” أحضرت لك بعض الملابس يا أخي ! إنك بحاجة إلى حمام طويل جدا ! “
ابتسمت بشيء من الخجل ، فأنا أعرف أن هندامي كان سيئا … و شعري طويلا … و لحيتي نابتة عشوائيا بلا نظام ، و الملابس التي اشتراها لي سيف على عجل خالية من الجمال و الأناقة !
قلت :
” هل أبدو مزريا ؟؟ “
ضحكت دانة و قالت :
” بل تبدو كأحد نجوم السينيما الأبطال ! “
ضحكنا نحن الثلاثة ، ثم قلت :
” بطل بلا عضلات !؟ لا أناسب حتى لدور مجرم ! “
و جفلت للكلمة التي خرجت من لساني دون شعور … ( مجرم ) … ألست كذلك ؟؟
لكن أحدا لم يلحظ تغير تعابير وجهي ، بل استمرت دانة تقول :
” بل بطل ! أليس كذلك يا سامر ؟ إنه ليس رأيي وحدي بل هذا ما تقوله رغد أيضا ! “
أثارت جملتها هذه اهتمامي البالغ ، هل قالت رغد عني ذلك حقا ؟ هل أبدو كذلك في نظرها ؟
تعلمون كم يهمني معرفة ذلك !
لقد كانت تعتبرني شيئا كبيرا عاليا في الماضي ، و الآن بعدما كبرت … ترى ماذا أصبحت أعني لها ؟؟
فيما بعد ، نعمت باستحمام طويل و مركز !
نظفت جسدي و ذاكرتي من كل ما علق بهما من أيام السجن … و بلاء السجن …
بدوت بعدها ( شخصا محترما ) ، إنسانا مكرما … رجلا يستحق الاهتمام ….
حينما حضر سامر للغرفة بعد ذلك ، أطلق صفرة حادة مداعبا !
” ما كل هذه الوسامة يا رجل ! بالفعل كأبطال السينيما ! “
ضحكنا كثيرا ، ثم خرجت معه من الغرفة فإذا بي أرى أمي و أبي يقفان في الردهة …
ابتسما لرؤيتي ، و تبادلنا حديثا قصيرا ، ثم ذهبنا أنا و أبي و سامر لتأدية صلاة الظهر في المسجد .
عندما عدنا ، و ما أن وطأت قدمي أرض مدخل المنزل ، حتى هاجمت أنفي روائح أطعمة شهية جدا !
أخذت نفسا عميقا متلذذا بالرائحة الرائعة !
ظهرت أمي ، و قادتنا إلى غرفة المائدة …
و ذهلت للأطباق الكثيرة التي ملأت المائدة عن آخرها …
” أوه ! كل هذا !؟ “
نظرت إلى أمي بتعجب ، فابتسمت و قالت :
” تفضل بني بالهناء و العافية “
لا أخفيكم أن معدتي كانت تستصرخ !
انقبضت مصدرة نداء استغاثة ، ثم توسعت أقصى ما أمكنها استعدادا للكميات الكبيرة التي أنوي التهامها !
في هذه اللحظة تذكرت صديقي سيف ، قلت :
” سيف ! يجب أن اتصل بسيف ! “
و ذهبت إلى حيث يجلس الهاتف بسكون ، و اتصلت به في الشقة حيث كنا
اعتذر سيف عن الحضور و قال أنه لا يود التسبب بأي حرج على أفراد العائلة في هذا الوقت ، لكنه وعد بالحضور مساء …
اتخذت مجلسي حول المائدة ، على يمين والدتي … ، فيما سامر إلى يسار والدي . و أخيرا أقبلت الفتاتان ، دانة و رغد … فجلست دانة إلي يمين والدي ، و بقي الكرسي الأخير … المقابل لي شاغرا …
أقبلت رغد فجلست مقابلي على ذلك الكرسي ، و اتضح لي فيما بعد أنني جلست على الكرسي الذي تجلس هي عليه في العادة !
كانت ترتدي رداءا طويلا ، و حجابا .
لا أخفيكم أنني كنت أشعر بشيء كلسعة الكهرباء كلما التقت نظراتنا عفويا
إنها صغيرتي رغد !
محبوبتي المدللة التي حرمت من رؤيتها و العناية بها لثمان سنين …
لقد قضيت ثمان سنوات من العذاب… تغير في الدنيا خلالها ما تغير ، إلا أن حبي لهذه الفتاة لم يتغير … و إن لم أعد الماضي الجميل و علاقتي الرائعة بها فسوف أصاب بالجنون !
قلت ، في محاولة مستميتة لإحياء الماضي الميت و إشعارها و إشعار نفسي بأن شيئا لم يتغير :
” رغد … صغيرتي … إلى أين وصلت في الدراسة ؟ “
رغد رفعت بصرها إلي في خجل ، و قد تورد خداها ، و قالت :
” أنهيت الثانوية ! و سوف ألتحق بإحدى الكليات العام المقبل “
ابتسمت بسعادة ! فطفلتي الصغيرة ستدخل الجامعة !
” عظيم ! مدهش ! أبهجتني معرفة ذلك ! وفقك الله “
ابتسمت رغد بخجل شديد ، ثم قالت :
” و أنت ؟ هل أنهيت دراستك أم لا زال هناك المزيد بعد ؟؟ “
تصلبت تماما لدى سماعي هذا السؤال …
و نقلت بصري إلى أمي … أبي … سامر … و دانة …
و علامات الذهول صارخة في وجهي …
أبى قال مرتبكا :
” يكفي لحد الآن ! هل تظنين أننا سنتركه يغادر ثانية ! مستحيل “
نظرت إلى أمي و سامر ، فإذا بهما يتحاشيان النظر إلي …
أما دانة فكانت مشغولة بتقطيع الطعام و مضغه …
و رغد ، حين عدت ببصري إليها وجدتها تبتسم …
شعرت باستياء كبير لهذه الحقيقة التي فاجؤوني بها …
لم يبد على رغد أنها تعلم … أنني كنت في السجن !
هل أخبروها بأنني سافرت لأدرس ؟؟
ألم أطلب أنا منهم ذلك ؟
ألا يزالون محتفظين بالسر ؟؟
انزعجت كثيرا لاستنتاج ذلك ، و فقدت شهيتي لتناول المزيد …
لكنني شربت حصتي من عصير البرتقال كاملة ، لعلمي المسبق بأن رغد هي التي حضرته …
بعد الغذاء ذهبت مع أهلي في جولة داخل المنزل لأتعرف على أجزائه ، و كان موضوع جهل رغد بأمر سجني يسيطر على تفكيري … و يتعسني …
و انتهزت أول فرصة سنحت لي فسألت والدي :
” ألا تعلم رغد بأنني … كنت في السجن ؟؟ “
والدي تردد قليلا ثم أجاب :
” لم يكن بإمكاننا إخبارها بشيء كهذا ذلك الوقت … ثم كبرت … و دانة … و لم نجد داعيا لإعلامهما بالحقيقة “
غضبت كثيرا من هذا التصرف ، فأنا الآن وضعت في وجه المدفع … لا أعرف كيف ستتصرف رغد حين تعلم بالأمر … و لا حتى دانة …
الاستياء كان واضحا على وجهي ، فقال أبي :
” هون عليك يا وليد … نتحدث عن ذلك فيما بعد “
كان الأمر شديد الأهمية بالنسبة لي …
في المساء ، كنت أشاهد التلفاز مع والدي و والدتي في غرفة المعيشة ، ثم أردت الاتصال بصديقي سيف لأؤكد عليه الحضور
لم أشأ استخدام الهاتف الذي يقع فوق التلفاز مباشرة لذلك خرجت من غرفة المعيشة و توجهت نحو المطبخ … و هو الأقرب إلى الغرفة ..