“الجزء الثالث والأخير”
الكل خرج من خيمه ف ذعر. اللي لابس بيجامته واللي مش لابس عدل، ومحدش كان فاضي يركز مع التاني.
ولا واحد فينا فكر يهرب، نهرب نروح فين؟ دي خطوة واحدة من الكائن ده كافية تجيب أي حد مننا كان جري لمسافات! لولا إن الكائن حرك راسه في اتجاهاتنا كلنا مكناش هنعرف إنه بيبصلنا، مفيش عين واضحة من كثافة الشعر.
-منين؟
أيوه. اتكلم، أو بمعنى أصح اتكلمت! خرج صوت أنثوي من الكيان وقالت بالحرف الكلمة دي.
-أنتي؟….
“غانم” كان ناوي يسألها عن حاجة معينة بس مكملش. رفعت صوباعها على بوقها ، كانت بتشاورله عشان يسكت. في وسط كل ده لاحظت إن “غانم” كان بيبصلها بطريقة مختلفة عننا، كان برضه خايف بس منبهر ف نفس الوقت، كإنه دخل جوه معبد أو كهف ضمن اكتشافاته!
-حد منكم ييجي معايا!
أكيد، أكيد كلهم ركبهم سابت ومحدش كان مستحمل أكتر من كده، ولا حد كان هيسمع كلامها ويمشي معاها، باستثناء “غانم” المجنون، وعشان ميعملش كده اتقدمت خطوتين بسرعة…
اديتني ضهرها المشعر البشع ومشيت… مشيت وراها. “إبراهيم” مشي ناحيتي بسرعة وحاول يشدني لكني زقيت إيده…
مشيت مع الكائنة مسافات لحد ما بقينا وحدنا. لفت وقالتلي:
-أنتوا منين؟
=هتفرق؟
-هو مشتاق يشوفكم، مشتاق يشوف بشر.
=إنتي إيه؟ وإزاي بتتكلمي عربي؟
-أنا بتكلم أي حاجة اللي قدامي بيتكلمها، أنا مراية لأي حد بييجي على الجزيرة، أي حد سيء الحظ بيترمي هنا. ومش هتستفيد حاجة لما تعرف أنا إيه. قلتلك إنه مشتاق يشوفكم.
=هو مين؟
-بشرهم إنه هييجي ليكم بعد شروق الشمس علطول وإنه هييجي بالنعيم والخلاص.
اديتني ضهرها وبدأت تدخل في الأدغال قدامي بس زي ما تكون افتكرت حاجة، لفت للمرة الأخيرة وقالت:
-وقول لهم مفيش مهرب، اللي هيحاول يخرج من الجزيرة ، الجزيرة هتكون مقبرته!
لحد اللحظة دي كنت مستني أصحى، أنا كل حواسي كانت حاضرة، عيني شايفة ووداني سامعة وقلبي ييدق، إيدي ورجلي بيتحركوا، ومع ذلك مكنتش مصدق إن كل ده بيحصل بجد…
رجعت ف نفس المسار اللي جيت منه ووصلت لمكان الخيم ومكانهم. “ماهيتاب” كانت مغمى عليها والباقي متجمعين حواليها وبيفوقوها. “غانم” أول واحد لف وهو قاعد لما حس بيا .. سألني عن اللي حصل…
قلتلهم نفس اللي الكائنة قالته.
المصور اتنفض من مكانه. قال إنه هيهرب، هيمشي لحد السفينة ويطلع عليها ويخلي القبطان والعمال اللي لسه فيها يحركوا السفينة ويرجعوا بيه وإننا المفروض نعمل زيه.
حاولت أمنعه، أفهمه إنه بجد هيتأذي لو عمل كده، لكنه مسمعنيش، مكانش سامع أو مدرك لأي حاجة حواليه غير رغبته في إنه يهرب.. مشي لحد الشط، دخل جوه الميه، المفروض أن الأرض تحتيه ضحلة، لسه عالشط لكنه فقد التوازن بتاعه، راسه اترمت على الميه وبدأ يغرق! حرفيًا كان بيغرق ف شبر ميه… وحصلت حاجة تانية بعديها….
أطراف الميه على طول الشط خرجت منها نار، خط كامل على مدى النظر، والنار فضلت تعلى وتعلى لحد ما المصور والسفينة اتحجبوا عننا، مبقناش شايفنهم بس سمعنا صرخات اللي عالسفينة وسمعنا اللهيب اللي بياكلها!
رسميًا بقينا لوحدنا من غير وسيلة للرجوع، ووقع مننا أول دفعة من الضحايا…
كل واحد فينا قعد على مسافة من التاني، إيدينا حاطينها على راسنا المدلدلة في حجورنا ، مفيش غير “غانم” اللي كان رافع راسه، عنيه مفيهاش نفس الانكسار والرعب اللي ف عيوننا…
وبرغم كل الغرابة اللي بتحصل لقيت نفسي بقوم وبتوجه لإبراهيم وبشاورله نروح حته ونتكلم مع بعض لوحدنا…
قلتله بعتاب:
=أنت إزاي تعمل كده ف ناصر؟؟
-اعمل إيه بالظبط؟
=إزاي تخونه؟
“إبراهيم” كان ف حالة ذهول، بيبصلي كإني مجنون وبهذي..
-أنا عارف يا “مجاهد” إن اللي بيحصل كتير علينا، إحنا على جزيرة عجيبة فيها مخلوق بشعر كتير بيتكلم، وصاحبنا مات غرقان عالشط والنار ولعت من اللا شيء وسفينتنا اتحرقت وف واحد غريب الأطوار هيهل علينا كمان شوية وغالبًا هنموت النهارده، فمش هعاتبك على اي حاجة تقولها ولا أي وهم عندك.
=أنت مكلمتش مرات “ناصر” إمبارح بليل بره خيمتك في الموبايل وكانت مكالمة غرامية؟
-“مجاهد” أنا مخرجتش من خيمتي طول الليل لحد ما جت الدابة العجيبة، ده غير إن مفيش إشارة ف أي موبايل في الجزيرة دي ومن قبل ما نوصل بأيام، هو أنت مدرك أنت بتقول إيه؟
كإن حد خبطني بشكوش على راسي. فعلًا أنا نسيت إن مستحيل حد يقدر يعمل مكالمة لإن مفيش إشارة، يعني “ناصر” مشفش “إبراهيم”، شاف حاجة تانية. كله، كله متصل بالشخص المريب اللي الدابة قالتلي عليه، بيلعب علينا العاب ذهنية، وده حتى قبل ما يظهر لنا!
رفعت راسي فوق ، ناحية “إبراهيم” وقلت:
=وصل….
كنا لسه على مسافة من مكان الباقي ومكنتش لفيت، لكن حسيت بوجود. الشخص الغريب اللي جي يقابلنا… كان وصل لهم…
مشينا لحد هناك، ولقينا الأربعة واقفين صف واحد متنحين قدامهم ف اتجاه معين….
أنا و”إبراهيم” وقفنا جنبهم وبصينا ف نفس الاتجاه…
كان شخص ضخم جدًا، طويل وعريض، شعره طويل واصل لآخر ضهره ودقنه برضه طويلة أوي، في عين من عيونه مقفولة تمامًا و في نصها خط مكرمش كإنه جرح قديم متخيط والعين التانية مفتوحة، جاحظة ومش بترمش…
-اشتقتلكم، اشتقت لبشر…
فتح دراعاته على آخرهم بيرحب بينا وعلى وشه ابتسامة واسعة….
-أنت مين؟
“ماهيتاب” سألته بصوت بيرتعش..
رد:
-أنا المسيطر، المتحكم، المنتشر في الأرض كلها قريب جدًا….
المخرج “تيمور” ضحك باستهزاء من غير ما يفتح بوقه.
الغريب بصله بصة حادة مرعبة وقال بنبرة هادية خلتني أخاف منه أكتر:
-مش مصدقني صح؟ عندك حق ما هو أنت متعرفنيش ومتعرفش انا أقدر على إيه…
وبعدين قرب ل”ماهيتاب” حرك بوقه ناحية ودنها ووشوشلها…
“ماهيتاب” ملامحها اتحولت تمامًا، مبقتش خايفة، وشها نور، بقت بتبص له بوله…
بدأت تتحرك ف اتجاه خيمتها، دخلت جواها وطلعت بعد ثواني وهي شايله حاجة ف إيديها..
رفعت الحاجة دي وقدرنا نشوفها، كان مقص كبير…
بدأت تتكلم وهي بتضحك:
-اللي شايلاه قماش حرير هلفه حوالين وسطي وبعدين هيخرج من جسمي لولي، وهفضل على كده طول العمر، ملفوفة ف حرير واللؤلؤ بيخرج مني وبيلمع تحت ضوء الشمس…
رفعت المقص فوق أوي وبعدين نزلت بيه على بطنها، طعنت نفسها!
جريت عليها قبل ما تطعن نفسها بلحظات لكن ملحقتهاش…
وهي بتموت، والدم بيخرج من بوقها كانت لسه بتضحك، عايشة وهم كبير، مكنتش مدركة أصلًا إنها بتموت…
الغريب كان لسه على وشه نفس الابتسامة المستفزة. بصلنا وقال:
-مش قلتلكم أنا المسيطر؟
بعديها أتوجه ل”ناصر” وقال له:
-أنا مستعد أوريك كل اللي حصل، أدخلك في المشاهد الحية، المشاهد اللي جمعت ما بين “إبراهيم” ومراتك، بس الأول لازم تخضعلي، تعترف بيا وتؤمن بقدراتي، إيه رأيك؟
صرخت. لأول مرة غضبي من الغريب يعلى على خوفي. أدركت إنه كداب وقدراته مش نابعة منه هو، ده مجرد دجال..
=إياك يا “ناصر”، إياك تخضع، كل اللي هيوريهولك مش حقيقي، “إبراهيم” مفيش حاجة بينه وبين مراتك، محدش خانك.
العجيب بقى إن “إبراهيم” نفسه كان واقف متنح، مش بيدافع عن نفسه ولا بينطق، كان مسحور زيه زي الباقي، عينه مش بتنزل من على الغريب..
“ناصر” نزل على ركبته ووطى راسه وقال:
-أنا مؤمن بقدراتك، وريني!
=أنت بتهرج يا “ناصر”، أنتوا كلكم مصدقينه بجد؟! فوقوا، مش شايفين اللي شايفه؟ ده راجل نصاب، ده نصاب…
محدش استجاب ليا… الغريب حط إيده على راس “ناصر” و”ناصر” غاب، مبقاش معانا، كإنه كان ف حلم يقظة. أنا مشفتش اللي شافه بس أظن أنه شاف لقاءات ما بين “إبراهيم” ومراته، لقاءات غرامية، وده بان من وشه اللي كان عمال يحمر كإن دمه بيغلي. بعد ما فاق اتنفض ، مشي بسرعة لأقرب حجرة، كانت ضخمة، رفعها بإيده الاتنين وجري ناحية “إبراهيم”….
المرة دي لحقته، وقفت ما بينه وبين “إبراهيم”، وف اللحظة دي “ناصر” فاق….
حرك راسه كإنه قام من النوم وقال:
-إيه اللي بيحصل؟ إيه ده؟
في حاجة حصلت لإيديه الاتنين، إيديه سابت ومبقاش متحكم فيهم.. الحجرة وقعت على راسه وهشمتها ووقع على الأرض. شلال دم انفجر وبقي بيجري في المحيط حواليه…
=أنت عايز مننا إيه؟ بتعمل كده ليه؟
صرخت في الغريب…. فضل بنفس بروده وأعصابه الهادية ولا كإن…
لأول مرة الاحظ حاجة….
“غانم”، وقفته وبصته للغريب.. “غانم” حالته كانت مختلفة عننا كلنا، مش ساعتها بس، لأ، ده من أول ما جينا على الجزيرة، عينه كانت فيها لمعة معينة، لؤم الديب! اللمعة اللي بتظهر مع اكتشاف جديد ليه…
مشيت ل”غانم” ومديت إيدي ومسكت ف هدومه…
=مكنش في أطلانتس مش كده؟ ولا في واحد صاحبك نزل على جزيرة ولا شاف بيوت منحوتة ومجاري ميه وجناين شبه الجنة، أنت جي هنا عشانه، كنت عارف بوجوده؟؟
“غانم” مقاومنيش.. بهدوء مسك إيدي ونزلها من عليه وقال:
-شفته في الحلم، شفت أعظم اكتشافاتي وانتصاراتي.. راجل مفيش حد عنده قدراته، مش حضارة، ده أصل الحضارات كلها، راجل واحد قادر يصنع اللي كل الأقوام صنعته واللي متقدرش تصنعه كمان، قادر يقيد النار بإشارة منه ، يعيش الناس في مليون واقع بديل، يعمل أكوان موازية، ويدوب العوالم ف بعض، أنت متخيل يا “مجاهد”؟ شفت موقعه بالظبط، شفت الجزيرة دي والإحداثيات بتاعتها.. قرب مني وبصلي ف عيني وقال لي إنت المختار، أنت اللي هتنقل للعالم بره سيرتي، تبشرهم بخروجي ليهم. مش قلتلك أعظم اكتشافاتي؟
محستش بنفسي، فضلت أضرب فيه لحد ما وقع على الأرض، وطيتعليه وكملت ضرب. هو اللي عمل فينا كده، “غانم” اللي حطينا ثقتنا فيه، اللي كنا شايفينه قدوتنا والأب الروحي بتاعنا ، اللي كنا بنتأمنه على حياتنا ولقمة عيشنا، هو اللي جرنا هناك وقدمنا أضحيات للدجال…
الغريب كان واقف بيراقب ومستمتع. المفروض إن “غانم” كان الخادم المخلص ليه، نفذ كل اللي طلبه منه، وبرغم كده كان فرحان بضري ليه، مستمتع بمنظر دمه…
اللي خلاني أوقف ضرب كلام الغريب…
-هاه، تحبوا تشوفوا ناري وجنتي؟ بس قبلها لازم تخضعوا، اللي هيختار جنتي هعيشه فيها واللي هيختار ناري هخليها تسلخه…
صرخت بأعلى صوتي، قلت:
=لأ، اوعوا، اوعوا تخضعوله…
“غانم” قام وهو بيترنح من الألم وهو مع الباقي قربوا ف شكل دايرة ناحية الغريب ومدوا دراعاتهم… مرر إيده عليهم كلهم.. سمعت أصوات ضحكاتهم ، ودي كانت آخر حاجة سمعتها….
عيني فتحت، بصيت حواليا.. الأربعة كانوا ميتين! جثثهم ف حالة بشعة، اتنين راسهم ودراعاتهم مفصولين عن أجسامه واتنين أجسامهم مقسومة بالنص بالظبط، كان في بحر دم ف كل حته…
مررت إيدي على جسمي، حسيت بلزوجة ف جنبي.. ألم، ألم رهيب، جرح ف جنبي بالعرض، بسبب حاجة زي آلة حادة…
قمت ومشيت في خطوط معوجة، معنديش تحكم ف رجلي، كل اللي كنت بفكر فيه وقتها إني عايز ابعد من هناك، مش عايز أموت والمناظر دي حواليا، عايز أبقى لوحدي، عايز الحق أصلي ولو حتى بعيني من غير ما اتحرك، عايز أبقى مع ربنا وبس…
مشيت مسافات لحد مكان مرتفع…. جسمي انهار.، وقعت….
فتحت عيني نص فتحة عشان الدم كان مغطيها وكانت منتفخة، جسمي كان ممدد، دراعي مكسور، كنت لوحدي، لوحدي تمامًا والليل اتبدل بنهار…
هي مسألة وقت عبال ما يلاقيني، الجزيرة كلها مكشوفة، الأرض كلها مكشوفة ليه، مفيش مخبأ منه، مش محتاج أعمل أي مجهود، الأحسن ليا إني استمتع بالوقت المتبقي لي، احمد ربنا على السلام والهدوء المؤقت، كفاية إني لسه مؤمن، أنا لسه مؤمن، لسه مؤمن…
سمعت صوتها… نفس الصوت، دي الكائنة المُشعرة.. رفعت راسي لمصدر الصوت ولقيتها واقفة على مسافة…
=هيسيبك تعيش، تمشي من الجزيرة، صحيح هو فشل إنه يخليك تخضع، بس لسه ليك فايدة، في سفينة معدية قريب من الشط، هتتنطط وتصرخ وتشاورلهم ، هيقفوا وهتتحرك ليهم وهتطلع عالسفينة، ولما ترجع الأراضي المأهولة بالبشر هتبشرهم إنه خارج ليهم قريب، خلاصهم قريب، حتى لو ف صيغة تحذير، حتى لو اعتزلت الحياة ووعظت ف الناس عشان يقوا إيمانهم ويلتزموا بصلواتهم وفروضهم ويتمسكوا بالأمل وباليقين بالله والخير فيهم، فأنت برضه هتبقى وصلت الرسالة اللي هو عايزها… بلاش نظرة الذهول اللي عليك دي، هو إيه يعني اللي خلاه مستعد يخرج؟ ما الدنيا ممهدة ليه، الناس كلها دماغهم اتغسلت وبمزاجهم، بيضربوا في الثوابت وبيتمردوا وبيجحدوا وبيعشقوا أي حاجة غريبة ومقززة وخارجة عن المألوف، أهو بقى عِند وتمرد، المال الحرام بقى يحلالهم، ومش بس كده ، لما بيشوفوا نموذج كويس بيحاولوا يجندوه ولو فشلوا ف ده بيتهموه هو بالفساد ويقلبوا الباقي عليه، ده غير إنهم بقوا ياكلوا ف بعضهم، كل اللي الدجال هيعمله هو زقة صغيرة ، لكن الناس بالفعل على الحافة، واللي زيك معدودين يا “مجاهد”…
عملت اللي قالت عليه… الغريبة إني لما قمت ملقتش الجرح اللي ف جنبي، كان في دم على هدومي لكن كان جاف، ومن غير مصدر… مشيت للشط وشفت السفينة المعدية، اتنططت وصرخت وشاورت، وفي النهاية شافوني… السفينة وقفت وأنا مشيت لعندها وركبت…..
“تمت”