رواية انت لي الحلقة السادسة و الثلاثون
تبادلنا الأخبار … فعلمت منه أنه رزق طفلا صغيرا !
” دورك يا رجل ! و بما أن أمورك قد استقرت … فهيا عجّل بالزواج ! “
ابتسمت ُ لدى تعليقه المتفائل … إن أموري لم تستقر و لم تحل … بل هي آخذة في التعقد مرة لعد أخرى … و الآن أنا في حيرة شديدة … ماذا علي َ أن أفعل ؟؟
شرحت له تفاصيل إرث أبي عمّار … عم أروى التي هي خطيبتي ، و ابنة صاحبي الذي تعرفت علي في السجن ، بعد قتلي لعمّار … فبدا الأمر أشبه بخرافة من خرافات الجدات العجائز !
” سبحان الله ! أي قدرة إلهية عجيبة أودت بك إلى هذا الوادي يا وليد ! “
” إنها الأقدار يا صديقي ! “
” إذن … ستصبح زوج سيدة من أثرى سيدات المنطقة ! سبحان الله ! ها قد ابتسمت ، بل ضحكت لك الدنيا أخيرا يا وليد ! “
و لأن أي من علامات السرور لم تظهر علي ، فإن سيف لاذ بالصمت المفاجئ المتعجّب …
كانت في صدري عشرات الهموم إلا أنني لم أشأ أن أنفثها في وجه صديقي مذ أول لقاء يجمعنا بعد طول فراق …
بعد ذلك ، اتفقت مع سيف على ترتيب زيارة رسمية لمكتب المحاماة الذي يملكه والده غدا باكرا ، و اتخاذه محاميا قانونيا لتولي الإجراءات اللازمة بشأن الإرث.
بعد انصرافه ، ذهبت إلى الصالة العلوية حيث يفترض أن يكون الجميع ، فوجدت أروى تتصفح مجلة كانت قد اشترتها عصر اليوم أثناء تسوقنا ، و قد نفشت شعرها الذهبي الطويل على كتفيها بحرية … بينما الخالة ليندا نائمة على المقعد ، و رغد غير موجودة …
بادرتني أروى بالسؤال :
” كيف كان اللقاء ؟ “
” حميما و مثمرا ! سأذهب غدا مع سيف إلى مكتب أبيه و هو محام معروف و ماهر ، و سننطلق من هناك ! “
” آمل ألا يطول الأمر … “
” إنها أمور تطول في العادة يا أروى ! علينا بالصبر “
قالت و هي تضع يدها على صدرها :
” أشعر بالحنين إلى المزرعة … و إلى خالي ! الجو هنا مغبر و كاتم … و كئيب جدا يا وليد “
تحركت الخالة ليندا قليلا … فالتفتنا إليها ثم قالت أروى :
” دعنا نذهب إلى غرفتك كي لا نزعجها “
و هنا
ك ، في غرفتي واصلنا الحديث … أخبرتها بتفاصيل لقائي بسيف و ما خططنا له . و تشعبت أحاديثنا إلى أمور كثيرة و مر الوقت سريعا دون أن نشعر به !
استنتاجكم صحيح !
العينان الواسعتان ذاتا النظرات الشجية ، حلقتا بعيدا عن عيني ّ و حطّتا على الفتاة الجالسة على السرير داخل الغرفة تعبث بخصلات شعرها الذهبية …
ابتسمت ُ لصغيرتي … و قلت :
” مرحبا رغد ! “
رغد لم تنظر إلي ّ، كما لم ترد علي ّ… و رأيت ُ وجهها يحمر !
قلت :
” تفضَلي “
رفعت بصرها إلي و رمتني بسهم ثاقب !
قلت :
” أهناك شيء ؟؟ “
ردّت رغد بجملة مضطربة :
” كنت … أريد …
أريد الهاتف ! “
و كررت بنبرة أكثر ثقة :
” أريد هاتفك لبعض الوقت ! هل تعيرني إياه ؟ “
كنت متشككا ، لكنني قلت :
” بكل تأكيد ! “
تناولته رغد و شكرتني و انصرفت بسرعة …
عندما استدرت ُ للخلف ، و جدت ُ أروى و قد مدّت رجليها على السرير و استندت على إحدى ذراعيها بينما استخدمت الأخرى في العبث بخصلات شعرها الطويل الأملس !
” حان وقت النوم ! سأنهض غدا باكرا و أريد أن آخذ قسطا كافيا من الراحة “
قلت ذلك معلنا نهاية الجلسة … فاسحا المجال لأروى للذهاب من حيث أتت.
ساعتان و نصف من التقلب على السرير … دون أن يجد النوم طريقه إلى إي من جفوني الأربعة …
ليس ما يقلقني هو إجراءات الإرث تلك … و لا خططي المستقبلية … و لا المفاجآت التي يمكن أن تخبئها القدر لي …
بل هو مخلوق بشري عزيز على نفسي … يحتل حجرات قلبي الأربعة … و يتدفق منها مع تدفق الدم … و يسري في عروقي مع سريانها و ينتشر في خلايا جسدي أجمع … ثم يعود ليقطن الحجرات الأربع من جديد …
كائن صغير جدا … و ضعيف جدا … و خواف جدا !
و هو لا يشعر بالطمأنينة إذا ما ابتعد عني … و جاء طلبا لبعض الأمان بقربي …
لكنه اكتفى بأخذ هاتفي المحمول … و اختفى خلف هذا الجدار المشترك بين غرفتي و غرفته …
إنني لو اخترقت الجدار … سأجده نائما على السرير … بأمان
أو ربما باكيا خلف الجدار … في خوف …
أو جاثيا على الأرض … في حزن …
أو ربما ذارعا الغرفة جيئة و ذهابا … في ألم …
إنني لا أستطيع أن أنام دون أن أطمئن عليها ! و ستبوء كل محاولاتي بالفشل حتما !
استسلم !
لا تكابر يا وليد !
تسللت من غرفتي بهدوء و أنا أتلفت ذات اليمين و ذات الشمال … مخافة أن يشعر بي أحد … و وقفت عند باب غرفة صغيرتي و أمسكت بالمقبض !
كنت على وشك أن أفتحه لو أن عقلي لم يستيقظ و يزجرني بعنف ! أي جنون هذا ؟؟ من تظن نفسك يا وليد ؟؟ كيف تجرؤ ؟؟
عدت مسرعا …أجر أذيال الخيبة … و رميت بجسدي المثقل على مرارة الواقع … و استسلمت لحدود الله….
لم يكن الأمر بالصعوبة التي توقعتها لكنه لم يكن سهلا ! الكثير من الأوراق و الوثائق و التواقيع استغرقت منا ساعات طويلة . و كان يتوجب علي أخذ أروى إلى المحكمة …
منتصف الظهيرة ، هو الوقت الذي عدت ُ فيه إلى المنزل بعد جهودي السابقة و أنا أحمل وثائق في غاية الأهمية في يد ، و طعام الغذاء في اليد الأخرى !
كيف وجدت أروى و الخالة ؟
وجدتهما منهمكتين في تنظيف المطبخ !
ردّت الخالة :
” و نحن لا نحتمل الغبار و لا نحبه يا ولدي . اعتدنا الجو النقي في المزرعة . على الأقل هكذا سيغدو أفضل “
وضعت كيس الطعام على المائدة المحتلة قلب المطبخ . و نظرت من حولي
كل شيء نظيف و مرتب ! كما كانت والدتي رحمها الله تفعل . شعرت بامتنان شديد لأروى و الخالة و قلت :
” جزاكما الله خيرا . أحسنتما . أنتما بارعيتن ! “
أقبلت أروى نحوي و هي تبتسم و تقول :
” هذا لتعرف أي نوع من النساء قد تزوّجت ! “
فضحكت الخالة و ضحكنا معها …
في هذه اللحظة دخلت رغد إلى المطبخ .
كان وجهها مكفهرا حزينا … و بعض الشرر يتطاير من بؤبؤيها !
وجهت حديثها إلي ، و كان صوتها حانقا حادا :
” هل عدت أخيرا ؟ تفضّل . نسيت أن تأخذ هذا “
و دفعت إلي بهاتفي المحمول و الذي كنت قد أعطيتها إياه ليلة الأمس … و تركته معها فيما رافقت سيف إلى حيث ذهبنا صباحا .
و من ثم غادرت مسرعة و غاضبة …
أنا و السيدتان الأخريان تبادلنا النظرات … ثم سألت :
” ما بها ؟ “
فردت أروى بلا مبالاة :
” كالعادة ! غضبت حين علمت أنك خرجت و لم تخبرها ! كانت تنتظر أن توقظها من النوم لتستأذنها قبل الخروج ! “
و لم تعجبني لا الطريقة التي تحدّثت أروى بها ، و لا الحديث الذي قالته .
استدرت قاصدا الخروج و اللحاق برغد … فنادتني أروى :
” إلى أين ؟ “
التفت إليها مجيبا :
” سأتحدث معها “
بدا استياء غريب و غير معهود على ملامح أروى … ثم قالت :
” حسنا … أسرع إلى مدللتك ! لابد أنها واقفة في انتظارك الآن “
عندما أتى إلي … كنت أشتعل غضبا …
كنت واقفة في الصالة العلوية أضرب أخماسا بأسداس …
وليد بدأ الحديث بـ :
” كيف أنت ِ ؟ “
رددت بعنف :
” كيف تراني ؟ “
صمت وليد قليلا ثم قال :
” أراك … بخير ! “
قلت بعصبية :
” و هل يهمّك ذلك ؟ “
” بالطبع رغد ! أي سؤال هذا ؟؟ “
لم أتمالك نفسي و هتفت بقوّة :
” كذّاب “
تفاجأ وليد من كلمتي القاسية … و امتقع وجهه … ثم إنه قال :
” رغد ! … هل لا أخبرتني … ما بك ؟؟ “
اندفعت قائلة :
” لو كان يهمك أمري … ما خرجت و تركتني وحيدة في مكان موحش ! “
” وحيدة ؟ بالله عليك ! لقد كانت أروى و الخالة معك ! “
” لا شأن لي بأي منهما . كيف تجرؤ على الخروج دون إعلامي ! كيف تتركني وحيدة هنا ؟ “
” و أين يمكنني تركك يا رغد إذن ؟؟ “
اشتططت غضبا و قلت :
” إن كان عليك تركي في مكان ما ، فكان أجدر بك تركي في بيت خالتي . مع من أحبهم و يحبونني و يهتمون لأمري … لماذا أحضرتني معك إلى هنا ؟؟ ما دمت غير قادر على رعايتي كما يجب ؟؟ “
تنهّد وليد بنفاذ صبر …
ثم قال :
” حسنا.. أنا آسف… لم أشأ أن أوقظك لأخبرك بأني سأخرج . لكن يا رغد … هذا سيتكرر كثيرا … ففي كل يوم سأذهب لمتابعة إجراءات استلام إرث أروى … “
أروى … أروى … أروى …
إنني بت أكره حتى حروف اسمها …
حينما رأيتها البارحة في غرفة وليد … و جالسة بذلك الوضع الحر … على سريره … و نافشة شعرها بكل أحقية … و ربما كان وليد يجلس قربها مباشرة قبل أن أفسد عليهما خلوتهما … حينما أتذكر ذلك … أتعرفون كيف أشعر ؟؟؟
نفس شعور الليمونة الصغيرة حينما تعصر قهرا بين الأصابع !
أشحت بوجهي عن وليد … و أوليته ظهري … أردته أن ينصرف … فأنا حانقة عليه جدا و سأنفجر فيما لو بقي معي دقيقة أخرى بعد …
وليد للأسف لم ينصرف … بل اقترب أكثر و قال مغيرا الحديث :
” لقد أحضرت طعام الغداء من أحد المطاعم . هلمّي بنا لنتناوله “
قلت بعصبية :
” لا أريد ! اذهب و استمتع بوجبتك مع خطيبتك الغالية و أمها “
التفت ّ إلى وليد الآن و صرخت :
” حل عنّي يا وليد الآن … أرجوك “
و هنا شاهدت أروى مقبلة نحونا… عندما لمح وليد نظراتي تبتعد إلى ما ورائه ، استدار فشاهد أروى مقبلة ….
و أروى ، طبعا بكل بساطة تتجول في المنزل بحرية و بلا قيود … أو حجاب مثلي !
قالت :
” رتبنا المائدة ! هيا للغداء “
التفت إلي وليد و قال :
” هيا صغيرتي … أعدك بألا يتكرر ذلك ثانية “
صرخت بغضب :
” كذّاب “
حقيقة … كنت منزعجة حد الجنون … !
على غير توقّع ، فوجئنا بأروى تقول :
” كيف تجرؤين ! ألا تحترمين ولي أمرك ؟ كيف تصرخين بوجهه و تشتمينه هكذا ؟ أنت ِ فتاة سيئة الأخلاق “
صعقت للجملة التي تفوهت بها أروى ، بل إن وليد نفسه كان مصعوقا …
قال بدهشة :
” أروى !! ما الذي تقولينه ؟؟ “
أروى نظرت إلى وليد بانزعاج و ضيق صدر و قالت :
” نعم يا وليد ألا ترى كيف تخاطبك ؟ إنها لا تحترمك رغم كل ما تفعل لأجلها ! و لا تحترم أحدا … و لا أنا لا أسمح لأحد بأن يهين خطيبي العزيز مهما كان “
قالت هذا … ثم التفتت إلي ّ أنا و تابعت :
” يجب أن تقفي عند حدّك يا رغد … و تتخلي عن أفعالك المراهقة السخيفة هذه … و تعرفي كيف تعاملين رجلا مسؤولا يكرّس جهوده ليكون أبا حنونا لفتاة متدللة لا تقدّر جهود الآخرين ! “
” أروى ! “
هتف وليد بانفعال … و هو يحدّق بها … فرّدت :
” الحقيقة يا عزيزي … كما ندركها جميعا … “
التفت وليد نحوي … ربما ليقرأ ملامح وجهي بعد هذه الصدمة … أو ربّما … ليظهر أمام عيني هاتفه المحمول في يده … و أنقض عليه بدون شعور … و أرفعه في يدي لأقصى حد … و أرميه بكل قوّتي و عنفي … نحو ذلك الوجه الجميل الأشقر …. !