روايات شيقهرواية سيدة الأوجاع السبعة

رواية سيدة الأوجاع السبعة للكاتبة رضوى جاويش الفصل السادس

الوجع السادس

طرقات على باب شقة ابيها جعلت سليم يندفع ليفتحه ليصرخ في سعادة: – بابا، وحشتني..
احتضنه أمجد في ألية خالية من المشاعر متسائلا: – فين ماما!؟.
هتف والد أمل ساخرا: – الناس بتسأل على صاحب البيت الأول يا أمجد، ولا أيه!؟.
صمت أمجد للحظة وبعدها هتف في نبرة معتذرة: – أزيك يا عمي..

أشار له أبوها بالدخول لغرفة الصالون متعمدا معاملته كالضيوف ليتنبه لذلك ممتعضا يتبعه في هدوء ظاهري، جلس وقبالته جلس حموه متسائلا: – خير!؟.
هتف أمجد بلا مواربة: – عايز اشوف مراتي..
هتف ابوها: – مراتك اللي عيانة بمرض خطير محتاج علاج وانت بخلان عليها بتمنه وعايز تتجوز عليها بفلوس علاجها، مراتك اللي حبستها ساعات من غير وسيلة اتصال ولو كان حصل لها حاجة مكنش حد قدر ينجدها، ولا..

هتف أمجد محاولا تمالك أعصابه: – لو سمحت يا عمي ناديها، انا عايز اتفاهم معاها..
تطلع إليه ابوها في غيظ لكنه اثر الصمت ونادى على ابنته التي ظهرت على أعتاب الباب هاتفة: – نعم يا بابا.؟!.
أمرها ابوها: – تعالي اقعدي مع جوزك وشوفي هو عايزك فأيه..
تنهدت في قلة حيلة غير راغبة في معارضة ابيها وتقدمت لداخل الغرفة تجلس موضع ابيها الذي رحل مغلقا الباب خلفه في هدوء..

تطلعت أمل إليه في صلابة متسائلة: – خير يا أمجد!؟، ايه اللي جابك.؟! جايب لي دعوة فرحك..!؟.
قالت كلماتها الأخيرة ساخرة مما دفعه ليهتف في حنق: – بلاش الأسلوب ده يا أمل، انت مالك!؟، ايه اللي جرالك!؟، مكنتيش كده!؟.

قهقهت أمل في وجع هاتفة: – مكنتش كده اللي هو ازاي!؟، مكنتش بتكلم لما ألاقيك جاي دايما على حقي وانا ساكتة واقول بيتي وابني!؟، ولا مستغرب ازاي اعترض انك تتجوز جارتي وصاحبتي بالفلوس اللي المفروض تبقى لعلاجي!؟، ولا ايه بالظبط!؟.
هتف أمجد في حنق: – انا معملتش حاجة غلط، من حقي اتجوز وبدل الواحدة أربعة..

هتفت أمل في حنق: – صح من حقك، بس انت مكنتش مكفيني ولا مكفي بيتك من كله عشان تقول اتجوز تاني ولا انا كنت مقصرة معاك فحاجة عشان تفكر تتجوز لأني أهملت فيك، ايه عذرك!؟، فراغة عين!؟، ولمين!؟، لجارتي اللي انت اول ما كانت تيجي سيرتها يركبك مليون عفريت وتفضل تقول فيها ما قاله مالك فالخمر، مش شيرين دي اللي مكنش بتقول عليها إلا العانس!؟ ايه اللي اتغير، ايه!؟، فكرت انك تنفذها من العنوسة!؟، ولا كنت فاكر عشان هي عانس هتقبل بيك!؟

هتف أمجد مؤكدا: – انا حر، كانت هي أوغيرها، انا حر، واعتقد أن دلوقت بقى عندي مبرر كافي اني اتجوز واحدة تانية..
تطلعت إليه أمل في وجيعة تمزقها هاتفة في تساءل هي أول من يعلم إجابته المرة كعلقم: – انت قصدك ايه!؟.
أكد في ثبات متغطرس: – من حقي اتجوز ست تخدمني وتكفيني، لأنك عيانة، وبمرض صعب الشفا منه، ومكلف كمان..

هتفت في محاولة للثبات بمجهود خرافي تبتلع الغصات بحلقها قاتلة الدمعات بمقلتيها: – أمجد، انت جاي ليه دلوقت!؟.
أكد في لهجة واثقة كادت أن تدفع بها لتقذف اقرب مزهرية بوجهه: – عشان ترجعي معايا..
تساءلت من جديد: – عشان!؟.
هتف محتدا: – عشان ده الطبيعي، ترجعي بيتك، وتقومي بواجباتك الزوجية لأخر نفس، ده دورك كزوجة..
هتفت به في حنق: – ودورك انت كزوج فين!؟.

تساءل ساخرا: – وانا قصرت فأيه!؟ انا عامل اللي عليا وزيادة..
هتفت ساخرة: – انت متأكد!؟، طب وانا، وصحتي!؟، وعلاجي!؟.
أمجد، انت بتحبني..!؟.

تطلع إليها كأنها ممسوسة تسأل عن غيبيات لا علم له بها وعلى الرغم من اعتقادها أنه سيتجاهل الرد إلا أنه رد في هدوء مؤكدا: – كنتِ اختيار امي، ولقيت انك تنفعي زوجة صالحة وام لأولادي، لكن الحب والكلام الفاضي ده ميأكلش عيش، ملوش وجود اصلا، ده كلام روايات زي اللي بتحبي تقريها بيضحكوا بيه ع السذج اللي زيك..

ساد الصمت لبرهة مؤكدا لها من جديد: – انتِ ملكيش عندي الا اكلك وشربك وكسوتك، علاجك ده على أهلك، مليش فيه، ولحد ما نشوف هيحصل ايه بعد العلاج هتفضلي فبيتي قايمة بواجباتك، حتى لو حصل وقابلتي ربك، تضمني الجنة لأني هبقى راضي عنك..

همت بالحديث إلا أن ابيها اندفع محتدا لداخل الغرفة في تلك اللحظة هاتفا في ثورة: – انا سامع كلامك من برة وكنت منتظر منك انك تطلع ابن اصول وتعترف بغلطك فحق أمل، لكن الظاهر التعامل مع امثالك بالحسنى مبيجبش نتيجة، اتفضل من غير مطرود ووفر اللقمة والهدمة اللي كنت هتتفضل على بنتي بيهم وانا متكفل بيها وبعلاجها، اتفضل..
تطلع إليها أمجد في غيظ متسائلا: – أنتِ موافقة على الكلام ده!؟.

تطلعت إليه تجز على أسنانها في محاولة لكبح ثورتها مؤكدة: – ومعنديش غيره، ولو بابا مكنش دخل قاله كنت هتسمعه مني، للأسف ده الرد الوحيد على أمثالك..
اندفع أمجد كالريح من أمامها هاتفا في ثورة وبلهجة تهديدية: – طيب، هتشوفي..

ما أن سمعت صفق الباب خلفه حتى اندفعت بين ذراعيً ابيها تبكي في لوعة، اجلسها ابوها جواره على الأريكة رابتا على كتفها هامسا في حنو: – اهدي يا أمل، اهدي وكله هايبقى تمام، اهم حاجة دلوقت صحتك وعلاجك، لازم نبدأ في العلاج بسرعة..
همست من بين شهقات بكائها: – أمجد مش هيسكت يا بابا، انا عرفاه..

أكد ابوها في حنو: – ولا يقدر يعمل حاجة، ده جعجاع، سيبك منه وركزي في نفسك وصحتك، وبعدين هو انا رحت فين!؟، والله ما يقدر يطول شعرة منك طول ما انا عايش..
همست في راحة بين ذراعيه: – ربنا يخليك ليا يا بابا، بس احساس الحسرة صعب قوي، متحسرة على كل يوم ضاع من عمري جنبه..
لثم ابوها جبينها في حنان لتنهض هي لترتاح قليلا قبل موعد العشاء..

دخلت لغرفة امها في هدوء، كانت تعتقد أنها مستيقظة فهمت بالرحيل إلا أن حورية فتحت عيونها هاتفة تستوقفها: – فيه حاجة يا هناء!؟.
تطلعت الفتاة ذات السبعة عشر ربيعا هاتفة في حدة: – اه فيه، جبت لك حقك من اللي عايزة تخطفه منا..
تطلعت إليها حورية في صدمة عقدت لسانها لبرهة قبل أن تسأل في قلق: – انتِ قصدك مين!؟، وتخطف مين من اساسه!؟.

هتفت هناء مؤكدة: – الهانم اللي سمعتك بتقولي لبابا يتجوزها، انت ازاي جالك قلب تعملي كده!؟، ازاي تسيبيه لواحدة تانية تشيل اسمه اللي اتبنى بفلوسك وممكن تجيب له حتة عيل يشيل اسمه ويشيل معاه الورث كله اللي هو اصلا فلوسك، يعني حقي انا وبس..

صرخت حورية في ثورة: – أنتِ جبتي الكلام ده منين!؟، انتِ بتتصنتي عليا انا وابوكِ!؟، جبتي منين الكلام ده!؟، ده مش كلامك ولا ده تفكيرك، انا عارفة مين اللي حط التخاريف دي فدماغك، مفيش غيرها عمتك..
هتفت هناء في غضب: – ايوه عمتي، مالها!؟، الحق عليها خايفة عليا وعلى حقي، ده انتِ امي رايحة تقوليله اتجوز ومفكرتيش فيا..
صرخت بها حورية هاتفة: – مين دي اللي خايفة على حقك!؟، سعدية!؟.

دي كل اللي يهمها الفلوس وبس، اوعي تفتكري أنها عايزاك لأبنها عماد عشان خاطر سواد عيونك!؟، لا، هي عايزة تضمن أن الورث بعد عمر طويل لأبوكِ هيكون ليها والباقي ليكِ طبعا وتحت تصرف ابنها، لكن لو ابوكِ اتجوز هايبقى فيه وريث تاني هيدخل معاهم ولو خلف كمان وبالذات ولد هاتبقى راحت عليها والولد هيكوش على كل حاجة وتطلع هي من المولد بلا حمص..

تطلعت إليها هناء كالبلهاء هاتفة: – انا مش فاهمة حاجة من اللي بتقوليها بس اللي أنا متأكدة منه أنها عايزة مصلحتي، ما انا هكون مرات ابنها..
قالت كلماتها الأخيرة في هيام واضح مما دفع حورية لتتطلع لأبنتها في حسرة واضحة فلولا مرضها ما تركت أحد يربي ابنتها غيرها وما رأتها بهذا الشكل منقادة وراء توجيهات عمتها ومساقة كالعمياء خلف عشق شخص غير جدير بها..

هتفت حورية اخيرا: – المهم عملتِ ايه في اللي انت وهمانة أنها عايزة تخطف ابوكِ!؟.
ابتسمت هناء في فخر مؤكدة: – رحت لها لحد الحارة اللي عايشة فيها وفضحتها قدام أهلها كلهم، حتى طلع لي راجل من بينهم قالي دي مراتي، ازاي بقى مراته وأزاي بابا عايز يتجوزها!؟
شهقت حورية في صدمة هاتفة: – حرام عليكِ، ده طليقها ومطلع عينها، تفتكري بعد اللي عملتيه ده ممكن يكون عمل فيها ايه هي وعيالها دلوقتي!؟.

هتفت هناء في غيظ: – ما شاء الله، ما أنتِ عارفة كل حاجة عنها اهو، اومال بتنكري ليه أن بابا عايز يتجوزها!؟.
هتفت حورية في محاولة لإقناع ابنتها: – يا بنتي دي عاملة غلبانة ابوكِ بيساعدها عشان ظروفها صعبة، اهدي بقى وخلي عمتك تهدى، مفيش الكلام ده، انا ياما عرضت على ابوكِ يتجوز وهو مرضيش، ارتاحي وريحي عمتك، وربنا يستر من اللي ابوكِ هيعمله لما يعرف باللي عملتيه..

ازدردت هناء ريقها هاتفة بلهجة يملأها الخوف: – هو بابا ممكن يعرف!؟، لا، هيعرف ازاي!؟.
تطلعت لها امها في غيظ: – انا اللي هقوله احسن ما الموضوع يوصله من بره، ما يمكن العاملة دي تروح تشتكيله منك، استلقى وعدك بقى انتِ وعمتك، عشان تبقي تمشي ورا كلامها تاني..

تطلعت هناء لأمها في حنق لكنها لم تنبس بحرف واخيرا اندفعت لخارج الغرفة في ثورة تاركة امها تتحسر على صحتها الفقيدة التي جعلت منها جثة هامدة لا تصلح لتكون زوجة ولا استطاعت أن تكون ام كما يجب لأبنتها الوحيدة..

كانت تقف أمام الموقد تحرك مغرفة بهوادة داخل وعاء المهلبية التي كانت قد نضجت تقريبا..
ابتسمت في حسرة لذكرى بزغت كشمس نهار أمام ناظريها في بداية زواجها بتوفيق، كان لا يحلو له إلا جعلها تصنع المهلبية كحلوى مفضلة لأبيه والذي ما أن ذاقها من صنع يدها حتى أدمنها وآثار ذلك غيرة حماتها فأسماها توفيق منتظرا ب حرب المهلبية..

لم يكن توفيق يفضلها كحلوى لكن ولدها عامر يعشق مذاقها من يدها، يبدو أنه ورث ذلك عن جده لأبيه رحمه الله..
بدأت في سكب الخليط في اطباقه وتركته جانبا ليبرد، كانت تود أن تهادي جارتها الشابة نرمين وزوجها ببعض الأطباق..

بدأت في غسل الوعاء ليتناهى لمسامعها صوت موسيقى ارتفعت لتوها انسجمت معها وبدأت في الغناء بصوت رخيم، لطالما كان صوتها حنونا ونبرته شجية، كثيرا ما غنت وحيدة بصوت عذب أثنى عليه كل من سمعه، اطربت لشدو ام كلثوم ونسيت حالها تماما وهي تشاركها الغناء صادحة: –
الليل…
ودقة الساعات تصحي الليل..
وحرقة الآهات في عز الليل..
وقسوة التنهيد والوحدة والتسهيد..
لسه مهمش بعيد..

سالت دمعاتها على كل ما كان، عمر ضائع، قلب مجروح، كرامة مهدرة، كبرياء مهان، واخيرا وحدة بلا ونيس الا الحسرة والوجع..
رفعت رأسها اخيرا تضع المغرفة بموضعها لتفاجأ بصوت تصفيق حاد.

قادم من النافذة المقابلة، كان يقف يصفق في حماسة كأنه يستمع الى ام كلثوم بذاتها، اخذتها الصدمة حتى أنها ما وعت الا وهي تغلق النافذة بوجهه في عنف تتطلع حولها في اضطراب تحول لغضب على ذاك الجار الثقيل الظل الذي أثار حنقها بالمشفى ثم كاد أن يفرض نفسه عليها بالبقالة لدفع ثمن اغراضها والأن يتطفل عليها بهذا الشكل الفج..

كانت امها تحتضن طفلها بين ذراعيها تهدهده وأبوها جالس بالقرب يتطلع لباب غرفتها المغلق منذ ساعات في قلق وهمس أمرا: – ما تقومي تشوفي نجوى، البت قافلة على نفسها من ساعة ما جت وعرفنا اللي حصل..
تطلعت له امها وهي تمسح دمعاتها عن خديها في وجع عاتبة بصوت مسموع: – والله ما قادرة يا بو نجوى، كل اما اشوفها على حالها ده قلبي بيتوجع عليها اكتر، بقى كده يا كمال، تعمل فنجوى كده!؟.

تنهد زوجها في حسرة على ما آل إليه حال ابنته الأثيرة لقلبه وهمس متمنيا: – كمال بيحبها، واللي حصل ده اكيد غلطة وهتتصلح عن قريب..
ياما البيوت بيحصل فيها..
هتفت الأم بوجع: – بس توصل للطلاق!؟، ليه!؟، ده باع وبالقوي يا ابو نجوى، لا، بنتنا ميتعملش فيها كده..
تنهد الأب في قلة حيلة هامسا: – طب هاتي الواد من أيدك وقومي شوفيها، طيبي بخاطرها، وخليها تاكل لها لقمة، دي مداقتش الزاد من بدري..

اومأت الأم في طاعة تاركة حفيدها هانئا بين ذراعي جده مندفعة تطرق باب حجرة ابنتها التي ما أجابت نداء الطارق..
طلت امها من خلف الباب واخيرا دلفت للداخل متصنعة الصلابة مقتربة تجلس جوار ابنتها التي كانت تتطلع الى الفراغ أمامها مشدوهة كأنما سلب عقلها..
ربتت الأم على كتف ابنتها هامسة في تعاطف: – قومي يا نجوى كليلك لقمة معانا يا حبيبتي، قومي عشان خاطري وخاطر ابوكِ اللي قاعد قلقان عليكِ بره..

لم تجب نجوى بحرف لتعيد امها الربت على فخذها مطمئنة في نبرة تحاول أن تكسوها ببعض الأمل الكاذب مكررة كلمات زوجها التي نطق بها منذ دقائق خلت: – قومي يا حبيبتي والله هي كام يوم وتلاقيه راجع يطيب خاطرك ويردك، هو يقدر يستغنى عنك..
همست نجوى بصوت متحشرج مؤكدة: – قدر يا ماما، قدر يستغنى ومش راجع، انا ضيعته من أيدي ومش هيرجع..

وشهقت في وجع هاتفة في حسرة وهي تلقي بنفسها بين ذراعي امها التي تلقفتها في اشفاق تشاطرها البكاء تعاطفا مع حال ابنتها: – كمال خلاص يا ماما، ضاع من أيدي، راح ومش راجع، وانا السبب، انا اللي عملت فنفسي كده، قال كتير وانا مسمعتش، كنت فاكرة اني ضامنة حبه وأنه مش هيقدر يستغنى عني مهما حصل، بس اهو حصل..

ضمتها امها بين ذراعيها أكثر هامسة تحاول تطييب خاطرها: – يروح، والله ما هيلاقي واحدة تحبه زيك، هو الخسران..
رفعت نجوى رأسها من بين أحضان امها متطلعة إليها بوجه محتقن وعيون منتفخة من أثر البكاء هاتفة في إصرار: – لا يا ماما، انا الخسرانة، خسرت حب عمري، انا محبتش الا كمال وعمري ما هحب غيره، بس خلاص، خسرته..

وانفجرت باكية في قهر من جديد تخبئ خيباتها واوجاعها بأحضان أمها التي هزت رأسها في إشفاق وعاودت دموع الحسرة على ابنتها تغرق وجنتيها..

وقفت أمام باب الشقة المغلق من الخارج تحاول مجرد محاولات هي مدركة تماما بعدم جدواها لفتحه..
بكت في قهر افعال ذاك الحقير طليقها، فقد استشاط غضبا عندما جاءت تلك الفتاة التي ادعت أنها ابنة حماد لتخبرها أمام الجميع أن ابيها له رغبة في الزواج بها، اي حمق هذا.!؟، حماد بيه بكل هيلمانه ينظر إلى عاملة فقيرة تعمل بمصنعه!؟.

عاملة أشفق عليها يوما عندما سقطت فاقدة وعيها لقلة الطعام!؟، والتي أعطاها مالا لتنقذ ولدها من الموت مرضا!؟، اي جنون مطبق ذاك الذي تدعيه الفتاة الحمقاء وصدقه هذا المغفل طليقها مهددا إياها بسحب طفليها من حضانتها وعدم رؤيتهما للأبد!؟.
جلست أمام الباب والحسرة تتأكلها، ترى لو كانت ما تدعيه تلك الفتاة صحيحا ماذا هي بفاعلة!؟، هل ستقبل بكل سعادة، ام ترفض مخافة فراق صغارها!؟.

أغمضت عينيها في ألم قاهر بحجم الكون يعربد داخل حنايا روحها الطواقة ليد تنتشلها من تلك البئر الحالكة السواد القابعة داخلها في عجز..

فتحت عيونها ترهف السمع لصرخات مسعد بالأسفل تحت نافذة بيتها، كان يبدو كعادته مترنحا من أثر مشروب أو عقار ما مؤكدا في احرف متقطعة وبصوت جهوري: – والله يا صفية ما ليك خروج بره البيت ده، يا انا يا القبر، وطالما مش طيقاني زي ما بتقولي، يبقى خروجك م البيت ده على قبرك، قال عايزة تتجوزي قال!؟، على جثتي..

أعادت رأسها للخلف تسندها على الباب هامسة في وجيعة: – انا لا عايزة اتجوز ولا نيلة، انا عايزة اتساب فحالي اربي عيالي وبس..
اندفع طفلاها رعبا من صوت أبيهما الجهوري الصارخ تحت نافذتهم لأحضانها تضمهما في محبة ليهمس ولدها: – انتِ صحيح هتتجوزي وتسبينا زي ما ابويا بيقول!؟.
أكدت صفية وهي تمسح دمعات غافلتها مؤكدة: – لا يا حبيبي، امك مش ممكن تفوتك ابدا، ده انت واختك نور عنيها من جوه..

ضمت صفية طفليها بين ذراعيها من جديد تحميهما تحت جناحها مخافة غدر الأيام..

دفعت الباب في هدوء متعجبة من قدومه بعد آخر زيارة له وما حدث بينهما من حوار محتد تدخل فيه ابوها ليضع حد لمهزلة أقواله العجيبة المنافية لأي منطق..
جلست قبالته هاتفة في ثبات: – خير يا أمجد!؟.
هتف ممتعضا: – طب حتى قولي سلام عليكم..
ابتسمت في هدوء: – وعليكم السلام.

تطلع إليها حانقا من هدوئها ذاك الذي يوتره لكنه يأبى كعادته اظهار مشاعره الداخلية لأي من كان وهتف في ثبات هش: – انا راجعت نفسي وقلت عشان الولد يتربى ما بينا ترجعي البيت، كل اللي بيحصل ده كلام فاضي وبيحصل فكل بيت، والست العاقلة الأصيلة تستحمل وتعيش عشان خاطر البيت يفضل قائم واولادها يتربوا فكنف ابوهم..
هزت رأسها مبتسمة حتى أنهى كلماته وهتفت في رزانة: – وهو انا معملتش كل ده يا أمجد!؟.

أكد معترفا: – لا عملتي، انا مأنكرتش ده يا أمل، انتِ جيتي بس فالأخر و..
قاطعته ساخرة: – وايه!؟، اعترضت!؟.

قلب شفتاه ولم يرد لتستطرد في نبرة متوسطة الحدة: – اعترضت اني بعد كل اللي قلته واللي اتعمل بالحرف لما وقعت ملقتش ايدك اتمدت لي، ده اسميه ايه!؟، ده انت لو ماكنة باظت عندك فالمصنع اللي انت شغال فيه بتعملوا لها عمرة وبتجروا تصلحوها عشان عارفين انكم هتدفعوا دم قلبكم في واحدة جديدة، ومن قبلها بتعملوا لها صيانة عشان تحافظوا عليها، انا محصلتش ماكنة فمصنع يا أمجد، لا كان بيتعمل لي صيانة لمشاعري ولا حرص على رغباتي، ولما المكنة باظت لا مندفعش فلوس نصلحها، نجري نشتري الجديدة بتمن التصليح، عشان القديمة كانت اصلا رخيصة بس اهو قامت باللي عليها وجه وقت طلوعها ع المعاش..

هتف متعجبا: – أنتِ ليه بتفسري الموضوع كده!؟، انا بس المصاريف بتاعت العلاج مش هقدر عليها وباباكِ معاه وهو لوحده ويقدر..

هتفت أمل باسمة في سخرية: – وهو انا على زمة مين!؟، ومسؤولة من مين!؟، مش منك!؟، ده انت حتى معرضتش تعالجني ولو ضاقت معاك تلجأ لبابا، لا، ده انت من اولها عايزه يشيل تكاليف العلاج، يعني لما كنت بصحتي كنت تمام ما انا قايمة باللي عليا لراحتك والمحافظة على بيتك ولما تعبت، خلاص أمل هاتبقى جاية عليا بخسارة ابوها يعالج وتفضل تخدم فيا وتحافظ برضو على بيتي لحد اخر نفس، ما هي دي شروط الست الصالحة اللي الست الوالدة محفظهالك، لكن هي عملت ايه لما جوز اختك رفض يشتري غسالة اطباق لأختك!؟، مرضتش ترجعهاله الا لما اشتراها كهدية صلح، وطالما يقدر يريح بنتي ميجيش ليه، ده كان منطق الست الوالدة، لكن مع أمل، تظهر نظريات الست الأصيلة والمضحية..

هتف أمجد زافرا بحنق: – بلاش نجيب سيرة ماما فكلامنا لو سمحتي.
قهقهت أمل هاتفة: – ومن امتى ده حصل اصلا!؟، ما أمل كانت دائما بتقول حاضر وطيب رغم اني عارفة أن كل اللي بيتقال لي دي تعليمات ماما، ده انت فالاساس هنا وبتكرر كلام ماما اللي بعتتك النهاردة عشان يبقى عداك العيب قبل ما تفكر تجوزك بنت طنط فلان أو علان، ما انا هبقى واحدة ناشز في نظرك طبعا ولازم تجيب لها ضرة عشان تكسرها..

هتف في حدة هاما بالمغادرة: – واضح أن مفيش فايدة فالكلام معاكِ، وانا كده فعلا عداني العيب..
هتفت به أمل في اشفاق: – عارف يا أمجد!؟.

عاد لمقعده من جديد متطلعا إليها متوقعا تراجعها عن قرارها لتستطرد بنفس النبرة المشفقة: – انت بجد صعبان عليا قوي، رغم انك كنت دايما بتحاول تظهر انك راجل فاهم فالدين، لكن عمرك ما عرفت توصل لروحه، عمرك ما اتعاملت معايا على اساس اني السكن عشان كده عمر ما كان بينا مودة ورحمة، للأسف انت اتعاملت معايا بنفس الطريقة اللي شايف انك تستحقها لما بتبص فمراية نفسك..

نظر إليها وكأنها تتحدث بالأحجية أو أصابها مس، لتستطرد في ثبات: – كل راجل بيعامل مراته زي ما بيعامل نفسه لو متجسدة قدامه، مش ربنا اللي قال، خلق لكم من انفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، انا نفسك اللي اتجسدت قدامك، وعاملتني زي ما انت شايف نفسك تستحق، كل راجل نجح فحياته ده لانه عرف قيمة نفسه فعامل مراته بما يستحق فبقى انجح الناس بدعمها، للأسف يا أمجد معرفتش لا تحب نفسك ولا تقدرها عشان كده معرفتش تحبني ولا تقدرني، يا خسارة..

ساد الصمت بينهما لينهض دون أن يعقب بكلمة مأخوذا بأثر كلماتها على نفسه، استوقفته هاتفة في حزم: – أمجد..
توقف قبل أن يبلغ عتبة الباب لكنه لم يلتفت فاستطردت في هدوء: – لو سمحت ورقتي توصلني فاقرب وقت.
لم يعقب على طلبها لا قبولا ولا رفضا بل اندفع مغادرا كأنما سيئات أعماله تلاحقه محاولا منها الهرب ولكن اين المفر!؟.

تنهدت في راحة فقد أنهت مهامها وحان وقت راحتها الفعلية، فتحت حاسوبها وتطلعت إلى صفحته واكملت ما بدأته تفرغ مكنونات نفسها على تلك الصفحات كلما آن لها ذلك..
الحسرة، مرارة بالروح لا يدركها إلا صاحبها، علقم، تتجرعه في صمت عاجز لا قدرة لك على البوح فقد تواطأت كل الظروف ضدك..

حسرة على قرار أُخذ وأخر ليته لم يؤخذ، وبين هذا وذاك، ضريبة اختيارنا الخاطئ يكون تلك الخيبات، والتحسر بأنين مخنوق يؤكد على هزيمتنا أمام اوجاعنا بجدارة..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى