رواية انت لي الحلقة 48
“رغد ماذا جرى لك؟”
قلت ذلك ومددت يدي تلقائيا إلى وجه رغد وضربته بخفة… فقد كانت نغمضة العينين وكأنها ستفقد وعيها.. ولي معها سابق مواقف..
فتحت رغد عينيها ونظرت إلي مباشرة.
قلت مفزوعا:
“أأنت بخير؟؟”
نظرت رغد من حولها أولا وكأنها تستفيق من نوم أو إغماءة.. بدا على وجهها التيه والضيعان..ثم نظرت إلي وكأنها ليست واثقة ممن أكون.. ثم وضعت يدها على جبينها كأنها تسترجع الذاكرة..
وأخيرا قالت:
“تعثرت بالعتبة”.
قلت بلهفة:
“سلامتك.. هل أصبت؟”
فحركت رأسها نفيا..
مددت يدي لأساعدها على النهوض:
“قومي بنا إلى السيارة”.
لكن رغد لم تقم بل أسنتدت مرفقها إلى رجلها ورست برأسها على كفها اليسرى وقالت:
“انتظر قليلا..”
وظهر عليها الإعياء.. ما فجر سيول قلقي المتكدسة منذ الظهيرة.. قلت:
“رغد.. يبدو عليك الإعياء.. أخبريني بصدق.. هل أنت بخير؟ هل تشعرين بدوار؟”
أومأت رغد بنعم, لكنني لم أطمئن.. قلت:
“لا تبيدين كذلك.. أراهن أنك لم تسمعي كلامي, ولم تأكلي شيئا.. أليس كذلك؟”
ولم ترد.. فتأكدت من شكوكي وقلت بغضب ممززوج بالقلق:
“متى تتوقفين عن هذا العناد…؟ هل يجب أن تكرري ما حصل وتجففي دمائي من القلق عليك؟ جسمك أضعف من أن يتحمل عنادك.. رأفة بنفسك وبي.. لقد أهلكتني”.
ولم أنتبه لقسوة كلماتي إلا حين رأيت وجه رغد يلتفت إلي ويكفهر ويصفر.. بعدها قلت بنبرة ألطف:
“سوف لن نغادر وأنت بهذه الحالة”.
هنا اعترضت رغد وقالت”
“كلا أر
جوك.. أنا بخير الآن”.
قلت مناقضا ادعائها:
“لا لست بخير.. أرى هذا بوضوح”.
قالت مصرة:
“أنا بخير.. صدقني.. تعثرت بهذه العتبة لا أكثر.. دعنا نذهب الآن”.
ثم أمسكت بالعكازونهضت واقفة لتثبت لي أنها على ما يرام.. لكني أعرف أنها ليست كذلك.. إنها تلتهم أنفاسها النهاما وتتحرك ببطء.. ويطغى الشحوب على وجهها..
قلت:
“دعينا ندخل إلى الداخل.. ستتناولين وجبة كبيرة وتنالين قسطا من الراحة قبل أن نغادر”.
رغد استماتت معترضة:
“رجاء وليد… دعنا ننصرف الآن”.
لم أصدقها وبقيت مصرا على موقفي, وهي مصرة على عنادها…
“لن نتحرك خطوة واحدة وأنت بهذا الشكل.. ماذا إن انهرت علي في الطريق؟؟ واضح من لونك أنك مرهقة. ستدخلين الآن إلى المنزل وتأكلين بعض الطعام ماذا وإلا فأنني سأؤجل الرحلة إلى الغد”.
وأمسكت بيدها بلطف أحثها على السير نحو الداخل غير أنها سحبتها وقالت ببعض العصبية:
“قلت لك لا أريد شيئا من هذا المكان.. ألا تفهم؟؟”
حينها أدركت موقفها.. فقلت:
“في هذه الحالة… إذن.. سنمر بأحد المطاعم قبل المغادرة”.
ولم تملك رغد إلا أن تنصاع للأمر.. سرنا عائدين إلى السيارة ببطء وحذر.. وهي بعكازها.. وأنا بحقيبة سفري.. جنبا إلى جنب.. وخطوة بخطوة.. كنت خاش عليها أن يداهمها الدوار كما في المرة السابقة, لا قدر الله…
فتحت الباب الأمامي وطلبت منها الجلوس.. على المقعد المجاور لمقعدي… لتبقى على مقربة مني.. وتحت ناظري مباشرة..
وانطلقنا بعون الله…
توقفت عند أحد المطاعم واشتريت لها وجبة كبيرة أجبرتها على تناولها عن آخرها..
وأعترف بأنني كنت صارما معها.. فأعرف أن جسدها النحيل لا يحتمل الجوع الطويل..
وبعد تجربتي الأخيرة معها في منزلنا الكبير… لن أسمح لها التهاون بشأن الطعام…
طوال المشوار.. رغد كانت صامتة صمتا مغلقا.. أنا غير مرتاح من حالها اليوم ولكنها لم تشأ إخباري بشيء… والله الأعلم.. بم تفكر الآن…
أما أنا, فإلى جانب تفكيري بها كنت أفكر بقلق في عائلة خالتها وما سيقولونه عن إصابتها… وسرعان ما ثبت لي أن مخاوفي في محلها…
أم حسام, وبمجرد أن رأت الصغيرة تدخل المنزل بالعكاز.. لطمت على وجهها وصرخت:
“ابنتي.. ويلاه”.
وأقبلت مسرعة مولولة.. وضمت الفتاة إلى حضنها وبدأت بالنواح..
ورغد سرعان ما انفجرت بكاء عميقا على صدر خالتها مما زاد الأمر دراما واشتعالا…
أردت أن أتكلم.. أن أسلم.. وأوضح الأمرفقلت:
“خالتي”.
ولم أكد أتم الكلمة حتى رأيت أم حسام ترفع رأسها وتنظر إلي وقد توهج وجهها احمرارا وفاضت الدموع من عينيها وتطاير الغضب من بؤبؤيها وإذا بها تصرخ:
“ماذا فعلت بالفتاة أيها المتوحش؟ لا بارك الله فيك ولا في اللحظة التي تركت ابنتي فيها تحت رحمتك أيها المجرم القاتل”.
ذهلت… صعقت.. ووقف شعر رأسي من كلامها الجنوني… ألجم لساني من الهول… حاولت النطق بأي شيء.. فإذا بها تمطرني بدعوات شريرة مزلزلة…
“لا بارك الله فيك… لا وفقك الله في شي… حطم الله قلبك كما حطمت قلبي على ابنة أختي”.
صرخت:
“رغد”.
مستنجدا.. قولي شيئا! تظن خالتك أنني كسرت عظامك وعن عمد… قولي شيئا يا رغد.. أوضحي لهم… لكن رغد لم تتكلم.. حتى أنها لم تنظر إلي..
التفت من حولي فرأيت أعين بقية أفراد العائلة تحملق بي والشرر يتطاير منها.. ما هذا؟؟ أكلكم تظنون أنني كسرت عظامها؟؟ هل تعنون هذا؟؟
فجأة سمعت صوت حسام يقول بحدة:
“ماذا فعلت بها؟”.
أجابت أم حسام منفعلة:
“ألا ترى؟ كسر عظامها كسر الله عظامه ودكها دكا”.
أبو حسام تدخل ها هنا وقال:
“رويدك يا أم حسام هداك الله… دعينا نسمع منه ما حصل”.
والتفت إلي وقال:
“هيا بنا إلى الداخل”.
ووقفت مكاني مذهولا من موقف أم حسام المهاجم بعنف دون استيضاح الأمور… ومن موقف رغد الصامتة وكأنها تؤيد خالتها في هجومها اللاذع ضدي…
نظرت إلى رغد شاعرا بالخذلان.. كيف تدعيهم يظنون بي هكذا ثم لا تدافعين عني ولا بكلمة ولا إيماءة واحدة؟؟
أم حسام سارت مسندة لرغد التي خطت بعكازها مبتعدة عني… دون أن تلقي علي أي نظرة…
قال أبو حسام:
“تفضلوا جميعا”.
بقيت واقفا متسمرا في مكاني يحول ذهولي من كلام أم حسام دون حراكي, فالتفت أبو حسام إلي ومد يده نحوي وقال:
“تفضل وليد”.
وسرنا جميعا نحو المدخل… يسبقنا نواح أم حسام…
الطريق بين بوابة السور الخارجي للمنزل والباب الداخلي له طويل لحد ما.. يتخلل حديقة المنزل الأمامية…
قطعنا المسافة صامتين إلا عن ولولة أم حسام التي أحدثت في قلبي صدعا بالغا…
عندما وصلنا إلى باب المنزل قلت قاصدا تنبيهها:
“انتبهوا… إنها لا تستطيع صعود الدرجات”.
وتقدمت بقصد مد يد العون إلا أن أم حسام زجرتني بقسوة:
“دع الفتاة لي”.
فابتعدت والعرق يتصبب مني حرجا..
واقتربت ابنتة خالة رغد الكبرى ومع والدتها ساعدت رغد على الصعود…
قادني أبو حسام إلى غرفة الضيوف وأحسن ضيافتي.. أما حسام فقد كنت أشعر بألسنة النار تندلع من عينيه وهو يراقبني بتربص…
أخيرا شرحت لهما ما حصل وبينت أنه كان حادثا عرصيا.. غير أن ذلك لم يخفف وطء المصيبة على حسام الذي قال معقبا:
“ولماذا لم تبلغنا عن الحادث منذ البداية؟ إلا إذا كان هناك ما تريد إخفاءه أو تحريفه”.
أبو حسام زجر ابنه..والأخير رمقني بنظرة ملؤها الشك والنقمة..
قلت:
” أحرف ماذا؟؟”
رد وهو يقوم واقفا:
“سأعرف هذا من رغد”.
وغادر الغرفة…
************************
الانهيار الذي ألم بي لدى رؤية خالتي لم يكن بسبب رجلي ويدي.. بل بسبب الصورة الأخيرة التي لا تزال مبثوثة أما عيني.. للخطيبين المتعانقين بكل حمية وانسجام.. والتي لم تفلح رؤية خالتي وعائلتها في محوها عن بصري ذلك اليوم..
أجرى معي أقاربي تحقيقا مطولا عن إصابتي وشرحت لهم تفاصيلها وأوضحت لهم أنه لا علاقة لوليد بالحادث وأن اللوم كله يقع على الشقراء..
لم أكن أرى غيرها في عيني.. وأردت أن أحرق صورتها بأي شكل.. وبالغت في التعبير عن غضبي منها ومما حل بي بسببها..
أما خالتي فقد كانت تضع باللوم على نفسها لأنها سمحت لي بالذهاب إلى المدينة الساحلية بعيدا عن عنايتها…
وبعد أن استوعب أهلي الأمر وهدأت مشاعر غضبهم الأولية أخذت أسرد لهم بعض أخباري وأخبار الجامعة وحياتي اليومية في المنزل الكبير..
وأخبرتهم كيف كان وليد يعتني بي… ويعاملني بكل لطف ومودة.. وكيف بقي مرابطا إلى جانبي فترة مكوثي في المستشفى.. وأشياء كثيرة كان وليد يقدمها لي بكل سخاء.. لم أشعر بافتقادها إلا الآن..
والحديث عن وليد لم يعجب حسام الذي قال منفعلا:
“أنت طيبة يا رغد… ولن تحكمي على ذلك المتوحش إلا بالطيب!”
قلت مدافعة:
“لماذا تنعته بالمتوحش يا حسام؟؟”
قال:
“هل نسيت كيف هاجمني ذلك اليوم؟ وكيف لطم شقيقه بقسوة أمام عيني يوم كنا في بيتكم يا رغد؟ وكيف جرك من يدك رغما عنك وأجبرك على السفر معه إلى الجنوب. إنه متوحش وهمجي كسائر المجرمين الــ..”
غضبت كثيرا وقلت مندفعة مقاطعة:
“لا تنعته بهذا.. لا أقبل منك… كيف تجرؤ؟؟”
والجملة ضايقت حسام فانسحب من الغرفة التي كنا نجلس فيها..
حل الصمت على الأجواء.. ثم تكلمت نهلة قائلة:
“لا تكوني قاسية عليه يا رغد! إنه غاضب لأجلك”.
وأضافت سارة:
“”يحبك كثيرا”.
التفت إلى هذه الأخيرة فرأيتها تبتسم ابتسامة شديدة الغباء.. كعادتها.. تجاهلتها وجملتها كما تجاهلتها خالتي ونهلة..
خالتي قالت بعد ذلك:
“على كل يا رغد.. ها قد عدت ولن أدعك تغادرين ثانية”.
ألتفت إلى خالتي نظرة متوجسة فقابلتني بنظرة شديدة الإصرار وقالت:
“إلى هنا ويكفي..سنحل هذه المسألة جذريا اليوم قبل الغد”.
ورأيتها تضبط حجابها وتتجه نحو الباب فقلت بقلق:
“إلى أين خالتي؟”
قالت بحزم:
“سأذهب لأتحدث مع وليد..”
وخرجت مباشرة وتبعتها سارة دون ترك فرصة لي لأي ردة فعل…
نظرت إلى نهلة في توتر وقلت:
“ماذا ستفعل؟؟”
أجابت نهلة:
“لا أعرف!ربما ستتشاجر مع ابن عمك!”
قلت مستهجنة:
“لماذا كلكم متحاملون على وليد؟ قلت لكم إنه ليس مذنبا في شي”.
قالت نهلة:
“تدافعين عنه لأنك تحبينه يا رغد..لكنه في الواقع رجل متسلط وقاسٍ ومكابر.. إننا جميعا في هذا المنزل لا نرتاح له…”
قلت بعصبية:
“إنكم جميعا لا تعرفون شيئا..تصدرون حكما ظالما على شخص لم تعاشروه… أرجوك يا نهلة الحفي بخالتي واطلبي منها الحضور إلى هنا فورا”.
لم تتحرك نهلة فقلت:
“هيا يجب أن أعرف أولا ما الذي تخطط له”ز
ولم تتحرك نهلة بالسرعة المطلوبة.. غادرت الغرفة, وعادت بعد دقيقتين.. وما إن رأيتها بادرتها بالسؤال:
“هل لحقت بها؟”
قالت:
“نعم, وهي الآن في غرفة الضيوف”.
صحت بعصبية:
“تبا! ولماذا لم توقفيها؟ لا بد أنها الآن تتشاجر مع وليد”.
نظرت إلي نهلة نظرة استنكار ثم قالت:
“لا تخافي على مشاعر ابن عمك!… إنه ليس هنا”.
قلت مستغربة:
“ليس هنا؟؟”
قالت:
“غادر منذ زمن.. يبدو أنه قد رحل فور إنهاء فنجان قهوته!”
*************************
إنني تجرعته جرعة كدت أغص بها.. بسبب النظرات التي تقدح شررا من حولي… مصوبا نحوي..
صحيح أن أبا حسام قدم الاعتذار عما قالته زوجته لي.. لكن ذلك لم يخفف عني شيئا.. وبحياتي لم أقف أمام شخص يدعو علي علنا وبهذا الشكل.. وأكثر ما خيبني هو موقف رغد البارد..
نعم كنت أتوقع أن يثور أقاربها علي ولكن ليس بهذا الشكل..
سامحهم الله…
وصلت إلى شقة شقيقي سامر أخيرا.. ولم أكن قد اتصلت به.. وأردت أن أفاجئه بحضوري…
قرعت الجرس وغطيت بإصبعي عدسة الباب لئلا يراني..
قرعت ثانية وثالثة وما من مجيب! لكنني كنت قد رأيت سيارته في المواقف.. ولا شك أنه في الشقة..
أخيرا سمعت صوتا منخفضا يسأل:
“من هناك؟”
لم أتبين ماهية الصوت.. فطرقت الباب لعله يعاود الحديث.. فكرر الصوت بنبرة حذرة:
“من الطارق؟”
نعم إنه صوت شقيقي.
قلت:
“شخص يريد معانقتك فورا.. افتح الباب”.
وبدا كأن أخي لم يميز صوتي.. ثم رأيت الباب ينفتح بحذر.. ورأيت رأس أخي يطل منه أخيرا..
اندهشت ملامحه كثيرا وانفغر فاهه.. لكن دهشتي أنا كانت أكبر!
“وليد!”
قال والعجب يعلوه..
قلت:
“بشحمه ولحمه!”
لم يفتح سامر الباب وظل محملقا بي لثوان…
قلت:
“هل أبدو شبحا؟”
هنا بدأ سامر يبتسم وفتح الباب ومد ذراعيه لمعانقتي..
“إنني أكاد لا أصدق عيني! فاجأتني يا رجل”.
ابتسمت وقلت:
“بل أنا المندهش يا أخي..”
وأشرت بإصبعي إلى عينه اليمنى وقلت:
“اختفت الندبة تماما! تبدو وسيما للغاية”.
سامر ضحك وهو يمسك بيدي ويقودني إلى الداخل..
تذكرون أن جفني عين سامر اليمنى قد أصيبا بحرق بالجمر عندما كان طفلا صغيرا.. وأن عينه تشوهت وأصبحت نصف مغلقه وقبيحة المنظر.. وكان أبي رحمه الله يود إخضاعه لجراحة تجميلية غير أن أوضاعنا المادية في تلك الفترة كانت سيئة..
في لقائنا الأخير كان سامر قد بدأ علاج الندبة والآن عالج حركة الجفن وما لم يقق الناظر إليها جيدا فإنه لن يكتشف وجود أي أثر أو فرق بين عينيه..
الحمد لله..
في داخل الشقة وجدت ضيوفا لأخي.. عرفنا سامر إلى بعضنا البعض, وبعد حديث قصير استأذن الضيوف وغادروا…
قلت:
“أرجو ألا تكون زيارتي قد أتت في وقت غير ملائم”.
قال سامر:
“ماذا تقول يا أخي! إنهم رفقائي في العمل.. نلتقي في كل وقت.. لا تأبه لهم”.
ابتسمت فقال سامر:
“لكنك فاجأتني! ما سر هذه الزيارة غير المتوقعة؟”
قلت مداعبا:
“اشتقت لعينك اليمنى فجئت أتفقدها”.
ضحك سامر ثم قال:
“بجد وليد.. لِمَ لم تبلغني لأستقبلك في المطار؟”
أجبت:
“أردت أن أقتحم عليك الشقة!”
وضحكت ثم أضفت:
“في الحقيقة كنا قادمين إلى المزرعة.. فأتيت لأزورك”.
سامر ابتسم ابتسامة خفيفة ثم سأل:
“و… ورغد؟”
قلت بعفوية:
“تركتها في بيت خالتها”.
شيء من التردد ظهر عليه ثم قال:
“لِمَ لم تحضرها معك؟ أعني أننا لم نسمع من بعضنا منذ شهور”.
آه يا سامر… أتريد القول إنك اشتقت إليها؟؟
إنني أسوأ شخص لتبدي لهفتك عليها أمامه!
وربما أحس سامر ببعض الأفكار تدور في رأسي فقال مغيرا الدفة:
“كيف سارت أموركم المدينة الساحلية؟ وما أحبار نسبائك؟”
أجبت:
“الحمد لله.. وهم يبلغونك السلام”.
“سلمهم الله.. ماذا عن أقارب رغد؟”
قلت:
“أتيت من منزلهم.. الجميع بخير”.
قال:
“لم أتصل بهم منذ فترة! ما أخبار حسام؟ هل التحق بالمعهد كما كان يخطط؟”
أجبت:
“لا أعرف فأنا لم أطل البقاء لديهم ولم أسمع آخر أخبارهم”.
ثم أضفت:
“مررت لدقائق مصطحبا رغد”.
عاد ذلك التوتر الخفي إلى وجه أخي وتجرأ وسأل:
“وكيف هي؟ وكيف تعايشت مع خطيبتك في المنزل؟؟”
استغربت السؤال كثيرا.. ولماذا تسأل عن تعايشها مع خطيبتي؟؟ وهل تعلم بأن بينهما شيئا؟؟
قلت:
“مع خطيبتي؟”
رفع سامر كتفيه وحاجبيه وقال:
“آه نعم.. فهي كانت.. أعني أنها لم تكن.. منسجمة معها في السابق… آمل أن يكون الوضع قد تغير!!”
رباه!
هل تعرف أنت يا سامر عن توتر العلاقة بين الفتاتين؟ لا بد أن رغد كانت توافيك بالأخبار..!
قلت راغبا في التأكد:
“هل.. تتصل بك رغد؟؟”
بهت سامر واندهش من سؤال ورد مباشرة:
لا لا!… لم أتحدث معها منذ كنتما معي في الشقة”.
كان ذلك قبل شهور.. عندما مرضت ولازمت فراش شقيقي ليوم وليلة.. هنا في الشقة.. بعد حادث السيارة.. ولكنني لم أعرف أن رغد كانت قد أبلغته آنذاك عن علاقتها المتوترة مع أروى.. حتى أنني لم أكن أعير ذلك التوتر اهتماما حقيقيا آنذاك..
قلت:
“حسنا.. يبدو أنك تعرف أن العلاقة بينهما مضطربة”.
ظهر الاهتمام على وجه أخي.. وتابعت:
“لا تزال كذلك”.
سأل أخي بقلق:
“إذن كيف كانتا تتعملان مها هناك؟”
قلت:
“بتنافر متبادل… خصوصا في الآونة الأخيرة”.
ثم أضفت:
“والآن هما متخاصمتان تماما”.
قال سامر:
“توقعت هذا”.
أثار حيرتي وفضولي.. فسألت:
“عفوا؟؟”
ارتبك سامر ثم أوضح:
“أعني.. أن رغد لا تتكيف بسهولة مع أحد.. من الصعب جدا أن تكسب صداقتها..”
لم أعلق فتابع سامر:
“إنها حذرة جدا في اختيار من ترغب في منحهم صداقتها.. ولا تتأقلم مع من هم خارج إطار سنها أو اهتماماتها أو مجالها الفكري..”
سامر!
هل تريد أن تفهمني أنك تعرف رغد خير مني؟؟
بالطبع تعرف.. فأنت بقيت قريبا منها طوال السنين التي حرمت أنا فيها منها.. وكبرت وتطورت شخصيتها أمام عينيك…
وأصبحت أقرب الناس إليك ألصقهم بك..!
أما أنا فلم أصل للدائرةالتي بارتباطك الشرعي أنت بها..أمكنك تخطيها…
تأملت شقيقي.. في أعماق عينيه كانت المرارة تتكلم.. إنه يتحدث عن الفتاة التي كانت خطيبته لما يقرب من أربع سنين… والتي كانت قاب قوسين أو أدنى من الزواج به..
تأملت لأجله.. لكن..
يا سامر.. ألم تجد في هذه الدنيا غير حبيبتي أنا.. كي تعلق قلبك بها؟؟
إن رغد.. منذ أن حلت بعائلتنا قبل 15 عاما وأكثر.. أصبحت لي..
قلت:
“على كل.. ستظل في بيت خالتها لعدة أيام.. يمكنك زيارتهم وتفقد أحوالها وقت تشاء”.
استغرب سامر وقال:
“عدة أيام؟؟ غريب! ماذا عن الجامعة. أهي مجازة؟؟”
صمت قليلا ثم قلت:
“إنها… في إجازة مرضية طويلة.. فهي.. مصابة بكسور في قدمها ويدها”.
***************************
مر يوم وأنا أقيم باسترخاء في بيت خالتي.. وفر لي أفراد العائلة سبل الراحة وتفانوا في رعايتي والاهتمام بي..
غير أن ذلك لم يخلصني من التفكير المستمر في وليد… خصوصا وأنه لم يتصل للسؤال عني حتى الآن..
تراقبني نهلة وأنا ممسكة بهاتفي المحمول في تردد… أأتصل أم لا؟
“هل يصعب عليك الاتصال بيدك اليسرى؟ دعيني أساعدك”.
قالت ذلك نهلة بخبث.. فهي تدرك ما الذي يدور برأسي..
قلت مستسلمة:
“الغريب أنه لم يخبرني قبل مغادرته ولم يتصل ليتفقد أحوالي.. في المنزل كان يتفقدني ألف مرة في اليوم والآن نسيني!؟ لا سلام ولا كلام ولا خبر… لا أعرف إن كان قد ذهب إلى سامر أم عاد إلى الشقراء”.
وتذكرت صورتها الأخيرة فامتقع وجهي… ثم تذكرت حديثها الأخير معي صباح الأمس.. فأبعدت الهاتف عني..
لاحظت نهلة حركتي الأخيرة فقالت:
“جيد! لا تتصلي.. واختبري مدى قدرتك على تحمل بعده”.
قلت:
“لا أتحمل.. لا يمكنني تخيل حياتي بدونه! سأموت إذا ابتعد عني”.
رفعت نهلة حاجبيها ونظرت إلى السقف استنكارا..
قلت مدافعة عن كلامي ومؤكدة له:
“إذا تخلى عني فسوف أموت فورا.. صدقيني… لا أستغني عنه يوما ولا ساعة… والدخيلة البغيضة.. اللصة.. تطلب مني الخروج من حياته.. تريد الاستحواذ عليه لوحدها.. تظن أنها أقرب وأحق به مني”.
هبطت نهلة ببصرها من السقف علي وعلقت:
“وهي على صواب يا رغد!”
توترت وكدت أصرخ.. حتى أنت يا نهلة؟؟ حتى أنت؟؟
قلت بعصبية:
“كلا..”
ردت نهلة مباشرة وبشيء من القسوة:
“يا رغد… لمَ لا تستفيقين من أحلامك الخرافية؟؟ ما الجدوى من حب رجل متزوج؟ إنك تهدرين عواطفك سدى”.
أحست نهلة بأنها قست علي.. فأقبلت نحوي وأمسكت بيدي اليسرى وقالت مواسية:
“أنا قلقة عليك.. وأفكر بعقلانية.. لقد مضت فترة طويلة.. وأنت لا تزالين تحلمين بالمستحيل.. تعذبين نفسك.. انظري إلى أين وصلت؟”
وهي تشير إلى عكازي..
ثم تابعت:
“آن الآوان لتستفيقي.. اتركي الرجل وخطيبته يواصلان مشوارهما.. بسلام.. وانتبهي أنت لنفسك.. والتفتي للشخص الذي ينتظر منك الإشارة ليغمرك بكل الحب والحنان اللذين تحتاجينهما”.
نظرنا أنا ونهلة لبعضنا نظرة طويلة… عميقة… وأنا أشعر بأن الدنيا كلها تتخلى عني وتقف في صف أروى..
فجأة رن هاتفي المحمول فسحبت يدي بسرعة من بين يديها وأخذت الهاتف وأجبت حتى قبل أن ألقي نظرة على اسم المتصل..
سمعت نهلة تقول باستنكار:
“أنت حالة ميؤوس منها!”
لم أعرها امتماما وتحدثت عبر الهاتف بلهفة:
“نعم مرحبا”.
متوقعة أن يكون وليد..
لكنه لم يكن!
لقد كان.. سامر!
سألني عن أحوالي.. وعن إصابتي وحمد الله على سلامتي.. ودار بيننا حديث قصير علمت من خلاله أن وليد سيظل معه بضعة أيام..
ثم قال فجأة:
“هل يمكنني أن أزوركم الليلة؟”
اشتعل وجهي احمرار من الحرج.. تعثرت في كلامي ولكنني أوصلت إليه:
“بالطبع.. أهلا بك.. سأخبر خالتي بهذا”.
وبعد أن أنهينا المكالمة نظرة إلى نهلة فرأيتها تحملق بي بخبث!
قلت:
“إنه ليس وليد بل سامر”.
عادت تنظر إلى السقف…
قلت:
“ويريد أن يحضر لزيارتنا الليلة”.
نظرت إلي بخبث وقالت:
“تعنين لزيارتك”.
تنهدت وقلت وبريق الأمل يشع في عيني:
“وبالطبع سيأتي وليد معه.. سأطلب من خالتي أن تعتذر إليه”.
وفيما بعد تحدثت مع خالتي ووعدتني بأن تتحدث مع وليد بهدوء وتعتذر عما قالته يوم أمس…
وعندما حل المساء.. وعند الثامنة والنصف قرع جرس المنزل..
انتظرت إلى أن جاء حسام ليخبرني:
“يرغب ابن عمك في إلقاء التحية عليك”.
قلت بشوق يكاد يفضحني:
“هل حضر وليد؟”
نظر حسام إلى نهلة الجالسة بقربي.. ثم إلي وقال:
“لم أعن هذا الـــ..”
وانتبه لنفسه ولم يتم.. ثم قال:
“أعني سامر”.
قلت بخيبة أمل:
“وحده؟”
أجاب:
“والاي معه الآن.. تعالي لتحييه”.
نظرت إلى نهلة ففهمتني..
قمت ورافقت حسام إلى غرفة الضيوف.. حيث كان سامر يجالس خالتي وزوجها..
ما أن رآني حتى وقف ونظر إلى العكاز وعلت تعبيرات وجهه علامات المفاجأة والألم..
أما أنا فقد دهشت للتغير الجديد في مظهر عينه…
“مرحبا سامر.. كيف حالك”.
بادرت في تحيته فرد والقلق يغلف نظراته وصوته:
“مرحبا رغد.. كيف حالك أنت؟ سلامتك ألف سلامة”.
قلت:
“سلمك الله. الحمد لله إصابتي في تحسن.. تفضل بالجلوس”.
وجلسنا نتجاذب أطراف الحديث نحن الخمسة ساعة من الزمن ثم استأذن سامر للمغادرة..
قبل انصرافه أعطاني ظرفا قال لي أنه من وليد… وسألني عما إذا كنت بحاجة لشيء فشكرته وودعته على أن نبقى على اتصال…
أما الظرف فقد كان كما توقعت يحوي مبلغا من النقود…
********************************رواية انت لي الحلقة 48
إنها النقود التي كانت في محفظتي ونسيت تسليمها لرغد بعد أن أصابني الإرباك وأنا أراها جالسة على عتبة المنزل في المزرعة…
لم أرغب في الذهاب.. لذا تركت شقيقي يخرج لزيارتها وتسليمها النقود بنفسه.. وبقيت وحيدا في شقته..
كما أنني أيضا لم أرغب في الاتصال لا بها ولا بأروى.. وآثرت البقاء بعيدا عن كليهما لبعض الوقت..
باشرت بتنظيم الحاجيات القليلة التي حملتها معي.. وعندما فتحت خزانة الملابس الخاصة بشقيقي فوجئت برؤية فساتين نسائية معلقة آخر الصف…
أصابتني الدهشة والحيرة.. وتملكني الفضول لإلقاء نظرة على بقية الخزانة والأدراج.
لن تصدقوا أنني وجدت خاتم خطوبة سامر الفضي موضوعا في أحد الأدراج مع مجموعة من علب الهدايا والمجوهرات…
وكان أحد الأدرلج مقفلا والله الأعلم.. ما الذي يخبئه شقيقي فيه…
أخذت أعبث بالخاتم في يدي وأنا شارد التفكير.. وشاعر بقلق شديد على سامر..
وفكرت في الألم الذي يعانيه وفي الصدمة التي ستصيبه إن أنا تزوجت رغد..
إنها نفس المشاعر التي عانيت مرارتها حين اكتشفت ارتباطه هو بها..تجربة قاسية جدا لا أريد لشقيقي الوحيد أن يخوضها..
وأضافة إلى عشرات المشاغل والهموم التي تثقل صدري وتزدحم في رأسي, أضفت اليوم هما جديدا… اسمه سامر..
ولم أدر يومها.. أنه الهم الذي سيحتل المركز الأول في قائمة المصاعب التي لا يزال القدر يخبئها لي في المستقبل القريب..
*****************************رواية انت لي الحلقة 48
مرت أيام وأنا في بيت خالتي لا هم لي سوى التفكير الملي بما قالته الشقراء لي آخر مرة… حالتي النفسية لم تكن جيدة وقد لاحظ ذلك أفراد العائلة.
“والآن يا رغد.. ما الذي يشغل بالك لهذا الحد؟ إننا جميعا قلقون عليك”.
كان هذا سؤال خالتي والتي كانت تلحظ شرودي… أجبت:
“لا شيء خالتي..”
قالت غير مصدقة:
“لا شيء؟”
أجبت مدعية:
“إنني.. قلقة بشأن.. أعني بشأن الجامعة وغيابي عنها”.
ولا أدري إن بدا كلامي مقنعا أم لا, غير أنه لم يقنع نهلة الجالسة معنا… بطبيعة الحال.
قالت خالتي:
“الجامعة والجامعة! دعك منها يا رغد.. وانسي أمرها”.
حدقت في خالتي بتعجب! فقالت:
“لست بحاجة إليها ولا أرى داع لها أصلا”.
قلت مندهشة:
“خالتي! كيف تقولين هذا؟”
قالت:
“لو لا إلحاحك ما كنت وافقت على الذهاب مع ابن عمك للجنوب من أجل الدراسة.. اصرفي نظرا عنها أو التحقي بالمعهد مثل حسام”.
قلت محتجة:
“ولماذا أفعل ذلك؟ أنا مسرورة بدراستي وناجحة بل ومتفوقة فيها”.
وأضفت:
“ثم أن وليد قد دفع تكاليف الدراسة لهذا العام كاملة… وهو مبلغ طائل لن نضيعه هباء”.
قالت:
“وماذا عن السنوات التالية؟”
قلت:
“سيدفعها أيضا”.
قالت معترضة:
“ولماذا يكبل نفسه كل هذا العناء؟ الجامعات الأهلية مكلفة جدا”.
قلت:
“لكن وليد ثري جدا.. ومصاريف دراستي لا تساوي شيئا أمام كل ما يحصل عليه”.
قالت خالتي:
“لا نريد أن نكلف الرجل فوق هذا..”
قلت متعجبة:
“ماذا تعنين؟ إنه الوصي علي!”
قالت خالتي:
“هنا مربط الفرس…”
ولم أفهم ما تعنيه.. ثم قلت:
“على كل نحن ننتظر حضوره حتى نضع النقاط على الحروف”.
وحالما انصرفت خالتي سألت نهلة:
“ما الذي تعنيه خالتي وماذا تقصد؟؟”
نهلة ردت:
“هذه المرة.. أمي جادة جدا بشأن إقامتك معنا بشكل دائم يا رغد!”
قلت مندهشة:
“والجامعة؟؟ ووليد؟؟”
قالت:
“آن الآوان… للتحرر منهما!”
في ذلك اليوم لم أطق صبرا… واتصلت بوليد… أخيرا…
وكأنني أكلمه للمرة الأولى في حياتي… لا أعرف لماذا ارتبكت وتسارعت نبضات قلبي..
وفور سماعي لصوته.. انصهرت كما تنصهر الشمعة… دمعة دمعة!
“كيف أنت؟ ولماذا لا تتصل بي؟”
تجرأت وسألته بعتاب.. إذ إنه لم يهاتفني ولا مرة مذ أحضرني إلى هنا.. وكأنني عبء ما كاد أنه تخلص منه!
وليد قال:
“لم أشأ إزعاجك.. وأعلم أن أقاربك يعتنون بك جيدا”.
حتى وإن! أنت أبي بالوصاية.. أليس من واجبك السؤال عني كل يوم؟
قلت:
“ومتى ستحضر؟”
قال:
“هل هناك شيء؟؟”
قلت:
“لا لا… لا تقلق.. إنما قصدت.. متى سيتعين علينا العودة؟”
لم يجبني مباشرة ثم قال:
“لا يزال أمامنا بعض الوقت.. موعدك في المستشفى لم يحن”.
هكذا إذن! لن تأتي لرؤيتي إلا يوم السفر أم ماذا؟؟
قلت:
“إن خالتي ترغب في الحديث معك”.
قال:
“حسنا…”
قلت:
“لا أعني على الهاتف.. تود أن تأتي للعشاء عندنا.. والتحدث”.
قال:
“لا بأس.. لنقل بعد يومين؟ فأنا في الطريق إلى المزرعة الآن”.
فوجئت.. وخذلتني جملته الأخيرة.. ذاهب إلى المزرعة ولم تفكر بالمرور بي؟؟
قلت:
“هكذا إذن؟ حسنا لن أشغلك وأنت تقود السيارة.. رافقتك السلامة”.
تكملة الحلقة 48 من الرواية—— انت لي—-
كنت أنتظر إشارة من أروى لأعود للمزرعة ونعود لمناقشة الخلافات الأخيرة الحاصلة بيننا..
والأيام التي قضيتها مع شقيقي بعيدا عن أي مشاكل كانت كافية لإرخاء الشد الحاصل في أعصابي. فكرتك كانت نافعة يا أروى.. أعترف بهذا.
اتصلت بي البارحة وأخبرتني أنها ترغب في مقابلتي..
منذ ارتباطنا وأروى أمامي يوميا لم يفصلها عني غير الشهر الأسود الذي تلا مقتل واليّ رحمهما الله والذي قضيته مع سامر ورغد بعيدا عنها..
أما رغد فمنذ أن التحقت برعايتي لم أفترق عنا غير الأيام التي سبقت رحيلنا الأخير إلى الجنوب.
والحديث القصير معها عبر الهاتف جعلني أشتعل شوقا لرؤيتها والاطمئنان على وضعها وصحتها.. ولو لم ابتعدت كثيرا.. لربما سلك بي شوقي الطريق إليها..
الاستقبال الذي استقبلتني به أروى كان باردا.. على عكس الطريقة التي ودعتني بها.. واخترنا الغرفة الخارجية الملاصقة للمنزل, والتي كنت أقيم فيها فيما مضى.. مكانا لحديثنا المطول..
أروى ظهرت أكثر هدوءا وتماسكا مما كانت عليه خلال الآونة الأخيرة.. ولم تتعمد الإطالة في المقدمات بل قالت مباشرة:
“كما قلنا.. يجب أن نضع نهاية لكل المشاكل والخلافات الحاصلة بيننا نحن الثلاثة”.
تعنيني أنا وهي ورغد..
قلت:
“وهل وجدت حلا مناسبا؟”
بدا الجد يعلو قسمات وجهها وأخذت نفسا عميقا ثم قالت:
“نعم.. وهو.. بيدك أنت يا وليد”.
شعرت بالفضول والحيرة.. لم أفهم ما الذي عنته فسألتها:
“بيدي أنا؟ ما هو؟”
قالت:
“يجب أن تكون مستعدا له”.
ازدادت حيرتي وقلت:
“بالطبع فأنا أريد بالفعل أن نتجنب التصادم مستقبلا وإلى الأبد… إذا كان الحل بيدي فأنا لن أتردد.. لكن ماذا تقصدين؟”
هنا توقفت أروى عن الكلام وكأنها تستجنع قواها لتنطق بالجملة التالية.. تلك الجملة التي من قوتها.. كاد سقف الغرفة أن ينهار على رأسي..
“وليد.. عليك أن تختار.. مع أينا تريد العيش… إما أنا.. أو رغد”.
وقوع سقف بهذا الحجم على رأس موقوت مسبقا.. لا يسبب التكسر والتهشم فقط.. بل ويفجره إلى شظايا تنطلق مخترقة الفضاء إلى ما لانهاية..
تسمرت على وضعي مذهولا.. أشد ذهولا من الذهول ذاته.. أحاول أن أترجم اللغة العجيبة التي التقطتها أذناي منطلقة من لسان أروى..
لم أتحدث فأنا لم أعد أملك رأسا يدير حركة لساني..
أرووى بعد الجمود الذي رأته علي قالت:
“وليد.. صدقني.. الحياة بوجودنا معا نحن الثلاثة مستحيلة.. لقد فكرت مليا طوال الأيام الماضية.. مرارا وتكرارا.. ولم أجد لمشكلتنا مخرجا غير هذا.. لن نستمر واقفين على فوهة البركان.. أنا ورغد لا يمكن أن نجتمع تحت سقف واحد بعد الآن.. أبدا يا وليد”.
أي سقف؟ وهل أبقيت في المنزل أية أسقف؟ لقد أوقعتها كلها على رأسي يا أروى…
فعن أي سقف تتحدثين؟؟
أخيرا استطعت النطق:
“ما الذي تهذين به؟”
توترت أروى.. وقالت:
“هذا هو الواقع… أنا وابنة عمك يستحيل عيشنا سوية في سلام.. لا تتحمل إحدانا وجود الثانية أبدا.. إما أن تعيش معي.. أو تعيش معها.. يجب أن تختار”.
صرخت:
“أروى… هل جننت؟”
صاحت أروى:
“بل هذا هو عين الصواب.. إنني سأجن فعلا إن بقيت مع ابنة عمك في بيت واحد”.
انفعلت وثرت فجأة.. وهببت واقفا أضرب كفي الأيسر بقبضتي اليمنى…
وقفت أروى وقالت:
“أرجوك أن تحافظ على هدوئك لنتابع النقاش”.
صرخت بعصبية:
“أحافظ على هدوئي؟ كيف تريدين مني البقاء هادئا بعد هذا الجنون الذي تفوهت به؟ إنني لم أتوقع أن تكوني أنت كارهة لرغد لهذا الحد أبدا”.
قالت منفعلة:
“وأما لم أقل إنني أكرهها”.
قاطعتها:
“وبم تترجمين موقفك هذا؟”
أجابت:
“إنه حل وليس موقف.. واحدة منا فقط ستعود وتبقى معك.. وعلى الأخرى أن تظل هنا… هذا من أجل راحتنا جميعا”.
قلت غاضبا:
“من أجل راحة من؟؟ تريدين مني أن أتخلى عن رعاية ابنة عمي وتقولين راحتنا جميعا؟؟”
هتفت أروى:
“أنا لم أقل تخل عنها”.
قلت ثائرا:
“وما تفسيرك إذن لتركي لها هنا؟”
قالت:
“ولم أقل اتركها هي… قلت إنك من يجب عليه أن يختار.. إما أنا أو هي”.
وقفت مأخوذا بأعماق أكبر وأغزر.. لكلام أروى..
قلت:
“أروى… بربك… ماذا تعنين؟؟”
رمقتني بنظرات ملؤها المعاني…
سألت:
“تعنين.. أن أعود معها هي.. وأتركك هنا؟”
رفعت أروى رأسها بشموخ وقالت:
“إن قررت اختيارها هي”.
اندهشت وقلت:
“لا بد أن شيئا ما قد ألم بعقلك يا أروى”.
لم تعلق فتابعت:
“إلا إذا كنت… تعنين لفترة محددة.. ريثما تهدأ الأوضاع”.
قالت بثقة:
“لا… بل أعني للأبد..”
صعقت وسألت غير مصدق:
“وأنت؟”
قالت وعضلات وجهها قد خذلتها وبدأت بالنهيار:
“لن أعيش معك ما دامت رغد تحت ولايتك..”
من ذهولي لم أعرف كيف أرد.. رفعت يدي وأمسكت بعضديها ونظرت إلى عينيها بجدية ثم قلت:
” هل تعنين ما تتفوهين به يا أروى؟؟”
أجابت وأول دمعة تنزلق بين رموشها:
“أعيه وأعنيه تماما يا وليد.. لن لأستمر معك.. ما بقيت ابنة عمك تحت رعايتك.. إن أردت لحياتنا أن تستمر معا.. تنازل عن وصايتها.. وأبعدها عنا”.
أطرقت برأسي رفضا لتصديق ما أسمع.. وضغطت على عضدي أروى وقلت:
“كلا.. أنت لا تعنين ما تقولين يا أروى.. لا شك أنني أحلم”.
أروى عصرت عينيها وتدفقت الدموع بغزارة منهمرة منهما.
هززتها وقلت:
“كلميني يا أروى.. أخبريني بأنك تهذين..”
أروى فجأة رمت برأسها على صدري وانفجرت باكية وهي تزفر:
“لا أتحمل هذا… ارحمني وليد.. لا يمكن لقلبي أن يتحمل العيش مع فتاة أعرف أنك تحبها.. ما الذي تخطط له بشأنها؟؟ كم أنت قاس علي…”
وانهارت أروى في بكاء طويل حارق..
لم أحرك ساكنا.. وانتظرت حتى أفرغت دموعها في ملابسي.. وبكاءها بين ضلوعي..
بعدها أبعدت رأسها عن صدري ونظرت إلي..
“ماذا قررت؟”
سألتني ونظرتها متعلقة بعيني…
فلم أرد.. فنادتني:
“وليد… أنا.. أم هي؟”
عضضت على أسناني توترا ثم قلت:
“سأعتبر نفسي لم أسمع شيئا اليوم”.
قالت بحنق:
“وليد.. لا تهرب من سؤالي”.
رددت بحدة:
“إنه ليس سؤالا يا أروى… إنه الجنون.. يبدو أنك لم تسترخي بما فيه الكفاية بعد..
سأتركك لتراجعي حساباتك الحمقاء هذه ثانية”.
وتركتها وغادرت الغرفة..
في المزرعة وجدت العم إلياس والخالة ليندا يعملان مع بقية العمال في حرث بقعة من الأرض..
قلت مخاطبا الخالة:
“خالتي.. دعي عنك هذا أرجوك”.
فقالت بسرور:
“إنني أستمتع بحرث الأرض يا بني.. ثم إنه تمرين جيد لتنشيط القلب”.
قلت:
“بل هو شاق على مرضى القلب.. أرجوك توقفي”.
واقتربت منها وانتزعت الأداة من بين يديها وطلبت منها الذهاب للراحة..
كانت أشعة الشمس لا تزال ساطعة بقوة والجو اليوم أكثر حرارة مما كان عليه الأسبوع الماضي..
شمرت عن ساعدي وأمسكت بالمعول وجعلت أضرب الأرض بقوة.. وكلما تذكرت كلام أروى ضربتها بقوة أكبر وأكبر.. وكأنها السؤولة عن دوامة المشاكل التي أعيشها.. كأن بيني وبينها ثأر كبير…
عملت بهمة لا تتناسب والحالة المزاجية المتعكرة التي تسيطر علي.. ومرت الساعات واختفى قرص الشمس خلف ستار الأفق.. الذي خبأ بحرص شديد.. ما ستشرق به شمس الصباح التالة..
كان الإعياء قد نال من عضلاتي والعرق قد أغرق جسدي حينما ألقيت بالمعول جانبا واستلقيت على الرمال ألتقط أنفاسي..
تنفست بعمق شديد وأنا شارد التفكير.. أنظر إلى السماء وقد بدأ الظلام يلونها بلون الحداد الكئيب…
أمام عيني كنت أرى كلمات أروى تتراقص مع أوراق الشجر.. ذات اليمين وذات الشمال.. وتسبب لي دوارا..
أغمضت عيني لأحول دون رؤية أي شبء.. فأنا هذه اللحظة لا أريد لأي مؤثر خارجي أن يغزو تفكيري..
شعرت بشيء يسري على ذراعي.. حركت يدي فأحسست بحبات الرمل تعلق بي..جذبت نفسا فخيل إلي أنني أشم رائحة دخان السجائر.. وسمعت أصوات أشخاص كثر ينمنمون..
فتحت عيني بسرعة.. وهببت جالسا..لمحت حشرة تسير على ذراعي فأبعدتها ونفضت التراب عن يدي.. وتلفت يمنة ويسرة أبحث عن مصدر الرائحة والصوت..
لقد كنت واهما.. إنني في المزرعة الآن.. ولست في السجن..
لا اعرف لماذا عادت بي الذكريات إلى الزنزانة.. وتوهمت أنني أنام على الفراش الخشبي القذر.. تعلق بي حبات الرمل والغبار.. وتسير الحشرات على جسدي.. وتحشو رائحة السجائر والعرق تجويف أنفي..
كلا كلا!…
وقفت منتفضا وأنا أطرد الذكرى البشعة من مخيلتي… مددت أطرافي الأربعة إلى أقصاها.. وتنفست نفسا عميقا وزفرت باسترخاء… ثم أجريت تمارين إرخاء سريعة.. دخلت بعدها إلى المنزل..
تحاشيت الالتقاء بأروى وتعمدت عدم الظهور في أماكن تواجدها.. وأبقيت موضوعنا معلقا لحين إشعار آخر..