روايات شيقهرواية سيدة الأوجاع السبعة

رواية سيدة الأوجاع السبعة للكاتبة رضوى جاويش الفصل السابع

الوجع السابع

عزيزي القارئ ربما تتساءل اللحظة لما كتبت تعليقي على الفصل بهذه السطور المتقدمة والذي يأتي عادة بنهايته تعقيبا على ما مر من أحداث، الجواب هو أننا بصدد لقاء سيد الأوجاع..
المايسترو..
ذاك الحاضر الغائب..
السبب والمسبب..
الطريق والغاية..

نحن يا سادة بحضرة صاحب الجلالة..
الوجع السابع..
السيد العشق..
ويا له من حضور!؟.

دمعة

حملت الاطباق الأربعة على صينية فضية وفتحت باب شقتها تحملها مغلقة إياه خلفها..
طرقت باب جارتها الشابة في انتظار أن ينفرج عن محيا زوجها الطيب وقد كان، فقد فُتح الباب وطلت ابتسامة حاتم تلق التحية في مودة مفسحا الطريق لها لتدخل مهللا في ترحاب: – اهلا بحضرتك، اتفضلي.
دخلت وما تزل تحمل صينيتها هاتفة في مودة: – اخبار ماما الجديدة ايه!؟
يا رب تكون بخير هي والبيبي..

هتف حاتم مؤكدا: – الحمد لله تمام، بس الهانم الصغيرة مش بتنيمنا..
هتفت إحسان: – طب يا رب مكنش جيت فوقت مش مناسب..
ما أن أنهت كلماتها حتى كانت قد وصلت للردهة عبر ذاك الممر الطويل ليظهر أمامها جالسا في هدوء وتلك الابتسامة المستفزة الدائمة الطلة والمرسومة على شفتيه تكلل قسمات وجهه الخمسيني او ربما الستيني، فهى لم تستطع تخمين عمره الحقيقي فهو يبدو بالفعل اصغر سنا وأكثر حيوية من حقيقته..

تنبهت عندما هتف حاتم مشيرا لضيفه الآخر: – حضرتك تعرفي طبعا جارنا القبطان عبدالغني السعدي، اعتقد اتعرفتوا بالمستشفي..
حركت إحسان رأسها بايماءة مؤكدة، وكيف لها أن تنسي!؟.
هتف حاتم في اضطراب: – يا خبر، هاتي عنك يا طنط..

أخذ منها الصينية اخيرا وتركها قبالتها على الطاولة حيث جلست تحاول ألا تذكر كيف اندمجت بالغناء البارحة وذاك التصفيق الحار الذي تلقته على تلك الوصلة الرائعة من جارها المتطفل والذي يجلس وقد اتسعت ابتسامته السمجة تلك تشعرها باضطراب لا تعهده..
خرجت نرمين فألقت التحية في هوادة لتستقبلها إحسان في حنو هاتفة: – تعبناكِ، مكنتيش قومتي من سريرك..

هتفت نرمين مؤكدة: – لا خالص يا طنط والله، اهو امشي رجلي شوية، وبعدين والله كفاية تعبك معانا وعمي ربنا يبارك له، لولاكم مكنتش عارفة كان ايه مكن يجرى..
هتف عبدالغني وكانت المرة الأولى التي ينبس بحرف منذ طلت إحسان: – متقوليش كده يا بنتي، الجيران لبعضها، واحنا أهلك..
وهتف بحاتم الذي ظهر حاملا صينية عليها بعض اكواب من الشاي والحلوى: – ولا ايه يا حاتم!؟.

أكد حاتم مبتسما وهو يضع الصينية أمامهما: – طبعا يا غنوة هو انت تقول حاجة غلط، يا اللاه اتفضلوا، حاجة بسيطة على أدي..
هتف غنوة في أريحية: – لا انا مليش في الكيك والكلام ده، انا هاخد طبق من المهلبية دي شكلها هااايل..

شعرت إحسان بالاحراج وامتعضت لفعلته لكنها شعرت أنه ليس من اللائق الحكم عليه فهو وحيد وربما يشتهيها، لازت بالصمت إلا أنها انتفضت متطلعة إليه ما أن أطلق صوتا تعجبيا مستمتعا: – ايه ده!؟، دي مهلبية!؟، دي إعجاز..

تطلع الجميع إليه في دهشة لكنه لم يلق لهم بالا وهو يحمل لفمه الملعقة الثانية مهمهما مغمضا عينيه في تلذذ والتي فتحها فجأة أمرا كل من نرمين وحاتم بتذوق اطباقهما ليشاركاه متعة التذوق الحقيقية لهذا المزيج الخرافي.
حمل كل منهما صحنه مجربا وإحسان تتطلع إليهم في خجل مضطرب، فما من أحد اثنى على طعامها منذ سنوات طويلة وكأن ذلك صار حدثا اعتياديا لا يحمل أي مزيج من الدهشة أو حاجة لشكر وامتنان..

هتف حاتم وبالمثل نرمين مؤكدين في دهشة: – ايه ده يا طنط!؟، عملتيه ازاي ده!؟.
همهمت إحسان في شك لا تصدق كل هذا الثناء: – هو حلو فعلا!؟، ولا انتوا بتجاملوني!؟.
أكد حاتم في نبرة صادقة وقد أوشك على إنهاء طبقه: – بنجاملك ايه يا طنط، والله ناقص اكل الطبق اهو..
اتسعت ابتسامة غنوة هاتفا: – اروع طبق مهلبية دقته فحياتي، انا لازم اعرف سر الوصفة..

هتفت نرمين مازحة: – اوعي تقوليله يا طنط، هياخد الوصفة وينزلها باسمه..
هتفت إحسان اخيرا متسائلة في تعجب: – هينزلها فين!؟.
أكد حاتم: – على قناته بتاعت الأكل على اليوتيوب، أكلة وغنوة دي قناة مشهورة وعدت المليون مشاهد..

تطلعت إحسان إليه في عدم إدراك لأهمية الأمر فلم يكن لها علاقة وطيدة بالهواتف ولا مواقع التواصل الاجتماعي، لذا لم تعقب، لتهتف نرمين مقترحة في سعادة: – ايه رأيك يا غنوة تطلع طنط إحسان معاك ع القناة وتعمل المهلبية الهايلة دي!؟.
أكد غنوة في حماسة: – يا ريت، بس هي توافق، ايه رأيك!؟.
اضطربت إحسان غير قادرة على الرد وهتفت في تعجب: – اطلع فين!؟، انا مليش فالكلام ده خالص؟!.

هتف عبدالغني في هدوء: – احنا هنعلمك بس قولي اه، وليكي نسبة مش هاكل عليكِ حقك..
تطلعت إليه لا تعرف ماذا يقصد بنسبة تلك، هل ستحصل على مال مقابل وصفة طعام!؟.
اضطربت ولم تعقب واستأذنت على عجالة عائدة لشقتها تحجز نفسها داخل جدرانها عن العالم، تستعيد كلامهم مرارا وتكرارا وقد استشعرت أنها كانت بعيدة، بل بعيدة جدا عن مجريات الحياة وتطور الأمور..

كانت تجلس أمام التلفاز تتلهى قليلا عن أوجاع قلبها تحاول تناسي كل ما طرأ على حياتها بلا مقدمات لتصبح فجأة خالية من وجوده الذي كانت تتنفسه، احساسها كان أشبه بمدمن في أيام التعافي الأولى وهي تحاول التغلب على ألم الاشتياق الي محياه ومقاومة اعراض انسحابه من دمها وروحها، ويا له من ألم!؟.
تنبهت للمشهد المعروض أمامها وتلك المرأة اللعوب تحاول جذب انتباه بطل الفيلم بإغواء مدروس كما خطط الحرب..

لم تر أمامها إلا صورة كمال بديلا عن البطل وتلك المرأة التي احتلت مكانها بحياته هي تلك المرأة المغوية، شعرت بنيران تسكب بدمها كأنما هي حمم وهمت بغلق التلفاز لكنها أصرت على استكمال المشهد حتى نهايته، نهضت مسرعة لغرفتها وأغلقت خلفها بابها وتوجهت لهاتفها وشغلت إحدى الأغاني وبدأت في تقليد حركات الإغواء في محاولة منها لإجادتها..

وبدأت تتمايل في حركات راقصة لكنها شعرت أنها أشبه بعصا متخشبة لا روح فيها فتأكدت أنها فقدت حسها كامرأة، تطلعت نحو مرآتها متطلعة لجسدها الممتلئ وشعرت أنها ما عادت نجوى التي كانت..
اطالت النظر بمرآتها واخيرا سقطت أرضا تضم جسدها بذراعيها وقد انفجرت باكية وجيعتها وخيبتها ولوعة قلبها..
لم تكن يوما امرأة على حق، امرأة كما أرادها، اضاعته بإهمالها نفسها قبل أن تهمله فكانت النتيجة خسرانه للأبد..

علموها أن المرأة إذا ما صنعت طبق شهي من طعام واستطاعت أن تحمل جنينا فهي بذلك امرأة لا غبار عليها، لم يعلمها احدا يوما كيف تحسن التبعل لزوجها، كيف تكون امرأة تحصن نفسه عن مد عينيه لما حرم الله بما تملك من وسائل فطرية خلقت بها لكنها اهملتها، لتسير على الدرب الذي رسم لها، لكنها لم تصل الا لطريق مسدود تُركت فيه وحيدة تتجرع خسارتها لفقده..

دخل الغرفة متنهدا فهذا اليوم الثالث على التوالي الذي تغيب فيه، كان شعورا عجيبا على نفسه أن يستشعر الاشتياق لمحياها، لم يكن يدرك أنه ما يزل قادرا على الإحساس بتلك المشاعر وان قلبه ما زال ينبض بين جنباته بعد سنين طوال من تناسيه..
كان يكبح جماح نفسه باللحظة الأخيرة وهو يهم بالاندفاع لحارتها ليعلم سبب غيابها لكن إدراكه لفداحة ما قد يقدم عليه تجعله يتراجع في خيبة..

تطلعت إليه حورية بلا تعليق، فبم يمكنها أن تعلق وهي التي تحفظه ككف يدها!؟، ولدها البكر هو، وسيظل، تدرك اناته وسكناته وخبايا نفسه دون أن ينبس حرفا، ابتسمت في وجع وهمست باسمه في عشق: – حماد..
فرفع ناظريه إليها مبتسما بدوره ابتسامة مبتورة لم تصل لعمق عينيه هامسا في حنو: – عيون حماد..
همست مترددة تسأل: – هي صفية جت المصنع اليومين اللي فاتوا!؟.
تطلع إليها عاقدا حاجبيه في تعجب وهمس بصوت متحشرج: – لاااه..

بس ليه السؤال من اساسه!؟.
توترت قليلا ثم قصت عليه ما كان من هناء فأنتفض واقفا وقد اكفهر وجهه غضبا وما أن هم بالنداء على ابنته يستدعيها لمجلسه الا وهتفت به حورية تستوقفه هاتفة: – لا يا حماد عشان خاطري، الا هناء، هي ملهاش ذنب، سعدية هي اللي بتحركها، كفاية وجع قلبي عليها واني مقدرتش اكون لها أم بجد وسبتها تتربي على ايد غيري، كفاية حسرتي عليها يا حماد..

وانفجرت باكية فلم يستطع أن يحرك ساكنا كرامة لها، كظم غيظه ومد كفه مطيبا خاطرها لترفع رأسها إليه مؤكدة: – روح لصفية يا حماد، روح شوف ايه اللي جرى لها من تحت راس اختك، إلحقها محدش عارف طليقها عمل فيها ايه بعد اللي عرفه..
ربت حماد على كتفها مهدئا وتنهد في ضيق قبل أن ينهض مغادرا الغرفة على عجالة تاركا حورية تتعقبه بناظريها حتى غاب وقد استشعرت أنه بدأ يخطو أولى خطواته تجاه امرأة أخرى غيرها..

خطوات على الرغم من دفعها إياه ليخطوها إلا أن وقعها كان يحدث زلزالا يصدع جدران فؤادها.
اندفعت شيرين لداخل الغرفة هاتفة في سعادة: – هااا يا سيدة الوجع، اخبارك ايه النهاردة!؟.
توقفت شيرين ما ان تنبهت لوجود دكتورعبدالرحمن الطبيب المسؤول عن علاج حالة أمل، تنبه هو بدوره لهذا اللقب الذي نادت به أمل لكنه لم يعقب وخاصة عندما لاحظ تلك النظرة العاتبة التي أرسلتها إليها أمل فآثر الصمت..

عدل من مناظره الطبي وأكد في لهجة رسمية: – النهاردة احنا عال قووي، نشد حيلنا وكله هايبقى تمام.
هزت أمل رأسها ايجابا بينما هتفت شيرين في مرح: -عولم وينفذ يا دكتور..
ابتسم ابتسامة دبلوماسية وألقي التحية واستأذن مغادرا لتندفع شيرين ما ان تأكدت من إغلاقه الباب هاتفة في مرح: – ايه التقل ده!؟.
ووضعت كفها على قلبها هاتفة بلهجة متيمة: – أموت أنا..

قهقهت أمل وهى تضرب بخفة على كف شيرين المحتضنة لكفها: – يا بنتي أرحمي نفسك، روحي اتجوزي بقى..
انتفضت شيرين هاتفة في مزاح مدعية الصدمة: – اتجوز!؟، هو انا اتجننت!؟، وبعدين هاسيب الرجالة دي كلها لمين!؟.
قهقهت أمل من جديد لتستطرد شيرين مسترسلة في مزاحها: – الجواز عايز خُلق و انتِ عرفاني خُلقي ضيق..

اتسعت ابتسامة أمل من جديد على افعال صديقتها المقربة مدركة ان ما تدعيه لا يمت لحقيقتها بصلة، تلك الحقيقة التي لايدركها إياها والتي تخفيها ببراعة خلف قناع المرح والشقاوة..
هتفت شيرين وقد استعادت جديتها متسائلة: – ماقلتليش!؟، اخر كلام هتسمي صفحتك ع الفيس ايه!؟.
هتفت أمل مجيبة: – سيدة الوجع السابع..

تطلعت إليها شيرين هاتفة في مزاح: – الوجع السابع!؟، ده اخو العصب السابع اللي بيجي فالوش بس دوكها بيجي فالقلب ولا ايه!؟.
لم تتمالك أمل نفسها وانفجرت ضاحكة غير قادرة على تمالك نفسها لتهتف شيرين في مرح: – بزمتك ده اسم ده!؟، بس بما أن فيه سبع أوجاع ليه ميبقاش، سيدة الأوجاع السبعة..
ساد الصمت لبرهة لتهتف أمل في فرحة: – برافو عليكِ، هو ده الاسم اللي بدور عليه، احيانا بتقدري تكوني مفيدة..

امتعضت شيرين متصنعة الضيق هاتفة: – احيانا!؟، والله ده انا كلي فوايد، معلش هم كده العظماء أمثالي محدش بيعرف قيمتهم الا متأخر..
ابتسمت أمل من جديد هاتفة: – طب ياللاه يا عظيمة هانم نروح لحسن اتأخرنا على بابا وسليم..
اندفعتا سويا لخارج المشفى لا علم لهما أن هناك عيون خلف منظار طبي انيق تتبعهما في فضول..

مدت كفها بهاتفها لولدها وهو بأحدى زيارته المتباعدة لها هاتفة في تردد: – بيقولك يا عامر، خد وريني ازاي نفتح اللي اسمه ايه ده، اللي بتقعدوا عليه ع الفون، اللي اسمه الفيس بوك ده..
تطلع إليها عامر لبرهة في تعجب ثم اتسعت ابتسامته متسائلا: – ايه اللي فكرك بيه دلوقت يا ماما!؟، ما انا ياما كنت بقولك تعالي أعملك حساب عليه وانتِ كنتِ مش مهتمة..

هتفت في حسرة: – الفضا يا عامر، مبقاش عندي اللي يشغلني زي زمان، أهو حاجة تسليني وانا لوحدي..
تنهد عامر متفهما ومد كفه متناولا هاتفها وبدأ في توضيح الأمور وشرحها لها في سلاسة حتى استوعبتها تماما في سرعة ادهشته..
استأذن مغادرا لتودعه دون أن تستحلفه البقاء كعادتها حتى لا يرفض كعادته متحججا بالعديد من الحجج التي ما عادت تكترث لها فقد اكتفت من الإلحاح في أمر كهذا..

تطلعت لهاتفها الذي استشعرت أنه سيفتح لها أفاقا جديدة كانت محجوبة عنها وبدأت في تصفح المواقع ومر الوقت في سرعة عجيبة ادهشتها حتى أنها شعرت بالجوع فجأة لتدرك أنها لم تتناول غذاءها بعد..
تركت هاتفها جانبا وتوجهت صوب المطبخ تعد لها طبقا من الطعام الذي أعدته لتناوله مع عامر الذي فاجأها أنه قد تناول غذائه بالفعل لتتركه جانبا..

انجزت مهمتها وحملت صحنها لخارج المطبخ وما أن همت بالضغط على زر الإنارة مغلقة إياه حتى وقع ناظرها على جارها المتطفل كما كانت تسميه بينها وبين نفسها وقد امسك عصى المكنسة الخشبية محتضنا اياها في وله وكأنه يعانق محبوبته متمايلا بها في رشاقة راقصا على انغام الموسيقى التي ارتفعت صادحة منذ لحظات..

استشعرت أن ذاك الرجل ليس متطفلا فقط وانما مخبول أيضا بأفعاله تلك التي لا تتناسب مع وقار عمره الذي يسير نحو الستين بخطى ثابتة وبلا أدنى مواربة..
انتفضت حتى كادت أن تسقط الصحن من يدها التي ارتجفت ما أن تنبه لنظراتها اليه، لم يتوقف محرجا كما كانت تتوقع بل ابتسم في أريحية عجيبة وتصالح هائل مع النفس وانحنى بطريقة مسرحية محييا إياها.

وعاد من جديد يحتضن عصاه يدور بها في أرجاء بهو شقته الواسع متجاهلا لها تماما..
زاد تعجبها من هكذا رجل وضغطت زر الإضاءة مغلقة إياه واندفعت نحو حجرتها واضعة الطبق على طاولة قريبة وبدأت في التمايل مقلدة جارها فربما ما يفعله هو طقس ما لعلاج مرض تجهله، تمايلت في خفة بجسد رشيق كان يوما مدعاة لفخرها والذي كانت تداريه خلف أحد اثوابها العتيدة التي لم تبدل طرازها التقليدي منذ زمن..

استدارت فجأة لتسقط نظراتها على صورتها بالمرآة لتتوقف فجأة عن طقسها المحموم متذكرة كلمات توفيق الموجعة وملاحظاته المهينة عن عمرها الذي شارف الخمسين فتقدمت نحو المرآة تتحسس بأطراف أناملها اثار الزمن التي تركها على بشرتها التي ما تزل تحتفظ بنداوتها لكن اثر كلمات توفيق السامة صور لها ان تلك القسمات قد شابت وان العمر قد ولي وان الهرم يحاصرها فشعرت بروحها تشيخ ودمعها يتساقط على خديها في حسرة، جلست على طرف فراشها وقد عافت الطعام وما عاد لها الرغبة في الحياة نفسها..

توقفت السيارة على أطراف الحارة وترجل منها حماد متجها نحو بيت صفية حاملا بعض الأكياس والحلوى وما أن هم بصعود أولى درجاته حتى انتفض مسعد من على أحد مقاعد المقهى حيث يعسكر دوما لا يغادر موضعه يقف بطريق حماد هاتفا في غضب: – على فين!؟، انت فاكرها وكالة من غير بواب..!؟.
تطلع إليه حماد في استهانة أمرا في لهجة حازمة: – أبعد عن طريجي واجصر الشر..
هتف مسعد ساخرا: – وان مبعدتش هيجرى ايه يعني!؟.

ترك حماد حمولته فجأة من بين أصابعه ليمسك بتلابيب مسعد دافعا به بعيدا عن مدخل بيت صفية الذي كان يحتله بالكامل مغلقا عليه طريق المرور للداخل..

تنبهت صفية للأصوات المرتفعة بالأسفل لتنهض دون حماسة تتطلع لما يجري، أنه اليوم الثالث لها دون خروج من بيتها بعد أن هددها مسعد إذا ما خرجت فلن يمكنها من رؤية أطفالها من جديد الذي فتح لهما الباب ليخرجا للعب بالحارة مدركا أنها لن تتجرأ على الخروج حتى بعد تركه مفتوحا..

شهقت في صدمة عندما تنبهت لوجود حماد ممسكا بخناق مسعد وقد تنبه الجميع ملتفا حولهما لتهتف بأمها في عجالة لتأتي مهرولة لتبادرها في صدمة: – شايفة مين اللي تحت ده ياما!؟، ده حماد بيه صاحب المصنع اللي بشتغل فيه!؟.
هتفت امها في تعجب: – وده ايه اللي جابه الساعة دي!؟، ربنا يستر لحسن ده مش أد مسعد وشره..
تطلعت صفية في قلق: – ربنا يسترها، ده راجل كبارة ملوش فشغل البلطجة بتاع مسعد، بس ليه جاي دلوقتي..!؟.

تطلعت أمها تزاحمها موضعها بالنافذة هاتفة: – إلحقي شوفي اللي بيحصل..
مدت صفية رأسها من النافذة تحاول استطلاع الأمر بوضوح لتجد حماد يهز مسعد في غيظ ممسكا بياقة قميصه في عنف مؤكدا بصوت راعد: – لما يكون فيه ضيوف داخلين عند حد ميخصكش، تجعد فحالك وبأدبك، سامع!؟.
ودفع بمسعد في شدة اسقطته أرضا وأصبح غير قاد على تمالك نفسه والنهوض من جراء ما يتعاطاه من مخدرات جعلته يترنح في عدم اتزان..

عاد حماد لحمله رافعا إياه عن الأرض ليدخل لبيت صفية التي ما أن رأته يدلف إليه حتى انتفضت في اضطراب لا تعرف ما عليها فعله..
عدلت من هندامها في عجالة وما أن تناهى لمسامعها طرقاته على باب شقتها حتى انتفضت تتطلع حولها في تيه وضربات قلبها أشبه بطبول زار شعبي..
تنبهت امها لحال ابنتها فاندفعت تفتح الباب مشفقة، رحبت بحماد في حفاوة ليدخل جالسا بصدر المكان..

تمالكت أعصابها واعادت التأكد من حسن طلتها وخرجت مدعية الثبات هاتفة في ترحاب: – اهلا يا حماد بيه، خطوة عزيزة..
ابتسم حماد ما أن طلت عليه وانشرح صدره منجليا عنه همه في ثوان وبشكل أثار تعجبه، لتستطرد ما أن رأت ما كان يحمل موضوعا قبالته على الطاولة المترنحة بينهما: – ليه تعبت نفسك وشايل ومحمل!؟.
أكد حماد في رزانة: – دي حاچة بسيطة عشان عيالك..

هتفت ممتنة: – ربنا يبارك لك، ومعلش متاخدش على خاطرك على اللي حصل تحت، مسعد مش سايبني فحالي، مخلانيش انزل المصنع والا كنت هرجع ملاقيش عيالي ويوجع قلبي عليهم..
اكد حماد في حزم: – ملهوش انه يمنعك عن شغلك وملوش انه يحرمك من عيالك، واني اللي هجف له من هنا ورايح..
تطلعت صفية إليه هاتفة في جرأة: – تسلم يا بيه، بس بصفتك ايه!؟، انت كده هتجيب..
قاطعها حماد هاتفا في هدوء: – بصفتي چوزك، تتچوزيني يا صفية!؟.

تطلعت إليه صفية في صدمة، هل اصبح أحد أحلامها المستحيلة قيد الممكن!؟، هل ما يعرضه عليها اللحظة حقيقيا ام درب من خيال!؟.
كادت أن ترفع امها عقيرتها باحدى زغاريتها في سعادة غامرة إلا أن صفية استوقفتها هاتفة في حزم: – استني ياما..

وتطلعت لحماد الذي تطلع إليها متعجبا لمنعها مظاهر الفرحة وهتفت مستفسرة: – حماد بيه، هو مش حضرتك متجوز برضو!؟، واللي اعرفه ان الكل بيشكر فمراتك وبيقولوا انها ست أميرة وتتحط ع الجرح يطيب، صح!؟.
أكد حماد في ثقة: – صح، وهي احسن من كده كمان، بس اللي متعرفيهوش انها عيانة من زمن..
ضربت امها على صدرها في صدمة هاتفة في حسرة: – ليه كف الله الشر، عيانة بأيه!؟.

أكد حماد في هدوء: – مرض شديد سبب لها شلال، مبتتحركش من مكانها من سنين..
هتفت امها في تعاطف: – يا كبدي يا بتي، ربنا يشفيها..
هتفت صفية في تعاطف كذلك: – ربنا يشفيها ويزيح عنها، بس هي تعرف يا حماد بيه!؟.
أكد حماد في رزانة: – عارفة كل حاچة وهي اللي بعتتني اخطبك بعد ما عرفت اللي عملته بتي هناء معاكِ، ها مجلتيش!؟، موافجة!؟
هتفت صفية في ثبات هش: – طب وعيالي، اخاف لمسعد..

هتف بها في صرامة: – مسعد ده يبجى اخر همك من هنا ورايح، وعيالك فحضانتك وبعد چوازنا فحضانة امك، وانا هحضر لهم شجة عندي فالبيت عشان يبجوا چارك وميفتوكيش، ايه جولك!؟.
هتفت صفية وقد ازداد وجيب قلبها واطرقت رأسها خجلا: – هقول ايه يا حماد بيه..!؟، ده انا طاقة القدر انفتحت لي..

ابتسم حماد في سعادة ونهض في عجالة هاتفا: – چهزي روحك فأجرب فرصة، واني سايب اتنين من رچالتي جصاد البيت عشان محدش يتعرض لكم، وكل طلباتك هتكون عندك، لحد ما ربنا يئذن وتبجي حلالي..
ابتسمت صفية لا تصدق ما يحدث فقد بدأت الدنيا تفتح ذراعيها اخيرا لتستقبلها في ترحاب بعد سنوات عجاف من الصد والعزوف..

خرج حماد وما أن وطأت قدماه أرض الحارة حتى هتف في صوت جهوري ورجاله يقفوا خلفه في ثبات: – صفية من النهاردة في حكم مرتي واللي هيجرب لها هي وعيالها يبجى ناوي على موته، اللهم بلغت اللهم فأشهد..

قال كلماته الأخيرة لتدمع عيني صفية فرحة وفخرا فقد أصبح لها اخيرا رجل يقف في وجه العالم من أجل نصرتها، انسابت دمعات الفرح تتراقص على خديها في طرب على صوت زغاريد امها التي أطلقتها واحدة تلو الأخرى من نافذة شقتها المطلة على قلب الحارة تتبع حماد الذي اتجه صوب عربته راحلا في سعادة بدوره..

ارتدت ملابسها وحملت حقيبة يدها واندفعت خارج غرفتها وما أن رأتها امها حتى تعجبت هاتفة: – على فين العزم أن شاء الله!؟.
أكدت نجوى وهي تضبط غطاء رأسها: – رايحة الچيم..
هتفت امها مستنكرة: – رايحة فين!؟، الچيم!؟، وده من امتى!؟.
هتف ابوها في تساؤل وهو يخرج من غرفته بعد أن ادي الفريضة: – فيه ايه!؟، مالكم!؟.
هتفت ام نجوى ممتعضة: – اتفضل يا حاج، قال بنتك عايزة تنزل الچيم..

هتف ابو نجوى: – وايه المشكلة ما تنزل..
هتفت الأم في صدمة: – تنزل فين!؟ انت مش واخد بالك يا حاج أن حال بنتك دلوقت بقى غير الأول، بنتك مطلقة والعين بقت عليها فالرايحة والجاية..
هتفت نجوى في غضب: – اه وطالما أطلقت يبقى أدفن بالحيا وحتى الچيم اللي بالعمارة اللي قدامنا مرحهوش عشان الناس متقلش حاجة، مش كده!؟.

تنهد ابوها رابتا على كتفها مهدئا واخيرا هتف مشيرا للباب: – انزلي يا بنتي، روحي، طالما مبتعمليش حاجة لا عيب ولا حرام يبقى محدش له عندك حاجة..
هتفت امها معترضة: – بس يا حاج..
أشار ابوها بكفه لتصمت امها مبتلعة كلماتها المعارضة لتقبل نجوى جبين ابيها قبل أن تتجه للخارج..

تطلع ابوها لأمها في حنق هاتفا في ضيق: – ارحموا من بالأرض يرحمكم من بالسماء، كفاية بقى القمقم اللي كنتِ معيشاها فيه، خليها تخرج وتشوف حالها بدل ما تقعد تفكر في اللي راح..
صمتت الأم ولم تعقب رغم امتعاضها الظاهر على قسمات وجهها..
اشعار رسالة رن على هاتفها وهي على أعتاب بنايتها تهم بالاندفاع للخارج الا أنها توقفت تستطلع المرسل..

كان سالم صديق كمال، فتحت الرسالة ليرتج قلبها بين اضلعها في صدمة، كانت تنظر إلي الصورة المرسلة إليها على أحد التطبيقات لكمال مجالسا امرأة تكاد تكون بمثل سنه، تجلس في غنج وهو مقتربا منها في شوق يطعمها بشوكة قطعة من لحم..
ردت في سرعة على سالم مؤكدة: – لو سمحت يا استاذ سالم متبعتليش اي حاجة تخصه لأنه معدش يخصني من اساسه..

خرجت من التطبيق حتى أن اشعار تلك الرسالة الثانية جاءها وما كان لها القدرة على فضها وقراءتها، تحكمت في وجود شبكة الإنترنت على جهازها قاطعة اي اتصال ممكن، دافعة بهاتفها في جوف حقيبتها وغامت عيونها بالدموع حتى أن الطريق فقد معالمه أمام ناظريها وكاد ذلك ان يودي بحياتها وهي تعبر الشارع لا ترى بعين خيالها إلا صورة حبيب العمر مع تلك المرأة التي سلبته لبه وبيته..

انتفضت فقد علا صوت نفير سيارة قادمة لكن المكابح كانت اسرع من استجابتها، توقفت السيارة أمامها ببضع سنتيمترات، كانت على وشك أن يلق حتفها تحت عجلات العربة لولا ستر الله والتي صرخ قائدها في ثورة، اندفعت في خجل باتجاه البناية حيث صالة الألعاب الرياضية تختفي في سرعة جراء ما حدث..

غيرت ملابسها بأخرى مناسبة لممارسة الرياضة ووضعت سمعات أذنها تشغل بعض الموسيقي والأغاني على جوالها وقد بدأت في المشي في محاولة لا لحرق الدهون لكن لحرق ذكرياتها معه والتي تضج بها روحها المكلومة..

عادت إدراجها بعد أن قضت فترة تمارينها لتدخل حجرتها تعيد التطلع لصورة كمال مع تلك الحقيرة التي احتلت موضعها بقلبه وحياته، فانتهبت لرد سالم مؤكدا: – انا بعت الصورة عشان تعرفي أنه عايش حياته فانت كمان تنسيه وتعيشي حياتك، محدش يستاهل زعلك عليه..
أغلقت الهاتف من جديد ولم ترد بحرف ورددت بنفسها في ثقة: – صح، محدش يستاهل زعلي..

ألقت الهاتف جانبا وخرجت من حجرتها تحمل طفلها تداعبه في محبة محاولة تناسي تلك الصورة التي تراها اللحظة شاخصة أمام ناظريها..

طرقت على باب شقة ابيها بمصاحبة شيرين إلا أن ابيها تأخر في فتح الباب قليلا، اخذت تبحث بحقيبتها عن المفتاح إلا أن الباب انفرج عن محيا ابيها الساكن..
دخلت أمل متعجبة متسائلة في قلق: – في ايه يا بابا مالك!؟.
ثم تنبهت واندفعت في اضطراب للداخل باحثة عن ولدها، طافت بالغرف جميعها لكنها لم تجده لتعود من جديد لموضع جلوس ابيها المنكس الرأس متسائلة في توجس: – فين سليم يا بابا!؟.

ونظرت الي تلك الورقة التي يمسك بها بكف متهدل متناولة إياها ناظرة إليها وهي تجلس جواره، جرت عيونها على السطور في عجالة لتتطلع الى شيرين التي كانت قد جلست جوارها تتطلع معها لذاك الخطاب يدفعها قلقها لادراك ما يحدث، همهمت أمل في وجع: – أمجد طلقني غيابي، انا طلبت ده، بس فين سليم يا بابا!؟.

هتف ابوها بصوت متحشرج يكاد الخزي يخرسه: – سامحيني يا أمل مقدرتش أحافظ لك على ابنك، جه لحد هنا وخده، قال بالحرف الواحد أن أمه مريضة ومش هاتقدر ترعاه وهو أولى بيه..
صمت مطبق ساد المكان ولم يعقب احدهم بحرف، صمت قاس حاد كنصل سكين يمزق السكينة أشلاء ويخلق بالنفس ألف وجع..

ربتت شيرين على كتف أمل متعاطفة وهمست تحاول مواساتها: – كان متوقع من أمجد اكتر من كده، هو بينتقم لأنك رفضتي ترجعيله بشروطه، فقرر يحرمك من اكتر حاجة بتحبيها، ابنك..
هتف الأب مؤيدا: – صح كلامك يا شيرين، حسبنا الله ونعم الوكيل، انا مش هسكت وهقوم محامي و..
قاطعته أمل مؤكدة: – أمجد مش هيتحرك إلا بمحامي يا بابا وعارف هو بيعمل ايه..

أكدت شيرين: – بقولك ايه!؟، والله ما هايستحمل يقعد بالولد ولا ياخد باله منه، وهيرجع لك، وابقى شوفي..
همست أمل في وجيعة: – طب هيخليني اشوفه ولا لأ!؟.
أكدت شيرين في حماسة: – ولا تسألي، هو اكيد هيسيب الولد في البيت نايم، اصل مش أمجد اللي هيجيب له حد يقعد معاه، وكمان أمه ساكنة بعيد، يعني كل اللي بيعمله ده عند معاكِ، ساعة لما ينزل المفتاح بتاع شقتك معايا هخليكي وقت ما تحبي تيجي تشوفي الولد..

هتف ابوها في امتنان: – ربنا يبارك لك يا بنتي..
هتفت شيرين: – تسلم يا عمي، بس انا مش عايزة أمل تقلق من حاجة وبعدين الدكتور كان طلب اكتر من مرة أنها تفضل في المستشفي وهي اللي كانت بترفض عشان سليم، دلوقتي سليم مع بباه و تحت عيني، يبقى ملكيش حجة ماشي..
هزت أمل رأسها إيجابا وسالت دموع عينيها في استكانة لتضمها شيرين الي أحضانها..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى