أخبرتني نهلة بأن حسام ذهب شخصيا إلى وليد عصرا وفتح موضوع زواجنا أمامه.. وأن وليد رفض الموضوع ولكم حسام بعنف على وجهه..
قالت:
“هذا ما أخبرني به.. وهناك كدمة مريعة على وجهه وتورم فظيع!”
قلت:
“يا إلهي! ما الذي دفعه إلى هذا الجنون؟ يذهب إليه بنفسه وبمفرده وفي هذه الفترة؟؟ هل فقد صوابه؟؟”
قالت نهلة:
“يحبك يا رغد ولا يطيق صبرا.. وأراد أغتنام فرصة تواجد ابن عمك في المنطقة… ولو لم يكن سامر خطيبك السابق لكان طلب الأمر منه… والآن وصيك الرسمي يهدده بألا يعود لطرح الأمر ثانية وإلا محاه من الوجود… تهديد صريح بالقتل وأمام أحد الشهود”
.
قلت حانقة ومهاجمة:
“ماذا تعنين؟؟”
فقالت نهلة:
“أنت أدرى”.
فازداد غضبي وخاطبتها بحدة:
“لا أسمح لك… ابن عمي ليس سفاحا… وإذا كان قد ارتكب جريمة في السابق فإنه…”
وانتبهت لكلامي وأخرست فمي…
فقالت نهلة متحدية:
“فإنه ماذا؟؟”
ولم أجرؤ على الإجابة… فنظرت إلي نهلة بجدية وقالت:
“فإنه قد يفعلها ثانية”.
زمجرت:
“توقفي… أنت لا تعرفين شيئا… كلكم ظالمون…. اتركوا وليد وشأنه وإياكم وإهانته ثانية… لأنتم تهينونني أنا وتجرحونني أنا… ألا تحسون بذلك؟؟”
“كيف أهدأ وأنتم كلما جيء بذكر وليد نعتموه بألفاظ قاسية؟ رأفة به وبي… هذا كثير… كثير…”
وفيما أنا في غمرة انفعالي طرق الباب ودخلت سارة تقول مخاطبة إياي:
“ابن عمك هنا ويريدك”.
قفزت واقفة وقفز قلبي معي… ودارت بي الأفكار وأرسلتني إلى البعيد… فقلت بهلع:
“وليد؟؟”
فردت سارة وهي تحرك رأسها حركة طفولية:
“لا! بل سامر”.
وسرعان ما أصبت بخيبة أمل… إلى أين ذهبت أفكارك يا رغد؟؟ يا لك من مسكينة واهمة! طبعا سيكون سامر… ألا زلت تعتقدين بأن وليد سيعود إليك ذات يوم…؟؟
كان الوقت ليلا… وليس من عادة سامر زيارتي في الليل ودون سابق موعد… إلا لأمور طارئة أة ضرورية…
ارتديت حجابي وعباءتي وذهبت لملاقاته في غرفة المجلس كالعادة… وهناك من أول نظرة ألقيتها عليه لاحظت أن هناك ما يقلقه… وعرفت أن للزيارة سبب قاهرا…
بعد التحية والسؤال عن الأحوال… سألته:
“ماذا هناك؟؟”
وفاجأني عندما قال:
“وليد يريد أن ترافقيني الآن إلى الشقة.. إنه هناك وينتظرنا..”
هل سمعتم؟؟ يقول… إن وليد يريد مقابلتي… هل هذا ما قاله؟؟ هل هذا ما يفهم من كلامه؟؟
تسمرت في مكاني مأخوذة بالمفاجأة ونظرت من حولي أتأكد من أنني لا أتخيل!
وليد يريد مقابلتي… أخيرا؟؟
قطع علي حبل شرودي صوت سامر وهو يقول بنبرة قلقة:
“لا يبدو بمزاج جيد… لا أعرف ما الطارىء الذي يشغل باله لكنه طلب أن آخذك إلى الشقة في هذا الوقت…”
عرفت… لقد فهمت… موضوع حسام… لا محالة…
لم أحرك ساكنا… من شدة القلق… إلى أن قال سامر يحثني على الاستعجال:
“هيا يا رغد فالوقت ليس من صالحنا…”
وصلنا إلى الشقة أخيرا… ومع وصولنا وصلت ضربات قلبي إلى أقصى سرعة…
وبدأت أحس بالنبضات في شرايين عنقي… وفيما سامر يستخرج مفتاح الشقة عند الباب حدثني بصوت خافت قائلا:
“أنبهك يا رغد… يبدو أن شياطين رأسه تسيطر عليه..”
أرعبتني جملته فبلعت ريقي وقلت:
“هل.. هو غاضب جدا؟؟”
فأجاب وهو يخفض صوته:
“يشتعل بركانا.. حاولت أن أعرف ما القصة فلم يخبرني ورفضت إحضارك فهددني بأنه إن ذهب بنفسه إلى منزل خالتك فسوف يحرقه بمن فيه.. لا أستبعد هذا… فوجهه ينذر بالشر…”
وضعت يدي اليسرى على عنقي فزعا… ورددت رأسي إلى الوراء… فقال سامر محاولا بعد كل هذا طمأنتي:
وفتح الباب… لملمت شظايا قوتي وذكرت اسم الله… ودخلت الشقة…
في الداخل وقعت عيناي مباشرة على العينين الملتهبتين.. القادحتين بالشرر… اللتين لم أحظ برؤيتهما منذ أيام… ولم أحظ برعايتهما… منذ أسابيع…
كان وجهه كتلة من الحمم البركانية المتوهجة… عابس التعبيرات… قاطب الحاجبين وأحمر العينين… تلك الحمرة التي تكسو وجه وليد وعينيه عندما يشتط غضبا… وكان يتنفس عبر فمه… وتكاد ألهبة من النار المتأججة تخرج مع زفيره… وكان يقف وسط الشقة وعلى أهبة الهجوم…
يا لطيف…!
أردت أن أبدأ بالتحية… غير أنه لم يكن لها مجال هنا… مع وجه مرعب يقدح شررا… وعندما أغلق سامر الباب خلفه تكلم وليد فجأة:
“من فضلك يا سامر ابق في الخارج قليلا”.
تبادلت النظر مع سامر.. الذي رأى اضطرابي وقرأ توسلاتي.. فقال:
“هل الموضوع سري لهذا الحد؟؟”
فقال وليد بصبر نافذ:
“رجاء ابق في الخارج إلى أن أستدعيك..”
فنظر إلي سامر مجددا ثم قال:
“يمكنني دخول غرفة النوم”.
فزمجر وليد بحدة:
“قلت في الخارج… لو سمحت”.
فلم يتحرك سامر بل أصر:
“سأدخل إلى الغرفة يا وليد”.
هنا هتف وليد بغضب:
“سامر… رجاءً أخرج الآن ولا تضيع الوقت…”
قال سامر:
“يبدو عليك الغضب الشديد يا وليد.. لماذا لا تسترخي قليلا ثم تتحاوران؟؟”
صرخ وليد:
“أنا لست غاضبا…”
واضح جدا! ماذا تريد أكثر من هذا!!؟؟
قال سامر:
“لكن يا أخي…”
فقاطعه وليد بفظاظة:
“انصرف يا سامر أرجوك ولا تغضبني بالفعل..”
ولم يملك سامر من الأمر شيئا… فنظر إلي نظرة عطف وإشفاق… ثم فتح باب الشقة… وقال محذرا:
“إياك أن تقسو عليها… أحذرك…”
وألقى علي نظرة أخيرة وخرج…
بقينا أنا والمذنب المتوهج وليد بمفردنا في الشقة…هو ينفث الأنفاس الغاضبة الحارقة.. وأنا أرتجف هلعا…
وبعد أن التهم عدة أنفاس… قال أخيرا:
“اجلسي يا رغد”.
رفعت بصري إليه ولم أتحرك… كنت مضطربة وقلبي تركض نبضاته بسرعة…
ولا أقوى على السير من فرط توتري… ولما رآني متصلبة في مكاني قال بصوت حاد:
“ما بك تنظرين إلي بهذا الذعر؟؟ هل أبدو كالغول المفترس؟؟ أم هل تظنين أنني سألكمك أنت أيضا؟”
خفت.. وأومأت رأسي بـــ (لا).. فأشار إلى المقعد.. فسرت مذعنة… أعرج في خطواتي… إلى أن جلست على طرف المقعد… ووضعت حقيبتي إلى جانبي…
وليد كان مرعبا لحد كبير.. وكنت أسمع صوت الهواء يصطدم بفمه كالإعصار.. وكلما أطلق نفسا قويا جذب نفسا أقوى.. حتى أوشك الهواء على النفاذ من الشقة…
فجأة اقترب خطوة مني فأرجعت ظهري إلى الوراء تلقائيا.. خشية أن تحرقني أنفاسه أو تلسعني نظراته.. توقف وليد على بعد خطوتين مني ثم قال:
“أظنك تعرفين لم أنت هنا”.
رفعت رأسي وأومأت بـــ(لا).. فهتف بسرعة:
“بل تعرفين”.
أفزعني صوته.. فغيرت موقفي وأومأت بــــ(نعم).. وأنا متوقعة أن يكون الموضوع هو موضوع حسام…
قال:
“تعرفين أن ابن خالتك العزيزة… قد أتى إلي خصيصا هذا اليوم ليطلب موافقتي على خطبتكما”.
تصاعدت دفعة من الدماء إلى وجهي… وهويت بأنظاري نحو الأرض حرجا.. ولم أقل شيئا.. فتابع هو:
“أتى بمفرده وبكل شجاعة… بل بكل وقاحة.. بعد الإهانات الفظيعة التي رموني بها في منزلهم.. وبدون اعتبار للظروف التي نمر بها في المزرعة… بلا احترام لي ولا لعائلتي… أتى إلي مطالبا بتحويل مشروع زواجكما المزعوم إلى واقع… بكل بساطة”.
وأيضا لم أقل شيئا… بل لم أجرؤ حتى على التنفس…
قال:
“وحجته.. أنكما متفقان.. ومستعدان للارتباط.. ومنذ زمن.. وأنه يريد أن يريح مشاعره وقلبه!”.
فطأطأت برأسي نحو الأسفل أكثر… أكاد أكسر عنقي من حدة الطأطأة… وأفجر عروق وجهي من غزارة الدماء المتدفقة فيها…
وليد دفع بكتفي نحو المسند فجأة وابتعد سائرا نحو الباب..
أنا أخفيت وجهي خلف يدي المصابة وأخذت أذرف شحنة الدموع المخزنة في عيني.. وتأوهت من قسوة وليد.. قسوة لم أعهدها ولم أكن أنتظرها منه.. بعد كل ذلك العطف والحنان اللذين غمرني بهما طوال سنين… وبعد كل الفراق والجفاء والمقاطعة التي فرضها علي منذ أسابيع…
عندما أفرغت كل دموعي أزحت يدي عن عيني… وشاهدته يدور حول نفسه تارة ويسير يمينا وشمالا تارة أخرى… وهالة من اللهيب الأحمر تحيط به…
وحين رآني أنظر إليه صرخ فجأة:
“ألم أحذرك من مغبة فتح هذا الموضوع يا رغد؟؟ ألم أفعل؟؟”
ولم يمنحني فرصة للرد بل تابع مزلزلا:
“لكنكم تستخفون بي.. وترونني مجرما حقيرا خريج سجون… لست أهلا لتولي الوصاية على فتاة يتيمة.. ولا أؤتمن عليها…”
أردت أن أنطق (كلا) لكن وليد لم يعطني المجال وواصل:
“سأريكم.. ما الذي يستطيع المجرمون فعله.. سترون أن كلمتي أنا.. هي النافذة.. وأنه ما من قوة في الأرض سترغمني على الموافقة على هذا الزواج مهما كانت..”
“ستحققين أمنيتك بالزواج منه فقط بعدما أموت يا رغد.. هل تفهمين؟؟”
وعندما لم ير مني أي ردة فعل تصور أنني لم أفهمه أو لم أعر كلامه اهتماما…
فأطبق على كتفي كالصقر المنقض على فريسته… بمنتهى الخشونة وراح يصرخ:
“أكلمك يا رغد… أصغي إلي جيدا.. واحفظي كلامي بالحرف الواحد… أنا المسئول عنك هنا.. وأنا من يقرر كل شيء يتعلق بك… صغيرا كان أم كبيرا… شئت أم أبيت… تركك أبي تحت عهدتي أنا.. وليس تحت عهدة خالتك وعائلتها.. وإن أبقيتك هناك كل هذا الوقت فهذا لأنني أنا أريد إبقائك.. وليس لتتصرفي كما يحلو لك.. أنت وابن خالتك المراهق الأبله… ومتى ما شئت أنا…سآتي وآخذك.. وخالتك.. وزوجها.. وأبناؤها.. كلهم لا يملكون الحق في تسير أمورك.. وحسام بالذات.. وبالذات حسام.. واسمعيني جيدا.. هذا الفتى بالذات.. سيكون آخر آخر آخر شخص على وجه الأرض.. سأسمح له بالاقتراب منك.. ولن يكون ذلك إلا بعد موتي.. أفهمت ذلك يا رغد؟؟ أفهمت ذلك؟؟”
كل هذا الصواريخ في وجهي.. والضغط العنيف على كتفي.. والأعاصير النارية المنطلقة من عينيك وتريد مني ألا أفهم؟
صحت بخوف وأنا أحاول استعطافه والنجاة من بطش يديه:
“نعم… فهمت..”
فضغط على كتفي بخشونة أشد وقال:
“فهمت جيدا؟؟ أنا لن أعيد كلامي في المرة المقبلة إن تكرر الأمر.. ولن أكتفي بلكم وجهه.. بل سأهشم عظامه كلها.. وأطحن رأسه… أوعيت هذا؟؟”
قلت:
“فهممت.. فهمت.. أرجوك… يكفي”.
وواصل عصر كتفي بقبضتيه وهو يجبرني على النظر في عينيه ويخترقني بنظرته الثاقبة النهددة ويقول:
“لا تضطريني لتصرف لا تحمد عقباه يا رغد… أحذرك… أحذرك… ما أنا فيه يكفيني… التزمي بكلامي وإلا..”
أطلقت إجابتي مع زفرة ألم:
“حاضر… فهمت… سأفعل ما تأمرني به… هذا موجع… أرجوك أتركني…”
وانخرطت في البكاء من الألم… فأطلق سراح كتفي وابتعد…
جعلت أمسد كتفي الأيمن بيدي اليسرى لأخفف الألم… ولم أرفع رأسي مجددا… حل سكون مخيف بضع دقائق.. ثم سمعت صوت باب الشقة ينفتح فرفعت رأسي ونظرت إلى وليد فشاهدته يغادر…
وقفت بسرعة وسألت:
“إلى أين تذهب؟؟”
لكنه أغلق الباب ولم يجبني… أسرعت أسير بعكازي إلى الباب وأردت فتحه فإذا بي أسمع صوت قفله يدار..
بقيت واقفة عند الباب في انتظار عودة وليد أو سامر.. ومرت بضع دقائق ولم يظهر أي منهما..
انتابني الذعر.. وعدت إلى المقعد واستخرجت هاتفي من حقيبتي واتصلت بوليد فلم يجبني.. واتصلت بسامر فوجدت الخط مشغولا..
انتظرت دقيقة ثم أعدت الاتصال بسامر فرد علي وأخبرني بأنه في صالون الحلاقة أسفل المبنى وسيصعد بعد عشر دقائق…
“لكنني وحدي في الشقة… ذهب وليد وتركني أرجوك تعال الآن”.
قال سامر:
“لم يذهب. أخبرته أن يبقى وينتظرني. سيأتيك الآن”.
وأنهيت المكالمة ونظرت نحو الباب في انتظار عودة وليد… ولكنه لم يعد. أخذ القلق والخوف يتفاقمان في صدري… وإن هي إلا دقائق حتى عاودت الاتصال بسامر وأخبرته بأن وليد لم يعد ورجوته أن يوافيني في الحال.
فقال إنه قادم… وأقبلت نحو الباب في انتظاره… وعندما اقتربت نمه خيل إلي أنني سمعت صوتا من خلفه ففزعت… أصغيت بسكون… فتكرر الصوت وأجفل قلبي…
“سامر؟؟”
ناديت بحنجرة مخنوقة… ولم أسمع ردا… لكنني أحسست بحركة ما… وكأن أحدهم يقف خلف الباب مباشرة أو يستند إليه… سألت:
عندما سمعت صوته حلت الطمأنينة في قلبي… فألقيت بثقل جسمي على الباب… وخيل إلي… أنني أحسست بالحرارة تتخلله منبعثة من جسم وليد…
يفصل بيني وبينه باب خشبي… وعشرات المشاكل ومئات الشحنات… والمشاعر المتضاربة والمواقف الملاطمة… والكلمات القاسية… والمعاملة الجافة… التي أثخن قلبي وجسدي بخدوشها قبل قليل…
تلمست كتفي… فألفيت الألم قد انقشع… وتلمست الباب فوجدته دافئا وحنونا… وألصقت أذني به… فتوهمت أنني أسمع نبضات قلب وليد… تناديني…
أفقت من أوهامي على صوت خشن زاجر… أصدره وليد…
“أقول لك انتظرني ها هنا فتذهب إلى الحلاق؟؟”
ثم أتى رد بصوت سامر:
“لم أتوقع أن تنهيا الحوار بهذه السرعة كما وأنني لم أشأ الوقوف هكذا كالبواب”.
فقال وليد متضايقا:
“قلت لك إنني لن أطيل الكلام وكما ترى فالوقت ليل ولا يزال أمامك مشوار إعادتها… تعرف أن التجول محظور آخر الليل هناك..”
ثم سمعت صوت المفتاح يدخل في ثقبه فابتعدت بسرعة…
كان سامر هو من فتح الباب فدخل ولم أر أحدا من خلفه… استدار للوراء ثم التفت إلي وأغلق الباب من بعده وسألني:
“هل أنت بخير؟؟”
أجبته:
“نعم”.
فاقترب وهو يحملق في عيني ويرى أثر الدموع ثم سأل:
“ماذا قال لك؟؟”
فطأطأت برأسي ولم أجبه. فألح علي بالسؤال غير أنني اعتذرت عن الإجابة….
قال:
“إذن الموضوع سري بينكما؟”
ألقيت نظرت سريعة عليه ثم نظرت إلى الأرض لأبعد عيني عن عينيه… خشية أن يكتشف شيئا…
سأل برجاء:
“ألن تخبريني؟”
فلم أرد…
كيف أخبرك وبم؟؟! سيضرب هذا على وترك الحساس المؤلم… أأقول إن حسام عرض على وليد الزواج مني…؟؟
احترم سامر موقفي وقال متراجعا:
“كما تشائين. إنما أردت المؤلزرة. فإذا ما أساء إليك أخي بأي شكل فأخبريني حتى أوقفه عند حده”.
فشددت على قبضتي ولم أتفوه بشيء…
بعد ذلك… أعادني سامر إلى منزل خالتي… ولأن المسافة بين المدينتين التجارية والصناعية طويلة نسبيا, فقد وصلنا في ساعة متأخرة من الليل…
أما وليد فكان قد اختفى فور ظهور سامر عند باب الشقة… ولا أعرف إن كان قد عاد إلى مزرعة الشقراء أم أنه بات في شقة أخيه تلك الليلة…
وجدت خالتي ونهلة في انتظاري وعيونهما ملأى بالتساؤلات… أخبرتهما بأنه لا شيء يستحق القلق وذهبت إلى غرفتي فتبعتنب نهلة… والتي سهرت في انتظار عودتي على نار هادئة لتعرف ما حصل…
قلت أخيرا وأنا أنظر إلى السقف وأتنفس الصعداء باسترخاء بعد كل ذلك التوتر…:
“تشاجر معي.. فجر صواريخ فتاكة في وجهي.. وهددني بأن..”
قالت نهلة بلهفة:
“بأن ماذا…؟ أكملي!؟”
فوجهت بصري نحوها وقلت:
“بأن يهشم عظام حسام إن عاود طرح موضوع الزواج ثانية…”
حملقت بي نهلة بدهشة… ثم قالت مستنتجة:
“هكذا إذن..”
ثم أضافت:
“تهديد صريح آخر…”
حينها قلت بجدية وصراحة:
“إنه ينوي شرا.. أخبري حسام بأن يبتعد عني وأن يلغي الفكرة نهائيا من رأسه لينجو بنفسه…”
غضبت نهلة من كلامي الصريح الجارح.. وقالت وهي تستدير مغادرة:
“أخبريه أنت بذلك.. أنا لن أجرح أخي بهذه القسوة.. أنت عديمة الإحساس”.
*************************
رفض كل من أخي ورغد إطلاعي على موضوع الحوار الذي دار بينهما… لكني لم أسكت على الدموع التي رأيت آثارها في وجه رغد ليلتها…
“حسنا… أنا لن أطلب منك إخباري بتفاصيل الموضوع وسأنسى أنني من جلبها وأعادها في قلب الليل وأن الحديث دار في شقتي أنا… لكنني لن أتغلضى عن جرحك لها وجعلها تبكي يا وليد”.
نفثت كلامي بانفعال أمام أخي, الجالس بصمت يشرب الماء البارد… ويبتلع قطع الجليد الصغيرة السابحة في الكأس.
تجاهل أخي كلامي فغضبت وقلت:
“أكلمك يا وليد ألا تسمع؟”
نظر أخي إلي من خلال زجاج الكأس الشفاف الذي يحمله في يده وأجاب:
رفست بطنه بركبتي حتى أبعده عني. وبصراحة رفستي لم تكن قوية… لكن أخي أطلق صرخة ألم واندفع مبتعدا عني… وأمسك ببطنه وراح يتلوى. ثم إذا به يجثو على الأرض بالضبط فوق شظايا الكأس المكسور دون أن ينتبه لها… ويحني رأسه إلى الأرض ويتقيأ الماء الذي شربه قبل قليل… ممزوجا بالدم…
هلعت لمنظر أخي… وأقبلت إليه قلقا ومددت يدي نحوه, غير أنه أبعدها بفظاظة وأخذ يتلوى… وأخيرا نهض وسار نحو الباب.
“إلى أين؟؟”
فالوقت كان قد تجاوز الواحدة ليلا… ويفترض به المبيت عندي… ووضعه لا يسمح بالمغادرة…
تبعته وحاولت استيقافه إلا أنه صدني وغادر الشقة…
وقبل غروب الشمس التالية اتصل بي وأخبرني بأنه في طريقه إلى المطار…
مسافرا إلى الجنوب.
سافر أخي إلى المدينة الساحلية… وغاب عنا بضعة أسابيع…
جاء سفره مفاجئا ودون سابق تخطيط وتهيئة… وتوقعت أن أواجه موقفا صعبا مع رغد لدى إبلاغها عن هذا… فكتمت النبأ عمدا في البداية…
وفي الآونة الأخيرة لاحظت أن رغد لحد ما قد هدأت… أعني أنها لم تعد تثور وتغضب بسرعة… بل بدت مستسلمة لما نقوله لها بدون جدال… صحيح أن حالتها هذه لم ترضني لكنها على الأقل أفضل من التهيج الشديد الذي سبقها, وكذلك أبدت تجاوبا جيدا مع برنامج العلاج في المستشفى وحضرت المواعيد التالية بلا اعتراض…
والأهم…أنها توقفت عن الاتصال بهاتف وليد وعن السؤال عنه… اعتقدت أن مادرا بينهما تلك الليلة قد أراحها بشكل ما… وأن اعتقادها أن وليد في الجوار هدأ نفسيتها…
وخشيت إن أنا كشفت لها حقيقة سفره الآن أن تتقلب بها الأحوال, فواصلت كتم النبأ إلى أن حل هذا اليوم… والذي قرر فيه الطبيب أخيرا نزع جبيرة يدها…
بعد أن نزعت الجبيرة… وحركت رغد يدها… رأيت ابتسامة تشع على وجهها ولأول مرة مذ قدمت إلى المدينة الصناعية.. وبمجرد أن غادرنا عيادة الطبيب قالت لي:
“سأتصل بوليد وأخبره بأنني أستطيع تحريك يدي كالسابق, لا بد وأنه سيفرح للخبر!”
واستخرجت هاتفها واتصلت به ولم يرد, فحمدت الله في داخلي… لكنها سرعان ما فكرت بالاتصال بالمزرعة والسؤال عنه… حينها لم أجد مناصا من إطلاعها على الحقيقة…
ساعتها تجهم وجه رغد واختفت تماما آثار الابتسامة التي عبرت على وجهها قبل قليل… أحسست بالندم على تسببي بقتل بهجتها القصيرة… ولكي أشجعها ادعيت أن وليد قد أعرب لي عن عزمه اصطحابنا معه في المرة المقبلة… ولم يكن هناك جدوى من ادعائي.
ومضت الأيام والأسابيع وهي على حالها من الكآبة وفقدان الاهتمام بأي شيء.. حتى أنها نحلت أكثر مما هي نحيلة وانطوت على نفسها أكثر مما هي منطوية وما عدت أطيق رؤيتها بهذه الحال…
الشيء الوحيد على الأقل.. الذي صرفت إليه بعض الاهتمام… كان الرسم, ولكي أشجعها على الانشغال به وطرح الأحزان جانبا جلبت لها عدة الرسم كاملة, ووعدتها كذلك بشراء حاسوب محمول مع ملحقاته وكتبه… عما قريب…
أما وليد فكما فاجأني بسفره فاجأني بعودته ذلك اليوم…
صدمت للوهلة الأولى عندما دخلت شقتي ورأيته جالسا يشاهد التلفاز… وقد كان وجهه شاحبا هزيلا ملتحيا, وقد خسر جسمه عدة أرطال.
ولا لم يبد أنه قد حلق شعره أو ذقنه منذ لقائي الأخير به قبل أربع أسابيع…
وقف ليحييني ويصافحني, فحييته وسألته:
“ماذا حل بجسدك؟؟!”
فابتسم ورد:
“القرحة حرمتنا من الطعام…”
فسألت:
“هل تراجع طبيبا؟”
فأجاب:
“لا وقت لذلك, العمل مضغوطا جدا وبالكاد نتنفس”.
وتبادلنا حديثا قصيرا عرفت فيه أنه عائد من أجل شؤون عمل تتطلب توقيع زوجته شخصيا على بعض الوثائق الهامة…
“ولكن.. ألست موكلا للتصرف بكل شيء… توكيلا شاملا ورسميا”.
أطرقت برأسي برهة, وراودني سؤال طارىء لم يسبق لي أن طرحته على أخي:
“متى ستتزوجان؟”
ألقى علي أخي نظرة لا مبالاة, ثم أدار وجهه بعيدا عني… واستخرج من أحد جيوبه قرصا دوائيا ووضعه في فمه. ثم جذب نفسا عميقا ثم قال:
“إنني أريد على الأقل.. أن تسير أمور المصنع كما يجب. أروى لا تفكر في حجم الخسائر التي ستلم بثروتها إن هي بقيت عالقة في الشمال وأملاكها مزروعة في الجنوب.
لولا السيد أسامة المنذر بعد الله لفاتها الكثير.. ليس جميع موظفي المصنع والشركة بأمانة المنذر… يجب أن يبقي صاحب الأملاك عينه مفتوحة على ثرواته… يجب أن تعود إلى الجنوب”.
فهمت حرص أخي على أموال زوجته, وتفانيه في العمل لأجلها, وقلت: