رواية تعافيت بك الفصل 29 “الفصل التاسع و العشرون”
____________
الحب هو أن لا تخاف وأنتَ وسط بحرٍ من الخوف
____________
ألتقيتُ بِكِ فأصبحتِ لقلبي كل الأماني، كنت تائهًا لكني أتخذت من عيناكِ عنواني، يا من تطرب الأذن بسماع صوتها، يا خير ما أعطاني زماني.
عاد «ياسين» إلى منزله بعدما ودع «وليد» وتم الإتفاق بينهما سويًا على القيام بعدة أشياء فقط لأجلها، كان وجهه مُبتسمًا، على عكس الأمس بأكمله، نظر له والديه بخبثٍ، فقالت والدته له:
“شكلك جاي فرحان، إيه رأيك بقى ناكل سوا؟”
أومأ لها بنفس البسمة ثم قال:
“ياريت يا زوزو علشان أنا جعان أوي والله”
نظرت له بحنان ثم قالت:
“بس كدا ؟ حاضر يا حبيبي ثواني والأكل يبقى جاهز”
رحلت والدته، فإقترب منه والده وهو يقول بمرحٍ:
“ها يا روميو عملت إيه إمبارح، أكيد أكيد الخِطة نجحت”
نظر له بسخرية ثم قال:
“أوي يا رياض، ماشاء الله كلهم شكوا فيا، حتى هي كمان”
نظر له والده بإستفزاز ثم قال:
“ماهو أنتَ اللي غبي، قولتلك شنطة صغيرة، رايح تاخد محل شنط؟ إيه فاكر نفسك عنترة بن شداد؟”
ضحك «ياسين» على حديث والده ثم قال:
“أعمل إيه طيب؟ مش علشان تكفي الحاجة اللي قولتلي عليها، بس على العموم مقدرش أنكر مجهودك إنك تخليني أشوفها وأتكلم معاها كمان، شكرًا يا بابا”
ربت والده على كتفه ثم قال بفخر:
“شُكر إيه ياض يا أهبل أنتَ، دا أنتَ حتة مني، وبعدين أنتَ مكنتش هتعرف تنام طول الليل وهي زعلانة أصلك طالعلي، المهم قولي قالتلك إيه؟”
شرد «ياسين» في حديثها حينما قالت له:
“تعرف إنك أحن حاجة جت في العمر يا ياسين”
إبتسم بقوة و زادت ضربات قلبه، كان والده يراقبه بتعجب، فقال بصوتٍ عالٍ بعض الشيء:
“إيه ياض روحت فين؟ قولي قالتلك إيه؟”
حمحم «ياسين» ينقي حنجرته ثم قال:
“لأ عادي متاخدش في بالك، مقالتش حاجة”
نظر له والده بشكٍ ثم قال بخبثٍ:
“طب تمام، أنا بقى هعرف زُهرة إنك خدت الشنطة من عندها إمبارح”
أوشك والده على القيام، لكن «ياسين» أوقفه قائلًا بسرعة:
“أقعد بس رايح فين، هقولك يا سيدي قالتلي إيه؟”
نظر له والده بحنقٍ ثم قال:
“أيوا كدا، ناس متجيش غير بالعين الحمرا”
إقترب منه «ياسين» ثم قال والبسمة تعلو ملامح وجهه:
“قالتلي تعرف إنك أحن حاجة جت في العمر يا ياسين”
إبتسم والده بإتساع ثم قال:
“ماهي معاها حق، هتلاقي فين في حنية قلبك دي، دا أنتَ الحنان عندك بالجُملة”
نظر له «ياسين» مُبتسمًا، وقبل أن يستطرد حديثه، أتت والدته و نادتهما لتناول الطعام.
____________
في بيت آلـ «رشيد» عاد «وليد» إلى بيته ولكنه صعد لشقة عمه «محمد» كان «طارق» يتناول الطعام مع أسرته، دخل «وليد» ورحب بالجميع فتحدثت زوجة عمه قائلة:
“حماتك اللي هي أنا بتحبك يلا تعالى كل معانا”
إبتسم لها بإتساع ثم قال:
“وهو أنتِ تقدري متحبنيش برضه؟ ولا حد هنا يقدر ميحبش ليدو؟”
نظرت «سلمى» بخبثٍ لأختها ثم قالت:
“على رأيك والله دا حتى كان فيه ناس مبتحبكش، حالهم إتبدل، يلا إن الله حليمٌ ستار”
إرتسمت على وجهه تعابير التسلية حينما رآى خجل «عبلة»، ثم بعد ذلك جلس على المقعد المجاور لمقعد «طارق» والمقابل لمقعد «عبلة» ثم قال بمرحٍ:
“عبلة طبخت إيه بقى في الأكل دا؟”
نظر له «طارق» بسخرية ثم قال:
“إيه عاوز تطمن على مستقبلك ولا إيه ؟”
أومأ له بثقة ثم قال:
“طبعًا هو أنا بشتري سمك في مياه، مش لازم أعرف؟”
نظرت له «عبلة» بحنقٍ ثم قالت:
“يا سلام ولو مبعرفش أطبخ يعني هتعمل إيه يا وليد؟”
نظر لها بحب ثم قال:
“أنا قابل بِيكِ زي ما أنتِ، مش الطبخ اللي هيخليني أسيبك يعني، ريحي نفسك يا عبلة أنا عمري ما هسيبك”
نظر له الجميع بتعجب من جرأته تلك، فأضاف عمه «محمد» في ضيق زائف:
“ولا هتقعد بآدبك أهلًا و سهلًا، مش هتقعد محترم يبقى برة البيت دا لحد ما أخلي مرتضى يلمك”
نظر لعمه بضيق ثم قال:
“حاضر هقعد بآدبي، بس وربنا لما أكتب كتابي ماحد فيكم هيعرف يتنفس معايا”
ربت «طارق» على كتفه بقوة ثم قال:
“لما تبقى تكتب الكتاب يا أخويا، غير كدا لِم نفسك”
أومأ له «وليد» ثم مال على أذنه وهو يقول بصوتٍ منخفض:
“أنا عاوزك ضروري بعد الأكل، أنا هسبقك على السطح وأنتَ حصلني”
أومأ له «طارق» ثم قال:
” لأ، استنى نشرب الشاي ونطلع سوا”
وبعد إنتهاء العشاء، صعدا الأثنين سويًا وكان «أحمد» في إنتظارهما، جلس الشباب على الأريكة وأول من تحدث كان «طارق» حينما قال:
“خير يا وليد عاوزنا ليه؟ مع أني مش مطمن”
أخذ «وليد» نفسًا عميقًا ثم قَص عليهما ما قامت «هدير» بفعله مع «خديجة» أمام «ياسين»، أنتهى بحديثه عما حدث بأكمله وعن حديثه لها، واضاف قائلًا:
“أنا كنت ساعتها مستني الأسانسير ولما لقيته طول كدا طلعت على رجلي وسمعت كل حاجة وبصراحة كنت هتدخل من الأول بس كنت عاوز أشوف رد ياسين عليها”
وبمجرد إنتهاء الحديث وقف «أحمد» صائحًا بقوة:
“كفاية بقى لحد هنا، أنا هنزل أربي هدير، يا أنا يا هي”
وقبل أن يخطو خطوة واحدة أوقفه «طارق» وهو يقول بصوتٍ قوي:
“استنى هنا يا أحمد، من إمتى وأنتَ بتتصرف من غير أخواتك؟ أنا موجود هنا يبقى خلاص”
نظر له «أحمد» بضيق ثم قال:
“أنا تعبت يا طارق من هدير و من مُشيرة، وخديجة تعبت، مش هعيش حياتي كلها أنا وخديجة بنتعاقب على اللي حصل”
وقف «طارق» قبالته ثم قال:
“وأنا عارف كل دا، وعارف كمان إن كلنا كنا ظالمين خديجة لما كانت صغيرة، بس صدقني أنتَ لو نزلت دلوقتي الدنيا هتكبر وأعمامك وأبوك وعمتك هيشدوا مع بعض، المواقف دي عاوزة حكمة مش تهور، أنا هكلمها متخافش”
أيده «وليد» في الحديث ثم أضاف قائلًا:
“بالظبط كدا يا طارق، وعلشان كدا أنا عرفتك، هدير مبتتكسفش، واللي يخليها تقول كدا قدام ياسين يبقى أكيد مش هتكون أخر مرة”
ربت «طارق» على كتف «أحمد» ثم قال:
“إهدا يا أحمد ومتقلقش، لِك عليا إنها تكون أخر مرة”
زفر «أحمد» بقوة ثم قال:
“ماشي يا طارق علشان خاطرك أنتَ بس”
________________
في شقة «خديجة» كانت تتناول الطعام مع أسرتها، كان «أحمد» ينظر لها بتمعن وهو يدقق في ملامح وجهها ليرى علامات الحزن بادية عليه، بعد إنتهاء الطعام ساعدت والدتها في تنظيف الطاولة، ثم قامت بإعداد الشاي للجميع وجلست وهي تفكر في أحداث الأمس بأكمله، عند تذكرها لحديث «هدير» شعرت بالإختناق، وقبل أن تستسلم لتلك الدوامة، أتى هو بمخيلتها ليمحي أثار حزنها، فتذكرت فعلته بالأمس وحديثه وإتسعت بسمتها رويدًا رويدًا، نظرت للهاتف في يدها بعدما أصدر هزة بسيطة، فلمحت رسالةً منه أعلى شاشة الهاتف محتواها:
“ياترى قبولي الوحيد فاضي يكلمني ولا السوبر ماركت اللي عندك شاغلك عني؟”
وكالعادة أسفل رسالته ذلك الرمز التعبيري الذي يعبر عن غمز بطرف عينه، إبتسمت ثم قامت بإرسال:
“والحاجات دي مين اللي جابها مش أنتَ؟ يعني لو إنشغلت عنك برضه أنتَ السبب”
إبتسم هو على رسالتها تلك ثم كتب:
“لأ لو الحاجات دي هتشغلك عني يبقى أرجع آخدها تاني”
أرسلت له رمزًا تعبيريًا يدل على اللامبالاة ثم ارسلت بعده:
“تعالى عادي يعني”
إرتسمت على وجهه تعابير الخبث ثم قام بإرسال:
“حلو كدا، أنا بقى هعتبرها رسالة منك أني وحشتك، وأنتِ عاوزة تشوفيني”
إتسعت حدقتيها، وتوترت مما قام بإرساله، هي بالطبع لا تقصد ما وصل لـذهنه، حينما طال صمتها دون ردًا عليه، أرسل لها يُشاكسها:
“طب السكوت علامة الرضا نص ساعة وأكون عندك”
أرسلت له بسرعة كبيرة:
“لأ لأ خليك والله مش قصدي كدا”
نظر حوله فوجد والديه يتحدثان معًا، فقام ودخل الشرفة، وقام بمهاتفتها نظرت هي حولها فوجدت الجميع منشغلين عنها فكان اخواتها ينظرا في هواتفهما، ووالدتها ووالدها يشاهدا التلفاز، إنسحبت بهدوء لكي تدخل غرفتها، فقال والدها لها بنبرة طبيعية:
“رايحة فين يا خديجة؟”
نظرت له بتوتر ثم قالت:
“هدخل أوضتي يا بابا عن إذنك”
نظر لها بهدوء ثم قال:
“طب ما تقعدي معانا هنا، ليه تقعدي لوحدك؟”
نظرت له بتعجب، وكانت تريد أن تقول له أن يسأل نفسه ذلك السؤال، فهو السبب في كل ما هي عليه، حتى أنها أصبحت تخشى الجلوس وسط الآخرين، طال صمتها وهي تنظر لوالدها، بينما والدها نظر للهاتف في يدها فوجد شاشته تضيء بإسم «ياسين»، فقال بصوتٍ حاهد حتى يخرج طبيعيًا:
“طب يا خديجة اتفضلي، بس خلي بالك تليفونك بيرن”
نظرت للهاتف في يدها بتوتر، ثم أسرعت في خطواتها حتى تدخل غرفتها وتهرب من نظرة والدها، جلست على الفِراش وهي تزفر بعمقٍ، نظرت لكف يدها وجدته يرتجف وهو متعرق بشدة، مسحت كفيها معًا ثم أمسكت الهاتف وقامت بالرد عليه، كان هو يحاول مرارًا و تكرارًا الوصول لها، وبمجرد ضغطها على زر الإيجاب وجدته يقول بقلقٍ:
“إيه يا خديجة أنا كنت بهزر، روحتي فين بس يا ست الكل”
أخذت نفسًا عميقًا تُحد به من توترها ثم قالت:
“أنا بس كنت معاهم برة ولما أنتَ اتصلت كنت مش عارفة أسيبهم وأدخل”
قال لها مُتفهمًا:
“طيب يا خديجة المهم أنتِ أكيد كويسة صح؟”
إبتسمت بهدوء ثم أجابته:
“آه الحمد لله، أنتَ كويس؟”
بنفس نبرته الهادئة قال:
“دلوقتي بقيت كويس، من ١٠ دقايق كدا كنت مستغرب وعلى فكرة كنت هاجيلك بجد”
إتسعت حدقتيها ثم قالت:
“بجد كنت هتيجي يا ياسين؟”
بكل بساطة رد عليها قائلًا:
“آه والله كنت هاجيلك لو مكنتش عرفت أوصلك، بس الحمد لله أنتِ لحقتيني”
إبتسمت ثم قالت له بهدوء:
“أنا لحد دلوقتي مش قادرة أصدق إن أنتَ ياسين اللي جِه إتقدملي، صحيح أنا كنت متوترة بس فاكرة إنك كنت شخص هادي إيه اللي حصل؟”
إبتسم حينما تذكر أول يوم رآها فيه ثم قال:
“لأ دا كان في الأول بس، لكن خلاص أنتِ بقيتي مراتي يعني أنتِ دلوقتي أمانة ليا عندهم لحد ما ترجعلي”
إبتسمت على حديثه ثم قالت:
“طيب يا سيدي، عن إذنك بقى الأمانة هتروح تشوف الدكتورة طالبة منها إيه تنفذه”
تعجب مما قالته فسألها مستفسرًا:
“هي طلبت منك حاجات تعمليها؟”
أومأت في هدوء كأنه يراها ثم قالت:
“طلبت مني تمارين للتنفس زي اليوجا نص ساعة كل يوم، يعني علشان التوتر والرعشة اللي بتجيلي، وطلبت مني كتابة ملحوظات في يومي، وكمان طلبت مني عمل ملخص عن الرُهاب الإجتماعي “
زادت دهشته فسألها مرةً أُخرى:
“طب دا لازمته إيه كله؟”
هزت كتفيها ثم قالت:
“بتقول إن دا كله بينشط حركة الجسم، مع زيادة الوعي في العقل الباطن”
أومأ وهو يقول:
“آه، فهمت، طب تمام المهم بس للمرة الأخيرة قبل ما انزل، أنتِ أكيد تمام مفيش حاجة مزعلاكي؟”
إتسعت إبتسامتها ثم أضافت قائلة:
“لو زعلانة بعد اللي أنتَ عملته وبتعمله يبقى كدا أنا بنكر مجهودك وأنا مش من طبعي أنكر مجهود حد”
إبتسم على حديثها ثم قال:
“ماشي يا ستي، بس معلومة صغيرة أنا مش حد، أنا أنتِ وأنتِ أنا”
إرتفعت ضربات قلبها من حديثه وصمتت ولم تعرف بماذا تجيبه، بينما هو لاحظ صمتها فأضاف بخبثٍ:
“خلاص يا ست الكل طالما سكتِ يبقى كدا أتثبتِ”
إبتسمت على حديثه ثم قالت:
“بصراحة آه”
استطرد حديثه قائلًا:
“طب كدا تمام إطمنت عليكِ، هنزل بقى ولما أرجع هبقى اكلمك، وأنتِ لو عاوزة حاجة قوليلي”
أجابته بسرعة قائلة:
“تروح وترجع بالسلامة”
أضاف بخبثٍ يقول:
“طب خليها ترجعلي بالسلامة طيب؟”
توترت من لهجته فأجابته بسرعة:
“طيب سلام يا ياسين علشان هما عاوزني برة”
أغلق معها الهاتف مُبتسمًا ثم قام بتبديل ثيابه لأخرى مريحة ليذهب بها إلى أصدقائه.
______________________
في شقة «مُشيرة» قصت «هدير» ما حدث بالأمس منها ومن البقية، كانت تشعر بالضيق، بينما عمتها كانت تنظر لها بعمقٍ، إنتهت «هدير» ثم أضافت:
“والزفت وليد جه كمل عليا هو كمان، هي كانت نقصاه؟”
وضعت «مُشيرة» قدمًا فوق الأخرى ثم قالت بهدوء:
“مشكلتك إنك غبية يا هدير ومتسرعة، إستفادتي إيه لما حرقوا دمك؟ ولا أي حاجة، وكدا ياسين بقى مقتنع إنك أنتِ اللي شخص مستفز وجه وليد كمان آكد كدا”
نظرت لها «هدير» بحزن:
“طب وأنا أعمل إيه مكنتش أعرف إن الأتنين هيطلعوا، وكمان هي كانت لوحدها والوقت كان ليل وهي مش عادتها تخرج في الوقت دا، يبقى أكيد كانت بتشتغلنا”
نظرت لها عمتها مُستفسرة وهي تقول:
“هي البت دي بتروح فين؟ يعني خروجها معاه كدا مش طبيعي، لا يكون بيضحك عليها؟”
نظرت لها «هدير» بتعجب ثم قالت:
“يعني إيه يا عمتو بيضحك عليها دا جوزها؟”
نظرت لها «مُشيرة» بخبثٍ:
“ممكن يكون بيتسلى ويجي قبل الجواز يمشي، وممكن يكون أصلًا مش بتاع جواز”
رفضت «هدير» حديثها وهي تقول:
“لأ مظنش كدا، شكله إبن ناس ومحترم، مش من النوع اللي بيتسلى ويمشي”
رفعت «مُشيرة» حاجبها بثقة ثم أضافت:
“فكري فيها كدا؟ واحد زي دا يقبل بواحدة زي دي ليه؟”
نظرت «هدير» أمامها بشرود وهي تفكر في حديث عمتها الخبيث، وقبل أن تندمج في التفكير أكثر من ذلك، وجدت جرس الباب يُضرب بواسطة شخصٌ ما، تركت عمتها وقامت لتفتح الباب وجدت «طارق» أمامها ينظر لها بضيق، تعجبت هي من وجوده فقالت:
“طارق! خير إيه اللي جابك؟”
سألها بنبرة جامدة:
“عمتو هنا يا هدير ولا أجي وقت تاني؟”
أومأت له في هدوء ثم أشارت له بالدخول، دخل هو الشقة وألقى التحية على عمته، جلست «هدير» أمامه فباغتها بسؤاله:
“إيه اللي أنتِ عملتيه مع خديجة إمبارح دا يا هدير؟”
_________________
ذهب «ياسين» إلى المقهى التي يجلس عليها برفقة أصدقائه وجد «عامر» فقط ينتظره، فسأله مُتعجبًا:
“أومال فين خالد و ياسر يا عامر؟”
هز «عامر» كتفيه ثم قال:
“مش عارف والله، خالد كلمني من شوية وقالي لو ياسر جه أقوله وأنا قاعد مستني الاتنين”
هز «ياسين» رأسه ولكنه لازال مُتعجبًا، وفجأة أتى «خالد» وهو يزفر بضيق، ثم قال:
“ياسر مظهرش ؟ “
أنتاب القلق قلوبهما فسأله «ياسين»:
“هو ماله يا خالد، أخر مرة كلمته كانت إمبارح من ساعتها مكلمنيش تاني”
وقبل أن يجيبه هاتفته «إيمان» قام بالرد عليه، سمع سؤالها فجاوبها بضيق:
“أعمل إيه طيب والله دورت عليه، يمكن بايت في المستشفى؟”
وهي على وشك البكاء جاوبته قائلة:
“لأ يا خالد مش بايت هناك، أنا كلمته الصبح كان مخنوق، ومن ساعتها مردش عليا تاني، وكلمت مامته قالتلي نزل من بدري”
زفر «خالد» بضيق ثم قال:
“طيب يا إيمان أنا هشوفه ومش هروح غير لما نلاقيه، إرتاحي أنتِ”
أغلق الهاتف معها فسأله «عامر» بقلق:
“حصل إيه يا خالد، وياسر ماله؟”
هز «خالد» كتفيه ثم قال:
“والله مش عارف يا عامر، كل اللي أعرفه إنه كان مخنوق وكلم إيمان برضه كان مخنوق”
سأله «ياسين»بهدوء:
“طب زعلته في حاجة طيب ولا أختك زعلته؟”
أجابه «خالد» قائلًا:
“لأ والله محصلش حاجة، وأخر مرة فضلنا نهزر”
نظر له «عامر» بشكٍ ثم قال:
“والله بخبرة الظابط اللي جوايا دي جريمة قتل مكتملة الأركان، خالد قـ.تل ياسر علشان ميتجوزش أخته، والجـ.ثة أختفت، ليه يا خالد تعمل كدا، ليه تقـ..تل العيون الزرقا اللي فينا دي ؟”
إتسعت مقلتي كلًا من «خالد» و «ياسين» معًا، من طريقة تفكير «عامر» وأول من نطق كان «خالد» الذي قال بحنقٍ:
“يابني أنتَ عبيط ولا إيه؟ الله يخربيت دماغك، خلاص بقيت قـ.تال قُـ.تلة، وكمان خفيت الجـ.ثة، هو أنا أبو لهب قدامك؟”
كان «ياسين» يضحك عليهما سويًا، تعجب «عامر» فأضاف قائلًا:
“والله من هنا لحد الساعة ١٠ لو الجـ.ثة مظهرتش…قصدي ياسر مظهرش هبلغ عنك”
أوشك «خالد» على ضرب «عامر» فتدخل «ياسين» قائلًا وهو يحاول التحكم في ضحكاته:
“بس إهدا يا خالد، وخلينا نشوف ياسر الأول، وأنا أوعدك جـ.ثة عامر الليلة هتكون في القبر”
بعد عدة محاولات من الشباب في الوصول لـ «ياسر» باءت جميعها بالفشل، أول من صفق تصفيقًا حارًا كان «عامر» ثم أضاف قائلًا:
“بس أنا عرفت ياسر فين، ياسر أكيد عند غِية الحمام”
اعتدل «خالد» و «ياسين» في جلستهما، فسأله «ياسين»:
“إيه اللي خلاك تقول كدا؟”
زفر «عامر» بضيق ثم قال:
“النهاردة الذكرى بتاعة اليوم اللي أبو ياسر طفش فيه، وهو كل مرة بيقضي اليوم هناك، السنة دي بقى أخت خالد هي اللي خدت بالها”
نظر له «خالد» بشكٍ ثم قال:
“هو بيقضي كل سنة اليوم هناك كدا؟”
أومأ «عامر» في هدوء ثم أضاف قائلًا:
“أنا عرفت بالصدفة لما عمار أخويا كان في الغية واتقابلوا هناك”
وقف «ياسين» ثم قال:
“طيب يلا نروحله، لو فضل هناك لحد بكرة كدا، هيموت من الزعل، وأنتَ يا خالد كلم أختك خليها تحصلنا على هناك”
أومأ «خالد» بهدوء، فتحدث «عامر» بمرحٍ:
“يعني كدا ياسر مماتش وخالد مش هيدخل السجن؟”
نظر له «ياسين» وهو يعض على شفته السفلى بضيق، بينما «خالد» رفع أحد حاجبيه بضيق ولم يُعقب.
بعد مرور عدة دقائق وصل الشباب إلى بيتٍ من البيوت القديمة المُتهالكة، كان البيت عبارة عن أربعة طوابق وفي الطابق الأخير غِية حمام، صعد الشباب بهدوء، وكما قال «عامر» كان «ياسر» جالسًا على الأرضية وهو مستند بظهره على السور خلفه، وكان واضعًا رأسه على ركبتيه، وضاممًا ذراعيها على ركبتيه، من يراه يظنه سجينًا حُكم عليه مدى الحياة، نظر الشباب إلى بعضهم البعض بحزن على حال صديقهم ، وبهدوء جلسوا بجانبه، لم يشعر «ياسر» لما يدور حوله، إلا أن تحدث «خالد» وهو يقول بصوتٍ متأثر:
“طول عمرك زي العيل الصغير، الجسم جسم راجل والقلب قلب طفل لسه عنده ١٠ سنين”
رفع «ياسر» رأسه بسرعة كبيرة ثم نظر له بأعين منتفخة من كثرة البكاء ثم نظر لـ «ياسين» و «عامر» ولم يتفوه بِـحرفًا واحدًا، فأضاف «خالد» قائلًا:
“عارف؟ طول عمري بخاف عليك زي إبني، حاسس إنك مسئول مني زي يونس إبني كدا، لما طلبت مني تتجوز إيمان أنا كان خوفي عليك أنتَ، ماهو مستحيل تتخانقوا سوا واضطر أختار واحد فيكم، كان خوفي كله أختي تفرق بيننا، لما بتزعل بحس أني قصرت في حقك، بس النهاردة عرفت إنك بتكدب عليا في كل مرة تقول أنا نسيته فيها”
أرجع «ياسر» رأسه للخلف وقال بصوتٍ جاهد حتى يخرج منه:
“عاوزني أنسى إيه يا خالد؟ أنسى إن أبويا سابني في أول الطريق بمزاجه، أنسى إني أضطريت اشتغل شغلتين في اليوم علشان أعرف أكمل دوره، ولا أنسى إنه وقف قدامي وقال إنه مش ملزم يصرف علينا أكتر من كدا؟ عارف أنا كنت كل يوم أبص من الشباك وأقول هيرجع أكيد، مش معقول يسيبني في أول الطريق أغرق وهو عايش، بس كل مرة كنت بنام مكسور الخاطر”
لم يستطع التحكم في دموعه أكثر من ذلك، فنزلت رغمًا عنه، وكذلك أصدقائه، إقترب منه «ياسين» ثم أخذه بين ذراعيه وقال:
“محدش بينسى الوجع يا ياسر، بس أنتَ راجل متخليش الحزن يتحكم فيك، قولتلك قبل كدا إن التركيز في النِقم بيمنع عنك النِعم، أنتَ دلوقتي حققت حلمك وبقيت دكتور ومعاك صحابك، ومعاك إيمان حب عمرك كله، وأخواتك جوزتهم وإطمنت عليهم، يبقى ليه تزعل نفسك علشان واحد زي دا خسارة فيه دموعك أصلًا”
إقترب منهما «عامر» ثم قال بمرحٍ:
“بقى العيون الزرقا دي تعيط برضه؟ والله أبوك دا مكانش فيه حاجة عِدلة غير عيونه اللي ورثهالك دي، وياسيدي لو على كلمة بابا قولهالي أنا و إعتبرني أبوك يلا على الأقل ضامن أحفادي شكلهم هيطلع حلو”
ضحك الجميع عليه بينما «خالد» ربت على كتفه وقال:
“تخيل كدا عامر يبقى أبوك، يبقى عليه العوض من العوض فيك”
ضحك «ياسر» رغمًا عنه، ثم مسح وجهه بكفيه، وقال بصوتٍ متأثر من الموقف :
“ربنا يخليكم ليا، أنا من غيركم في حياتي هحس أني يتيم”
ثم فتح ذراعيه لأصدقائه، إرتموا جميعًا في حضنه، بينما «إيمان» حمحمت بإحراج بعدما مسحت دموعها، خرج الأصدقاء من ذلك الحضن الدافئ، وأول من وقف كان «ياسر» الذي تعجب من وقوفها أمامه، فسألها بتعجب:
“أنتِ إيه اللي جابك هنا؟ ومين عرفك أصلًا؟”
تدخل «عامر» بهدوء:
“أشكرها علشان لولا هي لاحظت غيابك، مكناش هنعرف مكانك”
نظر لها «ياسر» مندهشًا، بينما «خالد» إقترب منه وربت على كتفه ثم قال:
“إتكلموا سوا وابقى وصلها البيت”
رحل الثلاثة وتركوا «ياسر» و «إيمان» معًا
______________
نظرت «هدير» بتوتر لـ «طارق» ثم نظرت لعمتها التي هزت كتفيها وكأنها لا تعلم، سألته «هدير» وهي تتصنع الثبات:
“عملت إيه لخديجة يا طارق أنا مجتش جنبها أصلًا، دا كان كلام عادي يعني”
رفع أحد حاجبيه ثم قال:
“واللهِ؟ وهو الكلام العادي دا يبقى بإهانة الناس والتقليل منهم يا هدير ؟ وقدام جوزها كمان، يقول علينا إيه لما يلاقي بنات العم بيعملوا كدا في بعض، قوليلي شكل خديجة إيه قدامه وأنتِ بتقللي منها؟”
تدخلت «مُشيرة» تسأله بثبات:
“مين اللي قالك يا طارق، خديجة ولا وليد؟”
زفر بضيق ثم قال:
“وليد اللي قالي، ومش دا المهم، المهم عندي إن الموقف دا حصل فعلًا ، ولأخر مرة يا هدير تبعدي عن خديجة و عبلة أختي كمان، هما من الأساس مش زيك ومش شبهك، ركزي بقى في حياتك وسيبك من الناس علشان تعرفي تعيشي”
نظرت له «هدير» بغلٍ ثم قالت:
“يعني كلهم ملايكة وأنا اللي زبالة فيهم؟ على فكرة أنا بكرة هثبت لكم إن كلكم غلطانين”
صرخ بها «طارق» بصوتٍ هادر:
“أنا مش عاوز إثبات ولا زفت أنا عاوزك تلمي نفسك، وأنا المرة دي كلمتك قصاد عمتك علشان عارف إنك مبتخبيش عليها حاجة، المرة الجاية هيبقى الكلام مع عمي محمود نفسه”
تحدثت «مُشيرة» وهي تتصنع الطيبة:
“معاك حق يا طارق، هدير غلطت فعلًا، بس دا مش هيتكرر تاني وأنا بنفسي هصلح الموقف دا”
نظر لها بشكٍ لكنه لم يستطع تكذيبها، فأومأ لها بهدوء ثم قال:
“تمام يا عمتو،وأنا عارف إنك هتعقليها،وعارف كمان إن هدير واعية وعاقلة ومش هتغلط تاني”
أومأت له عمته، بينما «هدير»إبتسمت بتصنع ثم نظرت لعمتها فبادلتها نفس النظرة
تركهن «طارق» و رحل إلى شقته، و تبعته «هدير» إلى شقتها، دخلت بضيق إلى غرفتها وجلست على الفراش، ثم أمسكت الهاتف وضغطت على رقم ما، قام الرقم بالرد عليها فتصنعت الثبات وهي تقول:
“إزيك يا شهاب عامل إيه؟”
وصلها رده من الجهة الأخرى فقالت بهدوء:
“يارب دايمًا، قولي صح أنتَ لسه عاوز تكلم عبلة بنت عمي ؟”
أجابها هو:
“آه طبعًا وقولتلك أبعتيلي رقمها أكلمها”
إبتسمت بخبثٍ ثم قالت:
“لأ الكلام في التليفون مش هينفع، أنا هخليك تقابلها أي خدمة يا عم”
فرح هو بشدة فقال:
“بجد يا هدير يعني خلاص فاتحتيها في موضوعنا؟”
إبتسمت بتصنع ثم قالت:
“مش بالظبط كدا، كل الحكاية أني لمحت قصادها، ولقيتها مش ممانعة ،قولت الباقي بقى عليك أنتَ”.
أغلقت «هدير» الهاتف مع «شهاب» ذلك الشاب الذي يجلس معهم في الكافيه، و يكن حب كبير لـ عبلة، دون أن يعلم بأمر خِطبتها من «وليد» وتم الاتفاق بينهما على الموعد الذي سوف يقابلها به.
_________________
جلست «إيمان » بجانب «ياسر» نظرت حولها ثم قالت بسخرية:
“على كدا بقى الحمْام دا أحسن مني علشان تيجي تقعد معاه وتسبني؟”
حرك رأسه بيأسٍ ثم قال:
“هي الليلة دي كان ناقصها جنانك فعلًا”
وكزته في ذراعه ثم قالت بضيق:
“رُد عليا يا إبن ميرفت بتسبني وبتيجي تقعد مع الحمام؟ ليه يا أخويا مش مالية عينك؟”
نظر لها بتعجب ثم أردف قائلًا:
“أنتِ غيرانة من الحمْام يا إيمان؟ وبعدين أجيلك إزاي وأنا مهزوم كدا؟ أجيلك أعيطلك وأقولك إني الدنيا كلها خذلتني”
نظرت له بحزن ثم قالت:
“وليه متشاركنيش الحزن يا ياسر؟ وبعدين مين دا اللي خذلك يا ياسر؟”
تنهد بعمقٍ ثم قال بنبرة حزينة:
“الدنيا خذلتني لما دا بقى أبويا، وخذلتني لما إتمرمط في الشوارع وأنا عيل صغير وساعات كنت ببات في المحل علشان أعرف أجمع فلوس للبيت وإتخذلت لما المدرسة كلها إتريقت عليا وأنا في إبتدائي، وإتهزمت لما كنت فاكر نفسي شاطر وعرفت أنسى، طلعت بكدب على نفسي”
أمسكت وجهه بين كفيها ثم ضغطت عليه فجأة وهي تقول بضيق:
“قولت كل دا يا إبن ميرفت ومجبتش سيرتي خالص ، وبعدين إزاي تقول إنك أتهزمت في الدنيا ومتقولش إنك إنهزمت قدام براءة عينيا؟”
أبعد كفيها عن وجهه بضيق ثم قال بحنقٍ:
“حاسبي يا متخلفة وشي، أديني فرصة أكمل كلامي، وبعدين وحياة ربك دي عيون فيها براءة علشان تهزمني؟”
وضعت يدها في خصرها ثم قالت بضيق:
“أومال فيها إيه يا دكتور ياسر؟ رُد عليا؟”
نظر في أعينها ثم قال بِحب:
“فيها الحاجة الوحيدة اللي مصبراني على الدنيا، فيها سحر مبيطلعش غير ليا، فيها إيمان اللي إتولدت على إيدي، فيها ياسر العيل الصغير اللي لسه جواه حلم كبير معاكِ وبوجودك أنتِ هيتحقق، فيها كلام لو قولته عاوز العمر كله، فيها القوة اللي بحتاجها علشان أقدر أكمل حياتي، فيها حبك ليا اللي بيخليني عاوزك معايا النهاردة قبل بكرة،و عاوزك أم ليا قبل ما تكوني أم عيالي يا إيمان”
أنهى حديثه فوجدها ترتمي و تبكي بين ذراعيه، إبتسم بخفة ثم ربت على ظهرها بحنان وقال بسخرية:
“مش لو كان صبر القاتل على المقتول كان إرتاح وريحنا؟”
شددت من عناقها له ثم قالت:
“ربنا يخليك ليا يا ياسر ويقدرني وأفرحك وأعوضك”
طبع قبلة بسيطة على رأسها ثم قال:
“ربنا يخليكي ليا ويقدرني أنا وأسعدك”
أنتهت تلك الليلة المليئة الأحداث على الجميع، بعدما أوصل «ياسر» زوجته إلى بيتها وقد تبدل حاله كثيرًا بعد جلوسه معها، وعاد لأصدقائه وجلس برفقتهم على المقهى، عاد الجميع إلى منازلهم، ومر اليوم التالي بسلام و هدوء دون أي أحاديثٍ تذكر عدا مكالمات «ياسين» لخديجة التي يشرف فيها على ما تقوم بفعله وكلما شعرت بالخوف أو الفشل قام بتشجيعها، في اليوم التالي وهو يوم الجمعة يوم جلسة علاج خديجة، كانت الجلسة في ذلك اليوم في الصباح فلم يستطع الذهاب إلى شقة «ميمي»، وقف بسيارته أسفل بنايتها فوجدها تقترب منه وهي مبتسمة، غمز لها بثقة ثم قال:
عينيكِ بتقول أني وحشتك صح؟”
شعرت بالإحراج والخجل ولم تستطع أن تؤكد حديثه،ولا تستطع تكذيبه،بينما هو رسم ملامح الخبث على وجهه حينما رآى تأثير كلماته عليها”
ركبا السيارة سويًا فسألها هو مُستفسرًا:
“عملتي كل اللي هي طلبته منك؟ ولا لسه محتارة فـ حاجة؟”
إبتسمت بهدوء ثم قالت:
“آه الحمد لله، الفضل ليك بعد ربنا ساعدتني كتير”
نظر لها بحنان ثم أردف قائلًا:
“أنا معملتش حاجة، أنتِ اللي شاطرة وبتتعلمي بسرعة”
من حديثه شعرت بالثقة الكبيرة، وأنها قادرة على فعل الكثير، بعد قليل أوقف السيارة أسفل البناية، نزل من السيارة ونزلت هي الأخرى خلفه، صعدا معًا للطبيبة، وكعادته دخل معها، تحدثت الطبيبة بهدوء:
“ها يا خديجة إلتزمتي بالتدريبات اللي قولتلك عليها؟”
أومأت لها في هدوء فتحدثت الطبيبة قائلة:
“هايل جدًا، طب التنفس والإسترخاء بتلتزمي بيهم؟”
أومأت لها أيضًا، فأشارت الطبيبة إلى «ياسين» بالخروج من الغرفة، فعل هو كما طلبت منه، بينما الطبيبة آخذتها إلى المقعد الكبير وأجلستها في وضع الإسترخاء، ثم جلست على المقعد أمامها وهي تقول:
“قوليلي بقى يا خديجة، الفترة الأخيرة بقيتي بتحسي بإيه؟”
نظرت «خديجة» أمامها بشرود ثم قالت:
“حاسة أني في صراع، خديجة القديمة عاوزة تطلع تحقق اللي نفسها فيه وتلحق حاجة من اللي فاتها، وخديجة التانية مكتفاها وبتفكرها بخوفها، وبين دي و دي فيه خديجة تالتة مش عارفة تعمل إيه غير إنها تستسلم”
أومأت الطبيبة ثم سألتها بهدوء:
“قوليلي يا خديجة أنتِ فاكرة، خديجة القديمة قبل ما دي تظهر كانت عاملة إزاي؟ كلميني عنها”
شردت «خديجة» أمامها ثم قالت دون وعيًا منها:
“كانت جميلة أوي وشجاعة عمرها ما خافت من حاجة، ولا من حد كانت شقية وبتضحك وبتلعب وبتعمل كل اللي نفسها فيه، كانت بتدافع عن أي حد، لحد ما دلوقتي بقت بتخاف تدافع عن نفسها”
سألتها الطبيبة بنفس النبرة الهادئة:
“ليه بتخاف تدافع عن نفسها؟ إيه اللي حصل”
أجابتها «خديجة» وكأنها في عالمٍ آخر:
“اللي حصل إن الدنيا عاندتها وأبوها عاندها وكله إستكتر عليها روحها الحلوة، إتحولت من طفلة دمها خفيف بتحب الضحك والهزار لإنسان آلي”
عند هذه النقطة بدا صوتها مهزوزًا وإرتجفت يديها، لاحظت الطبيبة تلك الأعراض، ولكنها لم توقفها من الإسترسال في الحديث، أكملت «خديجة» بصوتها المهزوز:
“طفلة زيها بدل ما تدخل أوضة لعب…تدخل أوضة ضلمة ويتقفل عليها، بدل ما …بدل ما يجيبولها عروسة لعبة ياخدوا عرايسها يوزعوها على بنات العيلة علشان تتقهر أكتر، بدل ما تلعب زي اللي في سنها يبصولها إنها لو إتحركت من مكانها هتضرب”
سألتها الطبيبة بهدوء:
“ليه كل دا حصلها؟”
تنهدت «خديجة» لعلها تخرج ما يعتلي به صدرها:
“علشان تتعاقب على ذنب أمها اللي هي أصلًا معملتوش، أنا بس سؤالي… إزاي قلبه كان بيطاوعه لكدا، إزاي ولا مرة صعبت عليه ودخل ليا قبل ما الليل يدخل، إزاي كل مرة كنت أحلفله إني …إني معملتش حاجة كان يضربني أكتر، إزاي كل مرة أدافع فيها عن نفسي العقاب يزيد، ليه إفتكرني وحشة وأنا والله مش كدا..والله عمري ما عملت حاجة من اللي ضربني علشانها…أنا كنت كل مرة بستناه يحبسني في حضنه ….كان مرة واحدة يطمني ويقولي إنه هيصلح كل حاجة…أنا بقيت نسخة وحشة من واحدة كان أصلها جميل”
بكت بشدة بعد حديثها، بينما الطبيبة إقتربت منها أكثر ثم قالت بصوتٍ صارم:
“لأ يا خديجة أنتِ مش وحشة، كل الحكاية إنك مستسلمة للواقع وللمجتمع ولآراء الناس ومخلياهم يتحكموا فيكِ، لكن أنتِ جميلة أوي من كل حاجة قلبك طيب وجميل كفاية إنك مش بتأذي حد، كفاية إن وسط كل الناس دي أنتِ قلبك لسه خايف يزعلهم، أنتِ جميلة زي ما أنتِ أوعي تغيري نفسك علشان حد، أرجعي خديجة القديمة تاني قوية وبتضحك وتهزر، أخرجي من عزلتك وإكتائبك دا، عيشي سنك يا خديجة، ربنا عوضك بياسين إبدأي معاه وشوفي الحياة عاملة إزاي”
نظرت لها «خديجة» بحزن ثم قالت:
“ودا كبه أعمله إزاي ؟ ياريته سهل”
حركت رأسها نفيًا بقوة ثم أجابتها:
“لأ يا خديجة دا علشان أنتِ مصعبة الدنيا على نفسك، خرجي خديجة القديمة وأديها فرصة ترجع تاني”
خرجت «خديجة» من غرفة الطبيبة لم تجد «ياسين» فسألت «الموظفة» التي أخبرتها بنزوله للصلاة في المسجد، أومأت «خديجة» في هدوء وظل حديث الطبيبة يدور برأسها عن شجاعتها، نزلت من العيادة تنتظره، كانت خائفة ومتوترة بشدة فهذه أول مرة تقف بدونه، وقفت بجانب السيارة تنظر للمارة وهم ينظرون إليها، شعرت بالتوتر ثم إلتفتت حولها، جف حلقها من الخوف، وقبل أن تصعد للعيادة مرةً أخرى بعدما إشتد خوفها و قلقها، وجدته يركض نحوها، تنهدت براحة ثم ركضت إليه وبدون وعيًا منها أرتمت داخل أحضانه، تعجب هو من حالتها لكنه ربت على كتفها بهدوء ثم قال بنبرة حنونة:
“أنا آسف والله روحت أصلي قولت لحد ما تخلصي، مكنتش أعرف إنك هتخلصي بدري كدا”
خرجت من بين ذراعيه بتوتر ثم قالت:
“أنا..أنا أسفة بس أنا معرفش المكان هنا وكنت خايفة أقف لوحدي، حسيت إن الناس بتبص عليا”
أمسك كفها يربت عليه بحنوٍ ثم قال:
“إهدي خالص، متخافيش أنا معاكِ المهم يلا علشان نفطر ونلحق يومنا”
نظرت له مُستفسرة، فوجدته يومأ لها ثم قال:
“أنا مستأذن منهم إنك اليوم كله معايا، متخافيش يدوبك اليوم سوا”
وبعد قليل كانا الأثنين يتناولا الفطور في السيارة، كانت تأكل بتوتر وهو يراقبها بهدوء، وحينما لاحظ شرودها أشار أمام عينيها بهدوء ثم قال:
“إيه يا ست الكل روحتي فين؟”
نظرت له بحزن ثم قالت:
“في الجلسة النهاردة كانت صعبة أوي، وأفتكرت حاجات كتير اوي مكنتش عاوزة أفتكرها، بس إكتشفت إن أنا أصلًا مش عارفة انساها”
ربت على كفها بهدوء ثم قال:
“لأ هتنسي علشان أنا موجود معاكِ، وعلشان أنتِ بتحاولي بكل طاقتك، وعلشان أنتِ جميلة وتستاهلي أيام جميلة شبهك”
نظرت له بِـحيرة ثم سألته:
“تفتكر أنا مش هفشل فـ ديه زي ما فشلت قبل كدا”
أكد حديثها بقوله:
“أنا متأكد من دا إنك تقدري تعملي كل حاجة، وأنا موجود في ضهرك”
نظرت له بحب ثم قالت:
“هو أنتَ إزاي علطول بتيجي في الوقت المناسب؟ يعني إزاي في كل الطرق بتكون موجود علشاني؟”
تنهد بعمقٍ ثم قال بنبرة مُحبة:
“علشان أنا موجود ليكِ أنتِ، لكن إزاي بقى في كل الطرق بكون موجود فيها علشانك؟”
صمت قليلًا، ثم نظر في أعينها بِـحب وقال:
“كُل الطُرق أصبحت تؤدي إليكِ..
كُل المساكن وجدتها في عينيكِ”
نظرت له وهي صامتة والبسمة الخجولة على وجهها بينما قال هو بمرحٍ بعد طيلة صمتها:
“خلاص يا ست الكل طالما سكتِ يبقى كدا أتثبتِ”
ضحكت بشدة على جملته وهو ينظر لها بحب، ثم أضاف قائلًا:
“ربنا يقدرني وأفرح قلبك علطول”
تنحنحت هي بهدوء ثم قالت:
“أنا واثقة من دا على فكرة”
إتسعت بسمته بعد جملتها تلك، فهي أصبحت تثق به كثيرًا، كما أنه أصبح يرى في عينيها الاطمئنان والحب حتى وإذا لم تعترف بحبها بعد يكفيه أنه يراها في عيناها.
______________
في الصعيد وتحديدًا في بيت حسان جلس مع «مُسعد» زوج إبنة عمته، وقام بتعريفه بالعمل بأكمله ونظام البيع، والأسعار فأضاف «مُسعد» بحزن:
“برضه هتمشي يا حسان؟ أنا ما صدقت ربنا يكرمني بأخ هنا”
نظر له «حسان» بحزن أيضًا ثم قال:
“هعمل إيه يعني يا مُسعد، مفيش قدامي غير الحل دا، مش عاوز أزعل جميلة مني، أنا مليش غيرها”
ربت «مسعد» على فخذه ثم قال:
“على البركة إن شاء الله، المهم متنسناش”
إبتسم له «حسان» بحب ثم قال بنبرة متأثرة:
“أنسى أهلي وناسي يا مسعد، أنتم كل حاجة ليا، إطمن أنا واثق إننا هنرجع تاني”
في الأعلى كانت «جميلة» جالسة مع جدتها فسألتها بِحيرة:
“يعني أنتِ متعرفيش عنهم أي حاجة ولا عنوان؟”
نفخت «نوال» وجنتيها بضيق ثم قالت:
“لأ يا جميلة معرفش عنهم حاجة ومعرفش المنطقة إسمها إيه، كل اللي أعرفه إن بعد موت والدتك، حسان إتخانق معاهم علشان مشاكل عائلية وجابك وجه على هنا”
جلست «جميلة » تفكر لمدة ثوانٍ ثم قالت فجأة:
“طب أنا اوصلهم أزاي طيب؟ أكيد عاوزين يشوفوا بنت بنتهم دي، وبعدين أنا إزاي نسيتهم كدا، يعني مش قادرة أفتكر حد خالص؟دا إيه اللي أنا فيه دا؟”
إقتربت منها «نوال» ثم ربتت على كتفها بحنوٍ بالغ و قالت:
“أنتِ لما جيتي هنا كنتِ لسه في الحضانة، يعني صعب تفتكري حاجة علشان مفيش ممارسة للذكريات دي، غير كدا علشان خاطري متتعبيش حسان معاكِ وتفكريه بزمان خليه كدا ما صدق ينسى”
نظرت لها بحزن ثم قالت:
“طب هو أنا إتولدت هنا إزاي؟ يعني شهادة ميلادي معمولة على الصعيد”
تنهدت نوال بعمق ثم قالت:
“علشان حسان لما جابك مكانش معاكم ورق أو حاجة ، طلعنالك شهادة ميلاد من هنا طبعًا بفلوس علشان تعرفي تدخلي المدرسة وتمارسي حياتك هنا”
قبل أن تسألها مرةً أُخرى وجدت والدها يناديها من الأسفل، فتركت جدتها وركضت له، نظرت «نوال» في أثرها بحزن ثم قالت:
“الله يهديكي يا جميلة، ويصبر حسان على اللي جاي معاكِ”
يُتَبَع