رواية انت لي الحلقة الثامنة عشر
أفقت من غفوتي القصيرة …
كنت أجلس على أريكة بمحاذاة الشاطئ ، تتدلى قدماي في مياه البحر و تعانقان أمواجه الراقصة …
الهواء كان منعشا جدا و البحر غاية في الجمال … منظر لم تره عيناي منذ سنين
إنها المرة الأولى منذ تسع سنين ، التي يبتهج فيها صدري و أنا بين أهلي و أحبابي …
أصوات مجموعة من الأطفال تغلغلت في أعماق أذني و أيقظتني من راحتي النادرة
ما إن فتحت عينيّ الناعستين حتى تلقتا منظرا جعلني أقف منتصبا فورا !
كانت رغد … صغيرتي الحبيبة … خطيبة أخي الوحيد … تجلس على الرمال المبللة تعبث بالماء … إلى جواري تماما !
نهضت و قد أصابني الروع !
و سرعان ما هبت هي الأخرى واقفة ، تنظر إلي …
وجّهتُ سهام بصري إلى البحر … ليبتلع أي شعور يفكر في الاستيقاظ في داخل قلبي … و خطوت مبتعدا عنها
استوقفتني ، فأخبرتها بأنني ماض للسباحة فقالت بسرعة :
” انتظر ! سأعود لأمي … “
لم أعرف ما إذا كانت تقصد مني مرافقتها أو مراقبتها تحديدا ، إلا أنها حين سارت مبتعدة بقينا أنا و سامر ـ و الذي خرج من الماء للتو و وقف إلى يساري لا يفصلني عنه غير شبرين ـ نراقبها و هي تبتعد …
و حين ظهر فتى في طريقها يريد أخذ كرة القدم التي تدحرجت منه نحوها ، اضطربت صغيرتي … و استدارت نحونا … و أقبلت مسرعة و أمسكت بذراعي اليمنى و اختبأت خلفها !
أنا طبعا وقفت كالجدار لا أحس بشيء مما حولي و لا أعرف ماذا يحدث و ماذا علي أن أفعل !
أردت أن أسحب ذراعي لكنها غرست أظافرها بي و آلمتني …
الفتى ذاك كان يحمل الكرة و ينظر بتعجب نحونا
و أمي و دانه أيضا تنظران بتعجب
أما النظرات التي لم أعرف ما طبيعتها هي نظرات أخي سامر …
” صغيرتي … صغيرتي … لا بأس عليك … اهدئي أرجوك “
رغد الآن تنظر إلى و قد اغرورقت عيناها بالدموع ، و قالت بانفعال و اضطراب :
” لماذا لم تأتِ معي ؟ لماذا تركتني وحدي ؟ هل تريد أن يؤذيني أحد بعد ؟ “
كلمتها هذه جعلت عضلاتي تنقبض جميعها فجأة ، و لا شعوريا مسكت أنا بيديها و شددت عليهما بقوة …
لحظة
جحيم الذكرى … و أعيينا تحدق ببعضها البعض بحدة … من عيني يقدح الشرر الحارق … و من عينها تنسكب الدموع المجروحة … و في بؤبؤيها أرى عرضا للشريط المشؤوم اللعين … و صورة لعمّار يبتسم … و الحزام يتراقص …
نطقت بهذه الجملة لا إراديا و أنا أحدق بها في نظرات ملؤها الشر … و القهر …
لقد شعرت بأشياء تتمزق بداخلي … و أشياء تعتصر … و أشياء تتوجع و تصرخ …
كيف لي أن أتحمل موقفا كهذا ؟؟
لو ظل سامر صامتا ، ربما بقيت شهورا واقفا عند نفس النقطة ، إلا أن صوته قطع الحبال المشدودة و أرخى العضلات المنقبضة
” رغد … “
أطلقنا نظراتنا المقيدة ببعضها البعض و سمحنا لها بالانتقال إلى عيني سامر …
لا يخفى عليكم الذهول و الحيرة و الدهشة التي كانت تغلف وجه سامر الواقف ينظر إلينا …
قال :
” رغد … عزيزتي … “
و لم ينطق بعدها بجملة واضحة تفسر التعبيرات الغامضة المرسومة على وجهه الحائر …
رغد الآن بدأت تمسح دموعها و قد هدأت نوعا ما …
الآن … تصل أمي و أختي … و تستدير رغد إليهما ، و تنطق بمرارة :
” قلت لك لا أستطيع … لا أريد المجيء … لا أستطيع … لا تتركوني وحدي “
و انخرطت في مزيد من البكاء المؤلم
أمي أحاطتها بذراعيها و أخذت تتمتم بكلمات لم استطع استيعابها من هول ما أنا فيه …
ثم رأيتهن هن الثلاث ، رغد و أمي و دانة ، يبتعدن عائدات من حيث أتين …
سامر ظل واقفا لثوان أخرى ، ثم هم باللحاق بهن … و حانت منه التفاتة إلي … فرآني و أنا أنهار على الرمال و أضغط بيدي على معدتي و أتأوه ألما …
لقد شعرت بأشياء تتمزق و تعصر في أحشائي … و دوار داهمني دون إنذار مسبق … و خور و وهن مفاجئ في بدني … فهويت أرضا …
كنت أعرف أن قلبي ينزف من الداخل ، كما تنزف أنسجة جسدي كله من شدة الموقف و قسوته … و شعرت بالدماء تجري بكل الاتجاهات في جسمي … و أحسست بها تصعد من جوفي … و تملأ فمي … ثم تخرج و تنسكب على الرمال ملونة إياها هي و يدي المرتكزة عليها باللون الأحمر …
الآن … تستطيع عيناي رؤيتها بوضوح … تماما كما ترى النور …
دماء حقيقية خرجت من جوفي ممزوجة بعصارة معدتي المتلوية ألما …
” وليد ! “
رفعت رأسي ، فإذا بي أرى سامر ينظر إلى موضع الدماء بذعر …
” ما هذا ؟؟ “
ما هذا ؟ أظن أنها دماء ! و هي المرة الأولى التي تخرج فيها دمائي من جوفي … و أنا أشعر بألم حاد جدا في معدتي …
ما هذا ؟
أظن أن هذا عرضٌ لمرض ٍ ما …
بعد فترة … كنا نجلس قرب موقد الجمر ، نستنشق الأدخنة المتصاعدة من المشويات … و نتلذذ برائحتها الشهية …
كان والدي يقلب الأسياخ و يهف الجمر … و كلما نضج اللحم في أحد الأسياخ دفعه إلى واحد منا ، فيلتهمه بشهية كبيرة …
و الآن جاء دوري …
” تفضل يا وليد “
كنت أود مشاركتهم هذه الوجبة اللذيذة التي لم أذق لها مثيلا منذ سنين … لكن الآلام الحادة في معدتي حالت دون إقبالي على الطعام …
” شكرا أبتاه … لا أستطيع التهامها فمعدتي مضطربة جدا “
قال سامر :
” لقد تقيأ دما قبل قليل “
الجميع ينظر إلى الآن بقلق …
ابتسمت و قلت :
” ربما أكلت شيئا لم تتقبله ! لا تكترثوا “
أمي قالت بقلق :
” بني … عساه خيرا ؟؟ “
” لا تقلقي أماه … ستهدأ بالصيام لبعض الوقت “
ثم حاولت تغيير مجرى الحديث …
أبي مد سيخ اللحم المشوي نحو الشخص التالي قائلا :
” نصيبك يا رغد “
رغد كانت تجلس على مؤخرة البساط ، بعيدة عن موقد الجمر الذي نجتمع قربه …
رغد نهضت ، و أقبلت نحونا و مدت يدها و أخذت السيخ ، ثم همت بالعودة إلى المؤخرة …
نهضت أنا و قلت :
” تفضلي هنا … أنا سأتمشى قليلا “
و ابتعدت كي أدع لها المجال لتجلس مكاني ، قرب الجميع … و تستمتع معهم بوجبة الشواء الشهية …
ذهبت أولا نحو سيارة أخي ، و استخرجت علبة السجائر التي كنت أضعها في جيب بنطالي الذي استبدلته بملابس السباحة … ثم انطلقت إلى البحر … و جلست على الرمال … أدخن بشرود
صوت أبي الجهور كان يصلني خافتا ضاحكا … إذن فالجميع يستمتعون بوقتهم … كم أتمنى لو أعود للحياة الدائمة معهم … ليتني أستطيع ذلك …
ليتني أستطيع رمي الماضي في قلب البحر … و نسيانه …
بعد قرابة النصف ساعة جاءتني دانة
ابتسمت عند رؤيتي لها ، فابتسمت هي الأخرى إلا أنها سرعان ما حملقت بي بتعجب …
” أنت تدخّن ؟؟ “
مرّغت السيجارة التي كانت في يدي في الرمل المبلل ، إلى جوار أختها السابقة … و ابتسمت ابتسامة واهنة تنم عن الاستسلام و القنوط …
” عادة سيئة … لا خلاص منها ! “
دانه جلست إلى جانبي و أخذت تراقب الأمواج المتلاطمة … ثم قالت :
” لم أكن أعلم بذلك ! لو كان نوّار يدخن لرفضت الارتباط به ! لا أطيق رائحة هذه المحروقة السامة ! “
قلت ببعض الخجل :
” معذرة “
ثم أضافت مداعبة :
” و على فكرة … فإن جميع الفتيات مثلي أيضا ! و إن استمررتم في التدخين فسوف تسببون أزمة عزّاب و عوانس ! “
أطلقتُ ضحكة عفوية على تعليقها خرجت من أعماق صدري ممزوجة ببقايا الدخان!
قلتُ بعد ذلك :
” إذن … هل استعديتما للزفاف ؟؟ “
بشيء من الخجل قالت :
” تقريبا … إنه يريد أن نتزوج بعد عودة والديّ من الحج مباشرة ! أبي يود تأجيل ذلك شهرين أو ثلاثة … أما والدتي فتراه موعدا مناسبا جدا ، و تريد أن يتزوج سامر و رغد معنا دفعة واحدة ! “
و هذا خبر ليس فقط يحبس الأنفاس في صدري و يعصر معدتي ، بل و يستل روحي من جسدي … و لن أعجب إن رأيتها تنسكب على الرمال أمامي كما انسكبت دمائي قبل قليل !
في هذه اللحظة أقبل سامر و رغد … لينضموا إلينا
قال سامر :
” هل لنا بالانضمام إليكما ؟ تركنا الوالدين يشويان السمك ! “
قالت دانة ضاحكة :
” أوه أمي ! من سيلتهم المزيد ؟ أخبرتها ألا تحضر السمك و لكنها مولعة به كثيرا ! “
و استدارت نحوي :
” وليد كيف معدتك الآن ؟ ألا تحب أن تتناول بعض السمك المشوي ؟؟ “
و جلس سامر إلى جانبي الآخر ، و رغد إلى جانب دانة …
قال :
” فيم كنتما تتحدثان ؟؟ “
قالت دانة :
” فيكما أنت و رغد ! كنت أخبر وليد أنكما حتى الآن لم تتخذا قرارا نهائياحاسما بشأن موعد الزفاف ! “
سامر ابتسم و قال :
” أنا جاهر و في انتظار أوامر العروس ! “
العروس هي رغد ! و رغد هي صغيرتي الحبيبة … التي كنت أحلم بالزواج منها ذات يوم … ثم فقدتها للأبد … فهل لكم أن تتخيلوا حالي هذه اللحظة ؟؟
قالت دانة :
” هيا يا رغد ! قولي نعم و دعينا نحتفل سوية ! “
ثم غيرت النبرة و قالت مداعبة :
” و لكن كوني واثقة من أنني سأكون الأجمل بالتأكيد ! “
أذناي طارتا نحوها ، حتى كادتا تلتصقان بشفتيها أو حتى تخترقان أفكارها لأعلم ما ستقوله قبل أن تقوله … تكلمي رغد ؟؟
رغد ظلت صامتة … و أنا أذناي تترقبان بصبر نافذ … هيا يا رغد قولي أي شيء … ارمني بسهام الموت واحدا بعد الآخر …
اطعنيني بخناجر الغدر و حطمي قفصي الصدري و مزقي الخافق الذي ما فتئ يحبك مذ ضمك إليه طفلة يتيمة وحيدة … توهم أنها خلقت من أجله فجاءت قذائفك تدمر قلعة الوهم التي بنيتها و عشت بداخلها 15 عاما … أو يزيد …
و أقسم … أقسم أنك لو تزوجت مع شقيقتي في نفس الليلة ، فإني سأتخلى عنها و أخذلها و أدفن نفسي بعمق آلاف الأميال تحت الأرض ، لئلا أحضر أو أشارك أو أبارك ليلة تزفين فيها إلى غيري … مهما كان …
بعد كل هذه المشاعر التي تصارعت في داخلي في ارتقاب كلمتها التالية … و أذاني تصغيان باهتمام و تركيز شديدين أكاد معهما أسمع دبيب النمل …
بعد كل هذا … جاءني السهم المباغت التالي :
” وليد … ما رأيك ؟؟ “
أنى لي أن أصف ما أود وصفه و أنا بحال كهذه ؟؟
تسألينني أنا عن رأيي ؟؟ رأيي في ماذا ؟؟
في أن تتزوجي شقيقي اليوم أو غدا أو بعد قرن ؟؟
في أن تذبحيني اليوم أو غدا … أو بعد قرن ؟؟
أتشهد أيها البحر ؟؟
ألا يا ليتك تبتلعني هذه اللحظة … فأمواجك العاتية ستكون أكثر لطفا و رحمة بحال رجل تسأله حبيبة قلبه : ما رأيك بموعد زفافي !
تحركت يداي إلى علبة السجائر الموضوعة على الأريكة الجالسة خلفي ، و تناولت واحدة و أشعلتها في محاولة مستميتة للفرار من جملة رغد ، التي كنت قبل ثواني أتوق لسماعها و أرسل أذنيّ نحو لسانها لالتقاط الجملة بسرعة فور خروجها …
بدت اللحظة التالية كالساعة بل كالقرن في طولها ..
سحبت نفسا عابقا بالدخان المنبعث من السيجارة المضغوطة بين شفتي …
و أطلقت زفرة قوية … حسبت معها أن روحي قد انطلقت ، و الدخان قد لوث الكرة الأرضية بكاملها …
قلت … بعدما عثر لساني على بضع كلمات مرمية على جانبية :
” الأمر عائد إليكما “
و وقفت …
و قلت :
” معذرة … سأدخن في مكان آخر “
و انصرفت عنهم …
سرت ُ مبتعدا ، و وقفت موليا إياهم ظهري … انفث السموم من و إلى صدري و أقاوم آلام قلبي و معدتي … و أحترق .
بعد فترة ، انتهت رحلتنا و آن أوان العودة إلى البيت …
لم أكن أريد أن أركب سيارة سامر … فقربه و قربها مني يعني مزيدا من الألم و الاحتراق ، لكنني حين رأيت دانة تركب سيارة والدي ، و رغد تقف عند سيارة سامر … توجهت تلقائيا و جلست على المقعد الأمامي ، لأمنعها من الجلوس عليه !
مشوار العودة كان طويلا مملا … فقد التزمنا الصمت … و رغد نامت !
” وصلنا عزيزتي ! “
قال سامر ذلك و هو يلتفت إلى الوراء ، ليوقظ رغد …
كنا قد وصلنا قبل الآخرين …
فتحت أنا الباب و هبطت من السيارة ، و رأيت رغد تستفيق …
ذهبت إلى مؤخرة السيارة أفرغ حقيبتها من حاجيات الرحلة ، ثم أحملها إلى داخل المنزل …
وضعت الأشياء في المطبخ و استدرت راغبا في العودة لجلب البقية … رغد واقفة عند باب المطبخ تراقبني …
” وليد “
وقفت … و عاودني الشعور بالألم في معدتي فجأة … يكفي أن أسمعها تنطق باسمي حتى تتهيج كل أوجاعي …
لم أرد ، و لكنني توقفت عن السير منتظرا سماع ما تود قوله …
” وليد “
عادت تناديني … تعصرني …
” نعم ؟؟ “
قالت :
” ألم يعد يهمك أمري ؟؟ “
فوجئت بسؤالها هذا فالفت إليها مندهشا …
كانت عيناها حمراوين ربما من أثر النوم … و لكن القلق باد عليهما …
” لم تقولين ذلك !؟ “
قالت :
” لم لم تبد ِ رأيك بشأن زواجي ؟؟ “
تصاعدت الدماء المحترقة إلى شرايين وجهي و ربما إلى حلقي لكنني ابتلعتها عنوة
قلت :
” إنه أمر يخصكما وحدكما … و لا شأن لي به “
رغد هزت رأسها اعتراضا ثم قالت :
” لكن وليد … أنا … “
و لم تتم الجملة ، إذ أن أخي سامر أقبل يحمل بعض الأغراض ، فسرت أنا خارجا لجلب المتبقي منها …
فيما بعد ، و سامر يحمل بطانية و وسادة قاصدا الذهاب للنوم في غرفة الضيوف و تركي أنام في غرفته ، كما أصر … و قبل أن يخرج من الغرفة توقف و قال :
” وليد … هل لي بسؤال ؟ “
” تفضل ؟؟ “
تأملني لحظة ثم قال :
“وليد … لماذا … قتلت عمّار ؟؟ “
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
ذهبت مباشرة إلى غرفتي ، قبل أن تحضر أمي و دانه ثم تطلبان مني مساعدتهما في الغسل و التنظيف …
فأعمال المنزل هي آخر آخر شيء أفكر بالقيام به في هذه الساعة ، و هذه الحال
يكاد قلبي ينفطر أسى … لحقيقة مرة أتجرعها رغما عني
وليد لم يعد يهتم لأمري … و لم أعد أعني له ما كنت و أنا طفلة صغيرة …
ربما ظن الجميع أنني أويت لفراشي و نمت … فعادتي أن أنام مبكرة ، إلا أنني قضيت ساعات طويلة في التفكير و الحزن … و الألم و الدموع أيضا
لماذا يعاملني وليد بكل هذا الجفاء و يبتعد كلما اقتربت ؟؟
و دليل آخر … تكرر صباح اليوم التالي …
فقد نهضت متأخرة … و وجدت الجميع مجتمعين في غرفة المعيشة يتناقشون حول أمور شتى …
دخلت الغرفة فتوقف الجميع عن الحديث ، و ألقيت تحية الصباح … ثم خطوت باتجاه أحد المقاعد راغبة في مشاركتهم أحاديثهم …
و الذي حدث هو أن وليد نهض ، و هم بالمغادرة …
شعرت ُ بألم حاد في صدري …
قلت :
” كلا … ابق حيث أنت … أنا عائدة إلى غرفتي … اعتذر على إزعاجكم “
و استدرت بسرعة مماثلة للسرعة التي بها انهمرت دموعي …
و غادرت المكان …
ذهبت إلى غرفتي و سبحت في بحر دموعي …
وافتني أمي بعد قليل و رأتني على هذه الحال
” رغد يا عزيزتي … لا تأخذي الأمر بهذه الحساسية ! إنه لا يقصد شيئا … لكنه الحياء ! “
انفجرت و تفوهت بجمل لم أفكر فيها إلا بعد خروجها ، من شدة تأثري …
قلت :
” إذا كان وجودي في هذا البيت يزعجه فأنا سأرحل إلى بيت خالتي … ليأخذ حريته التامة في التجول حيثما يريد “
أمي صدمت بما قلت ، و حملقت بي باندهاش …
” رغد ! كيف تقولين ذلك ؟؟ “
” إنه يتعمد تجاهلي و تحاشي ّ … كأنني فتاة غريبة و موبوءة … أ لهذا الحد لم يعد يطيقني ؟ ألم أعد أعني له شيئا ؟؟ ألم يكن يعني لي كل شيء في الماضي ؟؟ “
و سكت ّ ُ ، التقط بعض الأنفاس و أمسح الدموع بكومة من المناديل متكدسة في يدي … كنت أبكي بانفعال …
والدتي قالت فجأة :
” و الآن ؟؟ “
نقلت بصري من كومة المناديل المبللة في يدي ، إلى عيني أمي و نظراتها المقلقة …
و الآن ؟؟
أعتقد أن أمي كانت تلمح إلى شيء ، لم تجرؤ على التصريح به … و إن قرأت بعض معالمه في عينيها …
إنها نفس النظرة التي رمقتني بها تلك الليلة ، ليلة رحيل وليد السابق ، قبل أذان الفجر …
و خفت … من الحقيقة التي لا أريد أن أكتشفها أو يكتشفها أي كان … حقيقة الشعور بالحرارة التي تتأجج داخلي كلما كان وليد على مقربة ..
في ذات اليوم ، أصررت على الذهاب إلى بيت خالتي و تناول الغذاء مع عائلتها
كنت أريد أن أبتعد مسافة تسمح لي بالهدوء ، فنبضاتي لا يمكن أن تهدأ و وليد في مكان قريب …
هناك فوجئت بأمر آخر !
خالتي انفردت بي لبعض الوقت في إحدى الغرف و بدون أية مقدمات سألتني :
” هل صحيح أنك … أنك لا ترغبين في الزواج من ابن عمك سامر ؟؟ “
دهشت و هالني ما سمعت … قلت بذهول :
” أنا ؟ من … قال ذلك ؟؟ “
خالتي كانت تحدثني بجدية و قلق واضحين …
قالت :
” لقد سمعَتْك سارة تخبرين نهلة بهذا ذات مرة … و ذكرت الأمر على مسمع مني و من حسام … و من حينها و هو و أنا معه في جنون ! “
لم أع ِ الأمر بالسرعة المفروضة ، بل بقيت أحملق بدهشة و بلاهة في عيني خالتي … و ربما هي فسرت صمتي موافقة على ما تقول …
” رغد … أخبريني بكل شيء … فإن لم تكوني ترغبين في الزواج من ذلك المشوه فثقي بأنني لن أسمح لهذا الزواج بأن يتم أبدا “
فيما بعد ، كنت أجلس مع نهلة في غرفتها دون وجود سارة ـ لوحدنا أخيرا !
قلت :
” و تقولين أنها لا تعي شيئا ؟ إنها أخطر مما ظننت ! يا لجرأتها … كيف تخبر خالتي و حسام بأمر كهذا !؟ هل أنا قلت ذلك ؟؟ “
نهلة تنهدت و قالت :
” هذا ما ترجمه دماغها الصغير ! لقد قلت أنك لا تريدين الزواج الآن ! أخضعتني أمي لاستجواب مكثف ، و أخي حقق معي مطولا بسبب هذا الأمر ! “
” يا إلهي ! “
ابتسمت نهلة ابتسامة سخرية ماكرة ، ثم وقفت فجأة و نفخت صدرها هواء ً ، و رفعت كتفيها عاليا ، و قطبت حاجبيها و عبست بشكل غريب مرعب و قالت بنبرة خشنة ـ تقلد حسام :
” أمي يجب أن تتأكدي من الأمر لأنني إن اكتشفت أنهم أرغموها على هذا الزواج أو استقلوا كونها يتيمة و صغيرة و ضعيفة ، فأقسم بأنني سأشوه النصف الآخر من وجه ذلك اللئيم الماكر “
قفزت أنا واقفة بغضب …
” نهلة ! “
ألا أنها تابعت تمثيل المشهد :
” قلت لك يا أمي … تدخلي و امنعي هذا الارتباط منذ البداية … أترين أن فتاة في الرابعة عشر هي مدركة بالقدر الكافي لتحديد مصيرها في أمر كهذا ؟؟ كيف تجرءوا على فعل هذا كيف ؟؟ كيف ؟؟ ويل لذاك المشوه مني “
” يكفي نهلة … “
قلت ُ بعصبية ، فعادت نهلة إلى شخصيتها الطبيعية ، و قالت :
” هذا ما كان يحصل كل يوم ! تعرفين أن حسام يبغض خطيبك من ذلك الحين ! “
قلت :
” لا أقبل أن ينعته أحد بالمشوه … و تشوه وجهه ليس شيئا يستحق أن يعير عليه”
نهلة جلست على السرير ، و قالت :
” ليس بسبب التشوه هو ناقم منه ! تعرفين ! إنه بسببك أنت ! لازال مولعا بك ! “
انزعجت من هذا … فقد كنت أظن أن الأمر قد انتهى … لكن …
” أرجوك نهلة لنغير الموضوع … لقد أكدتُ لوالدتك أن سارة فهمت خطأ … و إن بدا عليها عدم الاقتناع … لكن لندع الأمر ينتهي الآن … “
و أتيت و جلست قربها … ثم اضطجعتُ مسترخية على السرير …
” إذن … ماذا قررت ؟ مع دانة أم بعدها ؟؟ “
تنهدت بانزعاج من الموضوع برمته … قلت :
” لم أقرر يا نهلة … لماذا يطاردني الجميع بهذا السؤال ؟؟ “
نهلة أمسكت بيدي اليمنى و أخذت تحرك خاتم الخطوبة حول إصبعي البنصر و تقول :
” لأن هذا الخاتم سئم البقاء حول هذا الإصبع ! إنها أربع سنوات يا رغد ! “
قلت :
” لكنني لا أزال صغيرة ! ألا ترين ذلك ؟؟ أريد أن أتخرج من الجامعة أولا.. و أريد أن … تتغير علاقتي بسامر فأنا لا أشعر بشيء مميز تجاهه “
كنت أنظر إلى السقف ، و لكن رأس ابنة خالتي ظهر أمامي فجأة … و أجبرني على النظر إلى عينيها …
قالت :
” تقصدين لا تحبينه … “
و كان تقريرا إجباريا لا سؤالا …
التفت يمينا فأمسكت هي بوجهي و أعادته حيث كان و أجبرتني على النظر إلى عينيها الناطقتين بالحق …
استسلمت … و غضضت بصري … أتحاشى تلك النظرة الثاقبة الفاهمة …
نهلة هي أكثر شخص يفهمني و أبوح إليه بأسراري و كل ما يختلج مشاعري …
نهلة مسحت على رأسي بعطف و قالت :
” رغد … لا تتزوجيه إذا لم تكوني ترغبين في ذلك … إنه كالأخ بالنسبة إليك ! أبقيه أخا فأنت بحاجة إليه كأخ لا كزوج ! “
” نهلة ! … “
و ضربت أنفي بإصبعها ضربة خفيفة و هي تقول :
” أليس كذلك ؟؟ “
عدت أحدق بها … في حيرة من أمري …
قلت :
” من أتزوج إذن ؟؟ “
هي ابتسمت و قالت بمكر :
” أخي حسام ! “
رفعت رأسي و صدمت جبينها بجبيني عمدا ثم جلست و أخذت هي تمثل دور المتألمة !
” آه … رأسي ! كسر في الجمجمة ! انجدوني ! “
قلت بنفاذ صبر :
” قلت لك ِ ! لا تتوبين !”
قالت و قد بدت عليها الجدية الآن :
” صدقيني يا رغد … إنه مهووس بك ! “
قلت :
” و الآخر كذلك ! لم تظنينه يلح علي بالزواج ؟ إما أن نتزوج أو يفتش عن وظيفة أخرى تبقيه قربي ! “
قالت ، تنظر إلي بعين شبه مغمضة و حاجبيها مرفوعين أقصاهما :
” من مثلك ! عاشقان في وقت واحد ! يا للحظ ! كم أنا مسكينة ! “
” قلت لك لا تتوبين ! أوه نهلة ! لسوف أطلب من خالتي التفتيش عن عريس لك حتى أتخلص منك كما تخلصت من دانة ! “
ضحكت نهلة و قالت :
” سأتزوج من شقيق زوجك حتى آتي للعيش معك ! لن تتخلصي مني ! “
الجملة أثارتني كثيرا … غضبت و قلت بانفعال لا يتناسب و دعابتها العفوية :
” قلت لك دعي وليد و شأنه … لا تأتي بذكر هذا ثانية أ فهمت ِ ؟؟ “
نهلة ابتلعت ضحكتها و نظرت إلي بشيء من التعجب و الحيرة …
” ما الأمر رغد ! كنت أمزح … لم انفعلت هكذا ؟؟ “
خجلت من نفسي فأنا لا أعرف لم انفعلت بهذا الشكل بينما هي تمزح ليس إلا …
بل ، و حتى لو كان كلامها غير مزاح … لم علي الانفعال هكذا ؟؟
اعتقد أن وجهي تورد … فنظرات نهلة توحي بأنها تلحظ شيئا غريبا على وجهي …
التفت نحو اليسار أخفي شيئا مما قد يكون ظاهرا على وجهي دون أن أملك القدرة على مواراته لكن توتري كان أوضح و أفصح من أن يغيب عن ذهن نهلة … التي تعرفني عز المعرفة …
” رغد … ماذا دهاك ؟؟ “
” أنا ؟ لا شيء … لا شيء “
و الآن استدرت كليا ، و أوليتها ظهري … بل و سرت نحو المجلة الموضوعة على المنضدة قرب سرير نهلة … متظاهرة بالبرود …
قالت تحاصرني :
” وليد غائب الآن ؟؟ “
قلت :
” لا … عاد إلينا منذ يوم أمس الأول … “
و أمسكت بالمجلة ، و جلست على السرير ، و أخذت أقلب صفحاتها و ألْهي نفسي بالتفرج على الأزياء و المساحيق و العطور … و حتى الأخبار السياسية و الرياضية … و صور اللاعبين !
” أوف ! “
أغلقت المجلة بسرعة ، بعد أن وقعت عيناي على صورة نوّار يبتسم !
يا إلهي ! كم أنفر من هذا الشخص ! رغم أنه محبوب من قبل الكثيرين و الكثيرات !
” ماذا دهاك ؟؟ “
” إنه ذلك المغرور ! من أمنيات حياتي … أن أتصفح مجلة ذات يوم ثم لا أجد صورة له فيها ! يا له من شخص بغيض ! أتساءل ما الذي يجذب هؤلاء البشر إليه ؟؟ دانة المسكينة ! “
” و لم مسكينة ..؟ ألست تقولين أنها تحبه ؟؟ “
” كثيرا ! إنه سيعود الليلة من رحلته و ستقيم الدنيا و تقعدها من أجله ! لابد أنها الآن تعد أطباق العشاء و الكعك من أجله ! الحمد لله إنني لست معها في المطبخ هذه الساعة ! “
و ضحكنا بمرح …
ثم قالت :
” و خطيبك سيرحل اليوم ؟ “
” إذا … ألا يجدر بك أن تكوني معه الآن ؟؟ “
وقفت … و سرت في الغرفة بضع خطوات حائرة … فقد خرجت من منزلي منذ الصباح ، و هاهي الساعة تتجاوز الثالثة ظهرا … و لابد أن سامر ينتظر عودتي الآن …
قلت :
” إنه مع وليد … الكل محتفٍ بعودته و مشغول به ! من سيذكرني هذه اللحظة ؟؟ “
قالت :
” هل سيرحل وليد عاجلا ؟ “
” لا .. على ما أظن و أتمنى “
” تتمنين ؟؟ “
وقعت ُ في شركي ! قلت محاولة التصحيح و التعديل :
” أقصد نتمنى جميعا … فلا أحد يود رحيله و والداي سيحزنان كثيرا جدا كالمرة السابقة و التي سبقتها إن رحل … أتمنى أن يستقر هنا و يريح الجميع “
ربما كان الحمرة تعلو وجهي هذه المرة أيضا …
و الآن … إي شيء أشغل يدي به تغطية على اضطرابي هذا ؟ ألا يوجد في الغرفة مجلة أخرى …؟؟
وقع بصري على مجموعة زجاجات العطر أمام مرآة الغرفة ، فذهبت أليها أشمها واحدة تلو الأخرى …
أقبلت نهلة و وقفت إلى جانبي …
قالت :
” ربما لديه ارتباطات هامة هناك ! عمل … منزل … عائلة … زوجة ! “
استدرت إليها و قد اكفهر وجهي … و قلت بسرعة :
” إنه غير متزوج “
” أحقا ؟؟ “
كانت نظراتها تشكيكية مخيفة ! قلت :
” طبعا ! و هل تظنين أنه سيتزوج دون إبلاغنا ! مستحيل ! ما يبقيه هناك هو العمل … ليته يجد فرصة للعمل هنا و يستقر معنا … “
قالت :
” لتضمنوا عدم رحيله … زوجوه ! “
و أضافت و هي تبتسم بمكر :
” أنتم الثلاثة في ليلة واحدة ! و نتخلص منكم ! “
رفعتُ إحدى زجاجات العطر أمام وجهها بغتة و تأهبتُ لرش العطرعلى عينيها !
” أوه لا لا رغد كنت أمزح ! “
و فرّت و صرت أطاردها حتى جلسنا على السرير نضحك بشدة !
بعد قليل … قلت :
” علي العودة للبيت ! سامر ينتظر اتصالي ! “
و قمت ، متوجهة إلى الهاتف الموضوع على مكتب نهلة …
و اتصلت بالمنزل … و إذا بالدماء تتصاعد من جديد و بغزارة إلى وجهي … و نهلة تقترب مني و تراقبني …
” وليد ؟ إنها أنا “
” ( مرحبا … رغد ) “
” إمم .. أود التحدث إلى سامر “
” ( سامر … أظنه يستحم الآن ! هل تريدين شيئا ؟ ) “
” أأأ … أريد أن يأتي إلي ّ … هل لا أبلغته بأنني أنتظره ؟ “
” ( حسنا ) “
” شكرا “
و أغلقت السماعة بصعوبة … فقد كانت يدي ترتجف !
و بدأت أتنفس بعمق و أشعر بالحر … و أيضا … أتصبب عرقا !
نهلة وقفت أمامي مباشرة تشاهد الاضطراب الذي اعتراني فجأة … بحيرة و فضول
” رغد … “
” نعم ؟؟ “
” لماذا تنفعلين كلما جيء بذكر وليد !؟ “
” أنا ؟؟ من قال ذلك !؟ “
و مدت نهلة يدها و تحسست جبيني براحتها …
” إنك تغلين ! وجهك أحمر ناضج و جبينك مبلل بالعرق ! “
أربكتني كثيرا كلمات نهلة … و حاولت التملص من نظراتها لكنها حاصرتني …
ابتعدت عنها و ذهبت إلى حيث أضع عباءتي لأرتديها استعدادا للمغادرة !
” و لكن خطيبك لم يحضر بعد ! “
” سأستعد … “
كنت أريد أن أنشغل بشيء بعيدا عن نظرات نهلة التي تخترق أعماقي …
كنت أضبط حجابي مولية إياها ظهري …
قالت :
” خطيبك شاب جيد يستحق فتاة رائعة مثلك ! “
تابعت ترتيب حجابي دون أن أعير جملتها هذه اهتماما …
قالت :
” و أخي شاب جيد و يستحق فتاة رائعة مثلك ! “
و لم ألتفت إليها ! حتى لا أدع لها مجالا لفتح الموضوع مجددا !
” و وليد شاب جيد و يستحق فتاة رائعة مثلي ! “
استدرت فجأة نحو نهلة … باضطراب و توتر و انزعاج جلي شديد ! …
اصطدمت نظراتنا الحادة العميقة … و بقينا لبضع ثوان نحملق في بعضنا البعض …
نهلة أوقعت بي …
إنها خبيثة !
كنظراتها التي ترشقني بها الآن …
أتت نحوي … و رفعت يدها و أمسكت بعباءتي و سحبتها …
” رغد يا ابنة خالتي العزيزة … لن تخرجي من هنا حتى أعرف ما حكايتك مع وليد ! “
بعد عشر دقائق كنت أجلس في السيارة إلى جانب سامر …
” هل تحبين أن نتجول قليلا قبل العودة ؟؟ “
” كما تشاء “
قضينا قرابة الساعة نجول في شوارع المدينة … و نتبادل الأحاديث …
سامر … و الذي لم يجد الفرصة السانحة قبل الآن لفتح الموضوع ، سرعان ما تطرق إليه …
” الوقت يمضي يا رغد … لقد بدأت أضيق ذرعا بالوحدة هناك … لا أريد أن أخسر وظيفة ممتازة كهذه ، لكنني لا أريد أن أبقى بعيدا أطول من ذلك … “
حرت و لم أجد تعقيبا ملائما … و ربما صمتي أحبط سامر … ففقد حماسه للمتابعة بعد بضع جمل …
حينما وصلنا إلى المنزل ، وجدنا والدي ّ و وليد يجلسون في الفناء الخارجي ، حول الطاولة الصغيرة القريبة من الشجرة الطويلة ، بجانب الباب الداخلي …
كان الجو جميلا … و العصافير تغرد بحماس على أغصان الشجرة … و الدخان يتصاعد من أقداح الشاي الموزعة على الطاولة …
سامر كان يمسك بيدي ، ثم أطلقها و سار نحوهم بسرعة …
” شاي أم وليد ! أين نصيبي ؟؟ “
و انضم إليهم …
ألقيت نظرة على وليد فرأيته ينظر نحوي و لكن سرعان ما بدد نظراته نحو الفراغ … لم يكن يريد النظر إلي …
علي أن أنصرف قبل أن ينهض مغادرا ظانا بأنني سأنضم إليهم …
توجهت نحو الباب و دخلت إلى الداخل …
كنت بالفعل أتمنى أن أشاركهم ! و لكن لو فعلت … فبالتأكيد سيغادر وليد …
ما أن دخلت حتى وصلتني رائحة الكعك الشهية ! و سرت إلى المطبخ !
” دانه ! رائحة كعكتك زكية جدا ! دعيني أتذوقها ! “
” عدت ِ أخيرا ! لا يا عزيزتي ! هذه لنوّار و نوّار فقط ! “
” و هل سيأكل الكعكة كاملة ! مسكين ! كيف سيلعب إذا انفجرت معدته ؟ “
نظرت إلي ّ بانزعاج و صرخت :
ضحكت و خرجت ، متوجهة إلى غرفتي حيث وضعت حقيبتي و عباءتي ، و وقفت أمام المرآة أتأمل وجهي …
لم يكن الإفلات من محاصرة نهلة سهلا … أي حكاية لي مع وليد ؟؟؟ ما أكثر الحكايات !
أريد أن أنضم إليهم !
على الأقل … سأراقبهم من النافذة !
و بسرعة خرجت من غرفتي قاصدة الذهاب إلى النافذة المشرفة على الفناء الأمامي … حيث هم يجلسون …
من تتوقعون صادفت في طريقي ؟؟
نعم وليد !
دخل للتو … و حينما رآني توقف برهة … ثم سار مغيرا طريقه …
ربما كان يود القدوم من ناحيتي إلا أنه غير مساره و انعطف ناحية المطبخ …
أ لهذا الحد لا يريد أن يراني أو حتى يمر من ممر أقف أنا فيه ؟؟
” وليد “
ناديته بألم … إذ أن تصرفه هذا جرحني …
لم يلتف إلي ، و رد ببرود :
” نعم ؟ “
تحشرج صوتي في حنجرتي … و بصعوبة نطقت ، فجاء صوتي خفيفا ضعيفا لم أتوقع أنه سمعه … لكنه سمعه !
” أريد أن أتحدث إليك “
” خيرا ؟ “
كل هذا و هو مدير ظهره إلي … أمر ضايقني كثيرا …
استدار وليد بتردد ، و نظر إلى عيني نظرة سريعة ثم طارت أنظاره بعيدا عني …
كم آلمني ذلك …
قلت :
” لماذا لا تود التحدث معي ؟؟ “
بدا مضطربا ثم قال :
” تفضلي … قولي ما عندك “
و تنهد بضيق …
قلت بمرارة :
” إذا كنت لا تود الاستماع إلي … و لم يعد يهمك أمري … فلا داعي لقول شيء “
وليد التزم الصمت …
ثم و بعد أن طال الصمت بنا ، استدار راغبا في الانصراف …
أنا جن جنوني من إهماله لي بهذا الشكل … و أسرعت نحوه و قبضت على يده و قلت بحدة و مرارة :
” انتظر … “
وليد سحب يده و استدار نحوي بغضب … و رأيت النار تشتعل في عينيه … كان مرعبا جدا …
الدموع تغلبت علي الجفون … و تحررت من قيودها و شقت طريقها بإصرار و شموخ على الخدين …
وليد توتّر … و تلفت يمنة و يسرة … ثم قال :
” لماذا تبكين الآن ؟؟ “
قلت بعدما أغمضت عيني أعصر دموعها … ثم فتحتهما :
” لماذا لم تعد تهتم بي ؟ لماذا تتحاشاني ؟ لماذا تعاملني بهذه الطريقة القاسية و كأنني لا أعني لك شيئا ؟؟ “
الرعب … و الذعر و الهلع … أمور أثارتها نظراته الحادة المخيفة التي رماني بها بقسوة … قبل أن يضربني بكلماته التالية :
” يا ابنة عمي … لقد كبرت ِ و لم تعودي الطفلة المدللة التي كنتُ أرعاها … أنت ِ الآن امرأة بالغة … و على وشك الزواج … لدي حدود معك ِ لا يجوز تخطيها … و لديك سامر … ليهتم بأمرك من الآن فصاعدا “
و تركني … و سار مبتعدا إلى الناحية التي كان يريد سلكها قبل ظهوري أمامه …
اختفى وليد … و اختفت معه آمال واهية كانت تراودني … وليد الذي تركني قبل تسع سنين ، لم يعد حتى الآن ..
مسحت بقايا دموعي و آثارها … و خرجت إلى حيث كان والدي ّ و سامر يجلسون حول الطاولة …
أقبلت نحوهم فوقف سامر مبتسما يزيح الكرسي المجاور له إلى الوراء ليفسح المجال لي للجلوس …
سامر … كان دائما يعاملني بلطف و اهتمام بالغ ، و يسعى لإرضائي و إسعادي بشتى الوسائل …
اقتربت من سامر و نقلت بصري منه ، و إلى والديّ ، ثم إلى أكواب الشاي و الدخان الصاعد من بعضها … ثم إلى الخاتم المطوق لإصبعي منذ سنين … ثم إلى عيني سامر اللتين تراقباني بمحبة و اهتمام … ثم قلت :
” سامر … لقد اقتنعت … سنحتفل مع دانه “
ـــــــــــــــــــــــــــ
يتبع …