تعالى رنين هاتف هارون ليلتقطه مجيبا إياه بسرعة، استمع الى محدثه قليلا، ثم أغلق الهاتف والتفت الى عدنان الذى تعلقت عيونه بملامح هارون، ليقول هارون بهدوء:
مروان وصل.
رغم ملامح عدنان الجامدة والتى لا تعكس انفعالا الا ان هارون أدرك توتره من خلال اختلاجة بسيطة في فكه، قال عدنان ببرود:
فتشوه؟
هز هارون رأسه نافيا وهو يقول:.
مرضاش زي ماقلت، بس الجهاز الجديد اللى عدا عليه مااكتشفش معاه أي سلاح، و كمان جاي لوحده، مش غريبة دى؟
هز عدنان رأسه نفيا وهو يقول:
لأ مش غريبة، مروان ذكى وعارف انه مش هيقدر يمسنى في بيتى، وانى كمان مش هقدر اعمله حاجة في الوقت الحالى، اللى احنا بنعمله مجرد اجراءات أمن عشان الغدر مش أكتر.
اومأ هارون برأسه وكاد أن يتحدث لولا ان قاطعته طرقات على الباب ودخول الخادمة تعلن عن وصول ضيفهما، مروان فياض.
لم يكن هارون قد رأى هذا المروان من قبل ولكن عندما رآه أدرك سر توتر عدنان، فمروان لديه، هيبة، و هالة من الغموض صاحباه عند دلوفه الى الحجرة، يمشى بخطوات واثقة وعيون كالصقر، يحدق بهما في برود كالصقيع، ألقى التحية في هدوء، فردها عدنان بدوره بهدوء ظاهري يخفى قلقا غريبا على نفسه، فلم يشعر بالقلق من أى منافس له من قبل، ولكنه يشعر بالقلق تجاه هذا المروان، أشار عدنان لمروان بالجلوس،.
فجلس مروان يضع قدما فوق الأخرى، بينما ظل هارون واقفا متأهبا، نظر عدنان الى مروان قائلا:
خير يامروان، ممكن أعرف سبب زيارتك الغريبة دى؟
نقل مروان نظراته بين عدنان وهارون ثم استقرت نظراته على عدنان وهو يقول ببرود:
أنا عارف انك مستغرب زيارتى ليك، بس لما هتعرف السبب هتستغرب أكتر، أنا جاي النهاردة عشان أقدملك خدمة.
تبادل كل من هارون وعدنان النظرات قبل أن ينظر عدنان مجددا الى مروان قائلا:.
خدمة ايه اللى جاي تقدمهالى دى؟
تراجع مروان بظهره الى المقعد وهو يقول:
خدمة كبيرة اوى هتنقذك من مصيبة أكبر.
نظر اليه عدنان مستفسرا ليستطرد مروان قائلا:
الشحنة اللى انت مسفرها لتركيا، وهتوصل بكرة.
ظهر التوتر على وجه عدنان وهو يقول:
شحنة ايه؟
ابتسم مروان في سخرية قائلا:
انت عارف كويس الشحنة دى فيها ايه فبلاش تستعبط ياعدنان.
كاد هارون أن يتقدم باتجاه مروان ليمسك عدنان بيده ويخبره بعينيه أن لا يتهور، لتتسع ابتسامة مروان الساخرة، وعدنان يقول في هدوء:
مالها الشحنة دى؟
قال مروان:
متبلغ عنها وأول ما هتوصل تركيا هيتقبض عليها وعلى كل طقم السفينة.
تبادل هارون مع عدنان نظرات متوترة، لينظر بعدها عدنان الى مروان قائلا:
وانت بقى يامروان جاي تقدملى خدمة ولا جاي تشمت فية؟
قال مروان:.
قلتلك جاي أقدملك خدمة، جاي أقولك ازاى تنقذ شحنتك قبل ما يتقبض عليها، صحيح مفيش ورق يربطك بالصفقة ومفيش حاجة هتمسك، بس الخسارة برده مش قليلة.
رفع عدنان احدى حاجبيه قائلا:
وياترى ليه عايز تقدملى الخدمة دى يامروان؟
ظهرت ملامح السخرية على وجه مروان وهو يقول:
أكيد مش جاي أقدمها خدمة لوجه الله ياعدنان، دى مجرد عربون صداقة، حاجة أبين بيها حسن نيتى، لإنى جاي النهاردة أعرض عليك صفقة العمر.
أمسك عدنان غليونه وأشعله ليأخذ منه نفسا عميقا قبل أن يقول:
وايه هي بقى صفقة العمر دى؟
اتسعت ابتسامة مروان الساخرة وهو يقول:
واحدة واحدة ياعدنان، هنخلص من موضوع شحنتك الأول وبعدين هقولك على الصفقة، متستعجلش، كل اللى اقدر اقولهولك دلوقتى ان بعد الصفقة اللى هقولك عليها مش هتحتاج تشتغل أبدا، هتعتزل الشغل للأبد.
تبادل عدنان وهارون النظرات ليومئ عدنان برأسه وهو ينظر الى مروان قائلا:
قول يامروان، أنا سامعك.
ابتسم مروان بداخله في انتصار ولكن ملامحه ظلت جامدة وهو يقص على مسامعهم خطته لتفادى ضبط شحنتهم، لتتسع عيونهم انبهارا بهذا العقل الجهنمى والذى يمتلكه هذا المدعو مروان.
نظرت زينة يمنة ويسارا لتتأكد من خلو الساحة من أى حارس قد يعيق تقدمها ويفشل خطتها فلم تجد أحدا، لتسمع صغيرها فارس يقول بتذمر:
ياماما انتى واخدانى بس على فين؟
التفتت زينة اليه وجلست على احدى ركبتيها لتكون في مواجهته وهى تقول بحنان:
انا مش قلتلك ياحبيبى هنروح مشوار.
نظر فارس إليها بعيونه البريئة وهو يقول:
مشوار ايه ده ياماما؟، احنا عمرنا ما خرجنا برة البيت ده.
رفعت زينة يدها وهى تربت على رأس الصبى بحنان قائلة:
آن الأوان نخرج من البيت ده ياحبيبى، انا هفهمك كل حاجة بعدين بس أهم حاجة دلوقتى تعمل اللى قلتلك عليه، فاكره؟
أومأ الطفل برأسه قائلا:
أيوة ياماما، مش هسيب ايدك ومش هطلع أي صوت، ولما نركب جوة العربية، هسكت خالص عشان محدش يعرف مكانا.
رفعت زينة يده التى تمسكها لتقبلها في حنان ثم قالت:
برافو ياقلب ماما، يلا بقى نمشى قبل ما حد يحس بينا.
ثم نهضت تمشى وهى تمسك بيد الصغير تتوخى الحذر في خطواتها، وتتجنب الكاميرات المنتشرة بالقلعة حتى وصلت الى تلك السيارة الغريبة، تنفست بارتياح فتلك السيارة في مكان بعيد عن آخر كاميرا كان يجب أن تتفاداها وقد جاء هذا في صالحها إلى جانب أنها كبيرة بما يكفى لتسعها هى وصغيرها دون ان يلاحظهما أحد، حمدت ربها على صغر حجمها هي وصغيرها والذى جاء بفائدة لها أخيرا.
ألقت نظرة أخيرة على الحراس لتتأكد من أن احدا لم يلاحظها، ثم أمسكت مقبض الباب الخلفى للسيارة في أمل وهي تدعوا في سرها أن لا يكون مغلقا، وبالفعل فتح في يدها لتحمد الله وتدرك أنه يساندها فيما تفعل، صعدت الى السيارة يتبعها فارس ثم اختبأت هي وصغيرها أسفل المقعد، لتغلق الباب بهدوء، وهى تنتظر انتهاء ذلك الضيف من اجتماعه مع عدنان وهارون ليذهب بسيارته من هنا، لتهرب الى الأبد من هذا الجحيم الذى عاشت به لسنوات.
ما ان رأت فتون نبيل يدلف من الباب حتى نهضت من مقعدها قائلة في لهفة:
عملت ايه يانبيل؟
ابتسم نبيل قائلا:
طب قوليلى ازيك حتى.
قالت فتون بسرعة:
ازيك واخبارك، تمام، كويس، قوللى بقى عملت ايه؟
نظر اليها نبيل في دهشة ثم ما لبث أن هز رأسه قائلا:.
مفيش فايدة، فتون هتفضل فتون، خلاص ياستى، خلصت كل حاجة، حجزت ع أول طيارة نازلة مصر وحجزت الفندق اللى هننزل فيه، واتفقت مع شركتهم والميتنج بكرة بعد الضهر مع رئيس الشركة بنفسه، ياسين تاج الدين.
تنهدت فتون بعمق، ثم جلست في مقعدها وقد التمعت عيناها الجميلتين بقسوة، ليجلس نبيل قبالتها وهو يقول بهدوء:
مالك، بتفكرى في ايه؟
نظرت اليه فتون قائلة بهدوء:.
مش قادرة أصدق انى خلاص هقابل اللى قتل أختى وأنتقملها منه، بس مش عارفة إزاى هقدر أخفى كرهى له واللى هيبان أكيد في عينية وفى تصرفاتى.
أمسك نبيل بيدها قائلا:
فتون اللى أعرفها تقدر تعمل أى حاجة، ومفيش حاجة ممكن تقف قصادها عشان تحقق هدفها، ولاحتى مشاعرها.
نظرت فتون الى عيني نبيل لثوان لتهز رأسها وهى تبتسم قائلة:.
معاك حق، مش ممكن حاجة هتوقفنى عن الانتقام لأختى، هخفى مشاعرى كويس، ومش هرتاح غير لما اخد تارى من اللى قتلها وحرمنى منها ولو هدفع حياتى تمن انتقامى مش هتردد ولو لثانية واحدة.
لتعود القسوة الى ملامحها الجميلة وقلبها القلق تغلفهم ببرودة ثلجية، وصلت الى يدها الممسكة بيد نبيل لينتابه القلق فعلى الرغم من رغبته في الانتقام والتى تماثل رغبة فتون الا أنه يخشى عليها من تلك الرغبة، والتى قد تغرقها في بحور الدم، ويخشى عليها أكثر من هذا القاتل الحر الطليق، والذى يدعى، ياسين تاج الدين.
كانت فتون جالسة على كرسيها تتأمل المكان من حولها، ذلك المكان الذى يحمل ذكريات طفولتها وشبابها، ذكرياتها مع أختها، تلك التى ربما كانت تحمل بعض ملامحها ولكنها كانت تحمل العديد والعديد من سماتها، كروحها الطيبة وحب الخير للجميع إلى جانب الطموح والسعي للنجاح، ولكن كانت بينهما العديد من الاختلافات أيضا، مثل شخصية فتون القوية بينما تحمل ميسون شخصية رقيقة، و رفض فتون لأن تدخل في أية علاقة تخص الرجال فقد رأت كم يستطيعون أن يكونوا بمنتهى الغباء ومنتهى الغدر أيضا بينما آمنت ميسون بأن هناك بعض الرجال الذين تستطيع أن تختار من بينهم من قد تستطيع منحه قلبها، لذا كانت تتنقل من علاقة لأخرى فاشلة ولكنها أبدا لم تيأس، لتنظر فتون حولها في حزن تتساءل بصوت هامس مرير وكأنها تحادث روح أختها التى تشعر بها دائما حولها، قائلة:.
ليه بس مقدرتيش تفهمى ان كل الرجالة غدارة ياميسون، ليه فضلتى تآمنى ليهم واحد ورا التانى، لغاية ما جالك اللى وراكى أد إيه ممكن يكونوا غدارين، لأول مرة في حياتك ولآخر مرة، بس أوعدك زي ما غدر بيكى هغدر بيه ومش هسيبه غير وهو ميت، عشان أقدر آخد عزاكى وأقول إنى خدت بتارك وريحت قلبى وريحتك انتى كمان في قبرك ياقلب أختك.
لترفع تلك الصورة في يدها تتأملها لآخر مرة في حقد قبل أن تمسك قداحة بجوارها وتشعل تلك الصورة بالنار، ثم تلقيها أمامها في تلك المنفضة تراقب تحولها إلى رماد.
كان ياسين يتناول الطعام في هدوء، تجاوره أخته دارين على يمينه بينما جدته على يساره، أنهى ياسين وجبته ثم امسك منديله ومسح فمه بهدوء وهو يرمق دارين وجدته اللتان تناولتا القليل من الطعام وتنظر كل منهما الآن للأخرى بقلق، قال ياسين في هدوء:
هتتكلموا ولا أقوم أرتاح في أوضتى أحسن؟
تبادلت الجدة مع دارين النظرات قبل أن تأخذ الجدة نفسا عميقا ثم تقول:.
بصراحة ياياسين، أختك ملت من قعدة البيت واقترحت عليها تشتغل، وطبعا عشان مقلقش عليها قلتلها تشتغل معاك وأهى تبقى تحت عنيك، قلت إيه؟
نظر ياسين الى دارين قائلا:
انتى حابة تشتغلى بجد يادارين ولا عايزة تشغلى وقتك وخلاص؟
ابتلعت دارين ريقها قائلة:
لأ حابة طبعا أشتغل، واكيد هكون مبسوطة لو اشتغلت معاك يا ياسين.
رمقها ياسين متفحصا وهو يقول:.
احنا الشغل عندنا مفيهوش هزار، ولا عشان انتى اختى هتتعاملى معاملة خاصة، هتقدرى تتحملى ضغط الشغل؟
أخذت دارين نفسا عميقا قبل أن تقول بثبات:
هقدر.
أومأ ياسين برأسه قائلا:
خلاص مفيش مشاكل، جهزى نفسك ومن الصبح هتنزلى معايا الشغل.
ابتسمت دارين في فرحة وأسرعت بالنهوض لتقبل أخيها في وجنته قائلة:
ربنا يخليك لية يا ياسين.
ابتسم ياسين فأسرعت دارين باتجاه حجرتها ليوقفها صوت ياسين قائلا:
رايحة فين؟مش هتكملى أكلك؟
أرسلت له قبلة هوائية ثم قالت:
لأ شبعت، هروح اجهز شوية حاجات عشان بكرة.
تابعها كل من الجدة وياسين بعيونهم، حتى اختفت ليلتفت ياسين الى الجدة قائلا:
انتى متأكدة ان فكرتك دى صح؟
ابتسمت الجدة قائلا:
أكيد متأكدة، بكرة تشوف انها لما هتشتغل هتنسى مروان خالص، غير انها لما هتشوفه وتعرفه من قريب هتكتشف انها محبتهوش أصلا وانه كان مجرد افتتان.
تنهد ياسين قائلا:.
يارب ياتيتة يكون معاكى حق، والا كلنا هنضيع وأولنا دارين.