رواية انت لي الحلقة 46
بعد أن رحل الزوار عدت إلى غرفة رغد فوجدتها بوجه مبتسم…
تهللت أسارير وجهي… لا بد أن زيارة صديقتها والسيدة أم فادي لها قد رفعت معنوياتها… ورغم أنهما لم تبقيا غير دقائق, إلا أنها كانت كافية لتشجيع رغد وتحسين مزاجها…
ولاحظت بعد ذلك أنها أيضا تناولت وجبة العشاء بشهية جيدة…
الحمدلله
كان الطبيب قد أخبرني بأنه باستطاعت رغد مغادرت المستشفى بعد بضعة أيام, كي تشعر بارتياح أكثر في بيتها وبين أهلها ويزول عنها الإحباط… ولعلمي بأنه لا أهل لها ولا عائلة تنتظرها… غير أروى التي لاتطيقها رغد…
طلبت منه إبقاءها في المستشفى لفترة أطول ريثما تسترد عافيتها وأتدبر أمرها مع أروى بشكل أو بأخر…
وبعد العشاء شكرتني رغد على المساعدة وابتسمت ابتسامت خجلة…
إنها ليست ابتسامة عادية… وتوقيتها غريب جدا…
فما معناها يا ترى؟؟!
تأملتها منتظرا التفسير… ثم سمعتها تسألني:
“وليد… هل تعرف ماذا يقول عنك آل منذر؟”
السؤال كان غريبا! لكن الأغرب هي هذه الابتسامة الحمراء المتفتحة على وجهها…
كأنها وردة بين الثلوج…
ولكن ما بال آل منذر هم الآخرين؟؟
قلت:
“ماذا؟”
رغد بعثرت نظرها عني وأجابت:
“”أنك… المدير الجدي… الذي لا يضحك أبدا!”
ارتفع حاجباي تعجبا وقلت:
“أنا؟”
“نعم”.
قلت مستغربا:
“من يقول ذلك؟”
رغد وهي لاتزال مبتسمة أجابت:
“جميعهم… ربما يهابونك! إنهم يعتقدون بإنك صارم جدا ولا تعرف المزاح ولا الضحك…”
وحدق
ت بي في ابتسام…
عفويا ضحكت ضحكة خفيفة وقلت:
“وهل تصدقين؟؟”
رغد ألقت علي نظرة متأملة وخجلة ثم قالت:
“لايبدو!”
الذي يبدو هو أن صديقة رغد قد نقلت إليها انطباع والدها وشقيقها وعمها عني.
لدي ثلاثة موظفين من آل منذر يعملون معي…يونس وأسامة وابنه زياد…
صحيح أنني جاد ودقيق في العمل, ولكنني لست ثقيل الظل… هل أنا كذلك؟؟
رغد نقلت نظرها إلى الورود التي إلى جوارها وتابعت:
“عندما يعرفونك عن قرب…سيكتشفون كم أنت طيب… وحنون”.
لحظتها… شعرت بروحي تحلق في السماء…
تأملت رغد فوجدتها تحدق في الورود وهي شبه مبتسمة…
آه يا رغد…
هل احتجت لكل ذلك الزمن… لتصفينني ولو بكلمة واحدة تشعرنني بأنني…
شيء في حياتك يستحق الوصف؟؟
وليلتها تجاذبنا أطراف حديث ممتع… أخبرتني رغد فيه عن معرض فني للرسامين
سيقام قريب وأن صديقتها وشقيقها الفنان عارف سيشاركان فيه…
وأنها تتمنى لو تعرض إحدى لوحاتها فيه أيضا…
قالت ذلك ثم نظرت إلى يدها المجبرة وعلاها بعض الحزن الذي سرعان ما تبدد حين قلت مشجعا:
“سنرى ما يمكن فعله”.
ابتسمت رغد ابتسامة رضا وامتنان…
وفارقتها تلك الليلة والبسمة ملتصقة بوجهها…
ذهبت إلى البيت ليلا… وكان أمامي فتاة أخرى أنتظر أن تلتصق ابتسامة ما بوجهها هي الأخرى!
بعد أن أوصلت الخالة إلى المستشفى دخلت إلى مكتبي, فإذا بأروى توافيني بعد دقيقة…
كان جليا على وجهها أنها ترغب في الحديث معي… طلبت منها أن تجلس…
وجلست على المقعد المجاور لها… انتظرت حديثها… ومرت بضع ثوان وبعض التردد مسيطر عليها ثم نطقت أخيرا:
“هل اشتريت التذاكر؟”
تنهدت باستياء… فقد كانت فكرة السفر هي آخر ما أنتظر الحديث عنه…
ونحن في مثل هذه الظروف… ثم قلت:
“ليس بعد”.
فقالت أروى متشككة:
“لكنك لم تنس أمرها أليس كذلك؟”
نظرت إلي نظرة مركزة فأجبتها:
“لا لم أنس… ولكن… دعي رغد تخرج من المستشفى أولا على الأقل”.
ومررت أصابعي في شعري وزفرت بضيق…
إشارة مني إلى أنه ليس بالوقت المناسب لحديث كهذا…
راقبتني أروى قليلا وربما لم تفهم إشارتي وسألتني:
“تبدو قلقا جدا… هل ابنة عمك بخير؟”
انقبضت عضلات فكي لدى سماع سؤالها ثم أرخيتها وأجبت:
“نعم”.
فإذا بأروى تقول مدافعة:
“وليد… اسمعني… أنا لم أدفع بها من أعلى السلم”.
حدقت بها مستغربا… ثم أطلقت بصري للفراغ وقلت:
“أعرف”.
فصمتت أروى ثم قالت:
“كنت أظن أنك فهمت شيئا خطأ… ماحصل هو أننا تشاجرنا وانثنينا لالتقاط شيء من على العتبات فانزلقت قدم رغد وأمسكت بي فوقعنا سوية”.
أثارت جملتها اهتمامي… فأنا حتى الآن لا أعرف تفاصيل ما حصل وتحاشيت سؤال رغد ومن سؤال أروى…
التفت إليها وقلت باهتمام:
“ولأجل ماذا تشاجرتما؟؟”
التزمت أروى جانب الصمت ثم سألتني:
“ألم تخبرك؟”
أجبت:
“لم أسألها… ولن أفعل على الأقل في الوقت الراهن…
لا أريد أن تنفعل بشكل أو بآخر… أريد أن تتحسن نفسيتها قبل أي شيء… لكن أخبريني أنتِ؟”
ترددت أروى ثم عقدت العزم وقالت:
“إنه هاتفك”.
استغربت:
“عفواً؟؟!”
فتابعت أروى:
“أنت نسيته في مكتبك… وكان يرن… وأرادت هي حمله إليك فطلبت منها إعطائي إياه فرفضت وأصرت على حمله إليك بنفسها…
كنا على الدرج… وحينما حاولت أخذه منها وقع على العتبات…”
وتوقفت. صمت لحظة أستوعب فيها ما قيل… ثم سألت:
“ثم ماذا؟؟”
فتابعت:
“أردنا إلتقاطه فوقعنا…”
قلت:
“أهذا كل شيء!؟”
غير مصدق… أن يكون سبب حادث فظيع ومؤلم هو شيء بهذه التفاهة…
ولما رأيت أروى تومىء برأسها (نعم) تملكني الغضب…
قلت تلقائيا:
“هكذا إذن… أردت نزع الهاتف من يدها فكسرتها”.
اندهشت أروى من تعقيبي وقالت:
“قلت لك إنه وقع للأسفل وأردنا التقاطه”.
وقفت مستاءً وقلت:
” أنا لم أنسه في المكتب أصلاً… بل أنا من أعطاها إياه تلك الليلة ولم يكن هناك داعٍ لأن تتدخلي لاستعادته”.
عبس وجه أروى وقالت مستنكرة:
“وليد! لقد كنتَ نائما في غرفتك… أردت إعادته إليك ليوقظك وقت الصلاة كالمعتاد… وهي أرادت أن تفعل هذا بنفسها”.
قلت بشيء من العصبية:
“ولماذا اعترضتها؟؟ أمن أجل شيء بهذه التفاهة تتسببان بحادث بهذا الحجم؟؟
لقد تكسرت عظامها وها هي طريحة الفراش كالمعاقة… كنت أعتقد أن شجاركما قام على أمر شأنا…
تقولين من أجل هاتف؟؟! ألا تخفين عني شيئا أكبر يا أروى؟؟”
هنا وقفت أروى بانفعال وهتفت بغضب:
ليس من أجل الهاتف… وأنا ليس لدي ما أخفيه عنك, مثلما تفعل أنت…
ولا أسمح بأن تتجاوز هي حدودها… كيف كنت تتوقع مني أن أتصرف؟؟ أأتركها تذهب إليك وأنا واقفة أتفرج؟؟
هل نسيت إنني أنا زوجتك وأقرب الناس إليك وليست هي”.
اندهشت… فتحت فمي لأنطق مستنكرا:
“أروى”
غير أنها لم تدعني أتم جملتي بل قاطعتني مباشرة وبانفعال:
“ماذا يا وليد؟ ماذا؟؟ ما الذي ستجرؤ على قوله الآن؟؟ إنني أنا زوجتك لا هي…
وأنا من يحق لها الاقتراب منك ومن خصوصياتك… لا هي…
أنا من يجب أن تضعها في اعتبارك الأول… ومن يجب أن تصرف عليها عواطفك وحبك… لا هي
وليد… إنني لا أحظى بعلاقة أكثر دفئا وعاطفة منها… وطوال تلك الشهور وأنا أفسر مواقفك بأنها من باب المسؤولية والأمانة…
وأتقبلها وبسعة صدر بل وبإعجاب… والآن… أكتشف أن الحقيقة قد تخطت ذلك…
إنك تحبها هي… ألست كذلك يا وليد؟؟”
حملقت في أروى في دهشة من كلامها… وعجز عن الرد…
وإذا بها تهتف في وجهي مستمرة بانفعال:
“لماذا لا ترد؟ أي حقائق تخفي عني بعد يا وليد؟؟ ماذا سأكتشف عنك أيضا؟؟
لماذا أتيت إلى مزرعتي أصلا؟؟ لماذا ظرت في حياتي؟؟ لماذا تزوجتني؟؟”
صعقني كلام أروى فانفضت يداي ثم إذا بهما تطبقان على ذراعيها وإذا بي أهتف بعصبية:
“أروى… هل فقدت صوابك؟؟”
أروى دفعت بيدي بعيدا عنها وهي تقول:
“اتركني… لماذا تزوجتني إن كنت تحبها هي؟؟ ماذا تخفي عني بعد؟؟
ما الذي تخططان له من خلفي؟؟…
ماذا… ماذا كنتما تفعلان عند النافذة؟؟قل”.
قلت مستاءً:
“أي نافذة وأي هذيان؟؟”
قالت مندفعة وهي تشير بيدها إلى نافذة الغرفة:
“هنا… ضحكاتك كانت تحترق الأبواب… وأراكما واقفين جنبا إلى جنب عند النافذة والأضواء مطفأة…
هل كنتما تتبادلان كلمات الحب وتضحكان علي؟؟”
وفهمت أنها تعني يوم الجمعة الماضي… عندما وقفت رغد تستمع للأذان عند النافذة في غرفة مكتبي وقدمت إلى جوارها…
لم أتحمل جنونها الفظيع هذا… فقبضت على يدها بشدة وهتفت في وجهها:
“حسبك… تماديت يا أروى؟؟ هل جننت؟؟”
فصرخت:
“وكيف تريد مني ألا أجن وأنا أكتشف أن زوجي خائن…؟؟
يظهر النبالة والشهامة مع ابنة عمه بينما في الخفاء يتبادلان الحب والصور ويستغفلاني؟؟”
هنا فقدت السيطرة على أعصابي وضغطت على يدها بقوة أوشكت معها على عصرها في قبضتي…
وصرخت وأنا أعض على أسناني:
” إياك… إياك أن تكرري الكلمة ثانية… أتسمعين؟؟
وإياك… ثم إياك… أن تقحمي رغد في هذا… لا علاقة لها بشي… فهمت؟؟
ولا أسمح بأن تتحدثي عنها هكذا… ولا تجعلي أفكاركِ تقودكِ إلى الجحيم…”
وتابعت:
“أكون خائنا لو كنت عرفتها بعد زواجي منك… لكن… لكن حبهها نشأ في صدري منذ طفولتي… ولا أسمح… بأن تصفيه بالخيانة…
إنه أكبر من أن… تفهميه… أو يفهمه أي أحد… وسواءً عرفت أو لم تعرفي…
وأعجبك أو لم يعجبك… فإن شيئا لن يتغير… وما في قلبي سأحمله إلى قبري…
وأنا أتحمل أي شيء في هذه الدنيا… أي شيء… إلا أن يصيب صغيرتي الأذى أو الإساءة…
بأي شكل… ومن أي شخص… مهما كان… أعرفت هذا الآن؟؟”
وأطلقت سراح يدها وابتعدت عنها وسددت ركلة عشوائية إلى المقعد…
أروى بقيت تنظر إلي برهة… ثم تصم أذنيها وكأنها تريد أن تحول دون تكرر
صدى كلامي بينهما…
ثم إذا بها تهتف:
“كيف… أمكنك… فعل هذا بي!؟”
ثم تهرول بسرعة خارجة من الغرفة…
بقيت واقفا على النار وجبت في الغرقة بضع خطوات عشوائية حتى استقررت أخيرا
على مقعدي خلف المكتب…
ركزت مرفقي على طاولة المكتب وأسندت رأسي على كفي بمرارة…
ما الذي فعلته؟؟
ما الذي قلته؟؟
ما الذي أصابك يا وليد؟؟ وما الذي ينتظرك؟؟
درت في دوامة الأفكار حتى داهمني الدوار والغثيان وشعرت بألم حاد في معدتي…
رفعت رأسي عن كفي وهممت بالتفتيش عن أقراص المعدة التي أتناولها عند الحاجة والتي أضع بعضها في أدراج مكتبي…
لفت انتباهي وجود مجموعة من الأوراق على المكتب, يعلوها قلم رصاص…
تركت يدي الدرج واتجهت إلى الأوراق عفويا… أزحت القلم ورأيت الورقة الأولى بيضاء خالية إلا من تجعيد خفيف…
تصفحت ما يليها… ودهشت لما رأيت…!!
أتعرفون ماذا رأيت؟؟
شيئا سيدهشكم مثلي ويلقي بكم في بئر الحيرة…
على تلك الأوراق كانت هناك صور مرسومة بقلم الرصاص…
لوجه شخص مألوف جدا… كان ينظر إلى إحدى النواحي وقد على وجهه تعبير القلق…
ملامحه كانت مرسومة بدقة عجيبة وكأنها خرجت من أصل الواقع مباشرة… وأكثر ما يثير الدهشة…
هو وجود انكسار بسيط على أنفه الطويل… مشابه تماما للانكسار الذي يعلو أنفي أنا!
قلبت الورقة بعد الأخرى… والدماء تتصاعد إلى وجهي… والدهشة تملأ عيني…
كان وجهي أنا… مرسوما على أكثر من ورقة… رسما هيكليا بسيطا وغير مكتمل… بقلم الرصاص…
هذه رسمات رغد…
تذكرت… إنني في ليلة الحادث, كنت قد تركتها في مكتبي مع هاتفي… لتنقل الصور التي التقطناها في النزهة إلى الحاسوب…
الصور… الهاتف… الحاسوب…!
أخذت أفتش في هاتفي وحاسوبي عن تلك الصور… لم أعثر عليها في الهاتف…
لكنني وجدتها في الحاسوب…
أتدرون ماذا وجدت بين الصور؟؟
صورة لي!
صورة وأنا أنظر إلى البحر… وعلى وجهي أمارات القلق…
مطابقا تماما لتلك التي وجدتها مرسومة على الورق…
رغد…
رغد…
آه… يا حبيبتي…
********************رواية انت لي الحلقة 46
اليوم سأجرب السير على عكازي…
الطبيب والنعالجة الطبيعية والممرضة والسيدة ليندا جميعهم يقفون إلى جانبي وأنا أحاول النهوض مستندة على العكاز…
أخصائية العلاج الطبيعي أجرت لرجلي تمارين تحريك بسيطة قبل قليل, وشرحت لي وللسيدة لينداكيفيتها… كانت سهلة ولكنها هيجت بعض الألم في قدمي ولذلك أنا متخوفة من استخدام العكاز…
الطبيب كان يكرر عبارات التشجيع… ويطمئنني بأن رجلي بخير…
لكنني قلقة وخاشية أن أصيب رجلي بالعرج… وأنتهي عرجاء… تثير شفقة الآخرين…
ولأن إصابتي شملت يدي اليمنى أيضا فإن استخدام العكاز لم يكن بالأمر السهل…
ولاقيت صعوبة في تثبيته والارتكاز عليه…
المحاولات الأولى لم تككن ناجحة ولم تثر في نفسي إلا القلق والكآبة…
وفيما أنا أخطو خطواتي البطيئة الثقيلة تعثرت بعباءتي وكدت أنزلق لولا أن تداركتني أيدي من حولي.
“لا أريد أن أستخدم هذا”.
قلت بذلك بغيظ مشيرة إلى العكاز… شاعرة بنفور منه ورفض كلي لاستخدامه…
اخصائية العلاج الطبيعي حاولت تشجيعي وحثي على إعادة المحاولة…
كانوا جميعا مسترسلين في تحريضهم لي على السير وتصوير الأمر بالمهمة السهلة فيما هي شاقة بدنيا ونفسيا…
“لا أستطيع”.
صرحت… فعقبوا جميعا:
“بلى تستطيعين… هيا حاولي مجددا… ستنجحين هذه المرة”.
أخيرا وافقت كارهة على المحاولة وسرت خطوتين أجر فيهما رجلي من خلفي وأكاد أتعثر بملابسي…
“هيا… أحسنت… واصلي…”
يشجعوني وأنا أكاد أنهار من التوتر…
هنا سمعت طرقا على الباب والذي كان نصف مغلق وجاء صوت وليد يحييّ.
ثم رأيته يدخل الغرفة وينظر إلينا… كان يحمل حاسوبه المحمول وكيساً ما.
عندما نظر إلي هتفت مستنجدة:
“وليد…”
وألقيت بالعكاز جانبا ومددت يدي إليه… طالبة الدعم…
وليد وضع ما كان في يده جانبا وأسرع نحوي وما إن بلغني حتى ألقيت بثقل جسدي عليه
هو بدلا من العكاز وأنا أقول:
“لا أستطيع… لا أريد أن أمشي بالعكاز.. لا أريد”.
ربت وليد على يدي المجبرة وقال:
“اهدئي رغد… ماذا حصل؟؟”
قلت مستغيثة:
“قل لهم ألا يضغطوا علي… لا أريد هذا العكاز…
قدمي تؤلمني… لن أستخدمه ثانية… أرجوك أخرجني من هنا”.
تنقل وليد ببصره على الطاقم الطبي وقال مخاطبا الطبيب:
“ما الأمر يا دكتور؟”
الطبيب أجاب:
“لا شيء. إتها خائفة من استخدام العكاز ونحن نحاول تشجيعها”.
أبدى وليد تعبيرات الضيق على وجهه وقال:
“لكننا لم نتفق على هذا”.
استغرب الطبيب وسأل:
“على ماذا؟”
رد وليد:
“على بدء التمارين… لا أحب أن تقرروا شيئا دون إبلاغي…
ولا أقبل أن تضغطوا على الفتاة في شيء”.
نظر الطبيب وأخصائية العلاج الطبيعي إلى بعضهما البعض, نظرات ذات مغزى,
ثم التقطت الأخيرة العكاز الملقي على الأرض وقالت:
“حسنا… سنحاول مع العكاز لاحقا… لكن يجب الاستمرار على تمارين الرجل”.
التفت وليد إلي وقال:
“سنعود إلى السرير”.
وسرت متعمدة عليه إلى أن جلست باسترخاء على سريري…
“كيف تشعرين؟”
سألني وليد فأجبت منفعلة:
“أنا لن أمشي بهذا العكاز… إما أن أسير على قدمي كالسابق أو سأبقى في سريري للأبد”.
وليد رد:
“هوني عليكِ…”
كتمت خوفي وصمت…
غادر الطاقم الطبي وتبعهما وليد ثم عاد بعد بضع دقائق… ابتسم وقال:
“أحضرت لك بعض المجلات لتطلعي عليها”.
وقرب إلي الكيس الذي أحضره معه…
نظرة إله بامتنان وقلت:
“ولكن يا وليد أنا أريد الخروج من هنا… دعنا نعود للبيت”.
وليد ارتسم بعض القلق على وجهه ثم قال:
” من الأفضل أن تبقي لأيام أخرى بعد… ريثما تتحسن إصابتك وتتدربين على السير على العكاز أكثر”.
قلت:
“لن أحاول ثانية”.
بدأ القلق يتفاقم على وجه وليد فقلت:
“أرجوك… أنا لا أريد البقاء هنا”.
السيدة ليندا تدخلت قائلة:
“شرحت لنا أخصائية العلاج الطبيعي كيفية التمارين وسأتولى العناية بها في المنزل…
فإذا كان الطبيب يوافق فمن الخير لنا المغادرة يا بني”.
وليد لم يظهر تأييدا ولا أعرف لم يريد لي البقاء في المستشفى أكثر…
رغم الإرباك الذي سببه الأمر في عمله وفي وضعنا بشكل عام…
إضافة إلى تكاليف المستشفى الباهضة…
قال:
“لثلاثة أيام أخرى على الأقل”.
وكان الإصرار مغلفا بالرجاء ينبع من عينيه… فقلت باستلام:
“ثلاثة فقط”.
ابتسم وليد ثم التفت إلى السيدة ليندا وخاطبها:
“هيا بنا الآن إلى المنزل ياخالتي… وكان الله في عونك هذه الليلة أيضا”.
وكالعادة بعد اصطحابها للمنزل عاد وليد وبقى برفقتي طوال ساعات الزيارة…
وكان يشغل نفسه بانجاز أعماله في حاسوبه الخاص, بينما كنت أنا أتصفح المجلات التي جلبها لي وبين لحظة وأخرى ألقي نظرة على الساعة…
النهار غدا طويلا… وشعرت بالملل… وراودتني فكرة الاتصال بنهلة والتي لم أهاتفها منذ أيام ولم أعلمها عما حصل معي…
“وليد”.
ناديته وقد كان مركزا في الشاشة فالتفت إلي:
“نعم؟”
قلت:
“من فضلك هلا ناولتني الهاتف؟”
وأشرت إلى المنضدة المجاورة حيث كان الهاتف موضوعا على الوصول إليه.
أقبل وليد وناولني الهاتف وسألني عفويا:
“بمن ستتصلين؟”
أجبت:
“ببيت خالتي”.
وليد أمسك بالهاتف وأبعده عني… نظرت إليه باستغراب فرد على استغرابي بسؤال:
“هل سبق وأن أخبرتيهم؟”
أجبت:
“لا”.
وليد أعاد الهاتف إلى المنضدة وقال:
“جيد. لا داعي لأن تقلقيهم الآن”.
تعجبت وسألت:
“ألا تريد مني الاتصال بهم؟”
قال:
“أرجوك لاتفعلي رغد”.
ازداد عجبي وسألت:
“لماذا؟؟”
وليد شد على قبضتيه وعلاه التوتر ثم قال:
“تعرفين… إن ذلك سيسبب لهم القلق وأنت لا تزالين في المستشفى… الحمدلله أنك بخير ولا داعي لإشغال بالهم عليك”.
إنني أوافي نهلة بتفاصيل سخيفة عن حياتي اليومية فهل يعقل ألا أخبرها عن حادثة كهذه؟
قلت:
“سأطمئنهم إلى أنني بخير وسأغادر قريبا”.
وليد حرك رأسه اعتراضا.
قلت:
“لكن…”
وتكلم وليد بنبرة شديدة الرجاء:
“أرجوك يا رغد… لا تخبريهم بشيء… أرجوك”.
ورغم أنني لم أفهم موقف وليد غير أنني أذعنت لطلبه ولم أتصل بعائلة خالتي ولم أطلعهم على شيء مما حصل إلى أن التقينا فيما بعد…
ومضت الأيام الأخيرة… وأخيرا غادرت المستشفى…
كاد وليد قد أعد إحدى غرف الطابق السفلي لأقيم فيها مؤقتا…
ولأن منزلنا كبير وموحش ومليء بالعتبات والدرجات, فقد اختار لي أقرب غرفة إلى المطبخ وإلى غرفة المعيشة السفلية والتي استقلها هو بدوره للمبيت قريبا مني.
كنتقد تدربت على السير بالعكاز مضطرة… المهمة شاقة وتحركي بطيء وثقيل… لكنني عدمت حلا آخر…
أخذت أتنقل بالعكاز في غرفة نومي وفي الجوار بحذر ومشقة وغالبا ما أعتمد على الآخرين لجلب الأشياء إلي.
وليد والسيدة ليندا والخادمة تناوبوا على رعايتي وملازمتي معظم الأوقات.
أما الدخيلة الشقراء فلم أر وجهها الملون مُذ زارتني في المستشفى بعد الحادث…
وليد أصر على إقامة حفلة عشاء صغيرة دعونا إليها المقربين احتفالا بخروجي من المستشفى.
الفكرة لم تعجبني لأنني بالتأكيد سأضطر لمجالسة الشقراء مع الضيوف. لكنني رضخت للأمر من أجل وليد.
ما كان أطيبه وأكرمه… طوال فترة بقائي في المستشفى…
أول ضيفة وصلت كانت صديقتي مرح مع والدتها وشقيقتيها وقد استقبلتهن السيدة ليندا وقادتهن إلى غرفة الضيوف حيث أجلس.
أمطرتني الثلاث بالتحيات والتهنئات على خروجي من المستشفى وأهدينني سلة حلويات رائعة.
“ولكن أين هي السيدة أروى؟ نتوق للتعرف إليها”.
قالت ذلك مرح بكل عفوية وهي تجهل أن مجرد ذكر اسم هذه الدخيلة يثير غيضي…
السيدة ليندا ردت مبتسمة:
“إنها في الجوار… سوف أستدعيها”.
وذهبت لاستدعائها.
مرح قالت مازحة:
“أتحرق شوقا لرؤية مالكة المصنع وصاحبة الملايين! يقول أبي أنها كانت تعيش في مزرعة حياة عادية!”
أم عارف- والدة مرح- زجرت مرح على تعليقها ولكن مرح ابتسمت وقالت:
“هيا أمي! هذه رغد صديقتي المقربة وهي تعرف أنني أحب المزاح! ألا تبدو حكاية السيدة أروى أشبه بالأساطير؟؟”
لحظات وإذا بالشقراء تهل علينا…
قامت الثلاث وحيينها بحرارة وعبرن عن سرورهن الشديد بالتعرف إليها ولهفتهن المسبقة للقائها…
وكان جليا عليهن الانبهار بها… نعم فهي جميلة بدرجة آسرة للنظر وقد تزينت هذه الأمسية بشكل متقن جدا…
إنني أمهر منها في فن المساحيق والألوان… لكني الآن قابعة في مكاني بجبيرتي وعكازي…
وبدون أي زينة… ولا أثير سوى شفقة الأخرين…
بمجرد حلولها, سرقت الشقراء كل الأضواء بعيدا عني… أنا من كان يفترض أن تكون هذه الحفلة قد أقيمت من أجلها!
وعندما أتت أم سيف وأم فادي كذلك انضمتا إليهن.
وحتى على المائدة, كن يأكلن بسرور وعفوية ويمتدحن الأطباق اللذيذة واليد الماهرة التي أعدتها…
فيما كنت أنا المعاقة بالكاد ألمس الطعام بيدي اليسرى…
وعوضا عن أن تبهجني هذه الحفلة كما يفترض زادتني غيضا ونفورا من الدخيلة.
التزمت جانب الهدوء معظم الوقت لشعوري بأنني لا أملك شيئا أمام ما تملكه الشقراء مما يثير اهتمام وإعجاب الآخرين…
وعندما قامت الدخيلة برفع الأطباق الرئيسية إذا بمرح والتي كانت جالسة إلى جواري
تقترب مني وتهمس في أذني:
“زوجة أبيكِ مذهلة! جذابة مثله! كم هما ثنائي رائع”.
ولو لم أتمالك نفسي لأفرغت ما في معدتي من شدة الغيظ…
بعد أن خرج الضيوف, أويت مباشرة إلى غرفتي والنار تحرق صدري وتفحمه…
ولم أجد من حولي ما أفرغ فيه غضبي ولا من أبثه همي أو أعبر له عما يختلج داخلي…
فأخذت أبكي بحرقة… وأردت أن أكسر الجبيرة وأحطم العكاز اللذين لم يزيداني إلا بؤسا…
ومن شدة غيظي رميت بالعكاز بعيدا بقوة فارتطم بطاولة على مقربة وأحدث بعض الجلبة…
طرق الباب وسمعت وليد يخاطبني:
“هذا أنا يا رغد… هل انت بخير؟؟”
قلت:
“نعم. لا تقلق”.
قال:
“هل تحتاجين إلى شيء؟”
أجبت:
“كلا… شكرا”.
فقال:
“إذن تصبحين على خير”.
وأحسست به يبتعد…
شعرت برغبة مفاجئة في التحدث معه… أردت النهوض ولكن عكازي كان بعيدا…
ناديته لكنه لم يسمعني… زحفت على الأرض إلى أن وصلت إلى عكازي…
ثم ارتديت حجابي على عجل وسرت نحو الباب…
ذهبت إلى غرفة المعيشة المجاورة حيث يبات هو حاليا… وكان الباب مفتوحا ويكشف ما في الداخل…
إلى الجدار المقابل لفتحة الباب كانت أروى تسند ظهرها وقد مددت إحدى يديها إلى خصرها بينما يقف وليد أمامها مباشرة وذراعاه ممدودتان إلى الأمام ومسندتان إلى ذات الجدار مشكلتين طوقا حولها…
حين وقع بصري على منظرهما شعرت بالشلل المفاجىء وترنحت بعكازي…
بسرعة استدرت للوراء وخطوت خطوتين بالعكاز مبتعدة عن الصدمة… ولأنني شعرت بالشلل فقد رميت ثقلي كاملا على العكاز الذي انزلق فوق الأرضية الملساء وأوقعني فجأة…
تأوهت ألما… ولم أستطع النهوض ليس من شدة الإصابة بل من العشي الذي أصاب عيني من منظر الاثنين…
لمحت وليد يقبل نحوي قلقا ويجثو بقربي وهو يقول:
“أأنت بخير؟”
بخير…؟ لا! أنا لست بخير… لست بخير… لست بخير…
هب وليد لمساعدتي على النهوض فقلت زاجرة:
“دعني من فضلك”.
ومددت يدي إلى العكاز وأقمته عموديا على الأرض وحاولت النهوض…
غير أنني لم أستطع…
كانت أطرافي ترتجف وأعصابي منهارة وعجزة عن شد قبضتي على العكاز فانزلق مجددا…
قال وليد:
“دعيني أساعدك”.
لكنني رددت باقتضاب:
“قلت دعني وشأني… سأنهض بمفردي”.
وأعدت الاستناد إلى العكازوانهرت أرضا…
وليد حينما رأى ذلك مد ذراعيه ورفعني عن الأرض…
قلت بغضب:
“ماذا تفعل؟ كلا… أنزلني…”
قال وليد بانفعال:
“ستكسرين بقبة أطرافك إن تركتك هكذا”.
وسار بي رغما عني إلى أن أوصلني إلى غرفتي ووضعني على السرير.
قلت ثائرة:
“لا أريد مساعدة من أحد… دعوني وشأني”.
وليد نظر إلي باستغراب واستهجان معا وقال:
“ماذا جرى لك يا رغد؟ ما غيرك هكذا فجأة؟”
قلت بغضب:
“ليس من شأنك… إياك أن تكررها ثانية… من تظن نفسكك؟؟”
وليد حملق بي مندهشا:
“رغد!! أتهذين؟؟”
صرخت:
“نعم أهذي… أنا مجنونة… ماذا يهمك في ذلك؟؟”
أطرق وليد برأسه ثم قال مستاء:
“الظاهر أنني تسرعت حين أحضرتك من المستشفى… أنت لاتزالين متعبة”.
استفزتني جملته… فصرخت:
“متعبة ومجنونة وعرجاء… ثم ماذا؟ هل اكتشفت حقيقة ما أكون الآن؟”
تنفس وليد نفسا عميقا ثم أولاني ظهره وغادر.
ناديت بغضب:
“إلى أين تذهب؟ عد إلى هنان”.
لكنه اختفى… ثم فجأة ظهر يحمل العكاز وأتى به إلى جانبي…
لما رأيت العكاز قربي مباشرة ثار جنوني… أخذت العكاز ورميت به بقوة بعيدا فارتطم بنفس الطاولة وأحدث ذات الجلبة… وليد وقف بجواري يراقب بصمت…
قلت بحدة:
“لا أريد هذا ولن أستخدمه ثانية… هل فهمت؟”
لم يتحرك ولم يقل شيئا… فاشتططت غضبا من بروده وصرخت:
“لا تعده إلي ثانية… مفهوم؟؟”
وليد وقف يسمعني وينظر إلي ولا يرد!
أردت منه أن يقول شيئا.. أن يغضب… أن يتشاجر معي أو يواسيني… أن يبدي أي ردة فعل تفيد بأنه يسمعني ولكنه لم يحرك ساكنا.
قلت بتهيج:
“لماذا لا ترد؟”
وليد حدق بي لحظة ثم قال:
“هل انتهيت الآن؟”
حملقنا ببعضنا لفترة ثم استدار وليد بقصد المغادرة.
هتفت بسرعة:
“انتظر”.
استدار إلي بنفاذ صبر وقال بضيق بالغ:
“ماذا بعد؟”
ولما أحسست بضيقه هدأت فجأة وشعرت بالذنب…
صمت برهة متراجعة, وقبضت على ما أفلت من أعصابي… ثم قلت وقد تحول صوتي بغتة إلى السكينة:
“إلى أين تذهب”.
رد وليد بانفعال:
“إلى قعر الجحيم.. هل يهمك هذا؟”
وأراد أن يخرج فناديته مجددا :
“وليد”.
التفت إلي بطول بال وزفر زفرة قوية من صدره وقال باقتضاب:
“نعم؟”
إنه غاضب بالفعل…
يا أنت!.. يا من تقف هناك تشتعل غضبا.. يا من تدعي أنك ذاهب إلى قعر الجحيم…
إنك أنت جحيمي! اقترب وابتعد مني في آن واحد… فأنا أفقد توازني في كلا الوضعين…
ولاشيء يحرقني ويزيدني سعيرا وجنونا أكثر من رؤيتك إلى جانب الشقراء الدخيلة…
“نعم يا رغد هل هناك شيء آخر؟؟”
قال وليد ذلك لما استبطأ ردي ورأى ترددي…
“رغد؟؟!!”
قال مستغربا ومستاءً… فقلت منكسرة:
“أنا… آسفة”.
ومن التعبيرات التي تجلت على وجهه أدركت أنه لم يكن يتوقع أسفي أو ينتظره…
قلت:
“لا تغضب مني”.
حملق بي وليد في صمت ثم ضغط بإصبعه على المنطقة بين حاجبيه ثم قال:
“لست غاضبا… لكنني تعب من تقلبات مزاجك هذه يا رغد…”
ثم تابع بصوت راج:
“أعطيني فترة نقاهة أرخي فيها أعصابي المشدودة قبل أن تنقطع”.
فسرت الإرخاء الذي يقصده على أنه أروى… فهيجني المعنى وقلت منفلتة من جديد:
“وأعصابك هذه لا تسترخي إلا مع الشقراء؟”
نظر إلي بتعجب وتابعت:
“أما أما.. فأعصابي لن تستريح ومزاجي لن يصفو إلا إذا أرسلتها للمزرعة وأبعدتها عني نهائيا”.
مرر وليد أصابع في شعره كما يفعل عندما يتوتر… ثم زفر:
“يا صبر أيوب”.
وأحسست بالجملة تطعن قلبي.. فقلت ثائرة:
“يلزمك صبر بحجم المحيط إن كنت ستبقيها أمام عيني تصول وتجول…
وأنا معاقة بهذا الشكل.. لتتحمل النتائج.. قلت لك أنني أكرهها ولا أريد رؤية وجهها ثانية…
إنها حتى لم تفكر في الاعتذار عما سببته لي… بل لا بد أنها فرحة بإصابتي وتشمت بي..
وأنا أفضل الموت حرقا على أن أراها تجول أمام ناظري بكل حرية”.
ربما بالغت بالتعبير عن غيظي الشديد أمام وليد… هو وضع يديه على صدغيه ثم هتف بقوة:
“حاضر… حاضر يا رغد… حاضر… سأرسلها إلى المزرعة وأخلصك من كل هذا… أفعل أي شيء لأجلك… ماذا تأمرين بعد؟ فقط أريحيني…”
وضرب الباب بقبضته بقوة وانصرف…