رواية انت لي الحلقة 44
وضعتُ القصاصات تحت الوسادة و أرخيتُ جفوني… سأنام على صورتكِ يا رغد !
فجأة… صحوتُ على صوتُ جلبة… أشبه بارتطام شيء ما بالأرض… مصحوبة بصراخ قوي !
نهضتُ بسرعة و سمعتُ صوت صرخات متتالية و متداخلة مع بعضها البعض في آن واحد… أسرعتُ للخروج من غرفتي و هرولتُ ناحية مصدر الصراخ…
إنه السلّم…
وصلتُ أعلى عتباته و ألقيتُ نظرة سريعة نحو الأسفل و ذهلتُ !
قفزتُ العتبات قفزا حتى وصلتُ إلى منتصف الدرَج… حيث وجدتُ رغد و أروى جاثيتين على العتبات إحداهما تئن بفزع… و الأخرى تتلوى ألما و تطلق الصرخات…
و مجموعة من الأوراق مبعثرة على العتبات من حولهما…
” ماذا حدث ؟؟ “
سألتُ مفزوعا… و لم تجب أيهما بأكثر من الأنين و الصراخ…
” رغد…أروى …ماذا حدث ؟؟ “
ردّتْ أروى و هي تضغط على كوعها بألم :
” وقعنا من أعلى السلم “
لم يكن لدي مجال لأندهش… فقد كانتْ رغد تصرخ بألم و تنقل يدها اليسرى بين يمناها و رجلها اليسرى…
قلتُ بسرعة :
” أأنتما بخير ؟؟ “
أروى وقفتْ ببطء و استندتْ إلى الجدار… و أما رغد فقد بقيتْ على وضعها تئن و تصرخ
” رغد هل أنت ِ بخير ؟؟ “
عصرتْ رغد وجهها من الألم فسالتْ الدموع متدفقة على وجنتيها المتوهجتين…
قلتُ :
” رغد ؟؟ “
فأجابتْ باكية متألمة صارخة:
” يدي.
.. قدمي… آه… تؤلماني… لا أحتمل… ربما كسرتا “
أصبتُ بالهلع… أقبلتُ نحوها حتى جلستُ قربها تماما… و سألتُ :
” هذه ؟ “
مادا يدي إلى يدها اليمنى و لكني ما أن قرّبتُ يدي حتى صرختْ رغد بقوة و أبعدتْ يدها عنّي…
” رغد “
هتفتُ بهلع، فردتْ :
” تؤلمني بشدة… آي… لا تلمسها “
فوجهتُ يدي إلى يدها اليسرى :
” و هذه؟ أتؤلمك؟ “
” كلا “
فأمسكتُ بها و أنا أقول:
” إذن… دعيني أساعدكِ على النهوض”
رغد حركتْ رأسها اعتراضا و قالتْ:
” لا أستطيع… قدمي ملتوية… تؤلمني كثيرا… لا أستطيع تحريكها “
و نظرتْ نحو قدمها ثم سحبتْ يدها اليسرى من يدي و أمسكتْ برجلها اليسرى بألم
و كانتْ قدمها ملوية إلى الداخل، يخفي جوربها أي أثر لأي كدمة أو خدش أو كسر…
قلتُ :
” سأحاول لفها قليلا “
و عندما حركتها بعض الشيء… أطلقتْ رغد صرخة قوية ثقبتْ أذني و أوقفتْ نبضات قلبي…
يبدو أن الأمر أخطر مما تصورتُ … ربما تكون قد أصيبتْ بكسر فعلا…
تلفتُ يمنة و يسرة في تشتت من فكري… كانت أروى متسمّرة في مكانها في فزع… بدأ العرق يتصبب من جسمي و الهواء ينفذ من رئتيّ… ماذا حلّ بصغيرتي ؟؟
التفت ُ إلى رغد بتوتر و قلتُ:
” سأرفعكِ “
و مددتُ ذراعي بحذر و انتشلتُ الصغيرة من على العتبة و هي تصرخ متألمة… و هبطتُ بها إلى الأسفل بسرعة… و أثناء ذلك ارتطمتْ قدمي بشيء اكتشفتُ أنه كان هاتفي المحمول ملقى ً أيضا على درجات السلم…
حملتُ رغد إلى غرفة المعيشة و وضعتها على الكنبة الكبرى… و هي على نفس الوضع تعجز عن مد رجلها أو ثنيها… أما يدها اليمنى فقد كانتْ تبقيها بعيدا خشية أن تصطدم بي…
ناديتها باضطراب… لكنها كانتْ تكتم أنفاسها بقوة حتى احتقن وجهها وانتفختْ الأوردة في جبينها… و برزتْ آثار اللطمات التي أمطرتها بها صباحا أكثر… حتى شككتُ بأنها آثار جديدة سببها الدرج من شدّة توهجها…
بعدها انفجر نفَس رغد بصيحة قوية قطّعت حبالها الصوتية…
قلتُ مفزوعا :
” يا إلهي… يجب أن آخذك إلى الطبيب “
وقفتُ ثم جثوتُ على الأرض ثم وقفتُ مجددا… خطوتُ خطوة نحو اليمين و أخرى نحو اليسار… تشتتُ و من هول خوفي على رغد لم أعرف ماذا أفعل… أخيرا ركزتْ فكرة في رأسي و ركضتُ في اتجاه غرفتي، أريد جلب مفاتيح السيارة…
عند أول عتبات السلّم كانتْ أروى تقف متسمرة تنم تعبيرات وجهها عن الذعر…!
وقفتُ برهة و أنا طائر العقل و قلتُ باندفاع :
” ماذا حدث ؟ كيف وقعتما؟ ربما انكسرتْ عظامها … سآخذها إلى المستشفى “
لم أدع لها المجال للرد بل قفزتُ عتبات الدرج قفزا ذهابا ثم عودة… و أنا أدوس عشوائيا على الأوراق المبعثرة عليها دون شعور… ثم رأيتُ أروى لا تزال قابعة في مكانها… فهتفتُ:
” تكلـّمي ؟؟ “
و أنا أسرع نحو غرفة المعيشة… توقفتُ لحظة و استدرتُ إلى أروى و قلتُ:
” و أنتِ بخير ؟ “
أومأتْ أروى إيجابا فتابعتُ طريقي إلى رغد… و لم أشعر بأروى و هي تتبعني…
وجدتُ رغد و قد كوّمت جزء ً من وشاحها لتعضّه بين أسنانها… حين رأتني خاطبتني و الوشاح لا يزال في فمها:
” وليد… سأموت من الألم…آي “
ركعتُ قربها و مددتُ ذراعيّ أريد حملها و أنا أقول:
” هيا إلى الطبيب… تحمّلي قليلا أرجوك “
و عندما أوشكتُ على لمس رجلها دفعتْ يدي بعيدا بيدها و صاحتْ:
” لا… أقول لك تؤلمني… لا تلمسها “
قلتُ :
” يجب أن أحملك ِ إلى المستشفى رغد… أرجوك ِ تحملي قليلا… أرجوكِ صغيرتي “
جمعت ْ رغد القماش في فمها مجددا و عضّت عليه و أغمضتْ عينيها بقوة…
حملتها بلطف قدر الإمكان متجنبا لمس طرفيها المصابين… و استدرتُ نحو الباب… هناك كانت أروى تقف في هلع تراقبنا…
قلتُ :
” هيا… اسبقيني و افتحي لي الأبواب بسرعة “
و هكذا إلى أن أجلستُ الصغيرة على مقعد السيارة الخلفي، ثم فتحتُ بوابة المرآب و انطلقتُ بسرعة…
لحسن الحظ كانت رغد لا تزال ترتدي عباءتها و وشاحها الأسودين، لم تخلعهما منذ خرجنا إلى النزهة أول الليل…
عندما وصلنا إلى المستشفى، استقبلنا فريق الإسعاف بهمة و حملنا رغد على السرير المتحرك إلى غرفة الفحص… كانت لا تزال تصرخ من الألم…
سألني أحد الأفراد :
” حادث سيارة ؟ “
قلتُ :
” لا ! وقعتْ من أعلى السلّم… ربما أصيبت ْ بكسر ما… أرجوكم أعطوها مسكنا بسرعة “
أراد الطبيب أن يكشف عن موضع الإصابة… تحمّلتْ رغد فحص يدها قليلا و لكنها صرختْ بقوة بمجرّد أن وجه الطبيب يده إلى رجلها اليسرى… و يبدو أن الألم كان أشد في الرجل… شجعتها الممرضة و حين همّتْ بإزاحة الغطاء عن رجلها استدرتُ و وقفتُ خلف الستارة…
عادتْ رغد تصرخ بقوة لم أحتملها فهتفتُ مخاطبا الطبيب:
” أرجوك أعطها مسكنا أولا… لا تلمس رجلها قبل ذلك… ألا ترى أنها تتلوى ألما؟؟”
و صرختْ رغد مرة أخرى و هتفتْ:
” وليد “
لم احتمل… أزحتُ الستارة و عدتُ إلى الداخل و مددتُ يدي إلى رغد التي سرعان ما تشبثتْ بها بقوة…
” معكِ يا صغيرتي… تحمّلي قليلا أرجوك “
و استدرتُ إلى الطبيب :
” أعطها مسكنا أرجوك… أرجوك في الحال “
الممرضة كشفتْ عن ذراع رغد اليسرى بهدف غرس الإبرة الوريدية في أحد عروقها… و لمحتْ الندبة القديمة فيها فسألتني :
” و ما هذا أيضا ؟ “
قلتُ غير مكترث:
” حرق قديم…لا علاقة له بالحادث “
و بمجرد أن انتهتْ الممرضة من حقن رغد بالعقار المسكن للألم عبر الوريد، عادتْ رغد و مدتْ يدها إليّ و تشبثتْ بي…
” لا تقلقي صغيرتي… سيزول الألم الآن “
قلتُ مشجعا و أنا أرى الامتقاع الشديد على وجهها المتألم الباكي…
و مضتْ بضع دقائق غير أن رغد لم تشعر بتحسن
” ألم يختفِ الألم ؟ “
سألتها فقالتْ و هي تتلوى و تهز رأسها:
” تؤلمني يا وليد… تؤلمني كثيرا جدا “
خاطبتُ الممرضة :
” متى يبدأ مفعول هذا الدواء ؟ أليس لديكم دواءٌ أقوى ؟؟ “
الطبيب أمر الممرضة بحقن رغد بدواء آخر فحقنته في قارورة المصل المغذي و جعلته يسري بسرعة إلى وريدها…
قلتُ مخاطبا الطبيب :
” هل هذا أجدى ؟ “
قال :
” فعال جدا “
قلتُ :
” إنه ألم فظيع يا دكتور… هل تظن أن عظامها انكسرتْ ؟ “
أجاب :
” يجب أن أفحصها و أجري تصويرا للعظام قبل أن أتأكد “
بعد قليل… بدأتْ جفون رغد تنسدل على عينيها… و صمتتْ عن الصراخ… و ارتختْ قبضتها المتشبثة بي…
نظرتُ إلى الطبيب بقلق فقال :
ثم باشر فحص رجل رغد و أعاد تفحص يدها اليمنى… و بقية أطرافها… و عندما انتهى من ذلك، أمر بتصوير عظام رجلَي رغد و يديها و حتى جمجمتها تصويرا شاملا…
” طمئني أيها الطبيب رجاء ً … هل اتضح شيء من الفحص ؟؟ “
نظر إليّ الطبيب نظرة غريبة ثم سألني و هو يتكلم بصوتٍ منخفض:
” قل لي… هل حقا وقعتْ على درجات السلم ؟ “
استغربتُ سؤاله و بدا لي و كأنه يشك في شيء فأجبتُ :
” نعم… هذا ما حصل”
قال الطبيب :
” كيف ؟ “
قلتُ :
” لا أعرف فأنا لم أشاهد الحادث… و لكن لماذا تسأل ؟ “
قال :
” فقط أردتُ التأكد… فوجهها مكدوم بشكل يوحي إلى أنها تعرضتْ للضرب! و ربما يكون الأمر ليس مجرد حادث “
أثار كلام الطبيب جنوني و غضبي فرددتُ منفعلا :
” و هل تظن أننا ضربناها ثم رميناها من أعلى الدرج مثلا ؟ “
لم يعقّب الطبيب فقلتُ :
” وجهها متورم نتيجة شيء آخر لا علاقة له بالحادث “
تبادل الطبيب و الممرضة النظرات ذات المغزى ثم طلب منها اصطحاب رغد إلى قسم الأشعة.
و لأنني كنتُ هلعا على رغد عاودتُ سؤاله :
” أرجوك أخبرني… هل تبين شيء بالفحص لا قدّر الله ؟ “
رد صريحا :
” لا أخفي عليك… يبدو أن الإصابة في الكاحل بالغة لحد ما… أشك في حدوث تمزق في الأربطة “
ماذا ؟؟ ماذا يقول هذا الرجل ؟؟ تمزّق ؟ كاحل ؟؟ رغد … !!
تابع الطبيب :
” الظاهر أن قدمها قد التوتْ فجأة و بشدّة أثناء الوقوع… و لديها تورم و رض شديد في منطقة الساق… قد تكون ساقها تعرضت لضربة قوية بحافة العتبة… أما يدها اليمنى فأتوقع أنها كُسِرتْ “
كسر؟؟ تمزق ؟؟ التواء؟؟ تورم؟؟ رض ؟؟ما كل هذا ؟؟ ماذا تقول ؟؟
شعرتُ بعتمة مفاجئة في عيني ّ و بالشلل في أعصابي… يبدو أنني كنتُ سأنهار لولا أن الطبيب أسندني و أقعدني على كرسي مجاور… وضعتُ يدي على رأسي شاعرا بصداع مباغت و فظيع… كأن أحد الشرايين قد انفجر في رأسي من هول ما سمعتُ…
الطبيب ثرثر ببعض جمل مواسية لم أسمع منها شيئا… بقيتُ على هذه الحال حتى أقبلتْ الممرضات يجررن سرير رغد و يحملن معهن صور الأشعة…
الطبيب أخذ الأفلام و راح يتأملها على المصباح الخاص… و ذهبتُ أنا قرب رغد حتى توارينا خلف الستار…
الصغيرة كانت نائمة و بقايا الدمع مبللة رموشها… تمزق قلبي عليها و أمسكتُ بيدها اليسرى و ضغطتُ بقوّة…
كلا يا رغد !
لا تقولي أن هذا ما حدث؟ أنتِ بخير أليس كذلك؟؟ ربما أنا أحلم… ربما هو كابوس صنعه خوفي المستمر عليك و جنوني بك !
رباه…
بعد ثوان ٍ تركتُ رغد و ذهبتُ إلى حيث كان الطبيب مع مجموعة أخرى من الأطباء يتفحصون الأشعة و يتناقشون بشأنها. وقفتُ إلى جانبهم و كأني واحدٌ منهم… أصغي بكل اهتمام لكل كلمة تتفوه بها ألسنتهم، و لا أفقه منها شيئا…
أخيرا التفتََ الطبيب ذاته إليّ فقلتُ بسرعة:
” خير؟؟ طمئني أرجوك ؟ “
قال الطبيب و هو يحاول تهوين الأمر:
” كما توقعتُ… يوجد كسر في أحد عظام اليد اليمنى… و شرخ في أحد عظام الرجل اليسرى و هناك انزلاق في مفصل الكاحل سببه تمزق الأربطة “
و لما رأى الطبيب الهلع يكتسح وجهي أكثر من ذي قبل، أمسك بكتفي و قال:
” بقية الأشعة لم توضح شيئا… الإصابة فقط في اليد اليمنى و الرجل اليسرى، أما الكدمات الأخرى فهي سطحية “
ازدرتُ ريقي واستجمعتُ شظايا قوتي و قلتُ غير مصدّق:
” أنتً… متأكّد ؟ “
قال :
و هو يشير إلى الأطباء ممن معنا…
قلتُ و صوتي بالكاد يخرج من حنجرتي واهنا :
” و… هل … سيشفى كل ذلك ؟ “
قال :
” نعم إن شاء الله. لكن… ستلزمها عملية جراحية… و بعدها ستظل مجبّرة لبعض الوقت “
صُعِقتُ !! لا ! مستحيل !
عملية ؟؟ جبيرة ؟؟ أو كلا ! كلا !
كدتُ أهتف ( كلا ) بانفعال… لكنني رفعتُ يدي إلى فمي أكتم الصرخة… قهرا…
الطبيب أحس بمعاناتي و حاول تشجيعي و تهوين الأمر… لكن أي كارثة حلّتْ على قلبي يمكن تهوينها بالكلمات ؟؟
قلتُ بلا صوت:
” تقول … عملية ؟ “
رد مؤكدا :
” نعم. ضرورية لإنقاذ الكسور من العواقب غير الحميدة “
أغمضتُ عيني و تأوهتُ من أثر الصدمة… و قلبي فاقد السيطرة على ضرباته… و لما لاحظ الطبيب حالتي سألني بتعاطف :
” هل أنت شقيقها ؟ “
فرددتُ و أنا غير واع ٍ لما أقول:
” نعم.. “
قال :
” و أين والدها ؟ “
قلتُ :
” أنا “
تعجب الطبيب و سأل :
” عفوا ؟ “
قلتُ :
” لقد مات… كلُهم ماتوا… أنا أبوها الآن… يا صغيرتي “
و أحشائي تتمزق مرارة… أنا لا أصدق أن هذا قد حصل… رغد صغيرتي الحبيبة… مهجة قلبي و الروح التي تحركني… تخضع لعملية؟؟
وقفتُ و سرتُ نحو سرير رغد بترنح… يظن الناظر إليّ أنني أنا من تحطمتْ عظامه و انزلقتْ مفاصله و تمزّقتْ أربطته و ما عاد بقادر على دعم هيكله…
اقتربتُ منها… أمسكتُ بيدها اليسرى… شددتُ عليها… اعتصرني الألم… و اشتعلتْ النار في معدتي…و أذابتْ أحشائي…
الطبيب لحق بي و أقبل إليّ يشجعني بكلمات لو تكررتْ ألف مرة ما فلحتْ في لمّ ذرتين من قلبي المبعثر…
قال أخيرا :
” علينا إتمام بعض الإجراءات الورقية اللازمة قبل أخذها لغرفة العمليات “
الكلمة فطرتْ قلبي لنصفين و دهستْ كل ٍ على حدة…
التفتُ إليه أخيرا و قلتُ متشبثا بالوهم:
” ألا يمكن علاجها بشكل آخر؟؟ أرجوك… إنها صغيرة و لا تتحمّل أي شيء… كيف تخضع لعملية؟؟ لا تتحمل… “
و كان الطبيب صبورا و متفهما و عاد يواسيني…
” لا تقلق لهذا الحد… عالجنا إصابات مشابهة و شفيتْ بإذن الله… “
لكن مواساته لم تخمد من حمم القلق شرارة واحدة.
هنا أقبلتْ الممرضة تخاطبه قائلة :
” أبلغنا أخصائي التخدير و غرفة العمليات جاهزة يا دكتور “
الطبيب نظر إليّ و قال :
” توكلنا على الله ؟ “
نقلتُ بصري بينه و بين الممرضة ثم إلى رغد …
قلتُ :
” صبرا… دعني استوعب ذلك… أنا مصدوم… “
و أسندتُ رأسي إلى يدي محاولا التركيز…. ظلّ الطبيب و الممرضة واقفين بالجوار قليلا ثم تركاني لبعض الوقت، كي استوعب الموقف و أفكر… ثم عادا من جديد…
قال الطبيب:
” ماذا الآن؟ التأخير ليس من صالحها “
ازدردتُ ريقي و أنا ألهث من القلق… ثمّ نظرتُ إلى رغد و قلتُ :
” يجب أن تعرف ذلك أولا… “
كنتُ لا أزال ممسكا بيدها، اقتربتُ منها أكثر و همستُ :
” رغد “
كررتُ ذلك بصوت ميّت… ولم تستجب، فضربتُ يدها بلطف و أنا مستمر في النداء…
فتحتْ رغد عينيها و جالتْ فيما حولها و استقرتْ عليّ… كانت شبه نائمة من تأثير المخدر…
قلتُ بلهفة :
” صغيرتي…”
و شددتُ على يدها… استجابتْ بأن نطقتْ باسمي
قلتُ :
” كيف تشعرين ؟ كيف الألم ؟؟ “
قالتْ و هي بالكاد تستوعب سؤالي :
” أفضل… أشعر به … لكن أخف بكثير “
قلتُ :
” الحمد لله… سلامتكِ يا صغيرتي ألف سلامة… “
قالتْ :
” سلّمك الله… آه… أشعر بنعاس ٍ شديد جدا وليد… دعنا نعود للمنزل “
لم أتمالك نفسي حينها و تأوهتُ بألم… آه يا صغيرتي… آه… رغد أحسّتْ بشيء… بدأتْ تستفيق و تدرك ما حولها
قالت:
” ما الأمر ؟؟ “
لم أتكلّم … فنظرتْ نحو الطبيب و الممرضة و اللذين قالا بصوت واحد:
” حمدا لله على السلامة “
ثم تقدّم الطبيب نحوها و بلطف حرّك يدها المصابة و قد زاد تورمها و احمرارها فأنتْ رغد.
قال :
” ألا زالتْ تؤلمك ؟ “
أجابتْ :
” نعم. لكن أخف بكثير من ذي قبل “
قال :
” هذا من تأثير المسكن القوي و لكن الألم سيعود أقوى ما لم نعالجها عاجلا. انظري… لقد تفاقم التورم بسرعة “
رغد نظرتْ إلى يدها ثم إليّ بتساؤل… و لم أعرف بم أجيب و لا كيف أجيب…
” وليد ؟؟ “
ترددتُ ثم قلتُ :
” يبدو…أن الإصابة جدية يا رغد… يقول الطبيب أن لديك كسور و أنكِ بحاجة إلى جراحة “
و لو رأيتم مقدار الذعر الذي اكتسح وجه رغد… آه لو رأيتم !!
جفلتْ جفول الموتى… ثم سحبتْ يدها من بين أصابعي و وضعتها على صدرها هلعا… و كتمتْ أنفاسها قليلا ثم صاحتْ :
” ماذا !!؟؟ “
حاولتُ تهدئتها و أنا الأحوج لمن يهدئني… كانت ردة فعلها الأولى مزيجا من الذعر… و الفزع… و الخوف… و الارتجاف… و النحيب… و الرفض… والبكاء…
و انفعالات يعجز قلب وليد عن تحمّلها و شرحها…
و كانتْ مشوشة التركيز و التفكير بسبب الدواء المخدر و لا أدري إن كانتْ قد استوعبتْ بالفعل الخبر و ما إذا كانتْ تقصد بإرادة ردود فعلها تلك، أم أن الأمر كان وهما صنعه المخدر…؟؟
بعد أن هدأتْ قليلا و أنا ما أزال قربها أكرر:
” ستكونين بخير…لا تخافي صغيرتي… ستكونين بخير بإذن الله”
قالتْ و هي ممسكة بيدي :
” وليد أرجوك.. لا تتركني وحدي “
قلتُ مؤكدا بسرعة :
” أبدا صغيرتي… سأبقى معكِ طوال الوقت و لن أبتعد عن باب غرفة العمليات مترا واحدا… اطمئني”
نظرتْ رغد إليّ بتوسل… فكررتُ كلامي مؤكدا… حينها قالتْ :
” هل نحن في الحقيقة؟؟ هل يحصل هذا فعلا؟؟ هل أنا مصابة و في المستشفى؟؟ “
قلتُ بأسى :
” نعم لكن هوّني عليك يا رغد بالله عليك… قطّعتِ نياط قلبي…أرجوكِ يكفي… الحمد لله على كل حال … بلاء من الله يا صغيرتي… لا تجزعي…”
ابتلعتْ رغد آخر صيحاتها و حبستْ دموعها و بدأتْ تتنفس بعمق و استسلام…
و بعد قليل نظرتْ إليّ و قالتْ :
” أشعر بنعاس شديد… ماذا حصل لي؟؟ عندما أصحو لا أريد أن أذكر من هذا الكابوس شيئا… أرجوك وليد “
وأغمضتْ عينيها و غابتْ عن الوعي مباشرة…
ناديتها بضع مرات فلم تجبْ… نظرتُ إلى الطبيب فأشار بإصبعه إلى المصل المغذي… ثم قال:
” علينا الاستعجال الآن… “
و بهذا ذهبتُ مفوضا أمري إلى الله و أتممتُ الإجراءات المطلوبة و من ثم تم نقل رغد إلى غرفة العمليات…
بقيتُ واقفا على مقربة التهم الهواء في صدري التهاما…علّه يخمد الحريق المتأجج فيه…
لم يكن معي هاتف و لم أشأ الابتعاد خطوة أخرى عن موقع رغد… وظللتُ في انتظار خروجها أذرع الممر ذهابا و جيئا و أنا أسير على الجمر المتقد… و لساني لا ينقطع عن التوسل إلى الله… إلى أن انتهتْ العملية بعد فترة و رأيتهم يخرجون السرير المتحرك إلى الممر…
لم يكن الطبيب موجودا فلحقتُ بسرعة بالممرضات اللواتي كنّ يقدن السرير و ألقيتُ نظرة متفحصة على وجه رغد…
كانت هناك قبعة زرقاء شبه شفافة تغطي شعرها و قارورتان من المصل الوريدي علّقتا على جانبيها تقطران السائل إلى جسمها…
اقتربتُ منها و أنا أنادي باسمها ففتحتْ عينيها و لا أدري إن كانت رأتني أم لا… ثم أغمضتهما و نامتْ بسلام…
سحبتُ الغطاء حتى غطيتُ رأسها كاملا… و سرتُ معها جنبا إلى جنب إلى أن أوصلتها الممرضات إلى إحدى الغرف… و هناك ساعدتُهن في رفعها إلى السرير الأبيض… و فيما نحن نحملها شاهدتُ الجبيرة تلف يدها و رجلها فكدتُ أصاب بالإغماء من مرارة المنظر…
شعرتُ بتعب شديد… و كأنني حملتُ جبلا حديديا على ذراعي لعشر سنين… و تهالكتُ بسرعة على حافة السرير قرب رغد…
و عندما همّتْ إحداهن بتغيير الغطاء أشرتُ إليها بألا تفعل… و طلبتُ منها أن تلف رأس رغد بوشاحها الأسود…
” متى ستصحو ؟ “
سألتُ بصوت ٍ متبعثر… فأجبنني :
” عما قريب. لا تقلق. من الخير لها أن تبقى نائمة “
سألتُ :
” و أين الطيب ؟ “
أجابتْ إحداهن :
” سيجري عملية طارئة لمريض آخر الآن “
بقيتْ إحدى الممرضات تفحص العلامات الحيوية لرغد و تدون ملاحظاتها لبضع دقائق ثم لحقتْ بزميلتيها خارج الغرفة…
في هذه اللحظة، أنا و صغيرتي نجلس على السرير الأبيض… هي غائبة عن الوعي… و أنا غائب عن الروح… لا أحسّ بأي شيء مما حولي… إلا بصلابة الجبيرة التي أمد إليها بيدي أتحسسها غير مصدّق… لوجودها حول يد طفلتي الحبيبة….
لا شيء تمنيته تلك الساعة أكثر من أن يوقظني أحدكم بسرعة و يخبرني بأنه كان مجرد كابوس…
تلفتُ يمنة و يسرة… ربما بحثا عن أحدكم… و لم يكن من حولي أحد…
لمحتُ هاتفا موضوعا على مقربة… و اشتغلتُ بعض خلايا دماغي المشلولة فأوحتْ إليّ بالاتصال بالمنزل…
وقفتُ و تحركتُ و أنا أجوف من الروح… لا أعرف ما الذي يحركني؟ لا أشعر بأطرافي و لا أحس بثقلي على الأرض… و لا أدري أي ذاكرة تلك التي ذكرتني برقم هاتف منزلي!
ظل الهاتف يرن فترة من الزمن… قبل أن أسمع أخيرا صوت أروى تجيب
” وليد ! أخيرا اتصلت َ؟ أخبرني أين أنتما و كيف حالكما و ماذا عن رغد ؟؟ “
عندما سمعتُ اسم رغد لم أتمالك نفسي…
أجبتُ بانهيار و بصري مركز على رغد :
” أجروا لها عملية… إنها ملفوفة بالجبائر… آه يا صغيرتي… منظرها يذيب الحجر… يا إلهي… “
و أبعدتُ السماعة … لم أشأ أن تسمع أروى ما زفره صدري…
ثم قربتها و قلتُ :
” سأتصل حينما تستفيق… نحن في مستشفى الساحل… ادعي الله لأجلها معي “
و أنهيتُ المكالمة القصيرة و عدتُ إلى رغد…
و لا زلتُ لله داعيا متضرعا حتى رأيتُ رغد تتحرك و تفتح عينيها ! تهلل وجهي و اقتربتُ منها أكثر و ناديتها بشغف :
” رغد… صغيرتي… “
و أضفتُ :
” حمدا لله على سلامتك ِ أيتها الغالية… الحمد لله “
رغد رفعتْ رأسها قليلا و نظرتْ نحو يدها و سألتْ :
” هل… أجروا لي العملية ؟ “
و قبل أن أجيب كانت قد حركتْ ذراعها الأيمن حتى صارتْ يدها أمام عينيها مباشرة… تحسستْ الجبيرة الصلبة باليد الأخرى… ثم نظرتْ إليّ …
ثم حاولتْ تحريك رجلها و علامات الفزع على وجهها… ثم سحبتْ اللحاف قليلا لتكشف عن قدمها المصابة و تحدق بها قليلا… و تعود لتنظر إليّ مجددا:
” لا استطيع تحريك رجلي ! وليد… هل أصبتُ بالشلل ؟ أوه لا…. “
إلى هنا و لا استطيع أن أتابع الوصف لكم… عما حلّ بالصغيرة آنذاك…
لقد سبب وجودنا إرباكا شديدا في القسم… و خصوصا للممرضات اللواتي على رؤوسهن وقعتْ مهمة تهدئة هذه الفتاة الفزعة و رفع معنوياتها المحطمة…
كان صراخها يعلو رغم ضعف بدنها… و كل صرخة و كل آهة و كل أنة… أطلقتها رغد… اخترقت قلبي قبل أن تصفع جدران الغرفة…
بجنون ما مثله جنون… تشبثتْ بي و هي تصرخ:
” أريد أمي “
ربما لم تكن رغد تعي ما تقول بفعل المهدئات… أو ربما… الفزع أودى بعقلها… أو ربما يكون الشلل قد أصاب رجلها فعلا…!!
عندما أتى الطبيب و أعطاها دواء ً مخدرا… بدأتْ تستسلم و هي تئن بين يديّ…
الطبيب أكد مرارا و تكرارا أن شيئا لم يصب العصب و أن الأمر لا يتعدى تأثير البنج المؤقت… و أن ردة فعلها هذه شيء مألوف من بعض المرضى… لكن كلامه لم يمنحني ما يكفي من الطمأنينة…
التفتُ إلى رغد التي كانتْ متمسكة بي بيدها اليسرى تطلب الدعم النفسي:
” لا تخافي صغيرتي… ستكونين بخير… ألم تسمعي ما قال الطبيب ؟؟ إنها أزمة مؤقتة و ستستعيدين كامل صحتك و تعودين للحركة و للمشي طبيعيا كما في السابق…”
رفعتْ رغد بصرها إليّ و قالتْ و هي تفقد جزء ً من وعيها:
” هل … سأصبح معاقة و عرجاء ؟ “
هززتُ رأسي و قلتُ فورا:
” كلا يا رغد… من قال ذلك ؟؟ لا تفكري هكذا أرجوك “
قالتْ :
” لكن كاحلي تمزّق… و عظامي انكسرت ! ربما لن أستعيدها ثانية! ماذا سيحل بي إن فقدتُهما للأبد؟ ألا يكفي ما فقدتُ يا وليد؟ ألا يكفي؟؟ “
قلتُ منفعلا :
” لا تقولي هذا… فداكِ كاحلي و عظامي و كل جسمي و روحي يا رغد ! ليتني أصِبتُ عوضا عنكِ يا صغيرتي الحبيبة “
أمسكتُ برأسها…. كنتُ أوشك على أن أضمه إليّ بقوة… و جنون… نظرتُ إلى عينيها… فرأيتهما تدوران للأعلى و ينسدل جفناها العلويان ليغطياهما ببطء… بينما يظل فوها مفتوحا و آخر كلامها معلقا على طرف لسانها..
و أنا على وشك الخروج للعمل صباحا تلقيتُ اتصالاً من رقم هاتفٍ غريب، و عرفتُ بعدها أنه صديقي وليد شاكر!
أخبرني وليد بأنّ قريبته قد أُصيبتْ إصابة بالغة في رِجلها و يدها و أنّه تمّ إدخالها إلى المستشفى و إجراء عمليّة طارئة لها آخر الليل… و رجاني أن أصطحِب زوجته و والدتها إلى المستشفى…
صديقي وليد كان منهاراً و هو يتحدّث إليّ عبر الهاتف وكان صوته حزيناً و أقرب إلى النحيب. و لأنني صديقه الأوّل فقد كان وليد يلجأ إليّ كلما ألمّتْ به ضائقة أو أصابته كربة… و كان يضعف قليلا لكنّه سرعان ما يستعيد قواه و يقف صامداً دون انحناء… أمّا هذه الأزمة فقد دهورتْ نفسيته بشكل سريع و شديد للغاية، ممّا أدى إلى انحدار صحّته و قدرته على العمل تباعا.
يعاني وليد من قرحة مزمنة في المعدة و هي تنشط و تتفاقم مع الضغوط النفسية. و قد كان الأطباء ينصحونه بالاسترخاء و النقاهة كلما تهيّجتْ و بالإقلاع عن التدخين، و أظنّه أقلع عن السجائر و لكنّه أهمل علاج قرحته في هذه الفترة إلى أن تطوّر وضعها للأسوأ كما ستعرفون لاحقاً.
وليد متعلّق بشدّة بابنة عمّه المصابة هذهِ و أخالهُ يخبل لو ألّم بها شيء!
و قد كانت ابنة عمّه ترافقه كالظلّ عندما كنّا صغارا في سني المدارس و كان يحبّها جدا و كثيرا ما اصطحبها معه في زياراته لي و في تجوالنا سوياً… و قد افترق عنها سنوات حبسه في السجن… و رحلتْ مع عائلته بعيدا عن المدينة… ثمّ دارتْ الأيام لتعيد جمعه بها من جديد… و تجعله وصياً شرعيا عليها و مسؤولا أولا عن رعايتها…
عندما وصلنا دخلت ْ السيدتان إلى غرفة المريضة و رأيتُ وليد يخرج إليّ بعد ذلك…
و كما توقـّعت ُ بدا الرجل متعباً جداً… و كأنّه قضى الليلة الماضية في عملٍ بدني شاق… سألته عن أحواله و أحوال قريبته فردّ ببعض الجمل المبتورة و تمتم بعبارات الشكر
” لا داعي لهذا يا عزيزي ! إننا أخوَان و صديقان منذ الطفولة ! “
ابتسم وليد ابتسامة شاحبةً جداً ثم قال:
” عليّ أن أسرع “
قلتُ مقاطعا :
” لا تبدو بحالةٍ جيدةٍ يا وليد ! دعني أقلّك بسيارتي… ذهاباً و عودةً “
و أعاد الابتسام و لكن هذه المرة بامتنان…
أوصلتُ وليد إلى منزله حيث قضى حوالي العشرين دقيقة رتّب خلالها أموره و شربنا سوية بعض الشاي على عجل…
الرجل كان مشغول البال جداً و مخطوف الفكر… و قد حاولتُ مواساته و تشجيعه لكنه كان قد تعدّى مستوى المساواة بكثير، و بما أنني أعرفه فأنا لا استغرب حالته هذه… إنه مهووس بقريبته و قد باح لي برغبته في الزواج منها رغم أي ظروف !
و قبل أن أركن السيارة في مواقف المستشفى الخاصة رأيته يفتح الباب و يكاد يقفز خارجاً
” على مهلكَ يا رجل ! هوّن عليك ! “
قال و هو يمسك بالباب المفتوح قليلا :
” أخشى أن تستفيق ثم لا تجدني و تصاب بالفزع… إنها متعبة للغاية يا سيف و إن أصابها شيء بها فسأجن “
ألم أقل لكم ؟؟
رددتُ عليه بتهوّر :
” أنت مجنون مسبقاً يا وليد “
و انتبهتُ لجملتي الحمقاء بعد فوات الأوان. التفتَ وليد إليّ و قد تجلّى الانزعاج على وجهه ممزوجاً بالأسى…فاعتذرتُ منه مباشرةً :
” آسِف يا وليد ! لم أقصد شيئاً “
تنهّد وليد و لم يعلّق… ثم شكرني و غادر السيارة… هتفتُ و أنا ألوّح له من النافذة و هو يهرول مبتعداً :
” اتصل بي و طمئني إن جدّ شيء “
و توليتُ بنفسي إبلاغ السيّد أسامة المنذر- نائب المدير- أن وليد سيتغيب عن العمل و أوجزتُ له الأسباب.
السيّد أسامة كان نائباً للمدير السابق عاطف – أبي عمّار – البحري رحمهما الله، و كان على علاقة وطيدة بآل بحري، و على معرفة جيّدة بنا أنا و والدي و فور اكتشافه بأن وليد هو ذاته قاتل عمّار، قدّم استقالته و رفض التعاون مع وليد و العمل تحت إدارته. و لكن… بتوصية منّي و من والدي، و بعد محاولات متكررة نجحنا في تحسين صورة وليد في نظره و أفلحنا في إقناعه بالعودة للعمل خصوصا و أن وجوده كان ضروريّا جدا بحكم خبرته الطويلة و أمانته. و مع الأيام توطّدتْ العلاقة بين وليد و السيّد أسامة الذي عرف حقيقة وليد و أخلاقه و استقامته. و صار يقدّره و يتعامل معه بكل الاحترام و المحبّة. أما بقيّة موظفي المصنع و الشركة، فكانتْ مواقفهم تجاه وليد متباينة و كنتُ في خشية على وليد من ألسنتهم. غير أن وليد تصرّفَ بشجاعةٍ و لم يعرْ كلامهم اهتماماً حقيقياً و أثبتَ للجميع قدرته على الصمود و تحمُّل مسؤولية العمل مهما كانتْ الأوضاع.
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
لوّحتُ لسيف بيدي و أسرعتُ نحو غرفة رغد.
وجدتُها لا تزال نائمةً… و إلى جوارها تجلسُ أروى و الخالة. سألتهما عما إذا كانت قد استيقظتْ فأجابتا بالنفي… اقتربتُ منها فإذا بأروى تمدّ يدها إليّ بهاتفي المحمول و تقول:
” تفضّل.. جلبته معي لكَ “
تناولتُ الهاتف و جلستُ على مقربة أتأمل وجه رغد… و ألقي نظرةً بين الفينة و الأخرى على شاشةِ جهاز النبض الموصول بأحد أصابعها…
بعد قليل مرّتْ الممرّضة لتفقّد أحوال رغد و نزعتْ الجهاز عنها. خاطبتها :
” كيف هي ؟ “
أجابتْ :
” مستقرة “
قلتُ :
” و لماذا لا تزال نائمة ؟ “
قالتْ :
” يمكنكم إيقاظها إن شئتم “
و بعد أن غادرتْ بقينا صامتين لوهلة… ثم التفتُّ نحو أروى و سألتها:
” كيف وقعتما ؟ “
ظهر التردد على وجه أروى و اكتسى ببعض الحمرة… ما أثار قلقي… ثم تبادلتْ نظرة سريعة مع خالتي و نطقتْ أخيرا :
” كنا… واقفتين على الدرجات… و… تشاجرنا… ثمّ…”
قاطعتها و سألتُ باهتمام :
” تشاجرتما ؟؟ “
أومأتْ أروى إيجابا… و سمعتُ خالتي تُتمتم:
” يهديكما الله “
قلتُ بشغف :
” في ذلك الوقت المتأخر من الليل؟؟ و على عتبات السلم؟؟ “
و تابعتُ :
” لأجل ماذا؟؟ و كيف وقعتما هكذا؟؟ “
قالتْ أروى مباشرةً و باختصار:
” كان حادثاً… عفوياً “
انتظرتُ أن تفصّل أكثر غير أنها لاذتْ بالصمت و هربتْ بعينيها منّي…
قلتُ مستدرّاً توضيحها:
” و بعد؟ “
فرمقتني بنظرة عاجلة و قالتْ :
” مجرّد حادثٍ عفوي”
انفعلتُ و أنا ألاحظ تهربّها من التفصيل فقلتُ بصوت ٍ قوي :
” مجرد حادثٍ عفوي؟؟ اُنظري ما حلّ بالصغيرة… ألم تجدي وصفاً أفظع من (حادث عفوي)؟؟ “
نطقتْ أروى في وجس :
” وليد ! “
فرددتُ بانفعال :
” أريد التفاصيل يا أروى؟ ما الذي يجعلكِ تتشاجرين مع رغد في منتصف الليل و على عتبات السلم ؟؟ أخبريني دون مراوغة فأنا رأسي بالكاد يقف على عنقي الآن “
هنا أحسسنا بحركةٍ صدرتْ عن رغد فتوجهتْ أنظارنا جميعا إليها…
فتحتْ رغد عينيها فتشدّقتُ بهما بلهفة… و اقتربتُ منها أكثر و ناديتُ بلطف :
” رغد … صغيرتي … “
الفتاة نظرتْ إليّ أولا ثم راحتْ تجوبُ بأنظارها فيما حولها و حين وقعتْ على أروى و القابعة على مقربة فجأة… تغيّر لونها و احتقنتْ الدماء في وجهها وصاحتْ :
” لا… أبْعِدْها عني… أبْعِدْها عنّي… “
أروى قفزتْ واقفةً بذعر… و الخالة مدّتْ يديها إلى رغد تتلو البسملة و تذكر أسماء الله محاولة تهدئتها…
أمسكتُ بيد رغد غير المصابة و أنا أكرر :
” بسم الله عليك ِ … بسم الله عليك ِ … اهدئي رغد أرجوك ِ … “
رغد نظرتْ إليّ و صاحتْ بقوة:
” أبْعِدْها عني… لا أريد أن أراها… أبعدها… أبعدها … أبعدها “
التفتُ إلى أروى و صرختُ:
” ما الذي فعلتِه بالفتاة يا أروى؟؟ أُخرجي الآن “
أم أروى قالتْ معترضةً :
” وليد ! “
فقلتُ غاضباً :
” ألا ترين حال الصغيرة ؟؟ “
و أتممتُ موجهاً الكلام إلى أروى :
” أُخرُجي يا أروى… أنا ما كدتُ أصدّق أنها هدأتْ قليلا… ابقي في الخارج هيّا “
و أروى سرعان ما أذعنتْ للأمر و هرولتْ إلى الخارج… حينها التفتُ إلى رغد و أنا أحاول تهدئتها :
” ها قد ذهبتْ … أرجوك اهدئي يا صغيرتي… بسم الله عليكِ و يحفظكِ … “
لكنها قالتْ و هي لا تتمالك نفسها:
” لا أريد أن أراها… أبْعِدْها عني… أتتْ تشمتُ بي… إنها السبب… أنا لا أطيقها…قلتُ لك لا أريد أن أراها… لماذا سمحتَ لها بالمجيء؟؟ هل تريد قتلي؟ أنتَ تريد لي الموت… لماذا تفعل هذا بي يا وليد ؟؟ ألا يكفي ما أنا فيه؟؟ لماذا قـُل لماذا… لماذا ؟؟ “
جمّدني الذهول حتّى عن استيعاب ما أسمعه… لا أدري إن كان هذا ما قالته بالفعل أو إن كانت رغد هي التي تتكلّم الآن… أنا لن أؤكد لكم بسماعي شيء… إن أذنيّ فقدتا حاسة السمع و دماغي فقد القدرة على الفهم و ذاكرتي أُتْلفتْ من كميّة الفزع المهولة التي اجتاحتني منذ البارحة و لا تزال تدكّ عظامي دكا ً…
ثوان ٍ و إذا بالممرضة تدخل الغرفة و تسأل:
” ما الذي حدث ؟؟ “
ترددتُ ببصري بين رغد الثائرة و الممرضة… ثم هتفتُ منفعلاً و موجهاً كلامي لها :
” أين هو طبيبكم دعوهُ يرى ما الذي حدث للفتاة إنها ليستْ بخير… ليستْ بخير…”
و بعدها جاء الطبيب – و هو غير الجراح الذي أجرى لرغد العملية – و لم تسمح له رغد بفحصها بل صرختْ :
” أخرجوا جميعكم… لا أريدكم… ابتعدوا عني… أيها المتوحشون “
جنّ جنون الفتاة… و تصرّفتْ بشكل أقرب للهستيريا… نعتتنا بالوحوش و الأوغاد… و حاولتْ النهوض عن السرير… و نزعتْ أنبوب المصل الوريدي من ذراعها فتدفقتْ الدماء الحمراء ملوّنة الألحفة البيضاء… و سال المصل مبللاً ما حوله… و عندما حاولتْ الممرضة السيطرة على النزيف زجرتها رغد بعنفٍ و رمتها بالوسادة التي كانتْ تنام عليها…
” ابتعدوا عنّي… أيها الأوغاد… أخرجوا من هنا… لا أريد أحداً معي… أكرهكم جميعاً… أكرهكم جميعاً…”
لدى رؤيتي الحالة المهولة لصغيرتي أصابني انهيار لا يضاهيه انهيار… و تفاقمتْ شكوكي بأنها جنّتْ… لا قدّر الله… و بنبرةٍ عنيفةٍ طلبتُ من… لا بل أمرتُ كلاً من الخالة و الطبيب و الممرضة بالمغادرة فوراً… علّي أفلح في تهدئة صغيرتي بمفردي… لقد كنتُ مذهول العقل عليها و أريد أن أطمئن إلى أنها بالفعل لم تُجن !
أذعنوا لأمري و طيور القلق محلّقة فوق رؤوسهم… و بعد أن خرجوا التفتُ إلى صغيرتي و التي كانت لا تزال تردد بانفعال:
” اخرجوا جميعكم ابتعدوا عنّي… “
قلتُ و أنا أسير عكس اتجاه أمرها و أراقب ثورتها و بالكاد تحملني مفاصلي من فزعي على حالها:
” لقد خرجوا يا رغد… إنه أنا وليد… “
و ازدردتُ ريقي :
هذا أنا وليد… هل ترينني؟ هل تميزينني…؟ هل تعين ما تفعلين يا رغد؟ بالله عليك لا تجننيني معك…
رغد نظرتْ إليّ و هي لا تزال على انفعالها و قالتْ :
” أنتَ أحضرتها إليّ… تريدان قتلي غيظاً… أنتما تكرهانني… كلكم تكرهونني… كلكم متوحشون… كلّكم أوغاد… “
طار طائر عقلي… انفصمتْ مفاصلي… هويتُ على السرير قربها… مددتُ يديّ بضعف شديد إلى كتفيها و نطقتُ :
” رغد… ما الذي تهذين به؟؟ ماذا أصاب عقلك أنبئيني بربّك؟؟ آه يا إلهي هل ارتطم رأسكِ بالسلّم ؟؟ هذا أنا وليد… وليد يا رغد… وليد… هل تعين ما تقولين؟؟ ردي عليّ قبل أن أفقد عقلي ؟ “
و إذا بي أشعر بحرارة في جفوني… و بشيء ما يتحرّك على عينيّ…
رغد حملقتْ بي برهة و قد توقـّفتْ عن الصراخ… ثمّ أخذتْ تئِنّ أنين المرضى أو المحتضرين… و هي تنظر إليّ… و أنا أكاد أفقد وعيي من شدّة الذهول و الهلع…
اقتربتُ منها أكثر… أسحب ثقل جسدي سحباً… حتّى صرتُ أمامها مباشرة. حركتُ يديّ من على كتفيها و شددتُ على يدها السليمة إن لأدعمها أو لأستمد بعض الدعم منها… لكنها سحبتْ يدها من قبضتي… ثم رفعتها نحو صدري و راحتْ تضربني… بكلتا يديها
ضرباتها كانتْ ضعيفة قويّة… مواسية و طاعنة… غاضبة و خائفة… في آن واحد… و فوق فظاعة من أنا فيه رمتني في زوبعة الذكريات الماضية… الماضي الجميل… حيث كانتْ قبضة صغيرتي تصفع صدري عندما يشتدّ بها الغضب منّي…
استفقتُ من الشلل الذي ألمّ بحواسي و إدراكي على صوتها تقول بانهيار:
” لماذا أحضرتها إلى هنا ؟ تودّون السخرية منّي؟؟ أنتم وحوش… أكرهكم جميعاً “
صحتُ منكسرا:
” لا ! كلا… أنتِ لا تعنين ما تقولين يا رغد ! أنتِ تهذين… أنتِ غير واعية… لا ترين من أمامكِ… أنا وليد… انظري إليّ جيدا… أرجوك يا رغد… سيزول عقلي بسببكِ… آه يا رب… إلا هذا يا رب… أرجوك… أرجوك يا رب… إلا صغيرتي… لا احتمل هذا… لا احتمل هذا… “
أمسكتُ بيديها محاولاً إعاقتها عن الاستمرار في ضربي و لكن بلطفٍ خشية أن أوجعها…
” توقـّفي يا رغد أرجوكِ ستؤذين يدكِ… أرجوكِ كفى… أنتِ لا تدركين ما تفعلين…”
لكنها استمرّتْ تحركهما بعشوائية يمينا و يسارا و هما قيد قبضتَيّ ، ثم نظرتْ إلى الجبيرة و امتقع وجهها و صاحتْ بألم:
” آه يدي…”
تمزّقتُ لتألمها… أطلقتُ صراح يديها ثم حرّكتُهما بحذرٍ و لطفٍ دون أن تقاومني، و أرخيتهما على السرير إلى جانبيها و سحبتُ اللحاف و غطيتهما… و قلتُ :
” سلامتكِ يا رغد… أرجوكِ ابقي هادئة… لا تحرّكيها… أرجوكِ… عودي للنوم صغيرتي… أنتِ بحاجة للراحة… نامي قليلا بعد “
فأخذتْ تنظر إليّ و في عينيها خوفٌ و اتهامٌ… و عتابٌ قاسٍ… و أنظر إليها و في عينيّ رجاءٌ و توسّلٌ و هلعٌ كبير… كانت أعيننا قريبةً من بعضها ما جعل النظرات تصطدم ببعضها بشدّة…
قلتُ و أنا أرى كلّ المعاني في عينيها… و أشعر بها تحدّق بي بقوّة :
” أرجوكِ صغيرتي اهدئي… لن يحدث شيءٌ لا تريدينه… لن أدعها تأتي ثانيةً لكن سألتكِ بالله أن تسترخي و تهدّئي من روعكِ… أرجوكِ… “
رغد بعد هذه الحصّة الطويلة من النظرات القوية… هدأتْ و سكنتْ و أغمضتْ عينيها و أخذتْ تتنفس بعمق… مرّتْ لحظة صامتة ما كان أطولها و أقصرها… بعدها سمعتُ رغد تقول للغرابة:
” هل سأستطيع رسم اللوحة ؟ “
نظرتُ إلى وجهها بتشتتٍ… و هو مغمض العينين و كأحجية غامضة و مقفلة الحلول…
أي لوحة بعد ؟؟
قلتُ :
” أي لوحة ؟ “
رغد حرّكتْ يدها المجبّرة ثم قالتْ:
” لكنني رسمتها في قلبي… حيث أعيد رسمها كل يوم… و حتى لو لم أستطع المشي… احملني على كتفيك… أريد أن أطير إلى أمي”
ثم اكفهرّ وجهها و قالتْ :
” آه… أمّي…”
و صمتتْ فجأة…
بعد كل ذلك الجنون… و الهذيان… صمتتْ الصغيرة فجأة و لم تعد تتحرّك… حملقتُ في وجهها فرأيتُ قطرة يتيمة من الدموع الحزينة… تسيل راحلة على جانب وجهها ثم تسقط على الوسادة … فتشربها بشراهة… و تختفي…
ناديتُها و لم ترد… ربّتُ عليها بلطفٍ فلم تُحس… هززتها بخفة ثم ببعض القوة فلم تستجب… خشيتُ أن يكون شيئا قد أصابها فجأة… فقد كانتْ قبل ثوانٍ تصرخ ثائرة و الآن لا تتحرّك… و لا تستجيب… ناديتُ بصوتٍ عالٍ:
و كان الاثنان يقفان خلف الباب و سرعان ما دخلا و أقبلا نحونا
قلتُ هلِعاً :
” أنظرا ماذا حدث لها… إنها لا تردّ عليّ… “
الطبيب و الممرّضة اقتربا لفحصها فابتعدتُ لأفسح لهما المجال… أوصل الطبيب جهاز قياس النبض بإصبع رغد و تفحّصها ثم أمر الممرّضة بإعادة غرس أنبوب المصل في أحد عروقها فباشرتْ الممرضة بفعل ذلك دون أي مقاومة أو ردّة فعل من رغد… الأمر الذي ضاعف خوفي أكثر فأكثر…
جلبتْ الممرضة عبوة مصل أخرى و جعلتْ السائل يتدفق بسرعة إلى جسد رغد ثم أعادتْ فحصها و قياس ضغط دمها… و خاطبتْ رغد سائلةً:
” هل أنتِ بخير؟؟ كيف تشعرين؟؟ “
رغد عند هذا فتحتْ عينيها و نظرتْ إلى الاثنين و كأنها للتو تدرك وجودهما فعبستْ و قالتْ زاجرة:
” ابتعدا عنّي “
لكنّها كانت مستسلمة بين أيديهما.
سألتها بدوري في قلق :
” رغد هل أنتِ بخير ؟؟ “
فرّدتْ و هي تشيح بوجهها و تحرّك يدها المصابة :
” ابتعدوا عنّي… دعوني و شأني… متوحشون… آه… يدي تؤلمني “
استدرتُ إلى الطبيب و الذي كان يتحسّس نبض رسغها الأيسر و سألتُ:
” ما حلّ بها؟؟… طمئنّي؟؟ “
” ضغطها انخفض… لكن لا تقلق سيتحسّن بعد قليل “
سألتُ مفزوعاً :
” ضغطها ماذا ؟؟ انخفض؟؟ لماذا ؟ طمئنّي أرجوك هل هي بخير ؟؟ “
نظر إليّ نظرة تعاطف و طمأنة و قال :
” اطمئن. سيتحسّن بسرعة. إنها نزعتْ الأنبوب من يدها فجأة… و كان المصل يحتوي مسكنا للألم يجب أن يُخفّف بالتدريج كي لا يسبّب هبوطاً مفاجئاً في ضغط الدم. الوضع تحت السيطرة فلا تقلق “
و كيف لا أقلق و أنا أرى من أمر صغيرتي العجب ؟؟
قلتُ مستميتاً إلى المزيد من الطمأنة :
” كانتْ غير طبيعية البتة… ألا تظن أنه ربّما أُصيب رأسها بشيء؟؟… إنّها تهذي و تتصرّف على غير سجيتها… أرجوك تأكّد من أن دماغها بخير “
قال الطبيب :
” نحن متأكدون من عدم إصابة الرأس بشيء و الحمد لله. لكن الواضح أنّ نفسيّتها متعبة من جرّاء الحادث، و هذا أمرٌ ليس مستبعداً و يحدث لدى الكثيرين.. تحتاج إلى الدعم المعنوي و أن تكونوا إلى جانبها “
قلتُ متفاعلاً مع جملته الأخيرة:
” إنها لا تريد منّا الاقتراب منها “
و كأنّ رغد لم تسمع غير تعقيبي هذا فالتفتتْ إلينا و قالتْ :
” دعوني و شأني “
ثمّ سحبتْ يدها من يد الطبيب و أمسكتْ باللحاف و خبأتْ رأسها تحته كلياً…
و طلبتْ منّا أن نخرج جميعا و هذتْ بكلمات جنونية لم أفهم لها معنى…
نظرتُ إلى الطبيب بقلقٍ شديد :
” أظنّها جُنّتْ… يا دكتور.. افعل شيئا أرجوك… ربّما جنّتْ ! “
قال :
” كلا كلا… لا سمح الله. كما قلتُ نفسيتها متعبة… سأعطيها منوماً خفيفاً “
و بقيتْ رغد على حالها و سمعتها تقول و وجهها مغمور تحت اللحاف:
” لا تُعِدها إلى بيتنا ثانية… لا أريد أن أراها … أبدا “
و كررتْ و هي تشدّ على صوتها :
و لمّا لم تسمع ردا قالتْ :
” هل تسمعني؟؟ وليد إلى أين ذهبت ؟ “
لقد كانتْ تخاطبني من تحت اللحاف… و أنا لا أعرف إن كانت تعني ما تقول…
قلتُ و أنا أقترب لأُشعرها بوجودي فيما صوتي منكسر و موهون :
” أنا هنا… نعم أسمع… حاضر… سأفعل ما تطلبين… لكن أرجوك اهدئي الآن صغيرتي… أرجوكِ فما عاد بي طاقة بعد”
قالتْ:
” إنها السبب “
أثار كلامها اهتمامي… سألتُها :
” ماذا تعنين؟؟ “
و لم ترد…
فقلتُ :
” أ تعنين أنّ أروى… “
و لم أتمّ جملتي، إذ أنها صرختْ فجأة :
” لا تذكر اسمها أمامي “
قلتُ بسرعة و توتّر:
” حسناً حسناً… أرجوكِ لا تضطربي “
فسكنتْ و صمتتْ قليلا… ثم سمعتها و للذهول تقول :
” أريد أمّي “
شقّت كلمتها قلبي إلى نصفين…
الممرضة سألتني :
” أين والدتها؟ “
فعضضتُ على أسناني ألماً و أجبتُ بصوتٍ خافتٍ :
” متوفّاة “
حرّكتْ رغد رأسها من تحت اللحاف و راحتْ تنادي باكية :
” آه… أمي… أبي… عودا إليّ… لقد كسروا عظامي… هل تسمحان بهذا؟ أنا مدللتكما الغالية… كيف تتركاني هكذا… لا استطيع النهوض… آه… يدي تؤلمني… ساعداني… أرجوكما… لا تتركاني وحدي… من لي بعدكما… عودا إليّ… أرجوكما… عودا… “
الغرفة تشبعتْ ببخار الدموع المغلية التي لم تكد تنسكب على وجنتيّ حتى تبخّرتْ … والتنفس أصبح صعبا داخل الغرفة المغمورة بالدموع…
طلبتُ بنفسي من الطبيب إعطاءها المنوّم الجديد في الحال… حتّى تنام و تكفّ عن النحيب الذي أفجع كلّ ذرّات جسمي… و قطّع نياط قلبي… و أثار حزن و شفقة حتّى الجدران و الأسقف… و بعد أمره أعطتها الممرضة جرعة من المنوم الذي سرعان ما أرسل رغد في دقائق إلى عالم النوم…
و كم تمنيتُ لو أن جرعة أخرى قد حُقنتْ في أوردتي أنا أيضا…
قالت الممرضة :
” ها قد نامتْ “
ثمّ أعادتْ قياس ضغط دمها مجددا و طمأنتني إلى أنه تحسّن… كما أن الطبيب أعاد فحص نبضها و أخبرني بأنه على ما يرام…
بقي الاثنان ملازمين الغرفة إلى أن استقرّ وضع رغد تماما ثم خرج الطبيب و ظلّتْ الممرّضة تسجّل ملاحظاتها في ملف رغد…
وجه رغد كان لا يزال مغمورا تحت اللحاف و خشيت أن يصعب تنفّسها فسحبته حتى بان وجهها كاملاً… و مخسوفاً
كان… كتلةً من البؤس و اليتم… يصيب الناظر إليه بالعمى و يشيب شعره… و آثار واهية من الكدمات تلوّن شحوب وجنتيه الهزيلتين…
قالتْ الممرضة و هي ترى التوتر يجتاحني و أنا أتأمّل وجه الفتاة:
” تبدو محبطةً جدا… من المستحسن أن تأتي شقيقاتها أو المقرّبات لديها لتشجيعها. الفتيات في مثل هذا السن مفرطات الإحساس و يتأثرن بسرعة حتى من أتفه الأمور فما بالكَ بإصابة بالغة..! “
أي شقيقات و أي قريبات ! أنتِ لا تدركين شيئاً…
ثم تابعتْ تكتب في الملف و أنا قابع إلى جوار رغد أتأمل كآبتها و أتألّم…
خاطبتني الممرضة :
” عفوا يا سيّد و لكنّي لاحظتُ شيئا… أريد التأكّد… إذ يبدو أنّ هناك خطأ في معلومات الكمبيوتر… هل اسم والدكما هو شاكر أم ياسر ؟؟ “
التفتُ إليها و قلتُ :
” رغد ياسر جليل آل شاكر… و أنا وليد شاكر جليل آل شاكر “
نظرتْ إليّ الممرضة بتعجّب و علقتْ :
” لستما شقيقين؟!”
” إنها ابنة عمّي، و ابنتي بالوصاية “
زاد العجب على تعبيراتها و أوشكتْ على قول شيء لكنها سكتت و اكتفت بهز رأسها.
أثناء نوم رغد… أعدتُ استعراض شريط ما حصل منذ أفاقتْ قبل قليل إلى أن عادتْ للنوم محاولا تذكّر ما قالته و استيعاب تصرّفاتها… و تذكّرتُ جملتها ( إنها السبب ) و التي أشارتْ بها إلى أروى…
تباً لكِ يا أروى…
كبرتْ الفكرة في رأسي و تلاعبتْ بها الشياطين و لم أعد بقادر على حملها… و أردتُ التحدّث مع أروى حالاً…
طمأنتُ قلبي قليلا على سلامة الصغيرة و تأكدتُ من نومها، ثم طلبتُ من الممرّضة أن تبقى ملازمةً معها لحين عودتي، و خرجتُ من الغرفة بحثاً عن أروى و الخالة فوجدتهما تجلسان على مقربةٍ…
وقفتْ الاثنتان بقلقٍ لدى رؤيتي… أنظاري انصبّتْ على أروى و بدأتْ عيناي تتقدان احمرارا…
الخالة سألتْ :
” كيف هي الآن ؟ “
لم أجبها… إنما اتجهتُ مباشرة إلى أروى و قلتُ بحدة :
” ما الذي فعلتِه برغد ؟ “
التعجّب و الذعر ارتسما على وجه أروى… و لم تتحدّث…
يدي تحرّكتْ نحو ذراعها فأطبقتُ عليه بقسوة و كررتُ بحدّة أكبر :
” أجيبي … ما الذي فعلتِه برغد ؟؟ “
” ماذا عساها تكون قد فعلتْ ؟ لقد وقعتا سويةً “
ضغطتُ بقوّة أكبر على ذراع أروى و صحتُ بوجهها :
” تكلّمي “
أروى حاولتْ التملّص من قبضتي عبثا… ثم استسلمتْ و قالتْ :
” كان حادثا… هل تظنّ أنني دفعتُ بها ؟ هل أنا مجنونة لأفعل ذلك؟؟ “
بخشونةٍ دفعتُ بأروى حتى صدمتها بالجدار الذي كانت تقف أمامه و قلتُ ثائراً :
” بل أنا المجنون … لأفعل أي شيء… انتقاماً لها… “
الخالة اقتربتْ منا و قالتْ :
” وليد ! ماذا دهاك ؟؟ الناس يمرون من حولنا “
أخفضتُ صوتي و أنا أضغط على كتفَي أروى الملصقتين بالجدار أكاد أسحقهما به :
” الفتاة بحالةٍ سيئةٍ… أسوأ من سيّئةٍ… إصابتها بالغةٌ و نفسيّتها منهارةٌ… تتصرّف بغرابة… و تقول أنّكِ السبب… و تنفر منكِ بشدّة… لا تقولي أنّك لم تفعلي شيئاً… أخبريني ما الذي فعلتِه بها يا أروى تكلّمي ؟؟ “
صاحتْ أروى و حاولتْ التحرّر لكنني حشرتها بيني و بين الجدار و صحتُ :
” قلتُ لك ِ مراراً… لا تقتربي منها… إلاّ رغد يا أروى…إلاّ رغد… أي شيءٍ في هذا الكون إلاّ رغد… أنا لا أقبل أن يصيب خدش ٌ أظافرها… و لا يكفيني فيها غير إزهاق الأرواح… و أقسم يا أروى… أقسم بالله العظيم… إن أصاب الفتاة شيءٌ… في عقلها أو جسمها… و كنتِ أنتِ السبب بشكلٍ أو بآخر… فسترين منّي شيئاً لم تريه في حياتك قط… أقسم أنني سأعاقبكِ بأبشع طريقةٍ… و إن اضطررتُ لكسر عظامك كلّها و سحقها بيدي ّ هاتين “
و جذبتُ أروى قليلاً ثم ضربتها بالجدار بعنفٍ مرة أخرى…