روايات شيقهرواية احتيال و غرام

رواية احتيال و غرام للكاتبة رحمة سيد الفصل الرابع عشر

انتي فين، انتي فين، رحتي فين يا حبيبتي!

كان يونس يغمغم بها وهو جالس ارضًا امام ذلك الدولاب، يشعر أن الوعي قد هجر عقله شيئًا فشيء، حتى لم يعد يُدرك أي شيء سوى تلك الأربع حروف، رحلت، كلما أعاد تلك الكلمة شعر أن كل حرف منها يسقط عليه ليجلده بقسوة، وكأن حتى الكلمة أقسمت أن تُعذبه وتُنذره بمرارتها، فالراء راحة لن يراها في غيابها، والحاء حياه أحكمت هي خيوطها وقوامها وحينما ذهبت إنسابت تلك الخيوط لتنهار الحياه، واللام لهب الفراق الذي إشتعل بين جوانب صدره ليكويه ببطء وقسوة، والتاء تووووق رهيييب رافق كل نبضة تصدر عنه ليُثقلها بعبئه ومرارته…!

كيف ترحل، ولمَ؟!، أوترحل بعدما نفض غبار الكره عن قلبه وأودعها إياه..؟!

نهض اخيرًا يهز رأسه نافيًا وكأنه استوعب للتو، فبدأ يردد بهذيان مرير:
-لأ، مستحيل ليال تعملها، مستحيل تقرر تبعد عني فجأة بعد ما حبيتها مستحيل
ثم اومأ مؤكدًا لنفسه:
-اكيد في حاجة اكيد
اقترب من الدولاب يفتش بكل ركن به رافضًا التصديق، تثاقلت أنفاسه حينما لم يجد اي شيء متبقي له من رائحتها…
-ليااال…

همسها متأوهًا في أعماقه والألم لا يُحتمل، فمد يده دون وعي يتلمس بأصابع مرتعشة رف الدولاب الذي كان يحمل ملابسها والذي لمسته هي قبلاً، يتلمسه محاولاً معاودة الشعور بملمس أصابعها الذي أكتشف أنه كنعيم الجنة الذي حُرم منه مبكرًا، مبكرًا جدًا…

إبتلع ريقه ببطء وصعوبة شديدة وكأنه يحاول أن يتنفس، ثم قال مقنعًا نفسه التي بدأت تنهار بضرورة الصمود:
-لأ، اكيد هلاقيها، مستحيل تكون سابتني لأ هلاقيها
ثم استدار بسرعة راكضًا يغادر الغرفة ثم المنزل بأكمله دون أن ينطق بأي شيء لأي شخص، وكأن الشياطين تلاحقه، شياطين الفراق…!

كان بدر ساحبًا أيسل خلفه متوجهًا لمنزله ومنزل اهله في الماضي والذي يجاور منزل والد يونس قليلا، بمجرد أن رحل يونس من أمامهم مكملاً بحثه عن ليال دون أن ينطق او يخبر اي شيء بأي شيء، حتى استأذن قاسم وأخذ أيسل متوجهًا بها نحو ذلك المنزل ليُريها إياه ثم يعودا مبكرًا قبل غروب الشمس…
ولم ينشغل بالهم بسؤال يونس الذي بدا لهم طبيعي نوعا ما..

بينما لاتزال أيسل متمزقة الأفكار، فكرة تنوح بالألم مُلحة عليها بالذهاب لترى والدتها، والاخرى صلبة كالسيف تُمزق الاولى بمنطق العقل الذي ينفي احتمالية ذهابها…!
لا تدري أتخبر بدر ام ربما يمنعها من قلقه الطبيعي عليها وتخسر فرصتها الأخيرة في رؤية والدتها..؟!

إنتبهت لبدر حينما توقف ليخرج مفتاح ما من الحقيبة الصغيرة التي جلبها معه، حينها بدت أيسل وكأنها انتبهت للتو فقالت مستنكرة:
-أنت جايب هدوم ليه هو أنت ناوي نطول هنا ولا إيه؟ انا مجبتش اي هدوم!
فابتسم بدر مرددًا بمكر لم تلحظه أيسل بسبب غمامة التفكير التي حطت على عيناها:
-لا متقلقيش يا حبيبتي منا عملت حسابي وجبتلك انتي كمان!
فرفعت أيسل حاجبها الأيسل تسأله:
-جبلتي ازاي هو أنت تعرف هدومي اصلاً؟

فرفع بدر كتفاه بثقة شابها الغرور المصطنع:
-عيب عليكي هو انا اي حد، ثم ده مش محتاج ذكاء اكيد فيا عين بتشوف الطقم الكامل وبطلعه!
اومأت أيسل دون أن ترد ليدخل بدر اولاً ثم اضاء اللمبة التي وجدها لاتزال تعمل لحسن حظهما، دلفت أيسل ببطء تتفحص المكان حولها بتركيز مستمتعة بتدقيق النظر لطرازه القديم، لتجده كبير المساحة، ليس مهجور تماما فيبدو أن هناك من كان يأتي كل فترة ليتفحصه…

بينما بدر كانت عيناه تدور في ذلك البيت، وعقله يتنفس تلك الذكريات الجميلة التي عاشها بين جدران ذلك البيت…
أمسك بدر بالحقيبة وتوجه نحو احدى الغرف ليشير لأيسل مرددًا بهدوء:
-يلا انا هدخل اغير هدوم الخروج عشان التراب.

وبعد فترة إنتهى من تبديل ملابسه لـ شورت وتيشرت نصف كم رياضي، فأخذت أيسل الحقيبة تخرج الملابس منها، لتجد أنه جلب فقط رداء طويل يصل لما قبل الركبة بقليل ولكن دون أن يأتي بالبنطال التابع له…!
فإتسعت عيناها وهي تسأله متوجسة:
-أنت ماجبتش البنطلون بتاع الفست؟ وتقولي مش محتاجة ذكاء وانا عارف!
فضرب بدر جبهته يصطنع النسيان، ثم هتف متفاجئًا بمكر:
-بجد! بتهزري ازاي مجبتوش انا فكرت إني حطيته!

-هعمل إيه انا دلوقتي! شكلها مفيهاش غدا هنا ولا أي حاجة من اللي قولتها
قالتها أيسل متأففة بضيق وقد عقدت ما بين حاجبيها والغضب يلمع بين حدقتاها…
ليقول بدر ببساطة أغاظتها:
-محلوله يا حبيبتي، الفست طويل إلبسيه ومش مهم البنطلون يعني مش ازمة!
فهزت أيسل رأسها نافية بسرعة تزجره:
-مش مهم ازاي يعني يا قليل الادب، لا طبعا مش هينفع
فلوى بدر شفتاه ساخرًا بحنق مُبطن:.

-ما انتي كنتي بتلبسي حاجات ضيقة واحيانًا عريانة قدام كل الناس، ولا هي جت على قرمط؟!
فلوت أيسل شفتاها بانزعاج، بمجرد تخيلها أن تخرج أمامه ونصفها السفلي عاري لتتفحصها عيناه الوقحة ككله، تشعر بلسعة حارة بين نبضاتها تُضطرب كيانها كله…!
هزت رأسها نافية وكادت تعترض ولكن بدر دفعها برفق نحو الغرفة واستطرد بضيق مصطنع:.

-يلا بقا يا أيسل متبوظيش اليوم لسه هننضف الدنيا وبعدين نشوي الدُرا ونتغدا واحنا بنتفرج على الغروب، انا مجهز يوم تحفه متبوظيهوش بقا وحياة امك
فابتلعت أيسل ريقها موافقة برأسها على مضض، ثم سحبت اقدامها سحبًا نحو تلك الغرفة لتبدل ملابسها وبدر يتابعها بعينان ماكرتان والابتسامة الواسعة العابثة تتراقص على أطراف ثغره…

إنتهت أيسل وخرجت من تلك الغرفة وأصابعها تقبض بعنف على ذلك الرداء الذي وصل ما قبل ركبتاها، وكانت قد فردت خصلاتها الحمراء النارية على ظهرها…
لا تدري ما كل هذا الاضطراب الذي يتملكها، فهي لطالما كانت ترتدي الملابس الضيقة، ولكنها ابدا لم ترتدي القصير امام اي شخص، وليس اي شخص، بل شخص ترى الشوق يُلهب سوداوتاه ليحرقه فيكتم هو آهات الشوق واللوعة هو بشق الأنفس…!

وما إن رآها بدر حتى أطلق صافرة وهو يهز رأسه مشاكسًا إياها بعبث صبياني:
-نهارنا أبيض نهارنا فل إن شاء الله يا جنيتي
فرفعت أيسل إصبعها في وجهه تحذره بصلابة واهية حكتها عيناها الزائغة بربكة فضحتها:
-بدر لو مبطلتش حركاتك دي واحترمت نفسك صدقني هدخل اغير وهمشي! انا بقولك اهوه
فرفع بدر يداه كعلامة على الاستسلام ثم أردف ببراءة تناقض العبث الذي استوطن عيناه:
-انا عملت حاجة؟! انا هقعد ساكت بأدب اهوه.

ثم خفض نبرته حينما استدارت هي وأعطته ظهرها ليكمل وهو يتلاعب بحاجباه بعبث:
-او قلة ادب ايهما اقرب!

ثم نهض وسار خلفها ليبدأ مهمة تنظيف المنزل، وبالطبع لم تخلو تلك المهمة من تذمر أيسل الطفولي كل حينٍ ومين، ومن مشاكسة بدر الصبيانية التي يخفي بها وحوش الشوق المهتاجة داخله وكأنها تود هدم ذاك الجدار الواهي بالثبات…!

بعد قليل، وقفت أيسل تهز رأسها نافية بإصرار:
-لأ انا مش همسح مستحيل
فهز بدر رأسه بعدم رضا ودهشة رسمها بمهارة:
-يعني تبقى مراتي الغالية ست البيت معايا وانا اللي أمسح؟! عيب والله عيب، ده انا لو جبت عيله في ستة ابتدائي هتعرف تمسح
فتأففت أيسل بضيق ثم لمعت عيناها بوهج التحدي الذي يرفض تمرير أي خسارة كانت عليه وقالت:
-ماشي يا بدر على فكره انا بعرف بس انا مكنتش حابه أبهدل نفسي!
-اه منا عارف.

تمتم بها بدر بسخرية خفيضة، لتحتد نبرة أيسل بغيظ:
-انا بتكلم جد على فكره
فأومأ بدر برأسه بسرعة مشاكسًا اياها:
-طبعا طبعا امال!
استدارت أيسل لتجلب الطبق وقطعة القماش التي ستبدأ بها مهمتها الشاقة، الشاقة جدًا بالنسبة لها..
وبالفعل أحضرتهم ثم بدأت تمسح محاولة ألا تتكئ كثيرًا حتى لا تظهر اقدامها البيضاء الناعمة أمام اعين ذلك المتربص الوقح…

وبعد قليل حينما إندمجت فيما تفعله، أشار لها بدر نحو ركن ما قائلاً بجدية تامة يتوارى خلفها العبث:
-في حتة هناك اهيه يا جنيتي نسيتي تمسحيها
فتحركت أيسل بتلقائية لتمسحها متناسية تمامًا ذلك الرداء الذي ارتفع اكثر فأكثر مسببًا داخل بدر إنفجار عنيف من العاطفة وكأنه دوي قنبلة جبارة مُهلكة في أعتى الحروب…
فابتلع ريقه وهو يتحسس جبهته مغمضًا عيناه هامسًا بنبرة ملتاعة:
-يا صبر ايووووب.

ثم إنتبه لأيسل وهي تسأله بنبرة بديهية عادية جدًا غافلة عما يعانيه ذلك البدر:
-بدر بقولك إيه عايزين حبل عشان نربط الباب ده عشان كل شوية يتحرك وحاسه إنه ممكن يقع في أي لحظة
اومأ بدر برأسه ثم تنحنح ليتجلى صوته فخرج مبحوحًا وهو يخبرها:
-هناك في الاوضة دي انا شوفت حبل تقريبًا
فنهضت أيسل متوجهة لتلك الغرفة التي كانت مغلقة ولم ينظفوها..

وقفت أيسل تبحث بين الادراج عن ذلك الحبل لتشهق متفاجئة حينما وجدت بدر فجأة يُحيط بها من الخلف وذراعاه قد امتدت لتحاوطها بينما تشعر بأنفاسه الساخنة عند رقبتها مباشرةً، فبدأ ذلك الخدر اللذيذ ينتشر مسيطرًا على كافة خلاياها، فحاولت إبعادها وهي تهمس بنبرة ملتعثمة:
-بدر أنت بتعمل إيه آآ اوعي لو سمحت.

كان بدر مُقربًا أنفه عند خصلاتها الحمراء يتنفس بعمق ساحبًا عبقها المُهلك الذي يُسكره ليملأ به رئتيه، ثم إنتبه لمحاولاتها للتملص من بين ذراعاه فرفع ذراعه وهو يخبرها بصوت أجش:
-بجيبلك الحبل يا جنيتي اهدي
فاستكانت أيسل وخمدت حركتها إلا من تلك الرعشة العاطفية التلقائية التي لم تغادرها في قربه…
وبالفعل أخرج بدر الحبل ثم ابتعد سنتيمتر واحد لتلتف أيسل وما إن استدارت حتى قالت بنبرة حاولت جعلها ثابتة:.

-ممكن بقا تبعد عشان اروح اكمل
ثم كادت تسير متخطية إياه ولكنه جذبها من خصرها ليُلصقها به وهو خلفها، وكاد ينطق لولا أن قاطعه صوتها الهلوع وهي تخبره مشيرة بإصبعها نحو ارضية تلك الغرفة:
-إلحق إلحق بسرعة يا بدر عقرب والله عقرب اهوه يا نهار اسود.

فنظر بدر بسرعة ليجد عقرب فعلا ولكنه كان يسير بعيدًا عنهم، فنظر بدر حوله ليجد حجر كبير ثقيل يمكن قتله به ولكنه قرر التلاعب واستغلال تلك الجنية التي تأبى أن ترحمه…

فأشار لها بإصبعه على فمه هامسًا بصوت خفيض جدًا قرب اذنها:
-هششش متطلعيش صوت ومتتحركيش
فامتثلت أيسل لأوامره كالطفلة تمامًا وداخله ينتفض ذعرًا من رؤية ذلك العقرب، ليستغل بدر الفرصة ويقترب اكثر من رقبتها يتشممها بأنفه، وآآه من رائحتها تلك التي يعشقها حد الادمان، فزاد توتر أيسل التي همست بصوت يكاد يُسمع وكأنها على حافة البكاء:
-بدرررر أنت بتعمل إيه ما تروح تقتله
فزجرها بدر بضيق وحدة مصطنعة:.

-الله، وتريني، وتريني اكتر وخليني مش مركز كده خليه يستخبى ومنعرفش نقتله ويطلعلنا فجأة تاني يموتنا ونخلص!
فصمتت أيسل على مضض عاقدة ما بين حاجباها بتذمر كالأطفال تكاد تبكي..

فقرر بدر أن يترفق بها وبخوفها وبحركة مباغتة كان يلثم عنقها بعمق مرسلاً لها تلك الرجفة العنيفة التي تهز كيانها كله، ثم ابتعد قبل أن يعطيها فرصة النطق وأخذ الحجر وبدأ يقترب من ذلك العقرب بحذر حتى قتله بالحجر الكبير فجأة، حينها بدأت أيسل تتنفس بارتياح…

فسحبها بدر من ذراعها للخارج كالأطفال بعدما تخلص من ذلك العقرب، ليُحاصرها عن الحائط وهو يتشدق رافعًا حاجبه بمكر:
-فين مكافأتي؟
فلوت أيسل شفتاها مستنكرة:
-مكافأتك!؟ مكافأة إيه دي إن شاء الله هو أنت حررت فلسطين؟
ليهز بدر رأسه راسمًا على وجهه الجدية وهو يسألها:
-عقرب ده ولا مش عقرب؟
فأكدت دون تردد:
-عقرب
ليعاود سؤالها:
-بيموت ولا بيموت يا متعلمة يا بتاعت المدارس؟
فأجابت ايضا مؤكدة:
-بيموت
فسألها:.

-قتلته ولا ماقتلتوش وشوفتيني بعنيكي الحلوه اللي هياكلها الدود دي؟
فأجابت على مضض:
-قتلته
فصفق بدر بابتسامة واسعة مرددًا بزهو:
-يبقى استاهل مكافأة، يلا وبسرعة عشان في ضريبة للتأخير على فكره!
فهزت أيسل رأسها مانعة ابتسامتها من الظهور بصعوبة، متمسكة بأذيال قناع الغضب والترفع الذي كان تقريبا سقط عنها تماما اليوم في قربه..

فقال بدر بمكر يهاودها كطفلة صغيرة:
-طب انا هسهلهالك وهاخد مكافأتي بنفسي
فسألته أيسل بعدم فهم:
-ازاي؟
ليرد بدر ببراءة ظاهرية:
-هغمض عيني وبأمانة، وانتي هتبقي قدامي وهبوسك في أول حتة اقرب منها من غير ما اشوف
رفعت أيسل حاجبها بغيظ من مكره وعبثه الذي لا ينتهي، وكادت ترفض ولكنها قررت التلاعب به قليلاً كما يفعل فأومأت برأسها موافقة بضيق مصطنع:
-ماشي بس لو فتحت عينك مش هيبقى في اي مكافأة ولا اي نيله!

اومأ بدر مؤكدًا وبالفعل أغمض عيناه، ليسألها:
-تمام كده؟
فأكدت أيسل بابتسامة واسعة:
-ايوه، بس لو قربت على الهوا يبقى خلاص راحت عليك، وقدامك ٣ مرات بس
اومأ بدر برأسه موافقًا وداخله يتيقن أن جنيته قررت أن تلاعبه قليلاً فوأد ابتسامته قبل أن تظهر، ثم اقترب فجأة من مكان وجهها ولكنها حركت وجهها بسرعة فجاءت قبلته على الهواء، لتتابع أيسل باستمتاع:
-آدي اول واحدة راحت.

فتنفس بدر يدعو حظه أن يحالفه ثم اقترب فجأة مرة اخرى ولكن أيسل ايضا قتلت أمله حينما حركت رأسها فجأة لتبقى قبلته معلقة في الهواء، وفي الثالثة ايضًا تكرر نفس الشيء ليتزاحم الغضب داخل بدر الذي فتح عيناه ثم أمسك وجهها بين يداه مثبتًا إياه ليقترب بفمه منها فصاحت أيسل بذهول وصوت مكتوم:
-بدر أنت هتعمل إيه آآ…

وضاعت حروفها بين شفتاه التي شنت هجومًا عاطفيًا عنيفًا على شفتاها المكتنزة التي أرقت منامه، كان يُقبلها بشغف حار وداخله يرتعش حرفيًا من حلاوة ذلك الشعور المُهلك بينما هي متخبطة وقد عاثت قبلته الفوضى داخل كل شبر فيها…

ابتعد بعد قليل سامحًا لها لتلتقط أنفاسها ويشاركه هو انفاسه اللاهثة، ولكن لم يعطها الفرصة فدفعها برفق بجسده نحو الفراش ليدفعها برفق فسقطت هي شاهقة تحاول منعه بتذمر وتوتر رهيب فرض سيطرته على فرائصها:
-بدر لأ مينفعش أوعى
ولكنه لن يتراجع، ليس بعد أن قامت تلك الوحوش التي تطالب بها بهدم سور ثباته الواهن، ليس بعد أن احترقت كل ذرة به تهدر مطالبة بها، بامتلاكها…!

فمال نحوها بأنفاس حادة ليمد إصبعه يبعد خصلاتها عن وجهها ببطء شديد، لتشعر أيسل بازدياد تلك الفراشات التي تداعب داخلها، فابتلعت ريقها وهي تهمس محاولة إيقافه:
-بدر لو سمحت لأ، طب استنى عايزه اقولك حاجة مهمة
فوضع بدر إصبعه على شفتاها التي اتضح عليها اثر هجومه العاطفي العنيف عليها، ثم قال بصوت أجش من فرط العاطفة:
-هششش، كله كلام كلام، دول ماتخلقوش للكلام بس، في حاجات أحلى ومعناها أعمق بكتير من الكلام.

ولم يعطها الفرصة لنطق المزيد بل عاد يلتقط شفتاها بشفتاه ببطء ورقة، حتى ذابت شفتاها بين شفتاه وقد حرص هو أن يُذيب مقاومته الواهية، فما إن شعر بيداها تحيط عنقه دون أن تشعر حتى ازداد اهتياج مشاعره، فابتعد لحظة بأنفاس لاهثة يغمغم بهمجية عاطفية:
-قولي إنك بتحبيني
فلم تنتظر حروفها الاذن لتنساب من بين شفتاها بما نطق به قلبها قبل شفتاها:
-بحبك، بحبك اوي وماحبتش ولا هحب راجل في الدنيا دي غيرك.

فأغمض بدر عيناه مستمتعًا بمذاق تلك الكلمة التي انتظرها كثيرًا، ليميل على وجهها موزعًا قبلاته على كل إنش به وهو يهدر من بين قبلاته:
-قوليها تاني
فعادت تكرر بصوت مبحوح:
-بحبك، بحبك بجنون يا بدر
فهمس هو بخشونة متأوهًا من أعماقه بلوعة:
-آآه منك ومن حبك يا بنت السلطان!

ولم يعد للحديث بقية، غرقـا معًا بين أمواج العاطفة التي تقازفتهم من هنا لهناك والشوق يصاحبهما، فأصبحا روح واحدة في جسدان، تجمعهما مشاعر وعواطف فياضة لا تنتهي…

خرجت فيروز من غرفتها وخلفها والدتها التي عقدت ما بين حاجبيها بضيق تهدر فيها بضيق واضح:
-يا فيروز خدي هنا مش بكلمك
فاستدارت فيروز لتواجهها بجسدها متساءلة بحدة:
-نعم؟ عاوزه إيه تاني من فيروز؟
لتسألها نشوى بتعجب من هجومها المفاجئ وابتعادها الدائم طوال اليومان السابقان عنها:
-في إيه يا فيروز مالك؟ وبتبعدي عني ليه طول اليومين اللي فاتوا؟ في حاجة حصلت؟

فاض الكيل بـ فيروز فقررت أن تلقي بكل ما بجبعتها في وجهها باهتياج إتضح في نبرتها العالية:
-لأ مفيش ابدًا، انا بس عرفت إن الست اللي مفروض امي هي اللي خططت عشان تبعدني عن الشخص الوحيد اللي قررت أتجوزه
بهتت ملامح نشوى التي توقعت أي شيء إلا أن تعلم فيروز، فالتوت شفتاها وهي تحاول ايجاد اجابة مناسبة، واخيرًا هتفت بحروف مبعثرة تسألها:
-مين اللي قالك الكلام ده يا فيروز؟

لترسم فيروز ابتسامة ساخرة مقيتة على شفتاها وأجابت:
-للأسف محدش قالي ده انا اللي سمعتك بنفسي وإنتي بتتكلمي في التليفون
إبتلعت نشوى ريقها بتوتر رهيب، ثم قالت تستجدي عطفها فأكثر شيء يوترها أن تخسر ابنتها الوحيدة:
-فيروز صدقيني انا عملت كده عشانك، عشان يونس مش شبهك وانتي مش شبهه، صدقيني حياتك كانت هتبقى معاه جحيم
فصرخت فيها فيروز بأعصاب مستنفرة:.

-الجحيم اللي بجد اللي انتي عملتيه فيا، دي حياتي انا، انا اللي هعيشها مش انتي، انا ادرى باللي هيريحني ويتعبني
فهزت الاخرى رأسها نافية بسرعة:
-صدقيني انتي اعجابك الشديد ليه عاميكي عن الحقيقة
لتضرب فيروز صدرها ناحية قلبها، وتزمجر بجنون وكأنها تخبر نفسها اولاً:
-ده مش مجرد اعجاب، انا بحب يونس، بحبه جدا وانتي حرمتيني من الشخص الوحيد اللي حبيته.

لتهز نشوى رأسها نافية، فهي تحفظ ابنتها كخطوط يدها، ولم ترى يومًا شعلة العشق تستقر بين ثنايا عيناها ابدًا…
لذا تابعت بصوت هادئ رغم اضطرابه التلقائي لتحبرها:.

-لأ يا فيروز مش حب، ده وهم انتي اقنعتي نفسك بيه، لو بتحبيه بجد كان قلبك هيوجعك بعد اللي حصل، لكن انا شوفت واحدة كرامتها هي اللي وجعاها ومش شايفة غير كرامتها اللي اتداست بس، لو بتحبيه كنتي هتحاولي تخلقي اي عذر ليه وهتصدقيه حتى لو كل الدنيا مكذباه، لكن انتي كرامتك ماسمحتلكيش إنك تحاولي تصدقيه ولو شوية! ده مش حب يا فيروز، انتي يمكن شوفتيه الشخص المناسب ليكي بس، جنتل مان زي ما بقوله لكن للاسف اختيارك مش صح.

هزت فيروز رأسها نافية وكأنها تناطح كل حرف خرج من والدتها لتمنعه من التسرب لنقطة الاقناع داخل عقلها…
ثم بدأت تردد بصوت أجش حانق:
-لأ مش صحيح، انا كنت موجوعة من الاتنين كرامتي وقلبي، ثم إن انتي مش هتعرفي احساسي اكتر مني
ثم تعلقت اشباه الابتسامة الساخرة بفمها وهي تكمل:
-يا مامي
وكادت ترحل ولكن نشوى أمسكت ذراعها تستوقفها بصوت عذب هامسة:
-خلاص يا فيروز حقك عليا، انا امك برضو يا فيروز مهما حصل.

لتتشدق فيروز في تهكم مرير:
-دلوقتي لاحظتي انك امي؟ كانت فين الامومة دي وانتي بتعملي اللي عملتيه؟!
لتزفر نشوى بعمق قبل أن تسأله وتخيل الاجابة يفزع دواخلها:
-طب انتي عايزه إيه يرضيكي يا فيروز؟
كادت فيروز تنفي رضاؤوها بأي شيء، ولكن نظراتها تركزت قليلا وكأنها وجدت النقطة التي ستستغلها في خطتها الشيطانية لاسترجاع يونس، فتنحنحت وهي تسألها مفكره:
-في حاجة هتريحني وهي إني ارجع يونس ليا.

فضيقت والدتها عيناها وهي تستفسر:
-هو رفض يسمعك لما حاولتي تتكلمي معاه؟
لترتعش شفتا فيروز بقهر وذلك الشعور المقيت بالرفض يمرر حلقها، ولكنها قررت بصقه والثأر لكرامتها المهدورة على يد تلك اللعينة ليال…
فابتلعت تلك الغصة في حلقها وهي تقول:.

-رفض يسمعني وقالي بطريقة غير مباشرة عشان ميجرحش مشاعري إن انا وهو خلاص اللي بينا انتهى وإن ده نصيب وإن ست ليال هي نصيبه وقالي محاولش اشوفه تاني! قالي انا كده بعد ما كان بيترجاني عشان اقابله!
ثم عاودت تركيزها لما كانت تفكر فيه:
-المهم، جمال خد ايه مقابل اللي عمله؟
فأجابتها والدتها بصدق:
-انتي عارفة حلمه إنه يسافر برا مصر وانا ساعدته وسفرته
فسألتها فيروز:
-اكيد تعرفيله رقم هناك
-اه اكيد
فسارعت الاخرى:.

-طب هاتيه
-تمام هو على موبايلي اهوه بس ليه؟
استطردت نشوى وهي تمسك بهاتفها تحاول فهم تفكير ابنتها، فردت فيروز بنبرة مُبهمة خبيثة:
-هصلح اللي انتي عملتيه يا مامي!

بعد ساعات…
وصل كلاً من بدر وأيسل لمنزل قاسم البنداري بعد أن إتصل بهم قاسم ليسألهم عن اخر وقت رأوا به ليال وأخبرهم عن حالة يونس المزرية وهو يبحث عن ليال طيلة اليوم في كافة انحاء البلدة…

وما إن وصلوا حتى توجه بدر ناحية عمه قاسم يسأله بقلق واضح:
-ازاي يعني مش لاقيينها يا عمي هي طفلة؟
فضرب قاسم على فخذاه بقلب معطوب من الألم:
-معرفش يابني والله، يونس لسه جاي وحالته مش طبيعية ابدا ولسه قايلي إنه مش لاقيها وإنه كان بيدور عليها طول النهار
فسأله بدر مسرعًا:
-طب فين يونس يا عمي؟

ليجيبه قاسم بقلة حيلة وهو يضرب على فخذاه بحسرة على حال ولده الذي ما إن هم بامساك خيوط السعادة وجدها فرت فرًا من بين يداه:
-فوق طلعته بالعافية يهدى ويرتاح شوية، اطلع شوفه يا بدر خليك معاه الله يرضى عنك
اومأ بدر مؤكدًا برأسه، ثم إنطلق متوجهًا بسرعة نحو غرفة يونس…

بينما داخل الغرفة كان يونس جالس على فراشه، يتحسسه بشرود تام، يتلمس المكان الذي كانت تنام فوقه، كم من آآه متوجعة كتمها داخله حتى إختنقت أنفاسه…
لقد بحث عنها في كل مكان يمكن ان تذهب له ولكن النتيجة واحدة، وكأن القدر يُصر على كي قلبه الذي أدرك العشق ومرارته لتوه…!

كلما تذكر كل مرة كان يخبرها بها أنه لا يتمنى سوى أن تخرج من حياته نهائيًا شعر بتلك النغزة القاسية تستبيح قلبه بألم رهيب يفوق احتماله، يلعن لسانه الذي نطق بهذا الكلام، ويلعن قسوة قلبها المفاجئة التي طعنته بها دون مقدمات لتتركه شريد كفقيد والدته…!
دلف بدر ببطء مرددًا اسمه بنبرة قلقة مُشفقة:
-يونس
فنطق يونس بصوت مختنق ونبرة مكتومة:
-لو سمحت يا بدر سيبني لوحدي انا مش قادر اتكلم.

كاد بدر ينطق معترضا ولكن تشنج جسد يونس وهو يعطيه ظهره وكأنه لا يحتمل حتى مجرد النطق، جعله يبتلع اعتراضه وهو يومئ موافقا برأسه على مضض:
-طيب يا يونس اللي يريحك، ولو احتاجتني انا تحت
اومأ يونس برأسه دون أن يرد، فغادر بدر بالفعل…

بينما في الاسفل يسأل قاسم أيسل التي جلست بصمت تعض على شفتاها بعدم تصديق:
-انتي اخر مره شوفتيها او اتكلمتي معاها امتى يا بنتي؟

لتتذكر أيسل اليوم السابق…
بعد أن رأت ليال يونس مع تلك اللعينة فيروز صعدت متوجهة لغرفتها فقابلتها أيسل التي إنتبهت لما يحدث فقالت بنبرة هادئة:
-ليال، رايحة فين كده؟
حاولت ليال تناسي غضبها وهي ترد:
-طالعة اوضتي مضايقه شوية
لتسحبها أيسل من ذراعها برفق تتودد لها:
-طب ما تيجي نقعد مع بعض بدل ما انا قاعده لوحدي لحد ما بدر يرجع
اومأت ليال موافقة على مضض وتوجهتا معًا للغرفة التي تقيم بها أيسل مع بدر…

جلستا على الأريكة وملامح ليال معقودة بضيق نتج عن شعور الغيرة المقيت الذي يمزق احشائها، لتسألها أيسل بدهاء:
-انتي مضايقه عشان هو واقف مع البنت دي صح؟
اومأت ليال مؤكدة دون مقدمات، لتسألها أيسل بهدوء، تود أن تتقرب لليال اكثر، فاليومان السابقان أكتشفت بهما أن ليال صديقة لا تعوض:
-طب هي مين دي اصلا وجايه ليه؟

فلم تبخل ليال وأفصحت لها بكل شيء منذ بداية تعارفها بيونس طبعًا مع عدم البوح بمن اتفقت معها لتفعل ما فعلت واحترمت أيسل رغبتها فلم تسألها…
ولكن ابدًا لم يعجبها ضعف ليال امام مشاعرها، فراحت تخبرها بنبرة هادئة حملت غيظًا مُبطنًا:
-ليال طريقة تعاملك مع يونس غلط خالص، انتي لغيتي كرامتك من الحسبة نهائي فمترجعيش تلوميه على ده
فتنهدت ليال وعيناها تغيم بمشاعر فياضة أغدقتها وهي تردف بصوت واهن:.

-عارفة، لكن انا السبب عشان يكرهني انا اللي اديته السبب لكرهي فـ ازاي هلومه دلوقتي! انا كنت عارفة إن ده اللي هيحصل في الاخر ولازم استحمل
فجابهتها أيسل بقوة:
-انتي السبب بس مش هتقعدي عمرك كله تكفري عن ذنبك ده، انتي تصرفك غلط لكن برضو كرامتك مفروض تكون فوق كل حاجة، انتي جوهرة يا ليال ومينفعش حد يدوس على الجوهرة دي تحت مسمى الحب!

فتهدجت نبرة ليال وهي تلقي بالمبررات التي تزاحمت بعقلها دوما تدفعها لعدم الاستسلام:
-بس برضو لازم اتمسك بيه يا أيسل، لو كل حد فكر في كرامته بس يبقى الحياه مش هتمشي احيانا لازم نيجي على نفسنا عشان اللي بنحبهم
ثم اخذت نفسًا عميقا وتابعت:.

-كل ما بفكر ابعد عنه واقول انا تعبت، بخاف، بخاف اعيش طول حياتي ندمانة على قراري ده، بخاف اتوجع في بُعده اكتر من وجعي في قربه، لما بفكر اني خلاص مش هشوفه تاني بحس إن خلاص كده مفيش اي حاجة ليها معنى، وإن الحياه الحلوة اللي كنت مخططة ليها في حضنه خلاص مش هعيشها ابدا، يونس كان اخر امل ليا في حياه جديدة يا أيسل.

تنهدت أيسل ولم تعلق وهي تسمعها، ربااه، ذلك العشق توغل لأعمق نقطة داخلها مهلكا كافة دفاعاتها وحصونها وقوتها ليجعلها مجرد ورقة في مهب ذلك العشق يحركها كيفما شاء..!

لم تكن مثل أيسل، تسمح للعشق في التوغل داخلها ولكن لم تسمح أبدا أن يهدم السور الشاهق الذي يحاوط كرامتها كأنثى…!
ربتت أيسل على كتف ليال لتشعرها بالدعم المعنوي الذي لطالما حُرمت منه، ثم استطردت بخفوت:
-ربنا يكتبلك اللي فيه الخير دايما يا ليال، بس خلينا بقا نعيد علاقتكم من اول وجديد، نعرفه إنك مش حاجة مضمونة دايما وإن كرامتك لازم مايتعدهاش، لازم زي ما انتي قوية في كل حاجة تبقي قوية قدامه كمان!

فأومأت ليال مؤكدة برأسها وهي تبتسم لها بحنو…

عادت أيسل من شرودها، والأفكار ترميها من جانب لآخر لا تفقه اي شيء مما يحدث وقاسم لم يكن احسن حالا منها…

صباحًا…
لم تغفل عينا يونس ولو لحظة، لقد هجره النوم كما هجرته لياله القاسية…
هب يونس منتصبًا حينما سمع صوت هاتفه يعلن عن وصول رسائل على الواتساب ففتحها بسرعة عله يجد اي خبر عن ليال…
وبالفعل كان الخبر عن ليال ولكن لم يكن كما توقع، بل كانت عبارة عن صور لــ ليال بين أحضان جمال اللعين وبأوضاع جعلت عقل يونس كالمفرقعات الحارقة…
وفي اسفل الصورة رسالة قضت على المتبقي من تماسكه.

كفاية انا خلاص مبقاش عندي القدرة استحملك أكتر، انا مابحبكش يا يونس، انا بحب جمال، وقعادي في بيتك رغم معاملتك الزبالة كان مجرد تكملة للخطة عشان أضمن إنك تحبني وتقريبًا كده انا نجحت، اتمنى ماشوفكش تاني ابدا…
الصدمة شلت عقله، ليال، ليال هجرته من أجل جمال؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى