تناهى إلى مسامع ياسين صوت جدته وهي ترحب بالضيوف وهو يتجه لإستقبالهم معها، حين توقف فجأة وصوتها الرقيق يتسلل الى مسامعه، ينفى وبشدة أنها هي من تقف في ردهته تشكر جدته على دعوتهما إلى العشاء، هل دعتها جدته بالفعل؟وترى من دعته أيضا بالإضافة إليها، لا، بالتأكيد ليس نبيل، ليتقدم بخطوات بطيئة تجاههم حتى وقعت عيناه عليهما لتستقر نظراته على فتون والتى استقرت نظراتها بدورها عليه، تبتسم تلك الابتسامة الخلابة والتى تجذبه اليها بشدة، ليلتفت الى نبيل الذى قال بابتسامة:.
مساء الخير ياياسين.
تقدم اليهم بهدوء يلاحظ نظرة جدته المعاتبة ولكنه تجاهلها مؤقتا حتى يستطيع أن يفسر لها موقفه، بينما قام بمصافحة نبيل قائلا:
مساء الخير يانبيل.
ثم مد يده اليها لتستقر يدها بين يديه قائلا:
إيه المفاجأة دى؟
رفعت فتون احدى حاجبيها قائلة:
ايه ده، انت مكنتش تعرف ان احنا جايين؟
ترك يدها وهو يشير الى جدته قائلا:
الظاهر تيتة حبت تعملهالنا كلنا مفاجأة.
قالت فتون وهي ترفع إحدى حاجبيها:.
بس الظاهر إنها مفاجأة وحشة بالنسبة لك.
عقد ياسين حاجبيه قائلا في ارتباك:
لأ، طبعا، أكيد مفاجأة حلوة، ليه بس بتقولى كدة؟
ابتسمت فتون ولم تعقب، ثم تركت يده قائلة للجدة:
الحقيقة نبيل لما قاللى ان جدتكم حابة تتعرف على الشركا الجداد، وانها عزمانا على العشا وافقت علطول لإنى كمان حابة أتعرف على الست اللى قدرت تربى ناس بالأخلاق دى.
ابتسمت الجدة ابتسامة لم تصل لعينيها، فلا تدرى لم شعرت بأن هناك المزيد تحمله كلمات تلك الفتاة، فهناك شعورا غامضا بالقلق اجتاحها لدى رؤيتها تلك الفتون، والتى تذكرها بحبيبة ياسين التى لاقت حتفها منذ مدة، ولتدرك أيضا السبب وراء عدم إخبارها أي شئ عن تلك الشراكة من قبل ياسين، فقد لاحظت تعلق نظراتهما، ربما خشي أن تتهمه بأنه يتعلق بتلك الفتاة لوجود ذلك التشابه في بعض الأشياء بين الفتاتين، رغم تفضيل الجدة لميسون رحمة الله عليها بينما تلك الفتاة لا تشعرها بالراحة ابدا.
افاقت من شرودها على صوت دارين وهي تقول:
احنا هنفضل واقفين كدة كتير، يلا بينا على أوضة السفرة، أكيد جعانين.
ابتسم الجميع، لتتقدمهم الجدة بينما تبعوها الى حجرة الطعام ليجلسوا ويتناولوا عشائهم في جو هادئ، تقطعه بعض التساؤلات والاجابات البسيطة والتى لم تفصح أبدا عن مكنونات صدورهم وما يخفيه كل منهم داخل قلبه.
كانت زينة تنظر الى الشارع خارج السيارة، حيث المارة والسيارات المجاورة في شرود حزين، لقد كان لديها أمل ضعيف، أضاعه مروان بالكامل، فعندما كانت بالمنزل أحست للحظات بقلقه عليها ليبزغ ذلك الأمل في قلبها، الأمل في أنه يحمل لها في قلبه بعض المشاعر، الأمل في أنه نادم على خطأه في حقها بالماضى، وربما، فقط ربما يريد الآن اصلاح خطأه، ولكن هذا الأمل قضي عليه مروان كلية عندما ذهبت معه الى الطبيب ليبدو باردا متباعدا تماما، متجهم الوجه وكأن ذهابه معها واجبا غير مستحب من قبله، وكأنها عبئا ثقيلا عليه يود التخلص منه في أقرب لحظة، حتى حين ألقى الطبيب كلمات مجاملة على مسامعها عاملها بقسوة وكال لها الاتهامات، وكأنها كانت تنتظر الفرصة لتخرج من بيته حتى تمارس عملها القديم والذى يذكرها به ليلا ونهار، يذكرها بكلماته القاسية أنها كانت يوما ما غانية، تباع وتشترى من قبل من يدفع أكثر، أحست زينة انها تجرح منه مجددا، ولكن جراحه تدميها وبشدة، لتصعب عليها نفسها المهانة دائما من جانبه، وتنزل منها دمعة خائنة، مدت يدها تمسحها بحزن.
بينما جلس مروان خلف مقود السيارة يقود بهدوء لا يعكس مشاعره الثائرة لوجودها بجواره، تجلس مستكينة هادئة، يبدو عليها الضعف والتعب، تمسك يدها اليمنى بيدها اليسرى بينما تميل بوجهها على نافذة السيارة تنظر بشرود الى السيارات المجاورة لهم، يعلم انه قد أهانها منذ قليل بشدة ولكنها هي من تستحق ذلك، فلقد تباسطت مع الطبيب ومنحته احدى ابتساماتها الجميلة ليقع الطبيب في سحرها ويلقى إليها بتلك الكلمات التى اشعلت نيران غيرته وغضبه، نعم هي السبب فهي من تخرجه عن طوره دائما ثم تجلس هكذا تتظاهر بالضعف وقلة الحيلة لتثير شفقته رغما عنه وينتابه احساسا صاعقا بالندم، حتى رأى تلك الدمعة التى مدت يدها لتمسحها ليجد نفسه رغما عنه يتوقف بالسيارة على جانب الطريق لتفيق زينة من شرودها وتنظر الى ماحولها بدهشة تدرك انهم لم يصلوا لوجهتهم بعد، لترنوا بعينيها الى مروان الذى وجدته يرمقها بدوره، أشاحت بنظرها بعيدا عنه لتتسع عينيها حين سمعته يقول بندم:.
أنا آسف.
التفتت اليه في صدمة تنظر الى ملامحه النادمة لتستشعر صدق أسفه لتقول بدهشة:
آسف، آسف على إيه؟
قال بندم:.
على الكلام اللى قلته من شوية، أنا عارف ان دى حياتك الشخصية وانى مش من حقى انى أعايرك بيها او ألومك عليها، انا مش من حقى أصلا انى أتدخل في حياتك الشخصية، وأوعدك من دلوقتى انى أخرج نفسى براها خالص، واللى انتى عايزاه إعمليه، أنا مش هعارضك ولا أمنعك في أي قرار حابة تاخديه فيما عدا القرارات اللى تخص فارس طبعا، فآسف هتدخل فيها، لإنى بعتبره زي ابنى بالظبط ومش هقدر متدخلش في حياته.
أحست زينة بمرارة شديدة في قلبها، فها هو يخبرها صراحة أنها لا تهمه على الاطلاق وأن ما يهمه هو فارس فقط الذى يعده بمثابة ولده، لتشعر زينة بسخرية الوضع، حسنا اذا كان كل ما يهمه هو فارس فلا بأس، فالأهم الآن هي سلامة فارس والتى تثق بأن مروان سيحرص عليها أما هي فستحرص بدورها على قلبها وألمه الذى يزداد في قرب مروان، ستحاول ان تبتعد عن طريقه قدر الامكان، فكفاها ألما لطالما كان هو السبب فيه، رمقته بنظرة طويلة احتار في تفسيرها، فمشاعرها كثيرة ومختلطة، كاد أن يتيه بها، لتشيح هي بنظراتها بعيدا عنه، تميل برأسها مجددا على النافذة تنظر الى الخارج ليتأملها مروان للحظات قبل أن ينظر الى الأمام ويبدأ بقيادة السيارة مجددا يتساءل عن سر تلك النظرة التى أشعرته مجددا بالذنب ومشاعر أخرى رفضها بشدة.
قال نبيل بابتسامة موجها حديثه الى الجدة قائلا:
الحقيقة الأكل جميل أوى يامدام سهير، ولما عرفت ان انتى ودارين اللى عملتوه بإيديكم،
قال جملته الأخيرة وهو ينظر الى دارين التى أطرقت برأسها خجلا ليستطرد قائلا:
ده شئ فرحنى أوى بجد.
ابتسمت فتون قائلة:
فعلا الأكل جميل أوى، تسلم ايديكوا.
ابتسمت الجدة لأول مرة ابتسامة صادقة وهي تقول:
ألف هنا، ثوانى هجيبلكم الشاي والحلويات.
قال نبيل بسرعة:.
لأ شاي وحلويات ايه بس؟، أنا محتاج أمشى شوية بعد الأكل ده كله، بعد إذنكم هخرج شوية أتمشى في الجنينة.
قالت الجدة بابتسامة:
اتفضل ياابنى، قومى يادارين روحى معاه وريه حوض الورد بتاعك، أكيد هيعجبه.
قال نبيل لدارين في سرعة:
لأ خليكى انتى لسة مخلصتيش أكلك.
ابتسمت دارين وهي تقف قائلة:
لأ خﻻص، أنا شبعت، يلا بينا.
هز رأسه موافقا ليغادر الحجرة بهدوء تتبعه دارين، بينما مسحت فتون فمها بالمنديل في حركة لم تغب عن عيون ياسين، ليدق قلبه بشدة، فميسون كانت تمسح فمها بنفس الطريقة تماما، رفعت فتون عينيها في تلك اللحظة لتتقابل مع عيون ياسين القاتمة وتقع في تأثير نظراتهم العالقة بملامحها، ليفيق سويا من سحر تلك النظرات على صوت الجدة التى قالت بهدوء:
مش هنقوم احنا كمان نروح الليفنج نشرب الشاي؟ولا هنفضل قاعدين كدة؟
تنحنحت فتون قائلة:
احمم، لأ أكيد طبعا هنقوم نشرب الشاي، وياريت لو بنعناع يامدام سهير، أنا كتير بحب الشاي المصرى اللى بنعناع.
ابتسمت الجدة بينما كاد قلب ياسين أن يخرج من موضعه، يتساءل في قلق، هل تجسدت ميسون مجددا على هيئة فتون؟، أم أن تشابهما في الأفعال والتصرفات صدفة بحتة، وهل تعلقه بها لذلك التشابه أم أنها هي من تجذبه بجمالها ورقتها وثقتها الكبيرة بنفسها؟حقا انه لا يعرف.
مشيا الى جوار بعضهما تلفهما حالة من الصمت في ذلك الجو الرائع وتلك النسمات التى تحيط بهما مع تسلل رائحة الزهور الجميلة إلى أنوفهم تمنحهم شعورا رائعا بالراحة، أشارت دارين الى حوض به بعض الأزهار قاطعة الصمت وهي تقول في حماس:
ده الحوض اللى زرعت فيه الورد بتاعى.
اقترب نبيل من الحوض يتأمله في اعجاب، فقد امتلأ بالزهور الجميلة والرقيقة تماما مثلها، مرر يده على أوراق تلك الأزهار ليستشعر نعومتهم، لتتوقف يديه على زهرة جميلة وفريدة في شكلها ولونها ليمرر يده عليها بطولها، قالت دارين في جزع:
حاسب.
ندت عنه آهة ألم صغيرة وانبثق الدم غزيرا من إصبعه لتسرع دارين بإمساك يده تكتم الدم بإصبعها بقوة بينما تزيح باليد الأخرى ذلك المنديل والذى لفته حول رقبتها، لتضعه على إصبعه تلفه بسرعة، بينما كان نبيل يتابعها بقلب تشتعل دقاته، يشعر بالحرارة تغزو كيانه، يقاوم رغبة قاتلة في أن يأخذها بين ذراعيه يضمها إليه ويبثها مشاعره التى وصلت إلى ذروتها في تلك اللحظة، ليفيق على صوتها القلق وهي تنظر الى عينيه قائلة:.
مش تاخد بالك، الوردة دى صحيح حلوة وفريدة من نوعها بس مليانة شوك ولو قربت منها أكيد هتجرحك.
مال مقتربا بوجهه من وجهها تلفحها أنفاسه الساخنة وتثير مشاعرها الغضة وهو يقول:
أنا راضى أتجرح بشوكها لو في الآخر إيد زي إيدك هتطيب جرحى يادارين.
تاهت دارين بين ثنايا نظرته الساحرة وكلماته التى تحمل في طياتها تصريحا واضحا باعجابه بها لتفيق من سحر اللحظة وهي تشعر أنها على وشك الغرق في عشقه، تشتعل وجنتاها احمرارا وهي تتراجع خطوة الى الوراء قائلة بارتباك:
احنا، احنا، اتأخرنا أوى عليهم، يلا بينا نرجع.
اومأ برأسه لتتقدمه وهو يتبعها بابتسامة، يدرك وبكل قوة، أنه عشقها وانتهى الأمر.