“رواية تَعَافَيْتُ بِكَ”
“الفصل الرابع والعشرين”
____________
أجمل ما فيكِ لن يظهر على المرآة، لأن أجمل ما فيكِ لا يُرى بالعين.
(شمس التبريزي)
_______________
عيناكِ البريئة تأسرني، وحبكِ في قلبي يغمرني، ولكن سؤالي هنا كيف لقلبٌ يشبه الجماد في سكونه أن ينبض بعد رؤيتكِ؟
“هما هناك بيغرقوا في البحر وأنا هنا بغرق في عينيكِ”
بعد تلك الجملة التي خرجت منه وهي تنظر له بتعجب ممزوج بالدهشة، بينما هو غمز لها بطرف عينه ثم قال:
“طالما سكتي كدا يبقي أتثبتِ يا ست الكل”
وقبل أن تعقب على حديثه، ذكرت موظفة الاستقبال إسمها تطلب منها الدخول للطبيبة، أما هي شعرت بالخوف والتوتر وسارت رجفة عنيفة بجسدها، حينما رآى هو تلك الرجفة في يديها، أمسك كفها مُربتًا عليه ثم قال بنبرة هادئة:
“متخافيش أنا معاكِ”
كانت تلك أصدق جملة سمعتها في حياتها فهو حقًا معها ويدعمها، حتى نبرته تلك تبثها حنان العالم أجمع، كانا ينظرا لبعضهما البعض وفي تلك اللحظة قالت الأعين ما تعجز الألسنة عن قوله، ذكرت الموظفة إسمها للمرة الثانية، فقام هو وأوقفها بعده، وقبل أن يدخل بها للطبيبة أوقفته الموظفة قائلة:
“لو سمحت يا فندم، مش هينفع حضرتك تكون معَاها، لازم هي لوحدها”
بعد تلك الجملة تمسكت بذراعه أكثر وهي تنظر له بخوف، بينما هو ربت على ذراعها ثم قال بهدوء:
“متخافيش يا خديجة، أنا موجود والله”
ثم أضاف مستطردًا حديثه للموظفة:
“ممكن بس أدخل معاها للدكتورة وأخرج تاني، أنا فاهم القواعد كويس، بس لازم أنا أدخل معاها”
كانت نظرته مترجية لها فلم تستطع الرفض وقالت بهدوء:
“تمام يا فندم، بس ياريت حضرتك تكون عارف إن كله علشان مصلحتها هي”
أومأ لها ثم قال لـ «خديجة»:
“يلا يا خديجة”
أخذها ودخل غرفة الطبيبة، بينما هي كانت تسير بتروٍ وكأنها تسير على جسر من الأشواك، أول ما رأتهما الطبيبة وقفت قائلة:
“أنا كنت عاوزة خديجة النهاردة لوحدها يا أستاذ ياسين”
أومأ لها موافقًا ثم قال:
“أنا عارف والله بس أنا جيت معاها علشان أشجعها تدخل، وهخرج تاني”
من فرط خوفها وتوترها، أوشكت أعينها على ذرف الأدمع، بينما أجلسها «ياسين» على المقعد ثم قال:
“أنا دلوقتي هخرج يا خديجة بس متخافيش أنا علطول معاكِ، ومش هسيبك، بس لازم تكوني لوحدك هنا علشان تعرفي تتغلبي على خوفك دا”
أومأت له بهدوء ثم قالت بنبرة مهتزة:
“هخرج ألاقيك موجود صح؟”
أومأ لها مؤكدًا ثم قال:
“إن شاء الله، وأنا هنا علشانك أصلًا”
قال جملته ثم اقترب منها يطبع قبلة بسيطة على جبهتها، قال بعدها:
“أنا واثق فيكِ إنك قدها وقدود”
خرج وهو ينظر لها و لهيئتها التي تدل على خوفها وعلى صعوبة ما تشعر به، جلس ينتظرها في الخارج، بينما الطبيبة دخلت لها بعدما انسحبت من الغرفة لتترك لهما المساحة الكافية للحديث، جلست الطبيبة على المقعد الخاص بالمكتب، ثم قالت بوجهٍ بشوش:
“ها يا خديجة؟ أتمنى تكوني مستعدة”
كانت «خديجة» تتنفس الصعداء، وهي تفرك كفيها ببعضهما، نظرت لها الطبيبة نظرة مُتفحصة، وحينما لاحظت أعراضها تلك، قامت لكي تجلس على المقعد المقابل لها، جلست الطبيبة ثم أمسكت كفها وهي تقول:
“أنا مش عاوزاكِ تخافي مني، ومش عاوزاكِ تعتبريني دكتورة وأنتِ حالة عندي، أنا عاوزاكِ تعتبريني كأنك أنتِ بالظبط، يعني تتكلمي براحتك كأنك بتتكلمي مع نفسك، واللي هيحصل هنا كله محدش في الدنيا دي كلها هيعرف حاجة عنه، اتفقنا؟”
أومأت لها بقوة وهي تأخذ نفسًا عميقًا، ابتسمت الطبيبة ثم قالت:
“على بركة الله يبقى نبدأ”
أخذتها الطبيبة على مقعد أخر أكثر راحةً، حتى تستطع الإسترخاء عليه، وجلست بجانبها ثم قالت:
“أنا جبتك هنا علشان الوضع يكون أهدا لكِ، دلوقتي بقى إفردي جسمك وخدي نفسك جامد”
فعلت «خديجة» كما طلبت منها الطبيبة وجلست على المقعد بوضع أكثر إسترخاءً من ذي قبل، تحدثت الطبيبة بعملية قائلة:
“يلا يا خديجة عرفيني عن نفسك”
أخذت «خديجة» نفسًا عميقًا خرج منها مهزوزًا لدرجة كبيرة ثم قالت بنبرة مهتزة:
“خديجة طه فايز أحمد الرشيد،
عمري ٢٤ سنة،
عندي رُهاب إجتماعي”
______________
تلك الأحلام الضائعة هل يمكننا إيجادها من جديد، هل يمكننا التمسك بما نريد حتى يتحقق ويصبح لنا بالفعل، هكذا كانت تفكر هي في غرفتها وهي تحاول إيجاد طريقة تُقنع بها والدها بما تُريد، خرجت من غرفتها الكبيرة ثم ذهبت لـغرفة جدتها، وجدتها مُمسكة بالمصحف في يديها تقرأ منه، جلست أمامها وهي تبتسم بهدوء كعادتها، بينما العجوز أغلقت المصحف وهي تُصدق ثم قالت:
“خير يا ست جميلة، هتنكدي علينا إزاي النهاردة، وتخرجيه عن شعوره؟”
تبدلت نظرتها إلى الحزن ثم قالت:
“هو اللي مش راضي يديني فرصة أقوله اللي أنا عاوزاه، فيها إيه يعني لو يسمعني؟”
أردفت جدتها بقلة حيلة:
“يا بنتي اللي أنتِ عاوزاه دا صعب، أنتِ عاوزاه يسيب حياته هنا في الصعيد ويرجع القاهرة تاني ؟”
أومأت بقوة ثم قالت:
“أيوا علشان أنا مش قادرة أعيش هنا أكتر من كدا، المكان هنا مش شبهي، وعلى يدك أهوه اتخرجت من الجامعة السنة دي ومفيش فايدة، تخيلي مُدرسة عربي هنا ومش لاقية شغل؟”
نظرت جدتها لها بسخرية ثم قالت:
“ومين قالك بقى لما تروحي القاهرة هتلاقي شغل؟”
قالت بنبرة يملؤها الحماس:
“أكيد هناك في مدارس خاصة كتير، وتقديري هيخليهم يقبلوني”
نظرت لها جدتها وهي مُحتارة ثم قالت:
“يعني أنتِ عاوزة إيه دلوقتي برضه يا جميلة؟”
نظرت لها بفرح ثم قالت:
“أنا هقولك بس إسمعيني كويس يا نوال”
بعد حديثها مع جدتها، خرجت من الغرفة ثم توجهت إلى المطبخ وقامت بإعداد كوبين من الشاي بالنعناع وبعد أن أمسكت الحامل في يدها قالت بقيلة حيلة موجهة حديثها للشاي:
“أنا عارفة إنك زهقت مني بس أعمل إيه مفيش قُدامي غيرك يروقه”
أخذت نفسًا عميقًا وكأنها تُعد نفسها لحربٍ ما، بعد ثوانٍ وصلت أمام غرفته وهي تطرق الباب بخفة، أذن لها والدها من الداخل لتدخل، رسمت بسمة هادئة على وجهها ثم قالت بمرح:
“حسان روح قلب جميلة بيعمل إيه؟”
كان «حسان» جالسًا على مقعد مكتبه يتفحص الأوراق المالية أمامه، فنظر لها من فوق نظاراته الطبية قائلًا بنبرة جامدة:
“حسان مش عاوز لف و دوران وعاوز كلام علطول يا جميلة”
وضعت الشاي على المكتب ثم قالت:
“طيب أنتَ اللي طلبت، أنا عاوزة أروح أعيش في القاهرة”
مسح وجهه بكلتا يديه بقوة ثم قال:
“ولو أنا زي كل مرة قولت نقفل كلام في الموضوع دا هتعملي إيه؟”
إقتربت منه ثم قالت:
“صدقني أنا مش عارفة أعيش هنا، المكان هنا مش شبهي ومش زيي، ليه أضيع عمري في مكان زي دا مش لاقية فرصتي فيه”
نظر لها بحزن وكأن سنوات الماضي تمر أمام عينيه ثم قال:
“صدقيني أنتِ لو روحتي هناك هتندمي، هتدعي عليا، أنا هنا مأمنك”
عندما وجدته يسترسل في الحديث قالت:
“ليه بس، وعلشان إيه أدعي عليك، أنتَ كل حاجة ليا وبعد موت أمي أنتَ بقيت كل حاجة ليا بقيت الأب والأم والأخ والصاحب، علشان خاطري وافق وسبلي فرصة”
حديثها جعله يشعر بالإختناق فقال بصوتٍ مليءٌ بالرفض:
” جميلة، اخرجي دلوقتي واقفلي الموضوع دا خالص، ومتفتحيهوش تاني”
خرجت وهي تبكي من الغرفة، فوجدت جدتها واقفة خارج الغرفة، نظرت لها بحزن ثم ركضت إلى غرفتها، زفرت جدتها بضيق وهي تهز رأسها بيأسٍ ثم دخلت الغرفة له وجدته ينظر من الشرفة، وقفت بجانبه وهي تقول:
“لو أنتَ فاكر نفسك نسيت تبقى غلطان يا حسان، لو فاكر إن بنتك هتسكت أكتر من كدا يبقى بتزيد في غلطك”
التفت ينظر لها ثم قال:
“عاوزاني أعمل إيه يعني يا عمتي؟ عاوزاني أخدها هناك علشان تتعذب زيي، ولا عاوزاني أخدها لأمها اللي ندمت إنها هتخلفها مني، رُدي عليا”
ربتت على كتفه ثم قالت بهدوء:
“تحسبها بالعقل يا حسان، أنتَ فهمتها إن أمها ماتت وهي صغيرة، وفهمت أمها إنها هي ميتة، بس صدقني مفيش حاجة بتتخبى العمر كله وهيجي يوم وكله يتكشف”
نظر لها مُستفسرًا وهو يقول:
“يعني إيه يا عمتي؟ مش فاهمك”
قالت بنبرة بها مغذى:
“يعني طالما اليوم دا هيجي يبقى خلاص خليك مستعد ليه ويجي دلوقتي أحسن، حرام عليك بنتك اللي عيونها دبلت من كتر العياط دي”
زفر بقوة ثم نظر لها وهو يشعر بالحيرة بينما هي إبتسمت تشجعه ثم قالت:
“فكر وإحسبها كويس يا حسان”
_____________
في عيادة الطبيبة النفسية، في خارج الغرفة كان «ياسين» يقرأ القرآن من هاتفه، بينما في الداخل بعدما عرّفت «خديجة» عن نفسها وعن سنها، قالت الطبيبة بهدوء:
“المفروض يا خديجة يكون لينا جلسات أولية بحيث أني أتعرف على حالتك أكتر وبعدها تبدأ جلسات العلاج، لكن إحنا مش في حاجة الجلسات الأولية دي، ودا لأني على علم بحالتك، دلوقتي بقى يا خديجة قوليلي بتحسي بإيه من ناحية الرُهاب الإجتماعي؟”
أخذت «خديجة» نفسًا عميقًا ثم قالت:
“أنا طول عمري بحس إني خايفة، بخاف من كل حاجة، من الكلام ومن الناس ومن الزحمة”
كانت الطبيبة تدون ما تقوله «خديجة»، فسألتها مُستفسرة:
“قوليلي يا خديجة لو أنا دلوقتي قولتلك إنك لازم تنزلي شغل هتحسي بإيه؟”
نظرت لها «خديجة» بخوف ثم قالت:
“هحس بالخوف، فكرة إني أكون وسط الناس بتخوفني”
كان حديثها يخرج منها مهزوزًا وبصعوبة، لكنها كانت تجاهد حتى تستطع الإسترسال في الحديث، سألتها الطبيبة مرة أخرى:
“ممكن تقوليلي يا خديجة أكتر بتحسي بإيه أو بتتعاملي إزاي في التجمعات؟”
أوشكت على البكاء وهي تتذكر مشاعرها في تلك المواقف:
“بحس إني…متراقبة، علطول بحس إني هغلط في الكلام وحد هيحاسبني، بحس إني شخص مش مرحب بيه وسطهم”
أومأت الطبيبة ثم قالت:
“قوليلي يا خديجة عندك صحاب؟”
عند هذا السؤال لم تستطع التحكم في دموعها أكثر من ذلك وقالت:
“لأ…عمري ما كان عندي صحاب”
وبنبرة هادئة سألتها الطبيبة:
“ليه يا خديجة مش عندك صحاب؟”
مسحت دموعها ثم قالت:
“من أول ما دخلت المدرسة وأنا بخاف من كل حاجة، ومن ضمن خوفي إني مبعرفش أتعامل مع حد هما كانوا بيتريقوا عليا كلهم، ومعرفتش أصاحب حد، حتى في العيلة كانوا بنات أعمامي يتجمعوا مع بعض من غيري وعلطول كنت لوحدي، لحد ما اتعودت إني أفضل لوحدي”
سألتها الطبيبة بنبرة مترددة:
“قوليلي يا خديجة، إيه أكتر حاجة بتخوفك في الحياة”
نظرت لها «خديجة» بحزن ثم قالت بنبرة جاهدت حتى تخرج منها:
“بابا هو أكتر حاجة بتخوفني”.
____________
في بيت آلـ «الرشيد» كانت «مُشيرة» جالسة مع «هدير» فقالت لها:
“هي البت خديجة بتروح فين مع ياسين دا، هي مش مبتحبش الخروج ولا النزول؟إيه فجأة كدا بقت بتنزل وتخرج؟”
رفعت «هدير» رأسها من على هاتفها ثم قالت:
“عادي يا عمتو هي بتخرج مع جوزها مش حد غريب”
نظرت لها «مُشيرة» بخبث وهي تقول:
“لأ إزاي ودي تيجي برضه، لسه مبقاش جوزها،يدوبك كاتب كتابه بس،يعني ممكن في أي لحظة يسيبها وطه أخويا ميعجبوش الحال المايل”
نظرت لها «هدير» وهي تقول بنفس النبرة الخبيثة:
“قصدك إيه يا مُشيرة؟”
إبتسمت «مُشيرة» بإتساع ثم قالت:
“هقولك أنا قصدي إيه، قصدي إن طه يبدأ يقلل خروج بنته مع جوزها دا لحد ما تبقى مراته وفي بيته، بس مش دلوقتي خليهم يفرحوا شوية ببعض”
في الطابق الخامس تحديدًا الطابق الخاص بشقة «محمد»
طُرق باب الشقة، خرج «طارق» من غرفته وقام بفتح الباب وجد «وليد» و «خلود» و «سلمى» أمامه ويحملون أشياء في أيديهم، نظر لهم مُتعجبًا ثم قال:
“خير يا شباب الخير، نعم؟”
إبتسم «وليد» بإتساع ثم قال:
“يا عم دخلنا إحنا جايين وشايلين حتى”
أفسح لهم «طارق» المجال ليدخلوا الشقة، قام «وليد» بوضع الأشياء على طاولة السُفرة، هو والفتيات تحت نظرات التعجب من «طارق»، خرجت زوجة عمه، و «عبلة» بعدما إرتدت حجابها من الداخل، فقالت الأولى:
“بتعمل إيه يا وليد؟ وإيه اللي معاكم دا؟”
إقترب منها ثم أمسك كفها وهو يقول:
“حماتي العزيزة، انزلي شقتنا هتلاقي نصيبك تحت مع أمي و طنط زينب”
نظرت له مُتعجبة ثم قالت:
“نصيب إيه يا بني أنا مش فاهمة حاجة؟”
فتح باب الشقة وهو يقول:
“إنزلي بس يا سُهير يلا متتعبيش قلبي معاكِ، هتبقي أنتِ وعيالك عليا؟”
ضحكت بتعجب، وقبل أن تعقب على حديثه وجدته يغلق باب شقتها في وجهها، ضربت كفًا بالأخر وهي تضحك بإتساع ثم نزلت شقة «مروة»، في شقة «طارق» وقف ينظر للجميع بحنقٍ ثم قال:
“ممكن أفهم شغل العبط دا ليه؟”
أخذ «وليد» نفسًا عميقًا ثم قال مُردفًا:
“مش أنتَ قبضتنا النهاردة؟ أنا وأحمد بقى هنحتفل بالقبض أنا عليا البيتزا وهو عليه التسالي”
نظر له «طارق» بشك وهو يقول:
“و ليه بيتزا تحديدًا يعني؟ ليه مش حاجة تانية؟”
إبتسم «وليد» وقال موجهًا حديثه لـ «عبلة»:
“أصل قلبي بيحب البيتزا”
إتسعت إبتسامة «عبلة» بخجل، بينما «طارق» تحولت عيناه للون الاحمر ثم قال بصوتٍ جهوري:
“ولــيـد إتلم بدل ما ألمك قصاد العيال الصغيرة”
حمحم «وليد» بإحراج ثم قال:
“أنا أسف يا طارق يلا بس قبل ما الأكل يبرد، جهزوا الحاجة لحد ما أحمد يرجع و..”
وقبل أن ينهي جملته طُرق الباب بواسطة «أحمد»،إبتسم «وليد» بإتساع ثم قال:
“أحمد وصل أهوه، يلا بقى”
قال جملته ثم ركض ليفتح الباب تحت ضحكات الفتيات، بينما «طارق» ضرب كفًا بالأخر ثم قال:
“إيه اللي أنا عملته في نفسي وفي أختي دا؟”
وبعد قليل جلسوا جميعًا على طاولة «السفرة» التي كان يترأسها «طارق»، وقبل الشروع في الطعام إبتسم ثم قال:
“لسه زي ما أنتم لما ربنا يكرمكم تفرحوا كل اللي حواليكم”
بادله «وليد» نفس البسمة ثم قال:
“بصراحة هي فكرة أحمد، علشان دا أول قبض له، بس أنا قولت أساعد معاه”
تحدث «أحمد» بفرح وهو يقول:
“بصراحة أنا متوقعتش إن القبض يكون مُرضي كدا، وعلشان كدا قولت أفرحكم كلكم معايا”
إبتسمت الفتيات له، وكلًا منهن تشكره، بينما «طارق» قال بفخر:
“دا علشان بس أنتَ قررت إنك تتعامل مع الناس، وقولتلي إنك هتروح المطبعة، وكمان الناس شكروا في أسلوبك و إحترامك ليهم، فكان طبيعي تاخد حقك، وبعدين أنا مش عاوز أجيب موظفين تانين علشان زي ما حسن قالك قبل كدا، كل واحد فينا مبدع في اللي بيعمله، وبدل ما أقسم المرتب على أتنين ولا تلاته، ياخده واحد أحسن بيقوم بشغلهم مع بعض”
إبتسم له «أحمد» ثم قال:
“شكرًا يا طارق على ثقتك فيا، وشكرًا علشان الفرصة دي حقيقي هتعلمني حاجات كتير”
بادلته «عبلة» الإبتسامة ثم قالت:
“وأشكر وليد كمان علشان هو أقنع طارق بشغلك معاهم”
نظر لها الجميع بتعجب، بينما «وليد» إتسعت بسمته، نظر لهما «طارق» ثم قال بسخرية:
“والله دلوقتي أشكر وليد، فين أيام ما كنتِ مش طايقاه،ياه يا أخي على البشر دول”
ضحك الجميع فقالت «خلود» بخبثٍ:
“خلاص بقى أبيه طارق، متكسفهاش أكتر من كدا”
نظر لها «طارق» بوجهٍ محتقن وهو يقول:
“أبيه؟! أنا مبحبش الكلمة دي يا خلود، بتخنقني بحس كأني ماسك عصاية”
إبتسمت له ثم قالت:
“خلاص يا طاروق متزعلش، حلو كدا؟”
إبتسم ثم قال:
“أي حاجة منك حلوة يا ستي، يلا بقى ناكل أنتم هتزلونا”
وقبل أن يبدأ في الطعام، صرخ «وليد» قائلًا:
“لأ أستنوا أصور الأول”
ضحكوا جميعًا عليه بينما هو أخرج هاتفه وشرع في التصوير، وأخذ بعض الصور له برفقة الجميع، وعندما حاول التقاط صورة مع «عبلة» دخل «طارق» في الصورة ليفسدها له، بعدها انتشرت ضحكاتهم، فنظر لهم «طارق» بإستمتاع ثم قال:
“ربنا يخلينا لبعض يا رب، ونفضل سوا كلنا”
آمن الجميع وراء الدعاء بينما رفع «أحمد» و «وليد» ذراعيهما و قالوا في نفس الوقت:
“وأبعد عننا مُشيرة و هدير يارب”
بعد طريقتهم وجملتهم تلك إنتشرت الضحكات، وعلت الأصوات المليئة بالبهجة.
____________
في العيادة نظر «ياسين» في ساعته بمللٍ ثم عاد لما كان يفعله من قبل، في الداخل قالت الطبيبة بهدوء:
“بتخافي منه إزاي يا خديجة؟”
أخذت نفسًا عميقًا تهديء به نفسها قليلًا ثم قالت:
“علطول يعاقبني، علطول يحسسني إني فاشلة في كل حاجة، لحد ما خلاني متأكدة من دا، بقيت بخاف أروح الجامعة، وبخاف أنزل شغل برغم إن فرصي كويسة جدًا، بس إحساس الخوف دايمًا ملازمني”
أومأت الطبيبة بتفهم ثم قالت:
“بصي يا خديجة أنا دلوقتي هكلمك عن الرُهاب الإجتماعي، وعن كل حاجة فيه، ودا علشان أعرفك إنه عدو حقيقي للنجاح”
أومأت لها «خديجة» وهي تشعر بحماس في معرفة كل تفاصيل ذلك المرض الذي سُجنت بداخله، طيلة عمرها، بدأت الطبيبة حديثها قائلة:
“الرُهاب الإجتماعي دا يا خديجة زي سجن بالظبط، والمريض فيه بيتحرك زي المحكوم عليه، المشكلة بتبدأ تكبر لما يتم إهمالها، بتظهر المشكلة دي بقى في بداية سن المراهقة”
نظرت لها «خديجة» بإنتباه أكثر وهي تسمعها، فعند ذِكر المراهقة بدأت مشكلتها تتفاخم أكثر من ذي قبل، أضافت الطبيبة قائلة:
“اضطرابات الرُهاب بتأثر على الفرد ونشاطه الإجتماعي، دا غير الفرص اللي بتضيع عليه سواء عمليًا، أو دراسيًا، أو حتى عاطفيًا، لأنه ممكن يخاف من وجود شريك معاه في حياته ، رغم إن الشريك دا بيكون مناسب جدًا ليه”
تذكرت «خديجة» بداية قصتها مع «ياسين» حينما كانت تريد رفضه، ولكن ما شجعها على قربها منه هو «وليد»، عادت من شرودها على صوت الطبيبة وهو تقول:
“المريض بالرُهاب الإجتماعي، دايمًا بيحس إنه متراقب وإن الناس مستنياه يغلط علشان تحكم عليه، ودا بيسبب له إرتباك في التعامل والنطق مع الأخرين”
أومأت لها «خديجة» بقوة، وكأنها تؤكد حديث الطبيبة، فهي تصف ما تشعر به تفصيلًا، أضافت الطبيبة قائلة:
“من أكثر الأسباب اللي بتخلي الإنسان يشعر بالإكتئاب هو الرُهاب الإجتماعي، ودا لإنه دايمًا بيخليه يحس بالفشل وإنه مش زي الناس في نجاحهم، رغم إنه ممكن يكون أفضل منهم في جوانب معينة، لكن الفرصة راحت لغيره، فيدخل في دوامة كبيرة وهي إنه فاشل وغير جدير بالفرص دي”
كل حديث الطبيبة كان يصف حالتها وكل ما تشعر به، صمتت الطبيبة وهي ترى تعبيرات وجهها ثم قالت بهدوء:
“الفكرة هنا إن مريض الرُهاب الإجتماعي مش بإيده لأن المرض دا نتيجة البرمجة السلبية اللي نشأ عليها، زي ما قولتلك قبل كدا”
أومأت لها «خديجة» ثم قالت بهدوء:
“يعني المشكلة مش مني من الأساس؟”
نظرت لها الطبيبة بعمق ثم قالت:
“إزاي يا خديجة المشكلة فيكِ أنتِ؟”
أخذت «خديجة» نفسًا عميقًا ثم قالت:
“يعني أنا علطول فاكرة إن المشكلة مني، وإن أنا اللي متحبش عشان أنا شخص فاشل”
حركت الطبيبة رأسها نفيًا بقوة ثم قالت:
“إطلاقًا يا خديجة، كل الحكاية إن البيئة حواليكِ مساعدتكيش على إنك تطوري من مهاراتك الاجتماعية، دا غير طريقة والدك معاكِ واللي هي السبب الرئيسي في اللي أنتِ فيه”
أومأت لها «خديجة» بينما الطبيبة ذهبت إلى مكتبها وأحضرت منه ورقتين واحدة باللون الأبيض والأخرى باللون الأسود، جلست مرة أخرى أمام «خديجة» وهي مبتسمة بقوة ثم قالت:
“على فكرة أنا فخورة بيكِ أوي، أنتِ معترفة بمشكلتك وبتسعي علشان تحليها، دلوقتي بقى هبدأ معاكِ العلاج النظري، قبل العملي”
نظرت لها «خديجة» مُستفسرة ثم قالت:
يعني إيه علاج نظري وعلاج عملي، هو أنا مش هاخد علاج؟”
كان سؤالها طفولي إلى درجة كبيرة، فإبتسمت الطبية على طريقتها ثم قالت:
“لأ مش هتاخدي علاج، لأن علاج الرُهاب الإجتماعي علاج معرفي، يعني مكتسب زي الصفات كدا،المهم أمسكي الورق دا”
أخذت «خديجة» الورق منها بتعجب، بينما الطبية قالت:
“الورقة السودا دي خديجة السلبية اللي طلعت نتيجة الظروف اللي حواليها، والورقة البيضا دي خديجة الإيجابية اللي برضه محبوسة نتيجة الظروف اللي حواليها”
تحولت نظرة «خديجة» إلى الإستفسار ، فأومأت لها الطبيبة قائلة:
“دلوقتي الورقة السودا دي هتكتبي فيها سلبياتك، وإزاي بتحسي نفسك وبتشوفيها إزاي..،والورقة البيضا دي هتكتبي فيها إيجابياتك وإزاي عاوزة تشوفي نفسك، فهمتي يا خديجة؟”
أومأت لها بهدوء، فأضافت الطبيبة قائلة:
“عاوزة منك في كل ورقة خمس إجابات، بس بشروط”
سألتها مستفسرة:
“شروط إيه يا دكتورة؟”
أجابتها الطبيبة قائلة:
“لازم الإجابات تكون واضحة، متكونش فيها غموض، ولازم كمان تكون بتعبر عن الحاضر مش عن اللي فات ولا عن اللي لسه هيجي،تمام يا خديجة؟”
أومأت لها وهي تأخذ نفسًا عميقًا، بينما الطبيبة ذهبت لمكتبها وهي تطلب من الموظفة إدخال «ياسين»، في الخارج أخبرته الموظفة بطلب الطبيبة، وقف بسرعة كبيرة، وهو يزفر بقوة، ثم
دخل الغرفة، وعيناه تبحث عنها، إبتسمت الطبيبة ثم قالت، هتيجي دلوقتي، جلس «ياسين» على المقعد وبعد ثوانٍ اقتربت منه «خديجة» وهي تنظر للأرض، نظر للطبيبة مُستفسرًا، لكنها أومأت له لكي تطمئنه، ثم قالت:
“تعالي يا خديجة أقعدي”
جلست «خديجة» أمامه ولم تستطع أن ترفع أعينها وتنظر له، بينما تحدثت الطبيبة قائلة:
“دلوقتي أنا طلبت منها واجب يا أستاذ ياسين وبما إن حضرتك الداعم الأول ليها، لازم حضرتك تكون على علم بالخطوة دي”
أومأ لها ثم قال:
“أنا تحت أمرك في أي حاجة، بس هو الواجب دا عبارة عن إيه بالظبط؟”
إبتسمت الطبية ثم قالت:
“طلبت منها خمس رسايل إيجابية و زيهم خمسة سلبية، بس الرسايل دي لازم تكون واضحة و محددة، ولازم كمان تكون إيجابية، ولازم تدل على الوقت الحاضر، ولازم يكون إحساسها قوي علشان العقل الباطن يقدر يستوعبها، يعني يعني تكون نابعة من إرادة قوية، ولازم تكررها لنفسها كذا مرة، علشان تقدر تشجع نفسها ليها”
أومأ لها «ياسين» ثم أمسك كف «خديجة» لكي يُطمئنها، وقال بهدوء:
“وأنا مستعد لدا وهي كمان مستعدة مش كدا يا خديجة؟”
رفعت رأسها تنظر له ثم أومأت له بهدوء، بينما هو إبتسم مُشجعًا لها، فأردفت الطبية قائلة:
“كدا النهاردة تمام أوي كدا، أشوفكم يوم الجمعة الجاية”
أومأ لها «ياسين» ثم أخذ «خديجة» وخرجا من الغرفة، ركبا السيارة سويًا، كانت شاردة أمامها كعادتها، بينما هو كان ينظر لها مُتفحصًا تارة وللطريق تارةً أخرى، أوقف السيارة في مكانهما المعتاد، أمام كورنيش النيل، نظرت له ثم قالت بنبرة مهزوزة:
“ممكن أروح يا ياسين؟”
حرك رأسه نفيًا ثم قال:
“لأ مش ممكن يا خديجة، أنا مش هسيبك تمشي كدا”
أرجعت رأسها للخلف ثم قالت:
“بس أنا مش فيا حاجة أنا كويسة والله”
رد عليها بسرعة:
“لأ مش كويسة، وأنا مش هسيبك قبل ما أعرف أنتِ مالك، فيكِ إيه”
ألقى حديثه في وجهها ثم خرج من السيارة، فتح الباب لها، أما هي أخذت نفسًا عميقًا ثم خرجت من السيارة، نزلا سويًا الدرجات الصغيرة، المؤدية أمام نهر النيل مباشرةً، جلسا سويًا على المقاعد الرُخامية، كانت عيناها مليئة بالحزن، استطاع هو رؤيتها فأخذ نفسًا عميقًا ثم قال:
“ممكن أعرف مالك يا خديجة، ومتخبيش عليا”
أومأت له ثم قالت بهدوء:
“كل الحكاية إني حسيت بالذنب النهاردة أوي علشانك”
نظر لها مُستفسرًا ثم قال:
“ليه يا خديجة، وإيه اللي خلاكي تحسي بكدا؟”
زفرت بعمق ثم قالت:
“ليه تقضي أيام المفروض إنها أجمل أيام حياتك مع واحدة زيي، ليه بدل ما تخرج وتفرح تقعد تستنى في عيادة وياريتها عيادة عادية ، لأ دي عيادة دكتورة نفسية، واحد زيك بشكلك دا وتعليمك وأخلاقك، يبقى مصيره مع واحدة زيي، حتى أبسط الحاجات اللي الإنسان بيعملها بفشل فيها، حتى شكلي بكرهه”
كان على علم مسبق أن تلك الجلسة ستتسبب في صراعات كتيرة لها، حيث أخبرته الطبيبة بذلك حينما كانت تخبره بالموعد، لذلك أردف بهدوء:
“أنا فعلًا بقضي أجمل أيام حياتي في وجودي معاكِ، ومش عاوز حاجة تانية، وأنا أصلًا زهقت من الخروج و الفُسح، وواحد زيي بتعليمي وأخلاقي يستاهل واحدة زيك بكل الحلو اللي فيها، وشكلك اللي مش عاجبك دا غيرك بيتمنى بس يصحى عليه كل يوم، وعيونك دي اللي بالنسبة ليا زي البحر بغرق فيه، ليه تفكري نفسك بكل حاجة تزعلك”
نظرت له بعد حديثه ثم سحبت نفسًا عميقًا وتحدثت بنبرة جاهدت حتى تخرج منها ثابتة:
“يا بختك يا ياسين لو أنتَ شايف الدنيا زي ما أنتَ فاكرها كدا”
نظر أمامه للسماء ثم أخذ نفسًا عميقًا وقال بعده:
“عارفة يا خديجة ملامحك الهادية دي بتفكرني بأيه؟”
حركت رأسها نفيًا ،بينما قال هو:
“ببراءة الأطفال، وكأن روحك البريئة مرسومة على ملامح وشك، بحس لما ببصلك أني ببص للبدر في تمامه، حاجة كدا زي ضي القمر اللي طلع يأنس نجمة شاردة في ليلها”
نظرت له بقوة ولم تستطع التحكم في أدمعها أكثر ثم قالت بنبرة مهتزة:
“يعني…أنا شكلي حلو مش وحش؟”
أومأ موافقًا لها ثم قال:
“ومشوفتش أحلى منه، ولا عيني حفظت ملامح زي ما حفظت ملامحك يا خديجة”
نظر حوله ثم قال:
“يلا أروحك علشان النهاردة كان يوم صعب عليكِ”
أومأت له موافقة ثم قالت ببسمة هادئة:
“يلا يا ياسين”
_________________
في بيت آلـ «الرشيد» كان «طه» جالسًا برفقة أبنائه وزوجته، نظر في ساعة يده ثم قال:
“هي خديجة لسه مرجعتش؟”
أجابته زوجته قائلة:
“لأ لسه يا طه والوقت مش متأخر يعني لسه يدوبك العشا هتأذن”
أومأ لها ثم قال:
وأنتَ يا أحمد عامل إيه في شغلك مع ولاد عمك؟”
قال «أحمد» في هدوء:
“الحمد لله يا بابا، وطارق فرحان مني أوي وكمان قبضني مرتب حلو”
شعر «طه» بالفخر من إبنه ثم قال لصغيرته:
“وأنتِ يا خلود،بتعملي إيه في حياتك غير التنطيط مع سلمى”
تحدثت معه بمرحها المعتاد:
“بتعب أوي يا طه بجد، يعني بصحى من النوم أفطر أنزل لسلمى، نروح نتمشى شوية ونقعد قدام مسلسلاتنا، حقيقي حياة صعبة أوي بجد”
ضحك أخيها ووالدتها عليها بينما والدها نظر لها بسخرية ثم قال:
“شوف إزاي يعيني، بتتعب فعلًا، ربنا يكتب عليا التعب دا”
في الأسفل وقفت سيارة «ياسين»، كانت هي تبتسم وهي تتذكر حديثه لها عن ملامحها وبراءتها وجمال قلبها، نظر لها مُبتسمًا ثم قال:
“أنا فرحان علشان شوفتك فرحانة كدا، دلوقتي أقدر أطلعك بنفس راضية”
أومأت له ثم قالت:
“أنا كنت واثقة إنك مش هتسبني كدا، علشان علطول حزني بيختفي في وجودك”
خرج الحديث منها بطريقة عفوية من قلبها، بينما هو قال ببهجة:
“الله أكبر إحنا كنا فين وبقينا فين”
بينما هي شعرت بالخجل مما تفوهت به، فأردف قائلًا:
“طب يلا قبل ما تكبر في دماغي وأخدك نلف بالعربية وأنا عندي استعداد لكدا عادي”
إبتسمت ثم قالت:
“لأ وعلى إيه يلا ننزل، الطيب أحسن”
وقبل نزولها من السيارة قالت له:
“ياسين أنا بصراحة عاوزة أقولك حاجة مهمة أوي”
نظر حوله ثم قال يمازحها:
“أنا كنت متأكد إنك مش هتعرفي تخبي مشاعرك أكتر من كدا قولي يا خديجة”
حركت رأسها نفيًا ثم قالت:
“أنا بس كنت عاوزة أقولك شكرًا”
نظر لها بوجه محتقن ثم قال بسخرية:
“شــكـرًا!! إطلعي يا شاطرة إعملي الواجب يلا”
ضحكت على جملته وطريقته ثم نزلت من السيارة، نزل هو معها ثم أمسك كفها، ركبا المِصعد سويًا، وبعد ثوانٍ وصلا أمام الشقة، طرق «ياسين» الباب وهو ينظر لها مُبتسمًا، وهي أيضًا، لكنه تفاجأ حينما وصله صوت «طه» قائلًا:
“أهلًا يا ياسين منور”.
تحولت نظرتها في ثوانٍ إلى الخوف، بينما هو وقف ثبات ومازال كفه يعانق كفها ثم قال:
“دا نورك يا عمي، شكرًا”
نظر «طه» لكفيهما بضيق، ثم قال:
“اتفضلوا يا حبايبي ادخلوا”
قال جملته ثم دخل الشقة، أما هي مالت عليه ثم قالت بصوتٍ منخفض:
“ينفع تدخل معايا علشان خايفة”
نظر لها مُتعجبًا، ألهذه الدرجة تخشاه؟ لكنه أومأ لها ثم قال:
“حاضر علشان خاطرك هدخل”
دخل «ياسين» معها الشقة، وجلس على المقعد المقابل لمقعد والدها، بينما هي جلست على المقعد المجاور لمقعد «ياسين» رحب الجميع به، وأجلبت له والدتها العصير والحلويات، تحدثوا في شتى المواضيع، وكان «طه» يراقب إنفعالتها عن كثب، فكان «ياسين» يمازح الجميع وهي تبتسم له، بعد مدة قليلة، خرج «ياسين» من بيت آلـ «رشيد»، وركب سيارته، بينما «خديجة» همت بالدخول إلى غرفتها لكن والدها أوقفها قائلًا:
“خديجة”
شعرت بالخوف مما هو آتٍ، لكنها نظرت له ثم قالت بصوتٍ مهزوز:
“نـ…نعم يا بابا”
سألها بنبرة حنونة بعض الشيء:
“حصل حاجة زعلتك النهاردة؟”
جحظت عيناها للخارج من سؤاله، ولم تستطع أن تجيبه، بينما هو قال:
“أقصد يعني اتبسطي النهاردة؟”
أومأت له في هدوء ثم قالت بنبرة مهتزة:
“آه..شك…شكرًا”
ولم تستطع الوقوف أمامه أكثر من ذلك، بينما هو نظر في أثرها بحزن ثم أخرج زفيرًا قويًا، ربتت زوجته على يده ثم قالت:
“متقلقش واحدة واحدة، مش من أول مرة يعني”
بنفس النظرة الحزينة نظر لزوجته ثم قال:
“يا رب يا زينب، أنا مش هقدر على بعدها عني وهي كرهاني”
أومأت له زوجته تطمئنه ثم قالت:
“سيبها على الله، وطالما أنتَ ناويت من قلبك يبقى متخافش”
في داخل غرفة «خديجة» كانت جالسة وهي تشعر بالتعجب من والدها، فتلك هي أول مرة في حياتها تجده يحدثها بتلك الطريقة الحنونة، فدائمًا علاقتها معه مرتبطة بالخوف منه ومن حديثه له، ولكن ما أخرجها من حالة الذهول تلك هو أخيها حينما طرق الباب وهو يقول ممازحًا من الخارج:
“يا أهل الله ياللي جوه؟ حد خالع راسه؟”
إبتسمت ثم قالت:
“وحتى لو خالعة راسي، أدخل يا أهبل”
دخل الغرفة وهو ممسكًا شيئًا ما في يده، ثم قال:
“أنا فرحان إني لحقتك قبل ما تنامي، المهم دي هدية بسيطة بمناسبة أول قبض ليا يارب تعجبك”
نظرت له مُتعجبة ثم قالت:
“هدية ليا أنا ليه طيب؟”
جلس بجانبها ثم قال:
“علشان أنتِ اللي قولتي لوليد أشتغل معاهم، وعلشان أنتِ اللي شجعتيني أشتغل وأبني نفسي بدل ما أسافر، وعلشان كل حاجة بتعمليها ليا يا خديجة”
كانت على وشك البكاء، لكنها أمسكت منه الهدية وهي تقول:
“طالما جايبهالي من قلبك يبقى أكيد هتعجبني”
فتحت الهدية ولكنها شهقت بقوة ثم وضعت كفها على فمها من هول المفاجأة، بينما هو قال بحب:
“بصراحة يعني عارف إنك هتتجوزي وتسيبينا، وقولت إنك أكيد هتخرجي كتير مع جوزك، علشان كدا جبتلك طقم الصلاة دا والمصحف اللي كان نفسك فيه، ومعاه كمان النوت بوك اللي كان نفسك فيها”
نظرت له بدهشة من طريقة تفكيره وحنانه لها، ثم قالت وهي تبكي:
“هو أنتَ كبرت كدا إمتى يا أحمد”
أحتضنها ثم قال:
“لسه إمبارح كنت قاعد زهقان قولت أقوم أكبر شوية، في إيه يا خديجة ما أنتِ عارفة إن بقالي فترة، عاقل وراسي”
خرجت من حضنه وهي تقول:
“بطل رخامة، أنا بس فرحانة بيك وفرحانة بتفكيرك”
أومأ لها ثم قال:
“الحمد لله إن ذوقي عجبك، خليها بقى لجهازك علشان لما تتجوزي تفتكريني بيها”
إبتسمت له ثم قالت:
“أنا مش هنساك أصلًا، ولا هعرف أنسى وجودك في حياتي”
أومأ لها ثم قال والدموع تلمع في عينيه:
“خلاص بقى علشان أنا ممكن أعيط، هروح أنام علشان طارق مدينا أجازة بكرة كمان”
أومأت له،بينما هي بمجرد خروج شقيقها، لمست الهدايا بيدها وهي تفكر كيف للحياة أن تصالحها في يومٍ واحد بتلك الطريقة.
___________
أثناء قيادة «ياسين» وصلته رسالة من «عامر» يطلب منه القدوم إلى منزل «ميمي»، وصل «ياسين» لهم ، وجد الجميع في إنتظاره ولكن ما أدهشه هو وقوف «ميمي» مستندة على ذراعي «ياسر» و «عامر»، لم يستطع «ياسين» تمالك نفسه فإقترب منها وهو يقول:
“إزاي دا حصل؟ هي الجلسات نفعت يا ياسر؟”
أومأ له «ياسر» ثم قال بصوت مختنق من الفرحة:
“طب حصل إيه أحكيلي؟”
كان «خالد» واقفًا وإبنه على ذراعيه، فقال:
“طب قعدوها هي بقالها كتير واقفة طيب”
أجلسها الشباب على المقعد وهي مبتسمة، بينما «ياسر» قال بفرح:
“دكتور عصام كان جاي يعمل جلسة زي كل مرة ليها، المرة دي طول معاها لحد ما قدر يوقفها، وقال على تمارين نعملها في البيت هنا هتساعدنا كتير “
أغرورقت أعين «ياسين» بالدموع ثم قال بعدما اقترب منها:
“أنا مش مصدق نفسي، حاسس إني عاوز أخرجك من هنا وأفسحك، صدقيني دا يوم المنى”
ربتت على ذراعه ثم قالت:
“أنا عارفة إنك فرحان من قلبك، زي ما كلهم فرحوا كدا، ربنا يخليكم ليا يارب”
بكى «ياسين» وهو يحتضنها ثم ولكن ما أخرجه من تلك الحالة «عامر» حينما قال:
“طب إيه طيب، أكلوني بمناسبة الخبر الحلو دا”
ضحك الجميع عليه وعلى طلبه، فقال «خالد»:
“يابني أرحم أمي بقى، أنتَ حياتك كلها أكل؟”
أومأ له «عامر» ثم قال:
“أنا لو مش إنسان بحس وعندي دم، كنت خليت ميمي عملتلي محشي بمناسبة وقوفها”
رد عليه «ياسر» بسخرية:
“لأ فعلًا متشكرين لكرم أخلاق أهلك، إيه يا واد الإحساس دا”
قبل أن يُعقب «عامر» وجد «يونس» ممسكًا بحلويات في يده، فقال بهدوء:
“يونس هات حتة لعامر علشان جعان”
تدخل «خالد» قائلًا لإبنه:
“أوعى تديله حاجة، همد أيدي عليك”
ضحك الجميع، بينما «ياسين» قال:
“أنا خايف يكسفك يا خالد أصل متنساش إن عامر مربيه”
نظر له «خالد» بضيق ثم قال:
“طب يعملها كدا، وأنا أرميه قدام باب جامع وأنا مروح”
إقترب منه «عامر» ثم قال:
“يا سلام أنا هوريك عملي، تعالى لعمو يا يونس”
وبمجرد إقترابه منهما، مال عليه الصغير وهو يضحك، بينما الجميع ضحكوا على «خالد» وملامح وجهه المحتقنة، فتحدث هو قائلًا:
“الله يسامحك يا يونس، شمت فيا اللي يسوى و عامر”
يُتَبَع