روايات شيقهرواية سيدة الأوجاع السبعة

رواية سيدة الأوجاع السبعة للكاتبة رضوى جاويش الفصل العاشر (ضحكة)

ضحكة

طرقات على الباب في الساعة المتفق عليها جعلتها تندفع لتفتح، وقفت لحظة أمام المرآة تعدل من هندامها ووضع غطاء رأسها قبل أن ينفرج الباب عن محياه الطفولي المهذب..
ابتسم في أريحية هاتفا: – السلام عليكم، ارجو اني اكون متأخرتش!؟
أكدت شيرين وهي تفسح له الطريق مشيرة له بيدها ليدخل مغلقة الباب خلفه هاتفة: – لا ابدا يا دكتور، حضرتك جيت فالميعاد بالدقيقة..

توقف ما أن وصل الردهة منتظرا حتى أشارت له من جديد تسبقه: – اتفضل يا دكتور علاء، ماما منتظراك جوه..
دخلت شيرين حجرة امها وخلفها علاء متنحنحا في تأدب لتجد امها وقد غفت قليلا كعادتها..
انحنت شيرين تربت على كتفها هامسة: – ماما، ماما، الدكتور هنا..
فتحت عينيها تتطلع حولها في تيه هاتفة: – هو فين الدكتور ده يا ببنتي..!؟.

أشارت شيرين نحو علاء محاولة امساك ضحكاتها وعلاء يدفع بناظريه للأعلى في نفاذ صبر لتهتف مؤكدة: – اهو يا ماما، الدكتور علاء الدغري..
هتفت امها في تلقائية صدمته: – معلش يا بني، العتب ع النظر..
هم علاء بأن يجيب مبتسما إلا أنها استطردت: – افتكرتك عيل من العيال اللي بيخدوا درس عند المدرس اللي فوقينا وخبط علينا غلط..

تلبدت سحنته هاتفا: – عيل غلط فالدرس هيكون هنا بيعمل ايه يا حاجة!؟، والنعمة انا الدكتور، اطلع الكارنيه!؟.
هتفت شيرين في محاولة لترطيب الأجواء الملبدة بالغيوم: – مفيش داعي يا دكتور، اتفضل، اتفضل..
جلس علاء على طرف الفراش واضعا حقيبته وبدأ في فحص امها في إتقان ومهارة، استطاع بسهولة كسب ثقة أمها التي دوما ما تثير حنقها لرفضها الإذعان لأوامرها حفاظا على صحتها..

هتفت شيرين: – والله يا دكتور ما بتسمع كلامي خالص..
هتفت ام شيرين بنبرة طفل مشاكس: – مش لما تبقي تسمعي أنتِ كلامي الأول!؟.
نظرت لها شيرين محذرة هاتفة بنبرة عاتبة: – ماما..
هتفت امها وعلاء يرفع إحدى ذراعيها فاحصا: – بلا ماما بلا بتاع بقى، دماغك ناشفة زي ابوك الله يرحمه..
تدخل علاء بأريحية في الحوار
هاتفا: – والله كلهم كده يا حاجة، ليا تلت اخوات بنات دماغاتهم حجر صوان، نشفوا ريقي على بال ما جوزتهم..

هتفت ام شيرين وقد استرعى حديثه انتباهها كليا وتساءلت في تعجب: – جوزتهم!؟، لهو انت عندك كام سنة يا بني!؟.
ابتسم علاء مؤكدا: – عندي سبعة وتلاتين سنة يا حاجة..
هتفت ام شيرين: – بس شكلك صغير قوي..
اتسعت ابتسامة علاء مؤكدا: – نعمة من رب العالمين، اهو بيعوضني عن عمر الشقى اللي فات بشكل صغير..

هتفت ام شيرين وقد انشرح صدرها تنظر إلى شيرين بنظرة ذات مغزى ادركتها هي من فورها وتطلعت الى السماء تطلب العون والمدد الإلهي حتى لا تضعها امها في موقف محرج كما يحدث دوما ما أن يلوح اي مذكر بالأفق: – وماله الشكل الصغير، ده حتى تبقى شباب طول العمر، اهي شيرين زيك، حاجة كده صغيرة، مش طلعالي خالص، طالعة لأختى فوقية الله ير..

هتفت شيرين مقاطعة أمها: – يا ماما متدوشيش دماغ الدكتور بالعيلة وعيلة العيلة، هو ماله بالكلام ال…
قاطعها علاء هاتفا كأنه لم ينتبه لاعتراض شيرين هاتفا: – بتقولي مالها بقى اختك فوقية يا حاجة!؟.
تطلعت إليه ام شيرين في سعادة وبدأت في سرد حكاياتها: – بقولك انها كانت زي شيرين كده الخالق الناطق، بس ما قلتليش، انت متجوزتش ليه بعد ما جوزت اخواتك البنات، لازم بقى تشوف نفسك..

شهقت شيرين هاتفة في حنق: – يا ماما ايه اللي بتقوليه ده!؟، هو حر، ما يتجو..
قاطعها علاء من جديد كأنها غير مرئية وكلامها غير مسموع من الأساس هاتفا في مرح: – عندك عروسة يا امي!؟.
همت ام شيرين بالحديث إلا أنها تنبهت هاتفة في شيرين مؤنبة: – الله، امال فين قهوة الدكتور يا شيرين!؟، يقول علينا بخلا ولاه ايه!؟.
وتطلعت الى علاء في محبة متسائلة: – ولا تشرب عصير يا دكتور!؟.

رفع علاء رأسه عن فحصه مؤكدا: – اه يا ريت عصير..
هتفت ام شيرين به: – احلى عصير، عقبال ما نشرب شربات فرحك..
رفع علاء كفيه داعيا في أريحية: – يااارب..
لتقهقه أم شيرين في سعادة بينما اندفعت شيرين لخارج الغرفة تحضر له العصير مبتعدة عن امها وذاك الطبيب المخبول..
تطلعت للمرآة في فخر فقد استطاعت استعادة وزنها السابق في فترة وجيزة، كان الجميع يحبط عزيمتها على المضي في سبيلها لتحقيق هذا الهدف لكنها استطاعت..

ارتدت ذاك الثوب الجديد الذي ابتاعته خصيصا لتحتفل وتهنئ نفسها بإنجازها الضخم..
وصلت لعملها تشعر بسعادة بالغة أن ما كانت تصبو إليه قد تحقق، فها هي تسمع الى همسات من هنا وهناك تؤكد أن كمال على خلاف مع تلك الحيزبون التي كان ينوي الزواج منها، أن خطة سالم تسير على ما يرام بحق..

كانت في طريقها لمكتبها عندما توقفت مصعوقة تكاد تصطدم بأحدهم وهو خارج باندفاع من أحد المكاتب، كان هو، كمال، لكم تغير!؟، كانت تستشعر أنها لم تره منذ زمن بعيد وفي نفس اللحظة تحس أنه لم يغب عنها ابدا، مشاعر متناقضة حد الجنون لن يعترف بها إلا أصحابها ولن يصدق مرارتها الممزوجة بحلاوتها الا من كابدها..

تطلع كمال إليها في صدمة حقيقية فرغم كونهما زميلين بنفس المؤسسة إلا أنه ما توقع يوما أن تعود لعملها وتصطدم به وهو في هذه الحالة من الثورة والغضب..
تقهقر للخلف خطوتين وظل يتطلع إليها في نظرة اعجاب افتقدت مرآها مطلة صارخة بهذا الوضوح من عينيه لسنوات خلت..

قررت قطع التواصل بينهما لتندفع راحلة من أمام ناظريه دون أن تنبس بحرف مستشعرة نظراته التي استدار ملقيا إياها لتلاحقها تكاد تحرق ظهرها لتبتسم في ثقة تكاد تصرخ سعيدة في جنون..

كانت قد أنهت الجلسة العلاجية لتوها عائدة إلى حجرتها مع احدى الممرضات التي هتفت متسائلة بتخابث: – اول مرة تاخدي الجلسة ودكتور عبدالرحمن مش معاكِ!؟.
هتفت أمل ولم تع نبرة الخبث العطن الرائحة المبطنة لتساؤلها الغير برئ: – ربنا يكون فعونه، اكيد مشغول، هو يعني موراهوش عيانين غيري!؟.
هتفت الممرضة ساخرة: – الظاهر كده، ده مركز قوي فحالتك انتِ بالذات..

هتفت أمل وقد بدأ عقلها المشوش من ربط الكلمات ببعضها ليعطي مدلول واحد غير مستحب على الاطلاق فهتفت في حنق: – أنتِ قصدك ايه!؟ الدكتور عبدالرحمن حد محترم ودكتور شاطر وبيهتم بكل مرضاه وانا مجرد واحدة منهم..

قهقهت الممرضة هاتفة وأمل تجذب كفها من بين يديها التي كانت تسندها حتى وصلت لفراشها: – ومالك زعلانة ليه كده!؟، وهو حد طايل، ده من يوم طلاقه مفيش واحدة قدرت تخليه يفكر فيها حتى، بس ربنا يستر بقى، انت عارفة لو مراته، اقصد طليقته شمت خبر، قولي على وجودك هنا يا رحمن يا رحيم..

هتفت أمل في حنق مجاهدة للرد على هذه الثرثارة: – بقولك ايه!؟، شيلي الكلام ده من دماغك، جواز ايه اللي هفكر فيه!؟، مش لما ابقى اخف وأخرج من اللي انا فيه ده الأول!.
هتفت الممرضة مؤكدة: – انا لو منك مسبش الفرصة تروح من أيدي، دكتور عبدالرحمن ميتعوضش..

ألقت الممرضة كلماتها الأخيرة في عجالة وانصرفت تاركة أمل تتعجب مما يجري حولها، انها مريضة بمرض عضال قد لا تشفى منه، تجاهد متشبثة بالحياة من أجل ولدها ولا يشغل بالها الا الشفاء، كيف لها أن تشغل عقلها بمثل هذه الترهات!، وكيف يمكنهم اتهام دكتور عبدالرحمن بكل إخلاصه في عمله بمثل هذه الحماقة المهنية – بتفضيل أحد مرضاه- والتي لا يقترفها الا غر مبتدئ لا طبيب مخضرم في مثل نضجه العقلي!؟، أنها دعابة سخيفة لا ترق أن تكون حتى مجرد خاطر يشغل بالها، أغمضت عينيها في استسلام تام وراحت في نوم عميق..

وقفت هذه المرة أمام الكاميرا أكثر ثقة من سابقتها وقد أدركت أن وقفتها هذه هي الوسيلة التي تخبر بها نفسها قبل العالم أجمع أنها هنا ولاتزال حية وقادرة على العطاء ومشاركة المحبة..

ابتسمت في أريحية وبدأت عبارات الترحيب وتأكيدها في سعادة أنه أصبح لها فقرة ثابتة في برنامج أكلة وغنوة وهذه الفقرة ستكون بعنوان دعوة من القلب هتفت في شجن وهي تضع أمامها بعض من مكونات طبختها المختارة من الجمهور: – انا اخترت الاسم ده بالذات لأني في لحظات كتير من حياتي كنت مستنية حد يطبطب عليا حتى ولو بدعوة بسيطة تسعدني، ياللاه ندعي لبعض، فأعظم الحب دعاء، كل اللي حابب ندعيله بظاهر الغيب يبعت لنا ويكلمنا، ويطلب أكلته المفضلة، واشوفكم بعد الفاصل..

وضع حاتم الفاصل الإعلاني من تلك الاعلانات التي بدأت تنهال عليهم وصفق في سعادة مهللا بينما ابتسم عبدالغني في حبور واقترب منها في هدوء هامسا: – برافو، انتِ بقيتي محترفة، شكلك هتكلي مني الجو، ورغم كده مبسوط قووي عارفة ليه!؟، لانك كنتِ محتاجة ده، محتاجة ترجعي لإحسان الحقيقية..

تطلعت نحوه لا تع ما يقول وليس لديها ما تجيب به على ألغاز يتفوه بها، همت ان تستفهم لكن حاتم قاطعها مؤكدا رجوعهم للبث ليرفض عبدالغني الخروج من الكادر مؤكدا أنه سيكون مساعدها في هذه الفقرة، وبدأ في تشغيل اغنية بالخلفية رغم أنها تبعث على السعادة الا أنها استشعرت بها رسائل مبطنة لا يمكن أن تكون مخطئة في تفسيرها وخاصة وهو يبتسم كل هذه الابتسامات الخلابة التي توترها وهي تتناول منه المكونات تضعها بتشتت محاولة تجميع كل ذرة من تركيزها كي لا تضيع خلف تفسيرات تذهب بثباتها، وها قد بدأ في الغناء بأريحية مرددا وهو يمد لها يدا بعلبة السكر: – ابتديت دلوقت بس احب عمري، ابتديت دلوقتي اخاف للعمر يجري..

رنين هاتفها المتواصل جعلها تسرع نحوه في انتظار سماع ذاك الخبر الذي تنتظر، كان اسم سالم ينير الشاشة ما جعلها ترد في لهفة: – ها حصل!؟.
هتف بها سالم في نبرة ممتعضة: – طب حتى قوليلي ازيك الأول!؟، بس انا مسامح، لهفتك دي انا حاسس اضعافها لأن اجتماعنا قرب يا نجوى..
صمتت وتوترت لكلماته واضطربت معدتها لكنها تمالكت نفسها هاتفة في محاولة لاصطناع الصدق: – أه طبعا يا سالم، بس طمني، ايه اللي حصل..!؟.

هتف سالم متفاخرا: – هو انا اوعدك بحاجة ومتتحققش برضو!؟، سابها من يومين، وجالي كالعادة يشكي ويبكي، زي ما جالي يوم ما طلقك، قال ايه مكنش عايز الحكاية بينكم توصل لكده، بس ده كان شرط السنيورة وهو كان معمي وفتح..

ضربات قلبها تضاعفت وتضاعفت حتى أنها استشعرت دوار خفيفا لوقع الكلمات على روحها، لقد كان نادما إذن على طلاقه لها!؟، حسنا، ستريه أن الأمر كان عندها يساوي حياتها وأنها كانت يومها تخشى الفقد لكنه أعطاها القوة لتواجه مخاوفها بكف عارِ وتنتصر عليها..
هتفت نجوى في امتنان مصطنع: – تسلم لي سالم، دايما سداد..
هتف سالم في عجالة: – طب اجي اطلبك امتى؟!.

أكدت في هدوء: – قريب قوي يا سالم، هبلغك بالميعاد عشان اكون بلغت بابا وماما بكل حاجة..
هتف في شوق: – طب إنجزي بقى، انا اهو عملت اللي عليا فالإتفاق ودفعت لك مهرك اللي طلبتيه..
همست: – حاضر يا سالم، ربنا يسهل..
تعللت أن ابيها يناديها وأغلقت الهاتف متطلعة لنفسها بالمرآة مبتسمة في انتصار..

طرقات على باب غرفتها جعلتها تدرك أنه قد حانت اللحظة التي كانت تخشاها لكن هي تدرك تماما أن لا مفر منها وعليها مواجهتها أن عاجلا ام اجلا..

دخل حماد مصطحبا إياها، عروسة الشابة، والتي دخلت في حياء منكسة الرأس، تقدم حماد في أريحية طابعا قبلة على جبين حورية التي كانت عيناها ما تزل تنصب على صفية التي لم تبرح موضعها الا عندما جلس حماد جوارها على طرف الفراش هاتفا بعروسه: – ايه يا صفية!؟، هتفضلي واقفة مكانك كتير!؟، تعالي سلمي على حورية..
تقدمت صفية في وجل وهتفت في نبرة مضطربة: – ازيك يا ست حورية!؟، يا رب تكوني بخير!؟.

أكدت حورية بصلابة تحسد عليها: – تمام يا صفية، كويسة بفضل الله..
توجهت حورية بحديثها لحماد هامسة: – حماد..
وأسرت إليه أمرا ما لم يتناه لمسامع صفية ولا حاولت حتى استراق السمع..
نهض حماد مادا ذراعيه حاملا حورية في أريحية شديدة نظرا لنحول جسدها واتجه بها للخارج لتفتح له صفية الباب في سرعة لينحرف بها خطوات نحو الحمام..
هتفت صفية في تهور: – هي الست حورية عايزة تستحمى!؟، طب ما انا اساعدها يا سي حماد!؟.

هتف حماد وهو يضع حورية داخل الحمام على مقعد مخصص لها: – لا يا صفية، حورية متعودة على..
قاطعته حورية في هدوء: – وماله يا حماد، خليها تيجي تساعدني..
تطلع حماد لحورية في شك لكنها اومأت برأسها في ثبات راغبة في بقاء صفية لينصاع حماد لرغبتها متجها صوب الخارج متطلعا لصفية في محبة غامرة وابتسامة بشر..
اغلق الباب خلفه لتندفع صفية في حماسة تجاه حورية هاتفة: – تحبي اساعدك ازاي!؟.

تجاهلت حورية سؤالها هاتفة: – مبسوطة يا صفية!؟.
أكدت صفية في اضطراب لسؤالها المباغت: – اه يا ست، فضل ورضا، هو انا كنت اطول!؟.
هتفت حورية في نبرة تحمل بعض الغبطة: – وليه مطوليش!؟، انا شايفة قدامي قمر..
هتفت صفية في امتنان: – ربنا يراضيكي يا ست، قمر ايه بس!؟، وبعدين ايه الفايدة وانا عشتي كانت مرار مع راجل وراني العذاب ألوان!؟.

هتفت حورية في فخر: – راحت خلاص الايام دي، انت على زمة حماد، يعني راجل على حق..
ثم لانت نبرتها خامسة: – خلي بالك عليه يا صفية، حماد ده عملي الطيب اللي ربنا قعدهولي يوم ما احتجت سند وضهر لما الدنيا كسرتني..
هتفت صفية بصدق: – قادر يشفيكِ يا ست الناس..
هتفت حورية وهي تتجرد من بعض ملابسها تلقيها جوارها في موضع مخصص لها: – من قلبك يا صفية!؟

أكدت صفية في عجالة: – ربك العالم بالنية يا ست، هتمنالك الشر ليه وانتِ سبب الفرح اللي انا فيه ده كله!؟.
هتفت حورية في تعجب: – مين اللي قالك اني سبب كل ده!؟.
أكدت لها صفية وهي تمرر الليف وبعض الصابون على ظهرها: – سي حماد هو اللي قالي أنه لولاكِ مكنش فكر أنه يتجوزني، يبقى دي جميلة عمري ما انسهالك وخصوصي انك عارفة ازاي كنت عايشة تحت رحمة ابو العيال..

ابتسمت حورية في امتنان لحماد فما خلف يوما توقعاتها، كان وسيظل ذاك الرجل الأصيل الذي اختارت وكان فضل الله عليها كبيرا يوم أن اهتدت إليه وهُدي إليها..
انحنت صفية تجلس على كرسي منخفض حتى تستطيع تدليك اقدام حورية هاتفة لها في أريحية: – والله يا ست حورية، انا مكنتش عايزة من الدنيا الا الستر واني اربي عيالي بالحلال، وعشان النية صدق ربنا وقعني فيكم..

هتفت حورية في سخرية: – يا ترى هتفضلي تقولي الكلام ده لحد امتى يا صفية!؟.
أكدت صفية في نبرة تحمل صدق العالم: – لحد ما اموت يا ست، انا فقيرة اه، لكن بنت اصول واعرف احفظ المعروف واصون الجميل ومعضش فاليد اللي اتمدت لي ولو على رقبتي..
ابتسمت حورية هاتفة بلهجة العالم ببواطن الأمور: – كله بيبان، كله مسيره فلحظة يظهر ويبان يا صفية، ياللاه، انا عايزة أخرج..

نهضت صفية تجفف كفها ووجهها من رزاز الماء الذي تناثر عليها وفتحت الباب تنادي حماد الذي قدم على عجل ليعود بحورية لفراشها الذي ما أن دثرها بغطائه حتى مدت يدها تحتضن كفه تلثمه في امتنان ليرد عليها مبتسما قبل أن يتركها بناء على رغبتها لتنام..

خرج من الغرفة ليجد حورية قد رتبت الحمام وفي سبيلها لشقتها، كانت تعتقد أنه بالداخل مع حورية فاتجهت صوب الشقة التي ما أن دفعت بابها حتى شهقت في صدمة وحماد يحملها للداخل مغلقا الباب خلفه لترتفع قهقهاتها لأفعاله التي ما ظنت أنها قد تصدر منه يوما، لكن هاهو يظهر لها وجها آخر رائع ككل أوجهه التي باتت تعشق..

وقفت أمام مرآة الحمام تنزع عنها غطاء رأسها، تتطلع إلى شحوب وجهها وكفيها الزرقاء من أثر العلاج الكيميائي..
وضعت حجابها جانبا ومدت كفها لشعرها الحريري الذي كان اجمل ما تملك، وبدأت في تخليل أصابعها بين خصلاته في محبة، لتتساقط الجدائل في تتابع، كان من الأفضل لها أن تتخلص منه كليا حتى لا تستشعر مرارة الفقد كما يحدث الآن لكنها لم تشأ ذلك، كانت كمن يعطي نفسه درسا في التحمل والجلد، درس قاس..

تطلعت أمامها بالمرآة وهمست لنفسها: – انا اقوى، وكل ده في يوم من الايام هيكون ذكريات، مش كده يا أمل!؟.

سألت نفسها واجابتها بالمرآة في ايماءة من رأسها الذي بدأ يتخلص من تاجه، سالت دموعها، لم تكن دموع حزن بقدر ما كانت دموع محبة، فلقد علمتها هذه المحنة أن تحب نفسها بحق وأن تدرك أن لا شئ أغلى عند الإنسان من ذاته، وان تحب نفسك لهو أساس محبتك للأخرين، كان ذاك المفهوم غائب عنها في حياتها السابقة مع أمجد، كانت على الهامش حتى بالنسبة لنفسها، تركن على أرفف الأيام رغباتها ومشاعرها واحتياجاتها في سبيل تحقيق رغباته وتلبية احتياجاته لتكتشف بالاخير أنه حتى محبتك لشخص فوق حدود محبتك لنفسك لا تشفع لك عنده وان حاولت يوما تعديل الأمور لتعود لنصابها الصحيح ستكتشف أن هذا ما عاد ممكنا، فعليك أن تستمر في العطاء حتى ولو مرغما ويستمر هو في الأخذ متغافلا رغباتك ومشاعرك بلامبالاة عجيبة تشعرك كم كنت انت وكل ما تقدمه رخيص بنظره، مجرد فتات لا يرق لطموح متطلباته، فقط لأنك المتاح لا غيرك، انت هنا لتحقيق مأربه حتى يجد بديلك المناسب، انت مجرد منديل متعدد الاستخدامات ما أن يتأكد أنه ما عاد يصلح للمزيد سيلق بك بطول ذراعه بلا ذرة تفكير…

وضعت غطاء رأسها من جديد ومسحت دمعها وتطلعت من جديد لمرآتها هامسة: – اللهم قوة..
واندفعت لخارج الحمام عندما تناهى لمسامعها صوت خطوات ابيها المتمهلة داخلا الغرفة باحثا عنها في لهفة..

فتحت الباب معتقدة أنه عبدالغني يدعوها لمناقشة موضوع الحلقة المقبلة بعد ذاك النجاح الساحق الذي حققته فقرتها الإنسانية وكم الرسائل على صفحة البرنامج من اصحاب الأوجاع الراغبين في دعوة خالصة من القلب من أجل تفريج كربة أو إزاحة هم لم تهدأ قط، لكن الطارق كان عامر ولدها، تنهدت تاركة الباب مندفعة للداخل، فيبدو أن زيارته أصبحت موقوتة بعرض أحدى حلقات البرنامج وها قد جاء ليسمعها التقريع واللوم على فعلتها الشنعاء كما حدث بالمرة السابقة..

دلف عامر للداخل مغلقا خلفه الباب في هدوء وجلس جوارها مطرقا الرأس..
تطلعت إحسان إليه لتدرك أن الأمر لا يتعلق ببرنامجها على الاطلاق وانما الأمر جلل..
هتفت في نبرة متوجسة: – مالك يا عامر!؟، شكلك مش طبيعي، انت ومراتك والبنات كويسين!؟.
هز عامر رأسه في إيجاب رافعا كفيه يمسح بهما وجهه هاتفا: – كلنا كويسين يا ماما، لكن..
هتفت تتعجله: – لكن ايه!؟، ما تنطق يا بني..

هتف عامر بنبرة تحمل هم الدنيا: – البيت، طلع في الإزالة..
هتفت أمه بعدم تصديق: – بيت ايه!؟ بيت ابوك!؟، طلع فالإزالة ازاي!؟
أكد عامر مفسرا: – يعني لازم يتهد عشان طلع في التخطيط، هو وكذا بيت في المنطقة، بابا حاول المستحيل عشان يمنع ده بس مفيش فايدة..

تطلعت إليه في ذهول ولم تفه بحرف ليستطرد عامر متنهدا: – المصيبة أن التعويض ملاليم، ميجبوش الا شقة واحدة فالزمن ده، طبعا هاتبقى لبابا والهانم الجديدة اللي كان قدمها سعد الصراحة، وانا ومراتي وعيالي بقينا فالشارع ولا فيه إمكانية زي ما انت عارفة اني ادفع ايجار ومش عارف اعمل ايه!؟، اللي يضايق أني قلت لبابا اخد انا الشقة وهو يعيش مع مراته فبيتها تروح تقوله لا، ده بيت عيالي ومدخلش فيه راجل غريب عليهم والمفروض هو اللي يجيب لها شقة مش العكس..

تنهدت رابتة على كتفه في تعاطف: – ربنا يدبرها، ع العموم البيت هنا واسع وانا عرضت عليك قبل كده تيجي انت ومراتك تعيشوا معايا بس انت اللي اتحججت بكذا حجة، البيت تحت امرك يا عامر، بيت جدك ياما شال حبايب وهيفضل مفتوح للكل، شوف امتى تقدر تيجي وربنا يسهل..
ابتسم عامر للمرة الأولى منذ قدومه وضم أمه في سعادة هامسا: – ربنا يخليكي ليا يا امي، عمري ما اتحوجت لك و ردتيني..

قبلته في حنو هاتفة: – ربنا يسعدك يا حبيبي، ياللاه روح جهز امورك، وانا مستنياكم تنوروني..

رحل عامر تاركا اياها تستعيد كلماته وشعرت أن الله يرد لها حقها، فها هو البيت الذي طردت منه من أجل إفساح المجال لامرأة أخرى تحتل موضع ذكرياتها وعمرها على وشك الإزالة، ذاك البيت الذي كان محرم عليها أن تقول عليه لفظة بيتي الا وصرخ توفيق في كبر، ده بيتي انا وانا حر، كلكم ضيوف عندي، انا بس اللي اقول مين يقعد ومين يمشي.

نعم لقد كان بيته بكل ما تعنيه الكلمة من معنى حتى ان اثاث البيت كان محرم عليها تحريكه من موضعه كما يترأ لها إلا بعد أخذ إذن منه وبعد إلحاح عدة مرات وقد يرفض بالأخير، لم يكن أبدا بيتها، هنا فقط بين جدران شقة ابيها شعرت أنها تسكن بيت تنتمي إليه بحق..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى