الحلقة السادسة عشر من الرواية—— انت لي—–
كنت أود الرحيل عنهم في أقرب فرصة ، لكنني اضطررت كارها للبقاء بإلحاح من أبي و أمي
سامر غادر يوم الجمعة ، و قد ودعته وداعا باردا … و غادرت أنا صباح الثلاثاء التالي باكرا .
خلال تلك الأيام الخمسة …
كنت أتحاشى الالتقاء برغد قدر الإمكان و لا أنظر أو أتحدث إليها إلا للضرورة
و هي الأخرى ، كانت تلازم غرفتها معظم الوقت و تتحاشى الحديث معي ، خصوصا بعد أن قلت لها :
” هل تسرقين ؟ “
اعترف بأنني كنت فظا جدا ألا أنني لم أجد طريقة أفضل لأعبر بها عن غضبي الشديد و مرارتي لفقدها
في آخر الأيام ، طلبت مني والدتي اصطحاب رغد إلى المكتبة لتشتري بعض حاجياتها .
لم أكن لأفعل ذلك ، غير أنني شعرت بالحرج … إذ أن والدي كان قد عاد قبل قليل من العمل و يسترخي … فيما أنا أنعم بالراحة و الكسل ، دون مقابل …
و ربما كان ذلك ، نوعا من الإعتذار …
في ذلك اليوم كان نوار في زيارة مطولة لشقيقتي ، و مدعو للعشاء معها !
ذهبنا أنا و رغد إلى تلك المكتبة العظمى المترامية الأطراف …
رغد توجهت إلى الزاوية الخاصة ببيع أدوات الرسم و التلوين و خلافها … و بدأت تتفرج و تختار ما تريد …
و على فكرة ، علمت أنها رسامة ماهرة …
لكم كانت تعشق التلوين منذ الصغر !
أخذت أتفرج معها على حاجيات الرسم و التلوين … ثم انعطفت في طريقي ، مواصلا التفرج … و لم يعد باستطاعتي رؤية رغد أو باستطاعتها رؤيتي
شغلت بمشاهدة بعض الرسوم المعلقة أعلى الحائط و ما هي إلا ثوان حتى رأيت رغد تقف بجواري !
قلت :
” رسوم جميلة ! “
” نعم . سأشتري الألوان من هناك “
و أشارت إلى الناحية الأخرى التي قدمنا منها … فعدت معها …
انهمكت هي باختيار الألوان و غيرها ، فسرت أتجول و أتفرج على ما حولي حتى بلغت زاوية أخرى فانعطفت …
مضت
ثوان معدودة ، و إذا بي أسمع صوت رغد يناديني مجددا …
استدرت للخلف فرأيتها تقف قربي !
و بيني و بينها مسافة بضع خطوات
تخيلت أنها تريد قول شيء ، فسألتها :
” هل انتهيت ؟؟ “
قالت :
” لا “
تعجبت !
قلت :
” إذن ؟؟ “
قالت :
” لا تبتعد عني “
يا لهذه الفتاة !
قلت :
” حسنا ! “
و مضيت ُ معها إلى حيث كانت أغراضها موضوعة على أحد الأرفف
رأيتها تأخذ أغراضا أخرى كثيرة ، فتلفت من حولي بحثا عن سلة تسوق ، و لم أجد . ذهبت لأبحث عن سلة فإذا بي أسمعها تناديني :
” وليد “
قلت :
” سأحضر سلة لحمل الأغراض “
فإذا بها تترك ما بيدها و تأتي معي !
عدنا مجددا للأغراض ، و تابعت هي اختيار ما تشاء، و تجولت أنا حتى بلغت ناحية الكتب …
الكثير من الكتب أمام عيني !
يا له من بحر كبير ! كم أنا مشتاق للغطس في أعماقه !
لم أكن قد قرأت ُ كتابا منذ مدة طويلة … أخذت أتفرج عليها و أتصفح بعضها … و انتقل من رف إلى آخر ، و من مجموعة إلى أخرى … حتى غرقت في البحر حقا !
كانت أرفف الكتب مصفوفة على شكل عدة حواجز تقسم المنطقة …
و الكثير من الناس ينتشرون في المكان و يتفرجون هنا أو هناك …
دقائق ، و إذا بي أسمع صوت رغد من مكان ما !
كان صوتها يبدو مرتبكا أو قلقا … لم أكن في موقع يسمح لي برؤيتها … فسرت بين الحواجز بحثا عنها و أنا أقول :
” أنا هنا “
و لم أسمع لها صوتا !
أخذت ُ ألقي نظرة بين الحواجز بحثا عنها
ثم وجدتها بين حاجزين …
حينما رأتني رغد أقبلت نحوي مسرعة تاركة السلة التي كانت تحملها تقع على الأرض و حين صارت أمامي مباشرة فوجئت بها تمسك بذراعي و ترتجف !
كانت فزعة !!
وقفت أمامي ترتعش كعصفور مذعور !
نظرت إليها بذهول … قلت :
” ما بك ؟؟ “
قالت و هي بالكاد تلتقط بعض أنفاسها :
” أين ذهبت ؟ “
أجبت :
” أنا هنا أتفرج على الكتب ! … ما بك ؟؟ “
رغد ضغطت على ذراعي بقوة … و قالت بفزع :
” لا تتركني وحدي “
نظرت ُ إليها بشيء من الخوف ، و القلق … و الحيرة …
فقالت :
” لا تدعني وحدي … أنا أخاف “
لكم أن تتصوروا الذهول الذي علاني لدى سماعي لها تقول ذلك … و رؤيتها ترتجف أمام عيني بذعر …
لقد ذكرني هذا الموقف ، باليوم المشؤوم …
قلت :
” أ أنت ِ … بخير ؟؟ “
فعادت تقول :
” لا تتركني وحدي … أرجوك … “
لم يبدُ لي هذا تصرفا طبيعيا … توترتُ خوفا و قلقا … و تأملتها بحيرة …
سرنا باتجاه السلة ، فأردت سحب ذراعي من بين يديها لحمل السلة و إعادة المحتويات إلى داخلها … لكنها لم تطلقها بسهولة …
و عوضا عن ذلك تشبثت بي أكثر ثم بدأت بالبكاء …
لم يكن موقفا عاديا ، لذا فإن أول شيء سألت أمي عنه بعد عودتنا للبيت :
” ما الذي جعل رغد تفزع عندما تركتها في المكتبة و ابتعدت قليلا ؟؟ “
أمي نظرت إلي باهتمام … ثم قالت :
” ماذا حدث ؟؟ “
” لا شيء … ذهبت ألقي نظرة على الكتب و بعد دقائق وجدتها ترتجف ذعرا ! “
عبس وجه والدتي ، و قالت :
” و لماذا تتركها يا وليد ؟ قلت لك … انتبه لها “
أثار كلام أمي جنوني ، فقلت :
” أمي … ماذا هناك ؟؟ ما لأمر ؟؟ “
قالت أمي بمرارة :
” لديها رهبة مرضية من الغرباء … تموت ذعرا إذا لم تجد أحدنا إلى جانبها … إنها مريضة بذلك منذ سنين … منذ رحيلك يا وليد ! “
لقد صدمت بالنبأ صدمة هزت كياني و وجداني …
أخبرتني أمي بتفاصيل حدثت للصغيرة بعد غيابي … و الحالة المرضية التي لازمتها فترة طويلة و الذعر الذي ينتابها كلما وجدت نفسها بين غرباء …
لم يكن صعبا علي أن أربط بين الحادث المشؤوم و حالتها هذه
و كم تمنيت …
كم تمنيت …
لو أن عمّار يعود للحياة … فأقتله … ثم أقتله و أقتله ألف مرة …
إنه يستحق أكثر من مجرد أن يقتل ….
قالت أمي :
” و عندما توالت الهجمات على المنطقة ، اشتد عليها الذعر و المرض … و وجدنا أنفسنا مضطرين للرحيل مع من رحل عن المدينة … لم يكن الرحيل سهلا ، لكن العودة كانت أصعب … قضيت معها فترات متفرقة في المستشفى … لم تكن تفارقني لحظة واحدة ! بمشقة قصوى ذهب والدك و شقيقك لزيارتك في العاصمة ، تاركين الطفلة المريضة و أختها في رعايتي في المستشفى ، إلا أنهما منعا من الزيارة و أبلغا أن الزيارة محظورة تماما على جميع المساجين ! “
و أمي تتحدث و أنا رأسي يدور … و يدور و يدور … حتى لف المجرة بأكملها
تساؤلات كان تملأ رأسي منذ سنين ، و جدت إجابة صاعقة عليها دفعة واحدة …
أسندت رأسي إلى يدي …
رأتني أمي أفعل ذلك فقالت :
” بني … أ أنت بخير ؟؟ “
رفعت يدي عن رأسي و قلت :
” و لماذا … لماذا زوجتموها لسامر و هي بذلك السن المبكر جدا ؟؟ “
قالت :
” لمن كنت تظننا سنسلم ابنتنا ؟؟ إنها تموت ذعرا لو ابتعدت عنا … هل تتصور أنها تستطيع الخروج من هذا المنزل ؟؟ لا تخرج في مكان عام إلا بوجود أبيك أو سامر … كانت ستتزوجه إن عاجلا أم آجلا … فرفعنا الحرج عنهما لبقائهما في بيت واحد “رواية انت لي الحلقة السادسة عشر
قلت :
” لكن يا أمي … إنها … إنها …. “
و لم تخرج الكلمة المعنية …
أتممت :
” إنها صغيرة جدا … ما كان يجب أن تقرروا شيئا كهذا … “
و تابعت :
” كان يجب … كان يجب … إن … “
و لم أتم …
ماذا عساي أن أقول … ؟؟ لقد فات الأوان و انتهى كل شيء …
لكن الأمور بدت أكثر وضوحا أمامي …
هممت بالذهاب إلى غرفة سامر التي أستغلها ، من أجل تنفس الصعداء وحيدا …
توقفت قبل مغادرتي لغرفة المعيشة حيث كنا أنا و أمي …
التفت إليها و قلت :
” أ لهذا لم تخبروها بأنني دخلت السجن ؟؟؟ هل أخبرتموها أنني … لن أعود ؟؟ “
والدتي قالت :
“أخبرناها بأنك قد تعود … و لكن … بعد عشرين عاما … و قد لا تعود … “
كانت أمي تبكي …
بينما قلبي أنا ينزف …
قلت :
” و لكنني عدت … “
والدتي مسحت دموعها وابتسمت ، ثم تلاشت الابتسامة عن وجهها … و نظرت إلي باهتمام و قلق …
قلت :
” و يجب أن أرحل “
و تابعت طريقي إلى غرفة سامر …
فضول لم استطع مقاومته ، و قلق شديد بشأنها دفعني للاقتراب من غرفة رغد المغلقة … و من ثم الطرق الخفيف …
” أنا وليد “
بعد قليل … فتح الباب …
كنت أقف عن بعد … أطلت رغد من الداخل و نظرت إلي
رأيت جفونها الأربعة متورمة و محمرة أثر الدموع
قلت :
ما إن قلت ذلك … حتى رفعت رغد يديها و غطت وجهها و أجهشت بكاءا
زلزلني هذا المشهد … كنت أسمع صوت بكائها يذبذب خلايا قلبي قبل طبلتي أذني ّ
قلت بعطف :
” رغد … “
رغد استدارت للخلف و أسرعت نحو سريرها تبكي بألم …
بقيت واقفا عند الباب لا أقوى على شيء … لا على التقدم خطوة ، و لا على الانسحاب …
” رغد يا صغيرتي … “
لم تتحرك رغد بل بقيت مخفية وجهها في وسادتها تبكي بمرارة … و يبكي قلبي معها …
” رغد … أرجوك كفى … “
ثم قلت :
” توقفي أرجوك … لا احتمل رؤية دموعك ! “
و لم تتحرك رغد …
تقدمت خطوة واحدة مترددة نحو الداخل … و نظرت إلى ما حولي بقلق و تردد …
المرآة كانت على يميني ، و حين تقدمت خطوة رأيت صورتي عليها … و حين التفت يسارا … رأيت صورتي أيضا !
فوجئت و تعلقت عيناي عند تلك الصورة !
لقد كانت رسمة لي أنا على لوحة ورقية ، لم تكتمل ألوانها بعد !
نقلت بصري بين رغد الجالسة على السرير تغمر وجهها في الوسادة ، و صورتي على الورقة !
كيف استطاعت رسمي بهذه الدقة !؟ و بمظهري الحالي … فأنفي محفور كما هو الآن !
كيف حصلت على صورة لي لترسمها ، أم أنها رسمتها من خلال المرات القليلة العابرة التي نظرت فيها إلي … !؟
” يشبهني كثيرا ! أنت بارعة ! “
ما إن أنهيت جملتي حتى قفزت رغد بسرعة ، و عمدت إلى اللوحة فغطتها بورقة بيضاء بسرعة و ارتباك !
ثم بعثرت أنظارها في أشياء كثيرة … بعيدا عني … و أخذت تفتح علب الألوان الجديدة التي اشترتها من المكتبة باضطراب …
رجعت للوراء … لم أكن أملك فكرة لما علي فعله الآن ! ماذا علي أن أفعل ؟؟
أظن … أن علي الخروج حالا
الجملة التي ولدت على لساني هذه اللحظة كانت :
” أحب أن أتفرج على رسوماتك ! “
و لكن أهذا وقته !
رجعت خطوة أخرى للوراء و أضفت :
” لاحقا طبعا … إذا سمحت ِ “
رغد توجهت نحو مكتبتها و أخرجت كراسة رسم كبيرة ، و أقبلت نحوي و مدتها إلي …
في هذه اللحظة التقت نظراتنا
كان بريق الدموع لا يزال يتلألأ في عينيها الحمراوين ، ينذر بشلال جارف …
أخذت الكراسة ….
و قلت و قلبي يتمزق :
” لا تبكي أرجوك … “
لكن الدمعة فاضت … و انسكبت … و انجرفت … تقود خلفها جيشا من الدموع المتمردة …
” رغد … سألتك ِ بالله كفى … أرجوك … “
” لا أستطيع أن أتغلب على ذلك … كلهم مرعبون … مخيفون … أشرار … يريدون اختطافي “
و انفجرت رغد في بكاء مخيف … هستيري … قوي … و ارتجفت أطرافي ذعرا و غضبا و قهرا كدت أصرخ بسببه صرخة تدوي السماء …
أراها أمامي كما رأيتها ذلك اليوم المشؤوم … و أضغط على الكراسة في يدي و أكاد أمزقها …
تمنيت لو أستطيع تطويقها بين ذراعي بقوة … كما فعلت يومها … لكنني عجزت عن ذلك
تمنيت لو …
لو أخرج جثة عمار من تحت سابع أرض … و أقتله ، ثم أمزقه قطعة قطعة … خلية خلية … ذرة ذرة …
لو يعود الزمن للوراء … لكنت قتلته في عراكي معه آخر مرة … و لم أدع له الفرصة ليعيش و يؤذيك …
إنني كنت ُ السبب …
نعم أنا السبب …
و قد انتقم مني أبشع انتقام …
و أي انتقام ؟؟
ثمن بقيت أدفعه منذ ذلك اليوم ، و حتى آخر لحظة في حياتي البائسة …
ما ذنب صغيرتي في كل هذا …؟
خسئت أيها الوغد …
هنا أقبلت أمي التي يبدو أنها سمعت بكاء رغد … و وقفت إلى جانبي لحظة تنقل نظرها بيني و بين رغد ، ثم تقدمت إلى رغد
” عزيزتي ؟؟ “
رغد ارتمت بقوة في حضن والدتي … و هي تبكي بألم صارخ … و تقول بين دموعها :
” لا تتركوني وحدي … لا تتركوني وحدي … “
أمي طوقت رغد بحنان و أخذت تربت عليها بعطف و تهدئها …
ثم نظرت إلى باستياء و قالت :
” لماذا يا وليد ؟؟ “
في غرفة سامر ، أجلس على السرير ، أقلب صفحات كراسة رغد …
الكثير من الرسومات الجميلة …لأشياء كثيرة … ليس من بينهم صورة لأحد أفراد العائلة غير دانة !
صورة لها و هي صغيرة و غاضبة !
و العديد من صور أشياء خيالية … و أشباح !
لا أعرف ما الذي تقصده بها …
كانت ساعتان قد انقضتا مذ خرجت من غرفتها تاركا إياها تهدأ في حضن والدتي
الآن أسمع طرقا على الباب
” تفضل “
و دخلت والدتي
” وليد … العشاء جاهز “
تركت الكراسة على السرير و خرجت مع أمي قاصدين غرفة الطعام . قبل أن نصل، همست أمي لي :
” وليد … لا تثر ذلك الأمر ثانية رجاءا “
فأومأت برأسي موافقا .
و لم أسمح لنظراتي أن تلتقي بعيني رغد أو للساني أن يكلمها طوال الوقت .
بعد ذلك ، ذهبت مع أبى نتابع آخر الأخبار عبر التلفاز ، في غرفة المعيشة
لا يزال الدمار ينتشر … و الحرب التي هدأت نسبيا لفترة مؤقتة عادت أقوى و أعنف … و أخذت تزحف من قلب البلدة إلى الجهات الأربع …
تم غزو مدينتين أخريين مؤخرا ، لم تكن الحرب قد نالت منهما حتى الآن … و تندرج المدينة الصناعية التي نحن فيها الآن ، في قائمة المدن المهددة بالقصف …
كنت مندمجا في مشاهدة لقطات مصورة عن مظاهرات متفرقة حدثت صباح اليوم في مدن مختلفة من بلدنا …. و رؤية العساكر يضربون المدنيين و يقبضون على بعضهم …
منظر مريع جعل قلبي ينتفض خوفا … و أثار ذكريات السجن المؤلمة المرعبة …
في هذا الوقت ، أقبلت رغد تحمل مجموعة من الكراسات و اللوحات الورقية ، و جاءت بها إلي !
” تفرج على هذه أيضا … هذا كل ما لدي “
وضعتُ الكراسات على المنضدة المركزية ، و جلست رغد على مقعد مجاور لمقعدي … تراقبني و تنتظر تعليقاتي حول رسوماتها الجميلة …
إن عيني كانت على الرسومات ، إلا أن أذني كانت مع التلفاز !
بعدما فرغت من استعراض جميع الرسومات قلت :
” رائعة جدا ! أنت فنانة صغيرتي ! أهذا كل شيء ؟؟ “
رغد ابتسمت بخجل و قالت :
و أخفت أنظارها تحت أظافر يديها !
لماذا قررت رغد رسمي أنا ؟ و أنا بالذات !؟؟
إنها لم ترسم أحدا من أفراد عائلتي … فهاهي الرسومات أمامي و لا وجود لسامر مثلا فيما بينها !
قلت :
” متى تنهينها ؟ “
لا زالت تتأمل أظافرها و كأنها تراهم للمرة الأولى !
قالت :
” غدا أو بعد الغد … “
قلت :
” خسارة ! لن أراها كاملة إذا ! “
رفعت رغد عينيها نحوي فجأة بقلق ، ثم قالت :
” لماذا ؟ “
أجبت :
” لأنني … سأرحل غدا باكرا … كما تعلمين ! “
اختفى صوت الأخبار فجأة ، التفت إلى التلفاز فإذا به موقف ، ثم إلى أبي ، و الذي كان يحمل جهاز التحكم في يده ، فرأيته ينظر إلي بعمق … و إلى أمي فوجدتها متسمرة في مكانها ، تحمل صينية فناجين و إبريق الشاي …
و كنت شبه متأكد ، من أنني لو نظرت إلى الساعة لوجدتها هي الأخرى متوقفة عن الدوران !
حملق الجميع بي … فشعرت بالأسى لأجلهم … كانت نظرات الاعتراض الشديد تقدح من أعينهم
أول من تحدث كان أمي :
” ماذا وليد ؟؟ و من قال أنك سترحل من جديد ؟؟ “
صمت قليلا ثم قلت :
” قلت ذلك منذ أتيت … انتهت الزيارة و لابد لي من العودة “
قال والدي مقاطعا :
” ستبقى معنا يا بني “
هززت رأسي ، و قلت :
” و العمل ؟؟ ماذا أفعل ببقائي هنا ؟؟ “
و دار نقاش طويل حول هذا الموضوع ، و بدأت أمي بالبكاء ، و رغد كذلك !
و حين وصلت دانة ـ و التي كانت لا تزال تتناول العشاء مع خطيبها في غرفة الضيوف ، و جاءت تسأل أمي عن الشاي ، و رأت الوجوم على أوجهنا ثم عرفت السبب ـ بكت هي الأخرى !
أردت أن أختصر على نفسي و عليهم آلام الوداع .. سرعان ما قلت :
” سأخلد للنوم “
و ذهبت إلى غرفة سامر
أخذت أقلب كراسة رغد مجددا …
كم أثارت ذكريات الماضي … كم كانت شغوفة بالتلوين ! لقد كنت ألون معها ببساطة ! كم أتمنى لو … تعود تلك الأيام …
جمعت أشيائي في حقيبة سفري الصغيرة التي جئت بها من مدينتي
ضبطت المنبه ليوقظني قبل أذان الفجر بساعة …
كنت أريد أن أخرج دون أن يحس أحد بذلك ، لئلا تبدأ سلسلة عذاب الفراق و ألم الوداع … كالمرة السابقة …
و حين نهضت في ذلك الوقت ، تسللت بهدوء و حذر خارجا من المنزل …
كان السكون يخيم على الأجواء … و الكون غارق في الظلام الموحش … إلا عن إنارة خافتة منبعثة من المصباح المعلق فوق الباب
استدرت إلى الوراء … فإذا بي أرى رغد تطل من فتحة الباب !
صمدت في مكاني مندهشا !
رغد أخذت تنظر إلى و إلى الحقيبة التي في يدي … ثم تهز رأسها اعتراضا … ثم تقبل إلي مسرعة …
” وليد … لا … لا ترحل أرجوك “
حرت و لم يسعفني لساني بكلمة تناسب مقتضى الحال … سألتها :
” لم … أنت مستيقظة الآن ؟؟ “
رغد حدقت بي مدة ، و بدأت الدموع تنحدر من محجريها …
” أوه … كلا أرجوك ! “
قلت ذلك بضيق ، فأنا قد خرجت في هذا الوقت خلسة هروبا من هذا المنظر …
إلا أن رغد بدأت تبكي بحدة …
” لا تذهب وليد أرجوك … أرجوك … ابق معنا “
قلت :
” لا أستطيع ذلك … أعني … لدي عمل يجب أن أعود إليه “
و في الحقيقة ، لدي واقع مر يقف أمامي … علي أن أهرب منه …
رغد تهز رأسها اعتراضا و استنكارا … ثم تقول :
ذهلت لهذه الجملة المجلجلة ! و اتسعت حدقتا عيني دهشة …
رغد قالت :
” أريد أن أعود إلى بيتنا “
” رغد !! “
دخلت رغد في نوبة بكاء متواصل ، خشيت أن يخترق صوتها الجدران فيصل إلى البقية و يوقظهم … و نبدأ دوامة جديدة من الدموع …
قلت :
” رغد … أرجوك كفى … “
رغد قالت بانفعال ، و صوتها أقرب للنوح منه إلى الكلام :
” أنا … وفيت بوعدي … و لم أخن اتفاقنا … لكنك كذبت علي … و لم تعد … و الآن بعد أن عدت … تبادر بالرحيل … و تنعتني أنا بالخائنة ؟ إنك أنت الخائن يا وليد … تتركني و ترحل من جديد “
كالسم … دخلت هذه الكلمات إلى قلبي فقتلته … و زلزلتني أيما زلزلة …
قلت مندهشا غير مستوعب لما التقطت أذناي من النبأ الصاعق :
” لم … لم … تخبري أحدا … ؟؟ “
رغد هزت رأسها نفيا …
قلت بذهول :
” و لا … حتى … سامر ؟؟ “
و استمرت تهز رأسها نفيا و بألم …
فشعرت بالدنيا هي الأخرى تهتز و ترتجف من هول المفاجأة … تحت قدمي ّ
قالت :
” كنت ُ أنتظر أن تعود … لكنهم أخبروني أنك لن تعود … و لا تريد أن تعود … و كلما اتصلت بهاتفك … وجدته مقفلا … و لم تتصل لتسأل عني و لا مرة طوال هذه السنين … لماذا يا وليد ؟؟ “
لحظتها تملكتني رغبة مجنونة بأن أضحك … أو … أو حتى أن أتقيأ من الصدمة !
لكن …
ما الجدوى الآن …
كبتّ رغبتي في صدري و معدتي ، و رفعت نظري إلى السماء … أُشهد ملائكة الليل على حال ٍ ليس لها مثيل …
و حسبي الله و نعم الوكيل …
سمعت صوت تغريد عصفور شق سكون الجو … و نبهني للوقت الذي يمضي …
و الوقت الذي قد مضى …
و الوقت القادم المجهول …
كم سخرت الدنيا مني … فهل من مزيد ؟؟؟
” صغيرتي … أنا ذاهب … “
رغد ظلت تنظر إلي و تبكي بغزارة … و لم يكن باستطاعتي أن أمسح دموعها …
استدرت موليا إياها ظهري … لكن صورتها بقيت أمام عيني مطبوعة في مخيلتي …
سرت خطى مبتعدا عنها … نحو البوابة الرئيسية للفناء ، و فتحتها …
قلت :
” اقفلي الباب من بعدي .. “
دون أن التفت نحوها … فهو دوري لأذرف الدموع … التي لا أريد لأحد أن يراها و يسبر غورها …
” وليــــــــــد “
و كعصفور يطير بحرية … بلا قيود و لا حدود … و لا اعتبار لأي شيء … أقبلت نحوي …
استدرت … و تلقيت سهما اخترق صدري و ثقب قلبي … و بعثر دمائي و مشاعري في لحظة انطلقت فيها روحي تحلق مع الطيور المرفرفة بأجنحتها … احتفالا بمولد يوم جديد …
منذ الساعة التي أجريت فيها المقابلة الشخصية ، و طرح علي السؤال عن خبراتي و مؤهلاتي و عملي في السابق ، أدركت أن الأمر لن يكون يسيرا …
حصلت على الوظيفة رغم ذلك بتوصية حادة من صديقي سيف ، الذي ما فتئ يشجعني و يحثني على السير قدما نحو الأمام
و خلال الأشهر التالية ، واجهت الكثير من المصاعب … مع الآخرين .
بطريقة ما انتشر نبأ كوني خريج سجون بين الموظفين ، و تعرضت للسخرية و المعاملة القاسية من قبل أكثرهم
كنت أعود كل يوم إلى المنزل مثقلا بالهموم ، و عازما على عدم العودة للشركة مجددا ، إلا أن لقاءا قصيرا أو مكالمة عابرة مع صديقي سيف تنسيني آلامي و تزيح عني تلك الهموم …
أصبح صديقي سيف هو باختصار الدنيا التي أعيشها …
توالت الأشهر و أنا على هذه الحال ، و كنت أتصل بأهلي مرتين أو ثلاث من كل شهر … اطمئن على أحوالهم و أحيط علما بآخر أخبارهم
علمت أن رغد التحقت بكلية الفنون و أن دانه قد حددت موعدا لزفافها بعد بضعة أشهر .. و أن والديّ يعتزمان تأدية الحج هذا العام …
أما سامر ، فقليلا جدا ما كنت أتحدث إليه ، حين أتصل و يكون صدفة متواجدا في المنزل ، إذ انه كان يعمل في مدينة أخرى …
في الواقع ، أنا من كان يتعمد الاتصال في أيام وسط الأسبوع أغلب الأوقات .
لقد تمكنت بعد جهد طويل ، من طرد الماضي بعيدا عن مخيلتي ، إلا أنني لازلت احتفظ بصورة رغد الممزقة موضوعة على منضدتي قرب سريري ـ إلى جانب ساعتي القديمة ـ ألمها ثم أبعثرها كل ليلة !
حالتي الاقتصادية تحسنت بعض الشيء ، و اقتنيت هاتفا محمولا مؤخرا ، إلا إنني تركت هاتف المنزل مقطوعا عن الخدمة .
أما أوضاع البلد فساءت عما كانت عليه … و أكلت الحرب مدنا جديدة …
و أصبح محظورا علينا العبور من بعض المناطق أو دخول بعض المدن …
في مرات ليست بالقليلة نتبادل أنا و سيف الزيارة ، و نخرج سوية في نزهات قصيرة أو مشاوير طويلة ، هنا أو هناك …
في إحدى المرات ، كنت مع صديقي سيف في مشوار عمل ، و كنا نتأمل مشاهد الدمار من حولنا …
الكثير الكثير من المباني المحطمة … و الشوارع الخربة …
مررنا في طريقنا بأحد المصانع ، و لم يكن من بين المباني التي لمستها يد الحرب … فتذكرت مصنع والدي الذي تدمر …
قلت :
” سبحان الله ! نجا هذا من بين كل هذه المباني المدمرة ! ألا يزال الناس يعملون فيه ؟؟ “
أجاب سيف :
” نعم ! إنه أهم مصنع في المنطقة يا وليد ! ألا تعرفه ؟ “
” كلا ! لا أذكر أنني رأيته مسبقا ! “
ابتسم سيف و قال :
” إنه مصنع عاطف … والد عمّار … يرحمهما الله ! “
دهشت ! فهي المرة الأولى التي أرى فيها هذا المبنى … !
أخذت أتأمله بشرود … ثم ، انتبهت لكلمة علقت في أذني …
” ماذا ؟ رحمهما الله ؟؟ “
سألت سيف باستغراب ، معتقدا بأنه قد أخطأ في الكلام … قال سيف :
” نعم … فعاطف قد توفي العام الماضي … رحمه الله “