روايات شيقهرواية احتيال و غرام

رواية احتيال و غرام للكاتبة رحمة سيد الفصل الثامن عشر

كانت الغيرة كالنيران الهوجاء تصاعدت في جوف أيسل حتى وصلت لقمم عيناها فشاب بُنيتاها دخان الغضب وهي تزمجر فيه بجنون:
-ساكت ليه؟ طبعًا لازم تسكت ما أنت خاين
فأمسك بدر ذراعاها برفق يحاول مراعاة حالتها وهو يتمتم في هدوء وحنان:
-طب اهدي يا حبيبتي وهفهمك كل حاجة
لتصيح فيه أيسل بانفعال:
-متقوليش يا حبيبتي، أنت تحضنها وجاي تقولي حبيبتي
ثم ضربت ذراعه بغل متابعة وعيناها تهدر بالغضب:.

-ومتقوليش أهدي برضو! مبحبش البرود
فزفر بدر وهو يرفع كتفاه معًا مغمغمًا يهاودها وكأنها طفلة علها تهدأ:
-خلاص ماتهديش، ومش هقول يا حبيبتي، حلو كده؟
فهزت أيسل رأسها رافعة حاجبها الأيسر وراحت تردد بعناد طفولي وهي تزم شفتاها معًا:
-والله؟ طب طلقني يا بدر
فدلك بدر جبهته يستغفر بصوت منخفض مانعًا ضحكته من إعلان وجودها على حواف ثغره بصعوبة، ثم رفع رأسه ليهتف في جدية مصطنعة:.

-اسمعي اللي حصل وبطلي شغل الهرمونات ده!
فنظرت أيسل للجهة المقابلة بترفع مصطنع عاقدة ذراعيها وكأنها لا تهتم بما سيقوله بينما داخلها يتلهف لمعرفة ما حدث مع تلك السحلية لتهدئ من سعير الغيرة التي يكوي احشائها…

بينما بدر تذكر ذلك اليوم السابق لليوم الذي سافر به هو وأيسل…

دلف الغرفة التي كانت تقطن بها مريم في القصر، ليجدها جالسة على الكرسي امام الشرفة تقضم أظافرها بغل ويبدو أنها تخطط لشيء جديد…!
اقترب منها بدر ليتنحنح قائلاً بابتسامة هادئة:
-إيه الاخبار يا مريم؟
فلوت مريم شفتاها ساخرة وقد استطاع بدر سماع فحيح الغيرة الذي توارى خلف تلك السخرية وهي تقول:
-هو أنت فاضيلي، ساحب ست أيسل معاك في كل حتة ودلوقتي جاي تقولي إيه الاخبار!

فتنحنح بدر محاولاً إيجاد ثغرة يدخل من خلالها لها حتى لا تزداد الضغينة في قلبها تجاه أيسل:
-فاضيلك طبعًا عيب عليكي، أنا بس بتصدف إن أيسل تطلب مني حاجة فباخدها بالمرة وبعدين انتي عارفة الاتفاق اللي بينا
حينها استدارت له مريم بكل جسدها لتردف بنبرة مشحونة:
-أنت شكلك نسيت اتفاقنا احنا يا بدر، السبب اللي جينا عشانه القصر ده اصلاً.

فهز بدر رأسه نافيًا ثم تجلى صوته الخشن الهادئ وهو يخبرها محاولاً المساس بالانسانة القابعة داخلها في نقطة مُظلمة تكاد تختفي:
-لأ مانسيتش، بس للحظة فكرت إن يمكن اللي عملته مش مقصود، او حتى لو مقصود قولت لنفسي ليه مانسيبش حقك عند ربنا واكيد هو مُطلع على كل شيء وحقك هيرجعلك لكن احنا كده ممكن نأذي نفسنا يا مريم ونتورط في قضية تانية مثلاً.

حينها تفجرت بؤرة الحقد المتكورة داخلها لتتناثر شظاياها وسط حروفها في وجه بدر وهي تهدر فيه:
-ليه أنا اللي اتأذي واتعذب وهي تعيش حياتها عادي جدًا والمفروض إني أنسى وأسامح وأسيب حقي عند ربنا؟! اللي زي دي مينفعش معاها كده!
فاقترب بدر منها ممسكًا بيدها يربت عليها في حنان ثم استطرد بجدية:
-ده عشانك انتي مش عشانها، يمكن لو عملتي كده وسامحتي ترتاحي يا مريم، صدقيني لو سامحتي هترتاحي.

فسحبت مريم يداها من يده بعصبية ملحوظة وكأن شبح الحقد داخلها تلبسها كليًا فلم يعد بمقدورها إعطاء حيز آخر لشيء غير الحقد، فقط الحقد..!
ثم قالت مستنكرة:
-أرتاح! أنا قولتلك إيه اللي هيريحني يا بدر بس أنت مش عايز راحتي أنا، أنت بتدور على راحة المحروسة بتاعتك
فهز بدر رأسه نافيًا بسرعة، وبصدق ينبض في عيناه راح يخبرها:.

-لأ يا مريم، حتى لو زي ما بتقولي بس إنتي اللي من دمي ولحمي، أنا خايف عليكي، نهاية الكره ولعبة الانتقام دي مش هتبقى حلوة ابدًا
فهزت مريم رأسها نافية وبابتسامة نبعت من ينبوع الحقد الذي تنوي إغراق أيسل فيه، ردت:
-لأ يا بدر، نهايتها هتبقى راحتي انا وحقي انا اللي هيرجع
ثم اقتربت منه بعينان تلونتا بدموع مُزيفة، لتهمس له بصوت مبحوح جذب الاستعطاف جذبًا من بين أعماق بدر:.

-أنت ماتتمناليش إن حياتي ترجع طبيعية تاني ولعبة الانتقام دي تنتهي؟
وحينم لم تسمع من بدر سوى تنهيدة عميقة وهو يهمس:
-اكيد اتمنالك كده
فاقتربت اكثر لتحتضنه لافة يداها حول ظهره بنعومة وهي تصطنع نبرة الصوت المكتومة باختناق وتغمغم:
-انا تعبت يا بدر أنا نفسي ارتاح بقا ساعدني بقا طالما تتمنالي الراحة.

ولم ينتبه بدر لها حينها اخرجت الهاتف خلف ظهره لتلتقط لهم صورة سريعة ثم اعادت الهاتف لقبضة يدها، وحينما وجدته متصنم لا يفعل اي شيء ولا ينطق..
دققت النظر له وكأنه متأهبة لأي رفض وسألته:
-لأخر مرة بسألك هتساعدني ولا لأ يا بدر؟
فتأفف بدر بصوت مسموع، كلما سار لها من سبيل ليجد راحتها دون تلطيخ بسواد الخطايا تسبقه هي لتضع حاجز فتمنعه..!
فأردف بعدها لأخر مرة علها تكون المُنجية:.

-طب بصي، هنروح لدكتور مرة واحدة بس تفضفضي معاه، لو محستيش إن رأيك اتغير صدقيني هساعدك ساعتها
حينها رداء الهدوء الذي كان يُحيط بمريم تمزق لتهفو فقاقيع الغضب المُشابه بالحقد وهي تزمجر فيه بانفعال مفرط:
-قولتلك انا مش مجنونة ومش هروح لزفت، واصلاً انا مابقتش محتاجة مساعدتك في ستين داهية، انا هعرف أتصرف.

فأغمض بدر عيناه يلتقط أنفاسه علها تُطفئ من شعلة الغضب التي اُضرمت داخله، كان يحاول تأدية واجبه تجاه ابنة عمه، كان يحاول إنتشالها والتحليق بها في أفق بعيدة كل البعد عن الحقد والغضب، ولكنها وبكل غباء، تُصر على غمس نفسها في وحل الحقد أكثر..!

إنتبه لها حينما دفعته نحو الخارج وهي تصيح فيه بحدة:
-أطلع برا يا بدر، برا مش طايقه اشوفك أنت بياع وبعتني ونسيت حقي عشانها
فأومأ بدر برأسه وهو يتمتم محذرًا بنبرة لم تخلو من ذرات الغضب والحدة:
-ماشي يا مريم براحتك، بس افتكري إني حذرتك إن نهاية الطريق ده وحشة وإن اللي هتعمليه هيتردلك دي دايرة وبتلف.

ثم خرج من الغرفة صافعًا الباب خلفه، وصدره مُهتاج بمشاعر عدة، كان مترأسها الغضب؛ الغضب من كل شيء، الغضب من عنادها في ذلك الانتقام اللعين، والغضب من القدر الذي دفعها للذة الانتقام التي تبحث عنها والتي لن تأتي إلا بعد تنهب روحها كقربان…!

عاد من شروده بعدما أنهى قص كل شيء حدث لأيسل التي كانت تستمع له بأذان صاغية، وما إن انتهى رفعت أيسل حاجبها وهي تقترب منه مرددة في شراسة:
-ولو ولو، ليه تسيبها تحضنك!؟
فتنهد بدر وهو يحاول الشرح لها:
-يا حبيبتي كانت صعبانة عليا، وبعدين مهما حصل هي بنت عمي، ولو كانت حست إني حتى مش طايق لمستها وأكيد بسببك، حقدها هيزيد اكتر واكتر، انا كان نفسي اقدر أثر عليها.

ثم تجلى صوته بخشونة وهو يخبرها بنبرة أكثر جدية وتفكير:
-وعمومًا أنا بحاول أوصل لخالها وهحكيله كل حاجة وأكيد هو اللي هيقدر يجبرها تروح لدكتور وهيفضل معاها لأن مريم محتاجة حد يقومها من غير ما تحس إن له هدف من تقويمها ده!
هزت أيسل رأسها وتفكيرها يؤيد ما يقول، ولكن الغيظ قد تضخم بين شرايينها، لتهز رأسها نافية بعناد وهي تقول من بين أسنانها:.

-ماشي كل ده تمام بس حتى لو بنت عمك برضو ده ميمنعش إنك خاين وسبتها تحضنك عادي، طلقنييي يا خاين
فمط بدر شفتاه بيأس مصطنع وهو يسألها:
-طالما انتي شايفة كده ومُصممة يا أيسل تمام
فسألته أيسل بنصف عين متوجسة كالأطفال:
-تمام إيه؟ هتطلقني؟

فأومأ بدر بأسف مصطنع، فلم تتمالك أيسل نفسها لترتعش شفتاها بوهن كالأطفال والدموع قد شقت قناع الشراسة لتتناثر من بينه لعيناها البُنية، ثم فجأة شهقت بالبكاء عاليًا ليقترب منها بدر مسرعًا يمسح دموعها وهو يسألها بذهول:
-طب مالك دلوقتي بس؟
فتمتمت وهي تمسح دموعها بطرف ملابسها كالأطفال:
-عشان انت عايز تطلقني
فضرب بدر كفًا على كف ولم يستطع كتم ضحكته وهو يردف من بين ضحكاته:.

-لا اله الا الله، مش إنتي اللي عايزه كده ومصممة، طب ياستي خلاص مش هطلقك ابدًا ابدًا حتى لو انتي قولتي كده
حينها أثبتت أيسل أنها مجنونة حينما نفضت يده عنها وهي تصيح بعصبية منافية للدموع العالقة برموشها:
-لأ ماهو مش بمزاجك على فكره!
فضربها بدر على خلفية رأسها بغيظ:
-يلا يا مجنونة يا بنت المجانين.

فرمقته أيسل بنظرة متذمرة غاضبة حملت قسطًا لا بأس به من اللوم الذي جعل بدر يُراجع نفسه ليلومها على عدم الترفق بصغيرته التي لازالت تنزف اثر جرحها…

فاقترب منها ليلكزها بذراعه بخفة هامسًا:
-طب خلاص
ولكن أيسل لم تجيبه بل عقدت ذراعها وهي تشيح ببصرها عنه، ليقترب منها اكثر وهو يلكزها متابعًا بنبرة مشاكسة:
-خلاص بقا، بعد كده لو قربت مني هديها بالبوكس في وشها متخافش يا وحش
أحكمت أيسل الحصار على ابتسامتها التي كادت تخونها لتظهر، ولكنها لازالت غاضبة منه، فلم ترد عليه ايضًا ليهز ذراعها بإصرار وقد أدرك أن صغيرته تود التدلل عليه:.

-طب ردي عليا طيب قولي أي حاجة
حينها نظرت له بغضب مصطنع وغمغمت:
-على فكره اللي بيحضن واحدة غير مراته تحت أي مسمى بيبقى حقير، وأنت كده حقير!
فإتسعت ابتسامة بدر العابثة وهو يتشدق بمرح قاصدًا مشاكستها:
-ده انا حقير من الفرحة.

هذه المرة لم تسيطر أيسل على ضحكتها التي ارتسمت على شفتاها ليصل بدر لمبتغاه، ولكنها اقتربت منه بينما هو يعود للخلف بقلق مُصطنع، فجلس على الفراش لتميل أيسل عليه بجرأة اكثر حتى أصبحت تطل عليه بجسدها دون أن تمسه، ثم أمسكت وجهه بين يداها لتهمس بنبرة تملكية والغيرة تنضح منها:
-أنت ملكي، وحضنك ده ملكي، مش مسموح لغيري تكون فيه ابدًا تحت أي ظرف!

لم ينكر بدر السعادة التي وجدت مأواها بين جوارحه، تعجبه جدًا تلك النبرة التملكية اللذيذة من جنيته التي أرهقت رجولته بتصرفاتها الجريئة تارة والمُتحفظة تارة اخرى…

وبحركة مباغتة عدل من وضعيتهم ليجذبها أسفله ويصبح هو مشرفًا عليها بجسده الرجولي العريض، حينها فرت تلك الجرأة ادراج الرياح، لتترك تلك الأنثى المُحرجة في مواجهة تيار العاطفة التي أشعلته جرأتها…!
ليقترب بدر من وجهها غامزًا إياها بعبث:
-طب إيه؟
فابتلعت أيسل ريقها بتوتر وتمتمت:
-إيه؟!
اقترب اكثر حتى لامست شفتاه أذنها بعمد وهو يهمس لها بخشونة رجولية داعبت الأنثى المترنحة أثر تلك المشاعر داخلها:.

-على فكره في حاجات تانية أهم ملكك برضو، ولازم تأكدي ملكيتك ليهم يوميًا أحسن يروحوا لحد غيرك
فضيقت أيسل عيناها بعدم فهم ليهمس بدر بنفس الطريقة ونفس القُرب المُهلك له ولمشاعرها ايضًا:
-مثلاً يعني البوسة، أصل شفايف البني ادم غدارة فلو كل يوم الصبح مأكدتيش ملكيتك ليهم ممكن تلاقيهم بيبوسوا أي طفلة ٢٣، ٢٤ سنة!
فرفعت أيسل حاجبها الأيسل بحنق:
-والله؟!

فتجاهل بدر اعتراضها الواهن ليقترب بشفتاه من شفتاها ببطء مُثير وخرج صوته عابث مُثخن بالعاطفة:
-وفي حكمة كده بحب امشي حياتي بيها بتقول لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد، واختصارًا لوقتي ووقتك اللي ملهمش اي تلاتين لازمة لازم ابدأ انا اول مرة عشان اسهلها عليكي!

كانت أيسل مُسبلة أهدابها ببلاهه تحاول إستيعاب ما يقوله، ورغم توترها إلا أنه وحينما يكون في ثوب العابث الماكر يجعلها في أوج شعور وردي لذيذ متخم بالعاطفة التي لم تعرف معناها يومًا سوى معه…

ودون أن ينتظر لحظة اخرى كانت شفتاه تلتحم بشفتاها في قبلة كانت الاكثر شغفًا، الاكثر حبًا، كانت ملحمة عاطفية لروح وجدت مسكنها وراحتها في كنف روح اخرى…!

لتتشبث أيسل بلياقة ملابسه وكأنها ستغرق، وحينما ابتعد هو بأنفاس عالية حارقة تنم عن إحتراق داخلي، إلتقطت هي أنفاسها الثائرة لتهمس قاصدة تعنيفه وإبعاده ولكن حروفها خرجت ناعمة واهنة بلتكؤ مُهلك:
-بدر…
ليغمض بدر عيناه مستمتعًا بمذاق حروف أسمه من بين شفتاها، هامسًا بلوعة حارة:
-بتقولي اسمي في اوقات غلط بطريقة غلط اكتر وبتجرجري رجلي للرذيله وأنا بموت فيها!

حينها بدت أيسل كمن استفاق من تلك الغيبوبة العاطفية لتدفعه بعيدًا عنها وهي تضرجت وجنتاها بحمرة قانية من الخجل:
-طب اوعى يا وقح
ثم نهضت بسرعة لتركض مغادرة الغرفة تاركة إياه يضحك وهو يردد بمرح:
-عيب والله عيب، ده انا لو شاقطك كنت هاخد بوسة بطريقة اسهل واسرع من كده!

بعد مرور اسبوعـان…
كان كلاً من بدر ويونس جالسان في الصالون يشربـا الشاي في هدوء ويتبادلا أطراف الحديث، حينما هز بدر رأسه متمتمًا ليونس:
-والله يا يونس أنا حاسس كده إني متقل عليكم أنا والمزغوده مراتي!
ليرفع يونس حاجباه ويجيب بمشاكسة صبيانية:
-حاسس مش متأكد؟!
فاصطنع بدر الصدمة متسع الحدقتان يُردد:
-إيه ده إيه ده إيه الوقاحة دي
ليضحك يونس وهو يخبره بنفس المرح التلقائي بينهما:.

-مش عايز افاجئك بس انت خنقتني!
ليربت بدر على فخذه بعنف مقصود وهو يستطرد بابتسامة سمجة:
-أنا بقول كده برضو كلك زوق والله يابن عمي
ثم هز رأسه وراح يردد بنبرة درامية قبل أن ينطق يونس:
-لا لا متتحايلش عليا يا يونس لأ مش هنقعد اكتر مش هينفع، طب طالما أنت مُصمم خلاص هنقعد كام يوم تاني!

فتعالت ضحكاتهم سويًا ويونس يحتضنه بحب اخوي رابتًا على كتفه، ليميل يونس نحوه متشدقًا بحروف كانت مفتاح لضرب الحب الاخوي الكبير المشترك بين كلاهما:
-والله يا بدر انتوا ماليين علينا البيت بدل الفراغ اللي كنا عايشين فيه، وبعدين ده انا مش بشوفك غير كل فين وفين يا راجل!
فابتسم بدر بود وهو يمسك بالكوب الخاص به، ثم قطع الصمت بينهما حينما سأل يونس بتركيز مفكرًا:.

-بس أنت متأكد إن خالها هيقدر يسيب اشغاله ويرجع القاهرة عشان يبقى معاها يا بدر؟
تنهد بدر بقوة ثم اومأ برأسه وقال:
-متأمل كده والله يا يونس، في واحد المفروض هيجبلي رقمه النهارده وهتصل بيه وأشوف رد فعله
-ان شاء الله خير
تمتم بها يونس قبل أن يصدح رنين هاتف بدر فأخرجه ليجيب بصوت أجش:
-الووو السلام عليكم
-وعليكم السلام، أنا جبتلك رقم الحاج عبد الرحمن اهوه
فأشرق وجه بدر كالبدر بابتسامة أمل وهو يسأله في لهفة:.

-والله ما عارف أقولك إيه تعبتك معايا كتر الف خيرك، مليهوني بقا
-ولا تعب ولا حاجة، بص اهوه
دون بدر الرقم بلهفة كبيرة ومن ثم أغلق ذلك الاتصال لينظر ليونس قائلاً بابتسامة واسعة:
-الحمدلله عرف يجيبلي الرقم، استنى هتصل دلوقتي بيه
اومأ يونس برأسه موافقًا ثم نهض ليغادر بعد أن أخبره بهدوء:
-طب انا هروح أشوف ليال عقبال ما أنت تكلمه وهرجعلك نشوف اللي حصل وبأذن الله خير والموضوع ده يخلص على خير
-يارب.

تمتم بها بدر وهو يكتب ذلك الرقم ليتصل به ومع كل رنة تصدح مخترقة اذنيه كانت نبضة هادرة تفلت من بين زمامه بقلق، والأفكار التي زاحمت عقله تلتهمه التهامًا…!

أتاه صوت الحاج عبد الرحمن الرجولي الرخيم وهو يقول:
-السلام عليكم، مين معايا؟
-وعليكم السلام، أنا بدر الجمّال ابن عم مريم بنت اختك يا حاج عبدالرحمن ازي حضرتك
-الحمدلله بخير يا بدر، ازيك انت وازي مريم؟
-الحمدلله احنا كويسين
صمت برهه ثم عاد يُكمل وهو يستعير كافة تركيزه ليوازن بين حروفه:
-كان في مشكلة بس كنت محتاج مساعدة حضرتك فيها
فسأله عبد الرحمن مستفسرًا:
-مشكلة إيه ربنا ما يجيب مشاكل.

بدأ بدر يقص عليه كل شيء من البداية، منذ مَن كان سبب بشكل غير مباشر في دخول مريم السجن حتى محاولاتها ليومنا هذا…
وكان الآخر يستمع له مذهولاً مصدومًا يحاول إستيعاب ما يقوله، لم يتوقع ابدًا أن تصل مريم لخط اللاعودة..!
نعم كان يعلم بشكل ما أن مريم ليست هينة، ولكن أن يُصبح الحقد كقطعة بالية تُغلق عيناها عن أي شيء سواه، هذا ما لم يتوقعه ابدًا…!
وحينما لم يسمع بدر اي رد على ما قاله، تنحنح يسأله بتوجس:.

-حضرتك معايا؟
فابتلع الاخر تلك الغصة المريرة بحلقه وهو يجيبه:
-معاك يا بدر، أنا هاجي على طول يا بدر متقلقش وبأذنك يارب كل حاجة هتتصلح
حينها تنفس بدر بصوت مسموع وهو يدرك أن أخيرًا ذلك العبء الثقيل قد سقط عن كاحليه ليعطه حريته دون تأنيب قاسي من ضميره..!

بينما في الأسفل في نفس الوقت، في احد أركان الحديقة المنعزل بشكل ما عن الرؤية…
كانت أيسل تضحك وهي تضرب كفًا على كف على طفولية ليال الغير متناهية التي جعلت الجنايني يصنع لها أرجوحة في حديقة المنزل، إنتهت ليال من تثبيت الاسفنجة على الأرجوحة لتقفز جالسة عليها وهي تهتف بانشكاح طفولي وابتسامة حلوة:
-اخيرًا، يلا زوقيني بقا يا أيسل
-حاضر ياستي.

وقفت أيسل خلفها وبالفعل بدأت تدفعها برفق بينما ليال تُحرك قدماها موازية حركة الارجوحة، وتطلق ضحكات عالية سعيدة، سعيدة هي جدًا، تشعر أنها بين أحضان يونس تُجدد جلد طفولتها المشوهه بالقسوة لتخفي تلك الحروق الضارية أسفله، وإلى الأبد..!

ثم نهضت وهي تشير برأسها لأيسل:
-يلا يا أيسل اقعدي وهزقك
فهزت أيسل رأسها نافية بسرعة وبتوتر ردت بـ:
-لأ بلاش افرضي حد جه وشافنا شكلنا هيبقى وحش اوي
فهزت ليال كتفاها بلامبالاة:
-فكك، اللي ليه عندنا فلوس يجي ياخدها!

عضت أيسل على شفتاها وهي تنقل أنظارها ما بين الأرجوحة وليال، لم تكن أيسل يومًا تلقائية متهورة تفعل ما يقفز لعقلها لحظيًا، بل كانت تحسب خطواتها دائمًا حتى إذا تقدمت خطوة لا تجد الجمر تحت اقدامها في الخطوة القادمة..!

بينما ليال شخصية شفافة، ما يقفز لعقلها يُترجم في تصرفاتها دون التعمق في التفكير، لا تفكر كثيرًا في الغد بل تحاول جاهدة في رسم اليوم بأفضل شكل فقط ليمر دون عناء…!

جلست أيسل بالفعل وهي تلملم خصلاتها الحمراء على جانب واحد، لتقف ليال خلفها تلك المرة وتبدأ في دفعها وهي تخبرها بابتسامة مرحة:
-غمضي عينيكي بقا وسيبي نفسك خالص واستمتعي، هتحسي بشعور جميل اوي
اومأت أيسل برأسها وقد بدأت تفعل ما تمليه عليها ليال، تستمتع بذلك الشعور دون أي تدخل للعقل، فقط تحسه وتعيشه…!

وبعد قليل نهضت أيسل لتعود ليال وتجلس مرة اخرى، ثم خرج صوتها هادئ يميل للألم الذي رن في نبرتها بخفاء:
-تعرفي إني طول طفولتي تقريبًا وأنا نفسي أعمل مرجيحة في بيتنا، وكل ما اكون مضايقة او حاسه بملل أركبها
فتنهدت أيسل بابتسامة خافتة ولم تجد ما تنطق به وقد أدركت مغزى الحرمان الذي عانت منه ليال، لتغير ليال مجرى الحديث بعدها:
-لكن مقولتيليش يا أيسل، انتي ليكي صحاب في القاهرة؟

فهزت أيسل رأسها نافية ومن ثم أخبرتها بصدق:
-لأ، أنا اصلاً شخصية انطوائية مش اجتماعية، فتقريبًا كده مليش صحاب بالمعنى الحرفي، ليا معارف بس، مامي بس هي اللي صحبتي
ثم ابتسمت وهي تستكمل وقد أغدق الحب حروفها:
-وانتي طبعًا، ربنا يعلم إني مش باخد على حد بسهولة ولا بحكيله عن حياتي بس انتي ارتاحتلك بسرعة لانك تدخلي القلب من غير استئذان
فبادلتها ليال الابتسامة المُحبة وقالت:.

-شعور متبادل والله يا بيبي، ربنا يديم المحبة
وحينما كانت ليال تتحدث وبالطبع ظهرها لأيسل، لم تنتبه ليونس الذي أتى على أطراف أصابعه مُشيرًا لأيسل بإصبعه كعلامة للصمت ويهمس لها مُحركًا شفتاه دون أن يخرج صوته:
-متتكلميش
اومأت أيسل مبتسمة ثم ابتعدت ليقف يونس مكانها ويدفع ليال، فغادرت أيسل وهي تراقبهم بابتسامة رائقة متمنية لهم دوام السعادة…

بينما هتفت ليال باستغراب وهي تدير وجهها قليلاً للخلف ولكن لم تلحق رؤية يونس:
-سكتي ليه يا أيسل مالك؟!
فأوقف يونس الأرجوحة ثم اقترب منها ببطء ليُحيط بها من الخلف ويداه قد عرفت طريقها لخصرها تحيط به بتملك، ثم همس جوار اذنها بنبرة رجولية أجشة:
-أيسل مشيت، مايمشيش معاكي يونس؟!
شهقت ليال بعنف من المفاجئة وبحركة مباغتة تحركت لتنزل من الأرجوحة بفزع فسقطت على الأرض وهي تغمغم بتذمر تكاد تبكي:.

-حسبي الله ونعم الوكيل، في إنسان يخض جوزته الانسانه كده؟!
فضحك يونس وهو يقترب ليجلس على الارض خلفها، يعدل من وضعية حجابها ثم مال نحو وجنتها ليطبع قبلة عميقة عليها ويهمس غامزًا إياها بطرف عيناه:
-مساء الزبادي يا مُعذب فؤادي مفتقدني ولا عادي؟!
فنظرت له ليال شذرًا ليميل يونس نحوها مقتربًا منها وتعود هي للخلف بتلقائية، حتى داعب يونس أنفها بأنفه متمتمًا بنبرة صبيانية:
-شكله عادي، قولي اه اه متتكسفيش.

فحاولت ليال دفعه بعيدًا عنها وهي تنهره بحرج وتلقي نظراتها يمينًا ويسارًا خشية رؤية اي شخص لهم:
-يووونس، ممكن حد يجي اتلم!
فاقترب يونس أكثر يميل بجسده نحوها حتى بدأت تشعر بجسده المتصلب ضد جسدها الغض يلتصق بها وهو يردف بعبث:
-طب ما احنا في بيتنا وقولتلهم محدش هيجي اتلم ليييه بقا ما احنا في بيتنا
لتصيح ليال مستنكرة بابتسامة لم تستطع قتلها:
-أنت بقيت قليل الادب كده امتى؟

ليعدل يونس من لياقة قميصه وهو يخبرها بفخر وكأنها تمتدحه بشدة:
-لأ منا في شوية حاجات كده مدكنها للحبايب
فضحكت ليال ومن ثم وضعت يداها على صدره تحاول إبعاده وكادت تنطق ولكنه قاطعها حينما وضع إصبعه على شفتاها يمنعها من نطق المزيد، لتذوب عيناه وسط عسل عيناها اللامع المتوهج بعشقه وهو يهمس لها بخشونة:
-وحشتيني يا بطتي، بقالي كام يوم مش عارف استفرد بيكي!

لم يبعد إصبعه عن شفتاها بل كان يتلمسها تلقائيًا بشغف بينما هي تنطق بنعومة مستسلمة لشوقها له:
-وأنت وحشتني اوي اوي
ثم رفعت إصبعها في وجهه تستطرد بحذر:
-بس ده ميمنعش إن أنت لازم تبطل تحصر تفكيرك في الانحراف كده!
ليدنو يونس بوجهه منها، حتى أصبح وجهه أمام وجهها مباشرةً، فهمس بصوت رجولي عابث:
-يعني أنا انتي لوحدنا وثالثنا الشيطان وانتي قدامي مفيش سنتيمتر كده، عايزاني افكر في إيه غير الانحراف؟!

فضحكت ليال عاليًا ليسرح يونس في ضحكتها الرنانة التي لاقت صداها هدير عنيف بين ضلوعه، اصبح يشعر أن ضحكتها أصبحت تمثل له الدنيا بما فيها من ملاذ وحلاوة شعور…!

لينهض يونس ساحبًا إياها خلفه متوجهًا بها نحو غرفتهما حتى لا يثير فضيحة امام الجميع، بينما ليال تردد معترضة:
-يا يونس!
فاستدار يونس سريعًا يرمقها بنظرة مشتعلة بالمشاعر الحارة التي تجيش بصدره، ليردف بمكر خالطه العبث الرجولي:
-يا روح يونس، بقولك إيه انا زهقت من يونس حاف دي، إيه رأيك نخليها أبو يزيد مثلاً؟! جميل ابو يزيد..

لتزداد ضحكات ليال والخجل بدأ يُداعب دواخلها من مغزى كلماته العابثة، ذلك الوقح الذي تعشقه..!
وكم تتمنى أن يأتي ذلك اليوم الذي سيصبح فيه ابو يزيد…!

اليوم التالي…
في الحارة التي تقطن بها مريم…
توجهت نحو باب المنزل لتفتحه بسبب الطرقات القوية عليه، عاقدة ما بين حاجبيها بغضب وهي تصيح مستنكرة الطرق المتلاحق:
-في إيه براحة يخربيت كده!
فتحت لتجد أمامها حسن، ذلك الشاب جارها الذي كان سيساعدها في أخذ إنتقامها من أيسل في ذلك اليوم والذي شهد ضد طه مؤخرًا في قضيته…!
فارتسم الضيق على ملامحها وهي تسأله باستنكار:
-حسن! أنت بتعمل إيه هنا يا حسن؟

ودون مقدمات دلف حسن للداخل بعدما دفعها ليُغلق الباب خلفه، ثم نظر لها نظرات زائغة أشعرتها بوجود خطب ما فيه، لم تكن تدري أنه ليس في كامل وعيه بسبب تلك المخدرات التي يتناولها احيانًا…
خاصة حينما نطق بنبرة غريبة وهو يتفحصها:
-أنا لاقيتك مابترديش على تليفوناتي فقولت لازم اجي اشوف في إيه
فهزت مريم رأسها نافية وبملامح متجهمة أجابته:.

-لأ مفيش، الحوار اللي كنت هتساعدني فيه وهتاخد القرشين خلص خلاص! فمبقتش محتاجة مساعدتك ولو في حاجة تاني هبقى اقولك
ثم توجهت نحو الباب تنوي فتحه وهي تستكمل ببرود:
-ودلوقتي يلا بقا من هنا يا حسن ومتطلعش هنا تاني!
فصاح الاخر بضيق واضح:
-أنتي بتطرديني يا مريم؟ افهم إيه من كلامك ده يعني!؟
فعقدت مريم ذراعاها معًا ثم قالت وهي تضغط على كل حرف قاصدة إياه:.

-يعني مش عايزه أشوفك تاني يا حسن، ومتشكرة ليك ياخويا على محاولتك
ليشيح حسن بيداه بطريقة همجية ويزمجر فيها بجنون كان وقوده المخدرات التي اذهبت عقله:
-ده إيه اصله ده، هو انا لعبة في ايدك! تعالى يا حسن امشي يا حسن، لااااا مش انا اللي ابقى لعبة في ايد مَره!
ثم اقترب منها ببطء وعيناه تُمشط جسدها بطريقة مُقززة، حتى أصبح امامها مباشرةً فهمس لها بنبرة تفوح منها نواياه القذرة:
-هو انتي كل ده مش واخده بالك!

فابتلعت مريم ريقها وهي تسأله بريبة:
-واخده بالي من إيه؟!
فجذبها له بحركة مباغتة يلصقها به وهو يتابع همسه المُريب:
-إني عايزك أنت يا جميل
كادت مريم تصرخ وهي تدفعه بعيدًا عنها ولكنه أحكم قبضته على فاهها وهو يهز رأسه نافيًا بهدوء غريب مرضي:
-تؤ تؤ خلينا حلوين مع بعض عشان منزعلش من بعض!

فارتفع الادرنالين لدى مريم وهي تحاول التملص من بين يداه بهيستيرية خاصةً حينما رأت الإصرار ينضح من عيناه، ولكنها شعرت أنه ليس هناك مهرب، اصبح قلبها ينتفض في فزع مُهلك، هي كانت تشعر داخلها أن النهاية ستأتي لا محالة ولكن لم تتوقعها أن تأتي سريعًا وتكون عقاب لها ايضًا…!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى