجرد خروج حامد مع الحارسان من المنزل، أمسكت ليال برقبتها تتنفس بصوت مسموع وكأنها ستختنق، كلما تنفست قليلا يأتي لينفث بقسوته وجحوده وحقده الغريب في وجهها فيكتم أنفاسها مرة اخرى…
إنتبه لها يونس ولشحوب وجهها فاقترب منها محيطًا كتفاها بذراعه، متمتمًا بصوت منخفض حاني:
-تعالي معايا
فهمست ليال بوهن ترجوه:
-يونس لو سمحت سيبني لوحدي دلوقتي بالله عليك
فشدد يونس من ضغطة ذراعه حولها وكأنه يؤكد لها أنه لن يكون سوى داعم لها في تلك اللحظة:
-تعالي معايا يا ليال
لم تكن في وضع يسمح لها بمناورته فجذبها ببطء متجهًا بها نحو الخارج وهو يغمغم موجهًا حديثه لوالده:
-بعد اذنك يا حاج.
فأومأ قاسم له برأسه دون رد، ليغادر يونس متوجهًا بـ ليال نحو حظيرة الخيل، فك سراج الحصان ثم اشار برأسه قائلا بهدوء:
-يلا اركبي.
فهزت ليال برأسها نافية وكادت تعترض ولكن نظرته المُصرة الحازمة جعلتها تبتلع رفضها في جوفها وتستند على الخيل محاولة الصعود دون أن تلجأ ليونس الذي ربما ينفر من لمستها كالعادة، ولكن بغتة إرتعشت تلقائيا ما إن وجدته يخالف ظنونها و يحيطها من الخلف ممسكًا بخصرها بقوة ليرفعها حتى ساعدها في ركوب الخيل، لم يفكر هو حتى مرتان حينما فعلها بل أسلم كافة زمامه لتلقائيته فقط…!
ركب هو خلفها في اللحظة التالية، ليصبح ملتصقا بها، يسير بالخيل ببطء وذراعاه قد تسربتـا حيث مكانهما عند خصرها، لتتهدج أنفاس ليال وهي تستشعر دفئ جسده خلفها، وأنفاسه اللاهبة تضرب جانب وجهها فتغمض هي عيناها تلقائيًا منتعشة بذلك الشعور اللذيذ الحار الذي كان وقعه على قلبها المدمي كالبلسم…
بينما هو، بدا كطفل يستكشف شيئا جديدا، يستكشف تلك المشاعر في ثوبها المُعلن الجديد، يحسها بتمهل، يشعر بأول رجفة عاطفية عميقة تهز كيانه حينما إلتصقت به وكأن مشاعره الملتهبة تثبت وجودها في حضرة ذلك السطو من العاطفة…!
وصلا لمكان ما خالي من البشر، يشبه الصحراء نوعا ما، أوقف يونس الخيل مجبرا، متمنيا لو طال الطريق أكثر فطال قربه منها، قربه الذي أكتشفت أنه لم يعد ينفر منه…
نزل هو ثم أنزلها ليحتضن كفها الصغير بين كفه الكبير الخشن مزيدا من دهشتها، ثم ساروا في ذلك المكان حتى وقفوا في نقطة منعزلة تماما، حينها نظر يونس نحو ليال وقال بصوت عميق:
-تقدري تعملي كل اللي انتي عايزاه، تصرخي تزعقي تعيطي، تقولي كل اللي نفسك فيه كأنك بتكلمي نفسك وتأكدي إن محدش سامعك ابدا، اعتبريني انا كمان مش موجود إلا لو انتي احتاجتيني.
بقيت تحدق به بصمت لدقائق متعجبة، ولكنه كان كمن أعطاها الحرية لتطلق ما في جبعتها من خنقة أثقلت كاهلها…
فدون مقدمات أطلق سراح تلك الحشرجة المصحوبة بالبكاء لتصدر صرخة عالية متوجعة شاهقة ببكاء، تصرخ وتصرخ وكأن ما بداخلها لا يخرج سوى على هيئة صراخ وبكاء…
ويونس لم ينطق ببنت شفه بل كان يراقبها بصمت وداخله يهتز بعنف مع كل صرخة منها وكأنه يأمره باحتوائها، باحتواء صرخاتها المتوجعة داخله هو…
سقطت ليال ارضا وهي تبكي مرددة بألم:
-ليه، ليه مش بيحبني انا تعبت، انا مش ذنبي إني بنتها عشان يكرهني
ثم نظرت ليونس لتتابع ببحة مكتومة لم تتلفظ بها سابقا:.
-ليه هو مش بيحبني؟ كان نفسي يحبني اوي، كان نفسي يبطل يكرهني، كان نفسي يحسسني بالحنان اللي دايما بسمع عنه، وبقيت بحسدك عليه من ساعة ما دخلت حياتك وشوفت عمو قاسم، كان نفسي أعيش طفولة جميلة بريئة أفضل أحن ليها زي اي حد طبيعي، كان نفسي أحس إن ليا ضهر هتسند عليه، كان نفسي فـ أب اجري اشتكيله لما حد يضربني وانا طفلة، واجري عليه لما حد يوجعني وانا كبيرة.
ثم رفعت أنظارها ليونس لتنحدر تلك الدمعة اللاهبة على وجنتها وهي تسأله بيأس مزق قلبه:
-هو انا وحشة يا يونس؟ أنتوا ليه كلكوا بتكرهوني؟ انا والله ما وحشة.
جلس يونس أمامها مباشرة، ليحتضن بكفيه وجهها الذي إحمر من كثرة إنفعالها، فلم يشعر بنفسه سوى وهو يقترب بوجهه منها ليمحي دمعاتها بشفتاه ببطء وداخله يحترق، فهدأ بكائها ولكن شهقاتها لم تهدئ رغما عنها، ليبتعد يونس بعد لحظات محتضنا وجهها بكفيه ثم أردف بنبرة رجولية عميقة يقطر منها الحنان الذي أفتقدته دومًا:.
-إنتي مش وحشة ابدا، إنتي جميلة اوي من جواكي ونقية رغم تصرفاتك الغلط، إنتي اكتر انسانه حنينة وبريئة و عنيدة في حبها شوفتها!
وقعت كلماته على قلبها الذي يئن وجعا لتضمده حرفا حرفا، فرفعت هي بُنيتاها اللامعة بالدموع لتتوسله بنظرتها وتطلب منه بكلماتها:
-يونس ممكن تحضني من غير ما أحس إنك مشمئز مني، ومن غير ما تحسسني إنك بتعمل كده كمجرد راجل قدامه ست!
-انا اسف…
تمتم بها يونس ولم ينتظر ثانية اخرى ما إن إنتهت من جملتها ليضمها له بقوة، فهو يحتاج ذلك قبلها، لتدفن هي وجهها عند رقبته ويود هو لو يدفنها بين ضلوعه…
كم من آآه متحشرجة علقت في جوفها وهي بين أحضانه، فضمت نفسها له اكثر وكأن داخلها يتشبع بذلك الدفئ بعد جوع طويل…
ظلا هكذا لدقائق حتى رفعت ليال رأسها، تغرق بين دفئ عينيه المتوهجة بعاطفة جديدة تغزوها علنا لأول مرة، ثم همست بصوت مبحوح متحشرج بالمشاعر:
-انا بحبك اوي يا يونس
هدر قلب يونس بعنف تلك اللحظة، وشعر أن كل ذرة به تهتاج وكأنها تود أن تجيبها، يود لو يخبرها أنه ايضا هُزم في معركة الحب وإنتصرت هي، أنه ايضا، يُحبها، اخيرا وبعد عذاب!
فأحاط وجهها بين يداه متحسسًا كل إنش بوجهها بإصبعه ببطء، حتى هبط إصبعه لشفتاها المنفرجة من البكاء وكأنها تدعوه لتقبيلها، تزامنا مع همسه الخشن بحروف أسمها وكأنه يتذوقها بتمعن للمرة الاولى:
-ليال…
ودون لحظة إنتظار اخرى، هبط يغطي ثغرها الوردي الرقيق بفمه الكبير لاثمًا إياه بعمق وشغف، وداخله ينتفض بتلك العاطفة التي جعلت حريق من نوع اخر ينشب بين ضلوعه…
آآهٍ من حلاوة ذلك الشعور الملتهب، دون تبرير للعقل، دون نفور من ذلك الاستسلام، دون نفور منها هي…
وكم أدرك غباءه في تلك اللحظات حينما أضاع العديد والعديد من اللحظات والدقائق دون أن ينهل من رحيق شفتاها ما يروي عطشه، ذاك العطش والتوق الذي هاجمه منذ الدقيقة التي اعترف بها لنفسه أنه يحبها، ولكنه عطش وشوق مُهلك وكأنه لم يرتوي منذ دهر…
في المنزل…
دلفت أيسل للغرفة يتبعها بدر الذي كانت ملامحه متجهمه على ما حدث منذ قليل، لتقطع أيسل الصمت قائلة بصوت لم تخفى منه الشفقة:
-مضايقة على ليال اوي، إحساس وحش اوي إن الواحد يحس إن اقرب حد في الدنيا امه وابوه مش بيحبوه، حظها كمان إنها اتربت مع قسوته دي وشكلها شربت منها لحد ما إكتفت، وقهرها على والدتها الله يرحمه باين اوي!
اومأ بدر مؤكدا كلامها برأسه ثم تمتم زافرا بعمق:.
-كمان يونس ماقصرش وزود عليها، ربنا يهديه عليها مش هيلاقي زيها تاني بسهولة
اومأت أيسل مؤكدة برأسها، فقال بدر وهو ينهض ليُخرج ملابسه من حقيبته:
-انا هدخل اخد دوش
حينها إنتبهت أيسل انها ودون شعور قطعت ذلك الخصام المصطنع الذي كانت تتمسك به منذ أن وصلوا ذلك المنزل، فأشاحت بوجهها عنه دون ترد، يجب أن تؤدبه أولا ثم للحديث بقية..!
فتأفف بدر وتابع متذمرا:
-هتفضلي في شغل خصام العيال ده كتير يعني؟
وايضا لم تجيبه، فسحب ملابسه وتوجه للمرحاض بغيظ جعل ايسل تبتسم بشر وهي تهمس لنفسه حتى لا يسمعها:
-أنت لسه شوفت حاجة، عشان تحرم ما تكذب عليا تاني يا بتاع مريم!
بعد فترة كانت أيسل قد بدلت ملابسها وجلست على الفراش تقلب في هاتفها بعشوائية…
حتى سمعت صوت بدر يأتي من المرحاض متألما متأوها وهو يناديها:
-أيسل، أيسل تعالي ساعديني بسرعة رجلي نملت مش قادر أقوم امشي
ركضت أيسل دون أن تفكر مرتان لتفتح باب المرحاض فوجدته جالس ارضا وقد ارتدى البُرنس فانحت لمستواه تسأله بنبرة قلقة وقد إحتضنت خصلاتها الحمراء وجهها الأبيض:
-إيه اللي حصل؟ رجلك نملت فجأة كده؟
فأومأ بدر مؤكدا وقد إلتوت ملامحه بالألم، لتقترب أيسل منه أكثر وتضع ذراعه على كتفها تعاونه على القيام…
وبالفعل نهض بدر ولكن بمجرد أن نهض حتى دفع أيسل برفق نحو الحائط حتى إلتصقت بالحائط، لتظهر ملامحه الماكرة الحقيقة وقد رمى عنه قناع الألم، ليقترب منها اكثر حتى اصبح شبه ملتصق بها ثم همس بعبث امام وجهها:
-برضو خليتك تكلميني وجبتك لحد هنا كمان، وممكن أعمل فيكي اي حاجة.
ثم اقترب بوجهه من وجهها أكثر متحسسًا بأنفه بشرة وجهها الناعمة جدًا، وأكمل بنفس الهمس العابث:
-اي حاجة اي حاجة
لتتسع عيناها وهي تصيح فيه بغضب:
-أنت بتضحك عليا يا بدر؟ انا غلطانه اني عبرتك اصلا
فهز بدر رأسه ببساطة:
-ما انتي مش معبراني فعلاً، فكان لازم أتصرف
ابتلعت أيسل ريقها بتوتر وقد وجد ضالته من تأثيره عليها وربكتها الواضحة، فحاولت هي دفعه عنها بغضب مصطنع:
-طب اوعى يا بدر سيبني.
ليهز بدر رأسه نافيا ثم استطرد مستنكرًا:
-انتي هبلة! اسيبك إيه ده انا ما صدقت قفشتك، انتي مش هتطلعي من هنا الا اما تصالحيني وتدفعي عربون للصلح كمان!
فسألته ساخرة:
-عربون إيه إن شاء الله؟
فأخبرها بدر بابتسامة واسعة ماكرة وبنبرة صبيانية مشاكسة:
-تيجي تستحمي معايا، يوووه قصدي تحميني اصل رجلي لسه منمله!
إتسعت حدقتاها بخجل من وقاحته لتتضرج وجنتاها بحمرة الخجل القانية وهي تحدق به، فمد بدر يده وبحركة مباغتة فتح الدش لتسقط المياه بقوة فوق أيسل التي شهقت بعنف وهي تبعد رأسها عن المياه متمتمة بنبرة شبه باكية كالأطفال:
-منك لله لسه مغيره هدومي
فتلاعب بدر بحاجباه قاصدا استفزازها وهو يقول ببراءة:
-بساعدك عشان تدفعي العربون يا حبيبتي.
ثم اقترب منها اكثر، رفع يده ليبعد ببطء خصلاتها الحمراء المُبللة التي إلتصقت بجانب وجهها، لتُبطئ حركة إصبعه على بشرتها الناعمة وهو يهمس بصوت أجش:
-وحشتيني اوي يا جنيتي
فأبعدت هي يده بسرعة مغمغمة بحدة:
-وأنت ماوحشتنيش يا كداب يا بتاع مريم! اوعى تفكرني ناسيه إنك كذبت عليا برضو.
فاقترب بدر اكثر حتى إلتصق بها تماما، ليلحظ قطرة المياه التي هبطت من خصلاتها النارية وببطء شديد لتمر على كافة قسمات وجهها ثم وجنتاها المكتنزة ثم شفتاها، وااهٍ من شفتاها التي غزت أحلامه لتذيقه مرارة الشوق وتحرمه نعيم النوم…!
ظل يراقب تلك القطرة وهي تهبط لمقدمة صدرها لتتخفى اسفل ملابسها التي إلتصقت بها وعيناه تزداد توهجًا وإشتعالا، فاقترب بدر دافنا وجهه عند رقبتها، ليلثم رقبتها بعمق جعل قشعريرة عنيفة تهز كلها..
ثم همسه الخشن مكررا:
-وحشتيني اوي اوي يا جنيتي.
فحاولت أيسل إبعاده وهي تنطق بصوت خرج بصعوبة:
-بدر لو سمحت ابعد
فأجابها هو بنبرة متهدجة من تضخم تلك العاطفة داخله:
-بدر تعب من البُعد، ماتحرميهوش منك، و من قربك اكتر يا بنت السلطان!
أغمضت عيناها وهي تشعر أنها تذوب به حرفيا، لاعنة ضعفها السريع امامه وأمام مشاعرها البلهاء…
اقترب بدر بشفتاه الملتاعة من شفتاها المترقبة، وكاد يسرق منها القبلة عله يُصبر بها خلاياه التي تهدر مطالبة بها مستغلا لحظة التيه التي تعتريها، ولكن فجأه وجدها تضربه بقدمها بقوة ليرتد للخلف تلقائيا متأوها بألم فركضت هي من أمامه وهي تصيح متشفية فيه:
-قال اصالحك قال، ده لما تشوف حلمة ودنك، ويارب يكون العربون ده عجبك يا قليل الادب يا وقح!
ثم خرجت بسرعة لتسمع ضحكاته الرجولية التي صدحت مجلجلة لتبتسم هي تلقائيا على ضحكاته التي داعبت أطراف قلبها…
ثم إنتبهت لهاتفها الذي يرن فأجابت بهدوء:
-الووو
ليأتيها صوت والدها البغيض يخبرها:
-أيسل، تعالي إلحقي أمك يا أيسل
فسألته أيسل ببرود ظاهري:
-مالها!
-كنا على سطح ورجليها إتشنكلت في حديد ووقعت من على السطح و…
فسألته أيسل بقلب نابض بالقلق:
-وإيه؟
-وشكلها هتموت ومابترددش غير اسمك! تعالي شوفيها يمكن تكون اخر مرة يا أيسل!
ابتلعت أيسل ريقها بتوتر، رغم كرهها الذي تربع داخلها لهم، ولكنها والدتها مهما حدث، لذا سألته مفكره:
-إنتوا فين؟
فأجابها:
-في في عياده هناك احنا فيها مؤقتا
-طيب
ثم أغلقت الهاتف وهي تنهض مفكره، بينما على الطرف الاخر إلتوت ملامح زوبه بقلق وهي تخبر طه ولأول مرة:
-انا خايفة يا طه، دي بنتنا برضو والله اعلم اللي اسمها مريم دي بتكرهها ليه وناوية على إيه!
فدفعها طه من امامه مرددا بغيظ:.
-يا شيخه اتلهي انتي لسه فاكره انها بنتنا!
بعد يومان…
مساءا…
هبطت ليال من غرفتهما باحثة عن يونس الذي نادته نسمه فجأة، لتتجمد عيناها وهي تراه واقفا مع تلك اللعينة فيروز وقد كانت فيروز ممسكة بيده وتتحدث بينما هو ينظر لها بصمت دون أن يصدر اي رد فعل…
فاقتربت ليال منهم بسرعة تصيح بها بشراسة:
-ابعدي ايدك عنه
لتزجرها فيروز بغيظ وحقد:
-وانتي مالك اصلا، انتي نسيتي نفسك؟ انا حبيبته وخطيبته وقريب مراته وانتي عالة دخلت حياتنا فجأه بس.
فغمغم يونس محذرا لا يود جرحها اكثر، ربما هي ليست كفيلة بحبه ولكنها ايضا بالنسبة لها ليال هي الدخيلة التي دمرت حياتها:
-فيروز!
فقالت ليال بحدة وهي تمسك بذراع يونس:
-خليكي واقعية شوية، يونس دلوقتي جوزي وبعدين آآ…
فقاطعها يونس بصوت هادئ صلب:
-إطلعي فوق يا ليال
فكادت ليال تعترض ولكنه كرر بنبرة اكثر تحذيرا:
-اطلعي فوق يا ليال
فاستدارت ليال لتصعد والشياطين تتقافز امامها بينما فيروز تبتسم بانتصار…
صباحا…
خرج يونس من الغرفة باحثا عن ليال التي لم تكن موجودة بالغرفة، ليقابل أيسل وبدر فسألهم بعد أن ألقى تحية الصباح:
-ماشوفتوش ليال؟
ليهز كلاهما رأسهما نافيان في هدوء:
-لا خالص
لينزل يونس بسرعة ونبضاته قد تسارعت في سباق مع الزمن وذلك القلق ينتشر كالوباء داخله كلما بحث عنها ولم يجدها…
بحث عنها في كل المنزل وفي ارجاءه وايضا لم يجدها، حينها ركض عائدا للغرفة يدعو الله ألا يحدث ما يفكر به…
وصل الغرفة فركض نحو الدولاب ليفتحه بسرعة فضربه في مقتل مشهد الدولاب وهو فارغ من ملابسها، ليعم السكون وتنطلق رصاصة الحقيقة، لقد رحلت ليال!