قال الحسن البصري رحمه الله: ما نظرت ببصري ولا نطقت بلساني ولا بطشت بيدي ولا نهضت على قدمي حتى أنظر أعلى طاعة أو على معصية ؟ فإن كانت طاعته تقدمت ، وإن كانت معصية تأخرت.
٩– ” زيغه الشيطان “
نفضت رهف رأسها ، لعلها سمعت شيئاً خاطئاً ، وليس أن شقيقها رفيق ، قام بطردها هى وليان ، على مرآى ومسمع من كل الطلاب الحاضرين ، فحتى هى لم تنسى ، أن تفتح عينيها وتغلقهما ، لعل من تراه واقفاً أمامها الآن ، شخصاً أخر وليس مدللها الحانى ، الذى لم يقدم بيوم على أن يجعل الحزن يسكن قلبها
فردت قائلة بنبرة مذهولة :
–:” حضرتك بتقول إيه يا دكتور رفيق”
عاد يشير بيده للباب ثانية وهو يقول ببرود :
–:” بقول اتفضلوا اطلعوا برا انتوا الاتنين ايه لسه سمعك تقيل وأنتى يا آنسة أنتى إسمك إيه”
وجدته ليان يشير إليها ، فأجابته بصوت منخفض :
–:” إسمى ليان سامى”
أرهف سمعه لعله يلتقط حروفها الهامسة ، فصاح بضيق :
–:” على صوتك وأنتى بتتكلمى اشمعنا دلوقتى صوتك واطى ما صوت ضحكتك سمع الكلية اللى جمبنا من شوية “
يكفى هذا فهى لن تتحمل سماع كلمة سخرية أخرى منه ، كانت الدموع كسحابة غطت عينيها ، جعلت الرؤية لديها مشوشة وضبابية ، فقامت بلم ما تناله يديها من أغراضها ، فهى تريد الخروج من هذا المكان بأقصى سرعة ،و لاتعلم ماذا أخذت أو ماذا تركت من اغراضها؟
تسابقت قدميها فى الخروج أو بالأصح الركض ولكن قبل بلوغها الباب سمعت صوته يسمرها فى مكانها وهو يقول :
–:” أنتى راحة فين أنا مش بكلمك يا أنسة أنتى “
أرتجفت يدها على مقبض الباب ، ودموعها تتساقط على وجنتيها ، فأشتعلت النار والكراهية بقلبها ، تتأجج بداخلها كالحريق الذى شب بأعواد القش فتأكلها ولم يبقى منها شيئاً، فإلتفتت اليه ، تنظر إلى تعبيرات وجهه الهازئة بها ، فوجدت نفسها تنظر اليه نظرة كره وحقد ، فلو النظرات تقتل ربما كان خر رفيق قتيلاً الآن
عقد حاجبيه من نظرة تلك الفتاة له ، فوجدت نفسها تردف بكلمات أصابتها هى أولاً بالصدمة قبل أن تصيب الحاضرين، خاصة وهى تقول :
–:” حضرتك أنا راحة الكباريه اللى ضحكتى متلقش الا بيه”
أنهت قولها وفتحت باب القاعة وخرجت ، قبل أن تسمع منه كلمة اخرى ، أو ترى تلك النظرات الشامتة المرتسمة بوضوح جلى على وجه بعض الفتيات
فلملمت رهف أيضاً أغراضها ، لتخرج من القاعة ، وحالها لا يفرق عن ليان ، ولكن صدمتها أكبر فشقيقها تعامل معها بأسلوب مهين
فنظر إليها قائلاً بتساؤل :
–:” وحضرتك راحة فين أنتى كمان”
ضمت رهف كتبها إلى صدرها ، تحاول منع دموعها من التساقط ، فردت قائلة بصوت مرتجف :
–:” مش حضرتك يا دكتور طردتنا من المحاضرة أنا بنفذ كلامك وخارجة”
خرجت رهف وهو يعلم أنها تشعر بالضيق منه ، وخزات مؤلمة أخذت تعتصر قلبه وهو يراها هكذا ، فهو لا يحتمل أن يرى دموعها ،وكيف ذلك وهو من حرص على عدم إبكاءها يوماً ؟
فعاد ونظر للطلاب قائلاً بصوت حازم :
–:” فى حد تانى حابب يخرج ولا نكمل شرح لو حد حابب يحصلهم يتفضل يخرج”
ساد الهدوء والصمت المكان ، فعاد إلى ما كان يفعله ، حتى يحين موعد إنتهاء تلك المحاضرة ، التى مقتها بسبب رؤيته تلك الدموع التى تلألأت فى عينىٌ مدللته
________________
تزرع أرض غرفتها ذهاباً وإياباً ، يتصاعد الغضب بصدرها من أفعال ولدها ، فهى لا تستسيغ ما يفعله بتلك الآونة ، أو بالأصح منذ بداية وعيه لذلك الحب ، الذى نبت بقلبه لأجل تلك الفتاة ، التى لن ترتضى بأن تصير له زوجة ، خاصة وأن لدى والدتها تاريخ مشين ، وغير مشرف بالمرة
ولج زوجها الغرفة ، وهو يجفف وجهه وذراعاه بالمنشفة القطنية ، بعد إنتهاءه من الوضوء
نظر إليها عاقداً حاجبيه من حركتها المتململة ، فهتف بها بتساؤل :
– مالك يا صابرة راحة جاية كده ليه
أنتفضت صابرة بعد سماع صوته ، فوضعت يدها على صدرها وهى تقول :
– حرام عليك يا محسن خضتنى
أزاحت طوق ثوبها وتفلت قائلة :
– قطعت خلفى من الرعبة يا راجل
رفع محسن حاجبه الأيسر تعجباً من قولها وفعلها ، ولكنه لم يرد جواباً على ما قالت ، بل بسط سجادة الصلاة على الأرض ، وبدأ صلاته بخشوع ، وبعد إنتهاءه جلس مكانه
فأقتربت منه صابرة ، وجلست بجانبه وهى تقول برجاء :
– محسن أنا عيزاك تكلم إبنك خليه يشيل بنت إلهام من رأسه أبوس إيدك
كف محسن عن إدارة المسبحة بين أصابعه ، فنظر إليها قائلاً:
– فى إيه يا صابرة أنتى مكبرة الموضوع ليه كده ، هى البنت مالها بأمها ، ثم اللى ربتها هى جدتها ، يعنى هى لا عايشة مع أمها ولا جوزها ، تبقى خايفة من إيه بقى
عبست صابرة قائلة بحدة :
– مش مرتاحة للموضوع كله يا محسن وأنا مش هضحى بأبنى البكر بجوازة زى دى الله أعلم ايه اللى ممكن يحصل بعد كده ، لاء خلينا حبايب أحسن مش المثل بيقولك صاحبك لا تحاسبه ولا تناسبه
ربت محسن على يدها ، علها تكف عن التفكير بالأمر هكذا ، فخرج صوته ليناً :
– ماهو علشان البنت أعرف ابوها وجدتها وعارفها هى كمان بقولك ان هى دى اللى تنفع إبنك ثم ليه عايزة تكسرى بقلبه وقلبها ، البت كمان باين عليها بتحبه
نفضت يده عنها بشئ من الحدة وقالت :
– بلا بتحبه بلا بتاع ، ما زمان كانت إلهام زيها وبتحب سامى الله يرحمه ، وشوف فى الآخر عملت فيه إيه دى…..
كفت عن قولها بعد سماع صوت طرقات على باب الغرفة ، فنهضت من مكانها ، وذهبت لفتح الباب ، فوجدت ماجد يقف على عتبة الباب صامتاً
فتبسمت بتوتر قائلة :
– أيوة يا ماجد فى إيه أنت رجعت من الكلية أمتى
رد ماجد قائلاً:
– لسه راجع دلوقتى وكنت معدى من قدام الأوضة وسمعت كلامكم غصب عنى إيه حكاية أم ليان يا ماما بالظبط
نهض محسن هو الاخر من مكانه قائلاً :
– لا حكاية ولا رواية يا ماجد أنت مش عارف أمك هى بتقول كده علشان مبتحبش إلهام من زمان يلا روح على أوضتك على ما أمك تروح تجهزلنا الغدا يلا يا صابرة
لم يقتنع ماجد بحديث والده ، يشعر بوجود شئ مبهم بحديثهما ، ولكنه فضل الذهاب إلى غرفته ، مثلما أمره والده ، أو ربما فعل ذلك حتى لا يستمع لشئ من والدته ، تهدم به ذلك الحلم الجميل ، الذى تنسجه روحه المشتاقة لذلك اليوم ، الذى ستصبح به ليان عروساً له
________________
بعد أن خرجت ليان من الكلية ، عادت الى غرفتها فى السكن الجامعي ، فارتمت على السرير ،تبكى انهاراً من الدموع ، فهى تريد ان تصرخ بملأ فاها على ما لاقته من مهانة من ذلك المدعو رفيق ،تأوهات وشهقات ودموع تذرف ، وقلب يتألم ، وكره يتأجج بداخلها
وجدت نفسها تخرج هاتفها من حقيبتها تهاتف جدتها ، أنتظرت حتى جاءها الرد ، فقالت بصوت باكى :
–:” ايوة يا تيتة”
شعرت علية بالخوف فردت قائلة :
–:” ايوة يا حبيبتى مالك انتى بتعيطى ولا ايه صوتك ماله”
روت ليان لجدتها ، كل ما حدث معها من بداية الأمر حتى آخره ، وكلما تتذكر تبكى أكثر كأن عينيها تأبى أن تكف عن البكاء
فقالت علية بحنان:
–:” اهدى يا حبيبتى بلاش تعملى فى نفسك كده”
مسحت ليان عينيها بظهر يدها وهى تقول :
–:” أنا عايزة أسيب الكلية دى خالص يا تيتة خلاص مش عايزة أكمل فيها”
حاولت علية تهدئة ثورتها وهى تقول برفق :
–:” وتضيعى مستقبلك يا حبيبتى استهدى بالله”
عادت ليان لبكاءها ثانية وقالت بصوت متحشرج:
–:” أنا مبقتش طايقة الكلية ولا طايقة الدكتور ده خلاص أنا بكرهه ومش طايقة أشوف وشه”
–:” طب استهدى بالله وقومى اتوضى وصلى ومتخديش قرار وأنتى متعصبة”
قالت علية عبارتها ، رغبة منها فى أن تصرف غضب حفيدتها
فأتت كلماتها بثمارها ، بعدما سمعت ليان تقول :
–:” حاضر يا تيتة هقوم أصلى”
ردت علية بحب :
–:” قومى يا حبيبتى ربنا يهديكى ويصلحلك الحال يارب”
أنهت ليان مكالمتها مع جدتها ، فقامت وتوضأت وخرجت بسطت سجادة الصلاة وبدأت تصلى ، ولكن دموعها خانتها مرة اخرى ، فحاولت إغلاق عينيها لتوقفها ، ولكن كأن الدموع غير منصاعة لها ، ففرت من بين أهدابها المطبقة بقوة ، التى حرصت على أن تحتجزها بداخلها
بعد أن أنتهت تمددت على فراشها ولكنها ظلت تتقلب يميناً ويساراً ، وكأن فراشها به اشواك توخز جسدها ، فهى تشعر بنيران تشتعل بين جنبات قلبها ، تغلق عينيها عبثاً لتفتحها فى الثانية الأخرى
فسمعت صوت أقدام قادمة ، فمن المؤكد أن شريكاتها فى الغرفة قد عُدن من الكلية ، فيجب عليها غلق عينيها ، فهى لا تريد سماع كلمة أخرى منهن .
دخلن الغرفة بصوت ضحكات تعلو شيئًا فشيئًا مع اقترابهن
فقالت إحداهن :
–:”بس المحاضرة كانت إيه النهاردة ضرب نار”
ردت أخرى وهى تقول :
–:” الدكتور رفيق ده ملوش حل يخربيت كده دا ايه ده”
فقالت الثالثة وهى تكتم صوت ضحكتها :
–” أنا كنت ماسكة نفسى بالعافية لما قال للبت اللى اسمها رهف انتى لسه سمعك تقيل يا آنسة”
فعادت الأولى تقول بدهاء :
–:” ياترى بقى يا بنات الدكتور ده الواحد بعد كده يقعد ساكت ولا ميحضرش محاضرته تانى”
ردت رفيقتها قائلة :
–:” انا الصراحة بحضر المحاضرة علشان الدكتور المز ده أبو لسان بيحدف دبش”
وكزتها الثالثة وهى تقول :
–:” دبش ايه دا صواريخ نوووية يا بنتى والنهاردة الصاروخ قصف الجبهة خالص “
حاولت ليان أن تصم أذنيها ، عن سماع كلماتهن الساخرة ، فسحبت الوسادة ووضعتها على رأسها ، وكأنها إذا أخفت وجهها لن يروها ، كنعامة تحاول أن تدفن رأسها فى الرمال هرباً من الصياد
___________________
ولج رفيق إلى المنزل ، فلم يجدها بإنتظاره كعادتها ، فهى كانت تنتظره دائماً عند عودته ، وتأتى اليه ركضاً عندما تراه فأين هى الآن ؟ هل سترفض الحديث معه بعدما حدث منه ؟
فنادى والدته قائلاً :
–:” أمى أمى فين رهف”
خرجت منى من المطبخ وهى تقول :
–:” رجعت من الكلية نامت بس مش عارفة مالها فيها ايه رجعت ساكتة مش زى عوايدها وطلعت اوضتها من غير لماضة زى عادتها لما بتعمل”
أيقن أنها مازالت غاضبة منه بسبب ماحدث ، وجد نفسه يذهب الى غرفتها ، فطرق الباب عدة طرقات خفيفة حتى أتاه صوتها يأذن له بالدخول
فدلف للغرفة وجدها تجلس على فراشها تضم ساقيها بذراعيها ، فنظرت إليه قائلة :
–:” ايوة يا أبيه رفيق فى حاجة”
أطلق نهدة عميقة ، وأقترب منها وجلس بجانبها وهو يقول بحنان طاغى :
–:” حبيبتى أنتى لسه زعلانة منى”
لم تجيبه على سؤاله ، فخفضت رأسها أرضاً ، فماذا تقول له ؟ هل تقول انها شعرت بالمهانة من أسلوبه فى الحديث معها هى وليان ؟ فبالرغم من أن لا أحد يعلم بكونها شقيقته ولكنها شعرت كأنه طعنها فى الصميم
عندما طال صمتها ، مد يده وقبض على فكها ليجعلها تنظر إليه فقال :
–:” ردى عليا أنتى زعلانة منى يا رهف”
تجمعت الدموع بعينيها ثانية وهى تقول :
–:” أنت يا أبيه كلمتنا بأسلوب مش كويس وليان ضحكت علشان أنا السبب هى مالهاش ذنب هى بنت محترمة جدا”
على ذكرها لإسم ليان ، رد قائلاً بجفاء :
–:” محترمة تضحك بالشكل ده وكمان كانت قاعدة أنتى وهى مع شاب غريب”
قالت رهف بدهشة :
–:” وأنت عرفت إزاى”
نظر رفيق أمامه بجمود وهو يقول :
– :” كنت معدى بالصدفة وشفتكم يا رهف ومن ساعتها وأنا مضايق لأن مش عايزك تصاحبى بنات مش كويسة”
شدت رهف على ذراعه ، لتجعله ينتبه لما تقوله :
–:” أبيه أنت فاهم غلط الشاب ده قريبهم ويعتبر كمان خطيبها يعنى متظنش فيها ظن مش كويس”
ألتوى ثغره قائلاً بما يشبه السخرية :
–:” وانا إيش عرفنى هى بتقولك الصدق ولا بتكذب عليكى على العموم خلى بالك من نفسك يا حبيبتى ماشى أنتى عارفة غلاوتك عندى عاملة إزاى انا قولتلك قبل ما تكونى أختى فأنتى بنتى يا رهف”
نكست رهف رأسها وهى تقول معاتبة إياه :
– :” علشان كده أنا زعلت لما كلمتنا كده حسيت انك واحد انا معرفوش كأنك مش أبيه رفيق اللى أعرفه”
جعلها تنظر إليه ، فأخذ نفساً عميقاً وعاد يزفره ببطئ قائلاً:
–:” هى دى شخصيتى مع الناس يا رهف محدش يعرفنى على حقيقتى غيركم انتوا”
مطت رهف شفتيها وهى تقول:
–:” طب ليه يا أبيه دا أنت مفيش أحن ولا أطيب منك”
مسح وجهه بيديه قائلاً بصوت مرهق :
–:” متحاوليش تعرفى يا رهف إيه الأسباب بس أنا برا البيت ده ببقى واحد تانى خالص فمتزعليش منى يا حبيبتى”
عقدت حاحبيها تعجباً من حديث أخيها ، فهل يعانى من إنفصام بالشخصية حتى يتعامل معهم بحنان ويعامل الاخرين بجفاء وقسوة ؟ فلما يفعل ذلك؟ ومنذ متى وهو هكذا وهم لا يعلمون؟
فقالت رهف بشئ من البلاهة :
–:” انا مش فاهمة حاجة يا أبيه هو انت عايش بشخصيتين”
إبسم رفيق على قولها ورد قائلاً:
–:”رهف متشغليش نفسك قومى بقى نتعشى علشان أنتى عارفة مبعرفش أكل إلا وأنتى قاعدة معانا”
مد يده وجذبها اليه ، فحاوطها بحنان وقبل رأسها ، فهو يريدها أن تعلم ، أنها ستظل مدللته دائما وأبداً
شعرت بحب أخيها ، فابتسمت ابتسامة صافية ، فبالرغم مما حدث منه ، فهى لا تستطيع أن تظل بعيده عنه ولا تشعر بحنانه ودلاله لها
_________________
منذ آخر شجار لهما ، وهو لا يعيرها اهتماماً ، فهو قد ضاق ذرعاً بتصرفاتها المتعالية ، فهو يقضى يومه فى عمله ، وعندما يعود للمنزل ، يقضى ما تبقى من وقته قبل النوم مع صغيرته ، التى يشعر أحياناً كثيرة ، أنه سبب أساسى فى تعاستها ، بسبب أن تلك المرأة هى والدتها ، فهى تستحق أماً أفضل منها ، فهو يريد أن تعيش طفولتها كباقى الأطفال
سمعته يضحك بصوت عالى مع طفلتهما ، فإزداد غضبهاً وغيظاً منه أكثر ، بسبب إهماله فى خطب ودها ، فبالرغم من أنها كانت أحيانا كثيرة تتهرب من واجبها الزوجى تجاهه ، إلا أنها الآن تكاد تموت غيظاً بسبب اهماله لها من كل النواحى الزوجية
ولجت غرفة طفلتها كعاصفة هوجاء ، فرمقها بنظرة لامبالية ، وعاد يكمل ما كان يفعله ، فيكفى أن صغيرته لاتحصل على حب والدتها ، فلن يكون هو وهى السبب فى تعاسة تلك الصغيرة ، فهى إبنته وهو يعشقها ولا يريد سوى أن يرى إبتسامتها دائماً
نظرت إليه شهيرة ، وهى عاقدة ذراعيها قائلة بغيظ :
–:” ممكن تقوم نتكلم شوية وأنتى يا كنزى يلا علشان تنامى”
ردت الصغيرة بخنوع :
–:” حاضر يا مامى”
رمقها أكمل قائلاً بحنق :
–:” أنتى عايزة إيه مش شايفة أن أنا قاعد مع كنزى يلا يا حبيبتى نكمل ولما نخلص أبقى نامى”
أخذت من يده الدمية ، وألقتها هادرة بصوت غاضب :
–:” انا مش قولتلك عايزة اتكلم معاك”
أخذ أكمل صغيرته ووضعها على ساقه قائلاً ببرود :
–:” لما أخلص هبقى اجى أتكلم معاكى وأخرجى بقى واقفلى الباب وراكى”
تقف مشدوهة من حديثه ، فما هذا التمرد الذى تملكه ؟ ما الذى حدث له؟ فهو كأنه شخص اخر ، ولكنها لا تعلم أنه قد وصل إلى حافة صبره وتحمله
فخرجت تصفع الباب خلفها بقوة ، فأرتعدت الصغيرة بين ذراعيه ، فضمها إليه بحنان ليهدئ من فزعها
فبعد الاطمئنان على صغيرته ، وأنها أوت لفراشها ، عاد إلى غرفته ، فوجدها تجلس على الفراش بملامح وجه مكفهرة من الغضب ،ذهب الى غرفة الثياب، وبدأ بتبديل ثيابه وهو يفكر هل سينام اليوم بدون مشاجرة ام ستفتعل معه شجارًا يجعل النوم يهرب من جفنيه؟
عاد إلى الغرفة ثانية و تمدد على الفراش ،وكل هذا وهى تنظر له بعدم استعاب لما يحدث
فنادته قائلة :
–:” أكمل”
أجابها أكمل وهو يزفر بنزق :
–:” نعم يا شهيرة فى إيه وعايزة إيه منى”
أنحنت إليه تنظر إليه ، وهى تجز على أنيابها بغيظ وقالت :
–:” أنت مش ملاحظ انك زودتها اوى اليومين دول”
رفع حاجبيه قائلاً بسخرية :
–:” لا والله زودتها وتقولى ايه على نفسك يا شهيرة”
زاغت بعينيها عن مرآى عيناه وهى تقول بحرج طفيف :
–:” أنت حتى مبقتش تقرب منى”
قال أكمل وهو يحرك رأسه بيأس :
–:” لأن مش كل مرة هستحايل عليكى يا شهيرة وأنتى تصدينى زى ما أكون بشحت منك وأن ده مش حقى عليكى كزوج بس خلاص أنا أكتفيت”
تركت الفراش ووقفت بجانبه ، وهى تصيح به :
–:” يبقى أكيد أنت بتخونى يا أكمل وصدقنى لو ده حصل أنت مش عارف أنا هعمل فيك ايه أنا هخلى بابى يقلب عليك الدنيا وهخليك ترجع مكان ما كنت “
أولاها ظهره وهو يقول ببرود :
–:” طفى النور يا شهيرة ونامى تصبحى على خير”
أغلق عينيه بتعب من تلك المرأة ، التى لا تكف عن حديثها السخيف وتهديدها الأخرق له دائما بذكر أبيها ، فهو يلعن الآن تفكيره الذى أوقعه بحبائل تلك المرأة المتغطرسة
_______________
لملمت الأطباق الفارغة ، بعد الانتهاء من تناولهما وجبة الغداء ، وقف زوجها بالشرفة ينفث سيجارته ، التى ربما ستحرق أصابعه ولا ينتبه لها ، ولا تعلم سبب تلك الحالة الشاردة التي أصبح عليها
وضعت إلهام الاطباق بحوض المطبخ ، على أن تقوم بجليها فيما بعد ، فأعدت له كوب من الشاى ،ونادته بصوت انتبه عليه ، فعاد للصالة ثانية
دعس سيجارته ، وهو يقول بفتور :
–:” فى ايه يا إلهام بتنادى ليه عايزة إيه”
قالت إلهام وهى تضع كوب الشاي على المنضدة الصغيرة:
–:” تعال أشرب الشاى مالك يا فاروق اليومين دول مش على بعضك كده فى ايه”
أرتمى بجسده على الأريكة العريضة وهو يغمغم :
–:” مفيش حاجة يا إلهام مشاكل شغل”
جلست إلهام بجانبه وتساءلت :
–:” ماله الشغل مش ماشى كويس ولا ايه”
فرك فاروق عيناه ، كأنه يشعر بإرهاق من كثرة التفكير ، فرد قائلاً :
–:” مش أوى يا إلهام ماشى نص نص عايز اغير الوشوش اللى عندى وشهم اتحرق وبقوا معروفين عايز حاجة جديدة حاجة طازة كده وكمان فى محل فتح على أول الشارع وواكل مننا الجو ، وبالنظام ده هنقفل كده”
نظرت إليه إلهام بقلق وقالت :
–:” وهتجيب بنات منين يعنى يا فاروق ثم أن المحل ده شقى عمرنا وملناش دخل غيره”
أفتر ثغره عن إبتسامة ماكرة وهو يقول :
–:” أهو ده اللى الواحد عايز يخططله عايز بنت تبقى للعرض بس ومش للمس حاجة تجيب الزباين على ملا وشهم ومنبقاش ملاحقين على الشغل”
تلمست إلهام جبهتها بتفكير وقالت:
–:” وانت تجيبها منين البنت اللى بالمواصفات دى يا فاروق”
عاد لإبتسامته الخبيثة ثانية وقال :
– :” بنتك ليان يا إلهام “
جحظت عيناها عندما استمعت لاسم ابنتها ، فماذا يقول هذا المعتوه؟ فهى تعلم ما يحدث فى ذلك الملهى الليلى ، فهى حتى لم تخبر ابناءها ، حتى لا تسقط من أعينهما ، عندما يعلمان أن والدتهما تزوجت من رجل مثل هذا بعد أبيهما الراحل
فقالت بدهشة أقرب للصدمة :
–:” أنت بتقول إيه يا فاروق أنت اتجننت”
أدنى فاروق بوجهه منها ، تكاد تشعر بأنفاسه تحرق وجهها ، فقال بخبث :
–:” صدقينى بنتك دى اللى هتخلينا نقب على وش الدنيا يا إلهام دى هيبقى الزباين علي المحل كده كده مش هنبقى ملاحقين عليهم”
أنتفضت من مكانها صارخة به بصوت جهورى :
–:” ابعد عن بنتى يا فاروق أنت فاهم وإلا مش هيحصلك طيب”
جذبها فاروق من ذراعها ، جعلها تعود لمكانها ثانية ، فقال بصوت يغلب عليه الوداعة :
–:” بنتك يا حبيبتى هتبقى صاغ سليم محدش هيقربلها خااالص ، هى بس تبقى تغنى بصوتها الحلو ده مع جمالها والفلوس هتنزل ترف علينا زى المطرة ، وأنتى عارفة بنتك صوتها حلو إزاى ، وأنا مش هسمح لحد يقربلها نهائى ، هى هتبقى للعرض وبس يا إلهام ، ومش هيعدى علينا السنة الا واحنا ساكنين ف احسن كومباوند فيكى يا مصر غير العربيات والفلوس وعيشة نغنغة فكرى فيها بس كده واتخيلى زى ما أنا متخيل العز اللى هنبقى فيه وأنا أوعدك يا ستى بعد ما يحصل المراد ونأمن نفسنا ومستقبلنا مش هخليها تعتب المحل تانى هخليها تقعد معززة مكرمة فى البيت قولتى إيه بقى فمتبقيش خايبة يا إلهام وتضيعى فرصة زى دى من إيدينا أنا عايز مصلحتك يا حبيبتى”
حاول رسم مستقبلهما الخيالى فى عين تلك المرأة ، حتى يجعلها تنصاع لأفكاره الشيطانية ، ويجعلها توافق على أن إبنتها تعمل بهذا المكان ، الذى أقل ما يقال عنه أنه أحد أبواب الجحيم
_________________
يتبع ……!!!!!!!!
٩– ” زيغه الشيطان “
نفضت رهف رأسها ، لعلها سمعت شيئاً خاطئاً ، وليس أن شقيقها رفيق ، قام بطردها هى وليان ، على مرآى ومسمع من كل الطلاب الحاضرين ، فحتى هى لم تنسى ، أن تفتح عينيها وتغلقهما ، لعل من تراه واقفاً أمامها الآن ، شخصاً أخر وليس مدللها الحانى ، الذى لم يقدم بيوم على أن يجعل الحزن يسكن قلبها
فردت قائلة بنبرة مذهولة :
–:” حضرتك بتقول إيه يا دكتور رفيق”
عاد يشير بيده للباب ثانية وهو يقول ببرود :
–:” بقول اتفضلوا اطلعوا برا انتوا الاتنين ايه لسه سمعك تقيل وأنتى يا آنسة أنتى إسمك إيه”
وجدته ليان يشير إليها ، فأجابته بصوت منخفض :
–:” إسمى ليان سامى”
أرهف سمعه لعله يلتقط حروفها الهامسة ، فصاح بضيق :
–:” على صوتك وأنتى بتتكلمى اشمعنا دلوقتى صوتك واطى ما صوت ضحكتك سمع الكلية اللى جمبنا من شوية “
يكفى هذا فهى لن تتحمل سماع كلمة سخرية أخرى منه ، كانت الدموع كسحابة غطت عينيها ، جعلت الرؤية لديها مشوشة وضبابية ، فقامت بلم ما تناله يديها من أغراضها ، فهى تريد الخروج من هذا المكان بأقصى سرعة ،و لاتعلم ماذا أخذت أو ماذا تركت من اغراضها؟
تسابقت قدميها فى الخروج أو بالأصح الركض ولكن قبل بلوغها الباب سمعت صوته يسمرها فى مكانها وهو يقول :
–:” أنتى راحة فين أنا مش بكلمك يا أنسة أنتى “
أرتجفت يدها على مقبض الباب ، ودموعها تتساقط على وجنتيها ، فأشتعلت النار والكراهية بقلبها ، تتأجج بداخلها كالحريق الذى شب بأعواد القش فتأكلها ولم يبقى منها شيئاً، فإلتفتت اليه ، تنظر إلى تعبيرات وجهه الهازئة بها ، فوجدت نفسها تنظر اليه نظرة كره وحقد ، فلو النظرات تقتل ربما كان خر رفيق قتيلاً الآن
عقد حاجبيه من نظرة تلك الفتاة له ، فوجدت نفسها تردف بكلمات أصابتها هى أولاً بالصدمة قبل أن تصيب الحاضرين، خاصة وهى تقول :
–:” حضرتك أنا راحة الكباريه اللى ضحكتى متلقش الا بيه”
أنهت قولها وفتحت باب القاعة وخرجت ، قبل أن تسمع منه كلمة اخرى ، أو ترى تلك النظرات الشامتة المرتسمة بوضوح جلى على وجه بعض الفتيات
فلملمت رهف أيضاً أغراضها ، لتخرج من القاعة ، وحالها لا يفرق عن ليان ، ولكن صدمتها أكبر فشقيقها تعامل معها بأسلوب مهين
فنظر إليها قائلاً بتساؤل :
–:” وحضرتك راحة فين أنتى كمان”
ضمت رهف كتبها إلى صدرها ، تحاول منع دموعها من التساقط ، فردت قائلة بصوت مرتجف :
–:” مش حضرتك يا دكتور طردتنا من المحاضرة أنا بنفذ كلامك وخارجة”
خرجت رهف وهو يعلم أنها تشعر بالضيق منه ، وخزات مؤلمة أخذت تعتصر قلبه وهو يراها هكذا ، فهو لا يحتمل أن يرى دموعها ،وكيف ذلك وهو من حرص على عدم إبكاءها يوماً ؟
فعاد ونظر للطلاب قائلاً بصوت حازم :
–:” فى حد تانى حابب يخرج ولا نكمل شرح لو حد حابب يحصلهم يتفضل يخرج”
ساد الهدوء والصمت المكان ، فعاد إلى ما كان يفعله ، حتى يحين موعد إنتهاء تلك المحاضرة ، التى مقتها بسبب رؤيته تلك الدموع التى تلألأت فى عينىٌ مدللته
________________
تزرع أرض غرفتها ذهاباً وإياباً ، يتصاعد الغضب بصدرها من أفعال ولدها ، فهى لا تستسيغ ما يفعله بتلك الآونة ، أو بالأصح منذ بداية وعيه لذلك الحب ، الذى نبت بقلبه لأجل تلك الفتاة ، التى لن ترتضى بأن تصير له زوجة ، خاصة وأن لدى والدتها تاريخ مشين ، وغير مشرف بالمرة
ولج زوجها الغرفة ، وهو يجفف وجهه وذراعاه بالمنشفة القطنية ، بعد إنتهاءه من الوضوء
نظر إليها عاقداً حاجبيه من حركتها المتململة ، فهتف بها بتساؤل :
– مالك يا صابرة راحة جاية كده ليه
أنتفضت صابرة بعد سماع صوته ، فوضعت يدها على صدرها وهى تقول :
– حرام عليك يا محسن خضتنى
أزاحت طوق ثوبها وتفلت قائلة :
– قطعت خلفى من الرعبة يا راجل
رفع محسن حاجبه الأيسر تعجباً من قولها وفعلها ، ولكنه لم يرد جواباً على ما قالت ، بل بسط سجادة الصلاة على الأرض ، وبدأ صلاته بخشوع ، وبعد إنتهاءه جلس مكانه
فأقتربت منه صابرة ، وجلست بجانبه وهى تقول برجاء :
– محسن أنا عيزاك تكلم إبنك خليه يشيل بنت إلهام من رأسه أبوس إيدك
كف محسن عن إدارة المسبحة بين أصابعه ، فنظر إليها قائلاً:
– فى إيه يا صابرة أنتى مكبرة الموضوع ليه كده ، هى البنت مالها بأمها ، ثم اللى ربتها هى جدتها ، يعنى هى لا عايشة مع أمها ولا جوزها ، تبقى خايفة من إيه بقى
عبست صابرة قائلة بحدة :
– مش مرتاحة للموضوع كله يا محسن وأنا مش هضحى بأبنى البكر بجوازة زى دى الله أعلم ايه اللى ممكن يحصل بعد كده ، لاء خلينا حبايب أحسن مش المثل بيقولك صاحبك لا تحاسبه ولا تناسبه
ربت محسن على يدها ، علها تكف عن التفكير بالأمر هكذا ، فخرج صوته ليناً :
– ماهو علشان البنت أعرف ابوها وجدتها وعارفها هى كمان بقولك ان هى دى اللى تنفع إبنك ثم ليه عايزة تكسرى بقلبه وقلبها ، البت كمان باين عليها بتحبه
نفضت يده عنها بشئ من الحدة وقالت :
– بلا بتحبه بلا بتاع ، ما زمان كانت إلهام زيها وبتحب سامى الله يرحمه ، وشوف فى الآخر عملت فيه إيه دى…..
كفت عن قولها بعد سماع صوت طرقات على باب الغرفة ، فنهضت من مكانها ، وذهبت لفتح الباب ، فوجدت ماجد يقف على عتبة الباب صامتاً
فتبسمت بتوتر قائلة :
– أيوة يا ماجد فى إيه أنت رجعت من الكلية أمتى
رد ماجد قائلاً:
– لسه راجع دلوقتى وكنت معدى من قدام الأوضة وسمعت كلامكم غصب عنى إيه حكاية أم ليان يا ماما بالظبط
نهض محسن هو الاخر من مكانه قائلاً :
– لا حكاية ولا رواية يا ماجد أنت مش عارف أمك هى بتقول كده علشان مبتحبش إلهام من زمان يلا روح على أوضتك على ما أمك تروح تجهزلنا الغدا يلا يا صابرة
لم يقتنع ماجد بحديث والده ، يشعر بوجود شئ مبهم بحديثهما ، ولكنه فضل الذهاب إلى غرفته ، مثلما أمره والده ، أو ربما فعل ذلك حتى لا يستمع لشئ من والدته ، تهدم به ذلك الحلم الجميل ، الذى تنسجه روحه المشتاقة لذلك اليوم ، الذى ستصبح به ليان عروساً له
________________
بعد أن خرجت ليان من الكلية ، عادت الى غرفتها فى السكن الجامعي ، فارتمت على السرير ،تبكى انهاراً من الدموع ، فهى تريد ان تصرخ بملأ فاها على ما لاقته من مهانة من ذلك المدعو رفيق ،تأوهات وشهقات ودموع تذرف ، وقلب يتألم ، وكره يتأجج بداخلها
وجدت نفسها تخرج هاتفها من حقيبتها تهاتف جدتها ، أنتظرت حتى جاءها الرد ، فقالت بصوت باكى :
–:” ايوة يا تيتة”
شعرت علية بالخوف فردت قائلة :
–:” ايوة يا حبيبتى مالك انتى بتعيطى ولا ايه صوتك ماله”
روت ليان لجدتها ، كل ما حدث معها من بداية الأمر حتى آخره ، وكلما تتذكر تبكى أكثر كأن عينيها تأبى أن تكف عن البكاء
فقالت علية بحنان:
–:” اهدى يا حبيبتى بلاش تعملى فى نفسك كده”
مسحت ليان عينيها بظهر يدها وهى تقول :
–:” أنا عايزة أسيب الكلية دى خالص يا تيتة خلاص مش عايزة أكمل فيها”
حاولت علية تهدئة ثورتها وهى تقول برفق :
–:” وتضيعى مستقبلك يا حبيبتى استهدى بالله”
عادت ليان لبكاءها ثانية وقالت بصوت متحشرج:
–:” أنا مبقتش طايقة الكلية ولا طايقة الدكتور ده خلاص أنا بكرهه ومش طايقة أشوف وشه”
–:” طب استهدى بالله وقومى اتوضى وصلى ومتخديش قرار وأنتى متعصبة”
قالت علية عبارتها ، رغبة منها فى أن تصرف غضب حفيدتها
فأتت كلماتها بثمارها ، بعدما سمعت ليان تقول :
–:” حاضر يا تيتة هقوم أصلى”
ردت علية بحب :
–:” قومى يا حبيبتى ربنا يهديكى ويصلحلك الحال يارب”
أنهت ليان مكالمتها مع جدتها ، فقامت وتوضأت وخرجت بسطت سجادة الصلاة وبدأت تصلى ، ولكن دموعها خانتها مرة اخرى ، فحاولت إغلاق عينيها لتوقفها ، ولكن كأن الدموع غير منصاعة لها ، ففرت من بين أهدابها المطبقة بقوة ، التى حرصت على أن تحتجزها بداخلها
بعد أن أنتهت تمددت على فراشها ولكنها ظلت تتقلب يميناً ويساراً ، وكأن فراشها به اشواك توخز جسدها ، فهى تشعر بنيران تشتعل بين جنبات قلبها ، تغلق عينيها عبثاً لتفتحها فى الثانية الأخرى
فسمعت صوت أقدام قادمة ، فمن المؤكد أن شريكاتها فى الغرفة قد عُدن من الكلية ، فيجب عليها غلق عينيها ، فهى لا تريد سماع كلمة أخرى منهن .
دخلن الغرفة بصوت ضحكات تعلو شيئًا فشيئًا مع اقترابهن
فقالت إحداهن :
–:”بس المحاضرة كانت إيه النهاردة ضرب نار”
ردت أخرى وهى تقول :
–:” الدكتور رفيق ده ملوش حل يخربيت كده دا ايه ده”
فقالت الثالثة وهى تكتم صوت ضحكتها :
–” أنا كنت ماسكة نفسى بالعافية لما قال للبت اللى اسمها رهف انتى لسه سمعك تقيل يا آنسة”
فعادت الأولى تقول بدهاء :
–:” ياترى بقى يا بنات الدكتور ده الواحد بعد كده يقعد ساكت ولا ميحضرش محاضرته تانى”
ردت رفيقتها قائلة :
–:” انا الصراحة بحضر المحاضرة علشان الدكتور المز ده أبو لسان بيحدف دبش”
وكزتها الثالثة وهى تقول :
–:” دبش ايه دا صواريخ نوووية يا بنتى والنهاردة الصاروخ قصف الجبهة خالص “
حاولت ليان أن تصم أذنيها ، عن سماع كلماتهن الساخرة ، فسحبت الوسادة ووضعتها على رأسها ، وكأنها إذا أخفت وجهها لن يروها ، كنعامة تحاول أن تدفن رأسها فى الرمال هرباً من الصياد
___________________
ولج رفيق إلى المنزل ، فلم يجدها بإنتظاره كعادتها ، فهى كانت تنتظره دائماً عند عودته ، وتأتى اليه ركضاً عندما تراه فأين هى الآن ؟ هل سترفض الحديث معه بعدما حدث منه ؟
فنادى والدته قائلاً :
–:” أمى أمى فين رهف”
خرجت منى من المطبخ وهى تقول :
–:” رجعت من الكلية نامت بس مش عارفة مالها فيها ايه رجعت ساكتة مش زى عوايدها وطلعت اوضتها من غير لماضة زى عادتها لما بتعمل”
أيقن أنها مازالت غاضبة منه بسبب ماحدث ، وجد نفسه يذهب الى غرفتها ، فطرق الباب عدة طرقات خفيفة حتى أتاه صوتها يأذن له بالدخول
فدلف للغرفة وجدها تجلس على فراشها تضم ساقيها بذراعيها ، فنظرت إليه قائلة :
–:” ايوة يا أبيه رفيق فى حاجة”
أطلق نهدة عميقة ، وأقترب منها وجلس بجانبها وهو يقول بحنان طاغى :
–:” حبيبتى أنتى لسه زعلانة منى”
لم تجيبه على سؤاله ، فخفضت رأسها أرضاً ، فماذا تقول له ؟ هل تقول انها شعرت بالمهانة من أسلوبه فى الحديث معها هى وليان ؟ فبالرغم من أن لا أحد يعلم بكونها شقيقته ولكنها شعرت كأنه طعنها فى الصميم
عندما طال صمتها ، مد يده وقبض على فكها ليجعلها تنظر إليه فقال :
–:” ردى عليا أنتى زعلانة منى يا رهف”
تجمعت الدموع بعينيها ثانية وهى تقول :
–:” أنت يا أبيه كلمتنا بأسلوب مش كويس وليان ضحكت علشان أنا السبب هى مالهاش ذنب هى بنت محترمة جدا”
على ذكرها لإسم ليان ، رد قائلاً بجفاء :
–:” محترمة تضحك بالشكل ده وكمان كانت قاعدة أنتى وهى مع شاب غريب”
قالت رهف بدهشة :
–:” وأنت عرفت إزاى”
نظر رفيق أمامه بجمود وهو يقول :
– :” كنت معدى بالصدفة وشفتكم يا رهف ومن ساعتها وأنا مضايق لأن مش عايزك تصاحبى بنات مش كويسة”
شدت رهف على ذراعه ، لتجعله ينتبه لما تقوله :
–:” أبيه أنت فاهم غلط الشاب ده قريبهم ويعتبر كمان خطيبها يعنى متظنش فيها ظن مش كويس”
ألتوى ثغره قائلاً بما يشبه السخرية :
–:” وانا إيش عرفنى هى بتقولك الصدق ولا بتكذب عليكى على العموم خلى بالك من نفسك يا حبيبتى ماشى أنتى عارفة غلاوتك عندى عاملة إزاى انا قولتلك قبل ما تكونى أختى فأنتى بنتى يا رهف”
نكست رهف رأسها وهى تقول معاتبة إياه :
– :” علشان كده أنا زعلت لما كلمتنا كده حسيت انك واحد انا معرفوش كأنك مش أبيه رفيق اللى أعرفه”
جعلها تنظر إليه ، فأخذ نفساً عميقاً وعاد يزفره ببطئ قائلاً:
–:” هى دى شخصيتى مع الناس يا رهف محدش يعرفنى على حقيقتى غيركم انتوا”
مطت رهف شفتيها وهى تقول:
–:” طب ليه يا أبيه دا أنت مفيش أحن ولا أطيب منك”
مسح وجهه بيديه قائلاً بصوت مرهق :
–:” متحاوليش تعرفى يا رهف إيه الأسباب بس أنا برا البيت ده ببقى واحد تانى خالص فمتزعليش منى يا حبيبتى”
عقدت حاحبيها تعجباً من حديث أخيها ، فهل يعانى من إنفصام بالشخصية حتى يتعامل معهم بحنان ويعامل الاخرين بجفاء وقسوة ؟ فلما يفعل ذلك؟ ومنذ متى وهو هكذا وهم لا يعلمون؟
فقالت رهف بشئ من البلاهة :
–:” انا مش فاهمة حاجة يا أبيه هو انت عايش بشخصيتين”
إبسم رفيق على قولها ورد قائلاً:
–:”رهف متشغليش نفسك قومى بقى نتعشى علشان أنتى عارفة مبعرفش أكل إلا وأنتى قاعدة معانا”
مد يده وجذبها اليه ، فحاوطها بحنان وقبل رأسها ، فهو يريدها أن تعلم ، أنها ستظل مدللته دائما وأبداً
شعرت بحب أخيها ، فابتسمت ابتسامة صافية ، فبالرغم مما حدث منه ، فهى لا تستطيع أن تظل بعيده عنه ولا تشعر بحنانه ودلاله لها
_________________
منذ آخر شجار لهما ، وهو لا يعيرها اهتماماً ، فهو قد ضاق ذرعاً بتصرفاتها المتعالية ، فهو يقضى يومه فى عمله ، وعندما يعود للمنزل ، يقضى ما تبقى من وقته قبل النوم مع صغيرته ، التى يشعر أحياناً كثيرة ، أنه سبب أساسى فى تعاستها ، بسبب أن تلك المرأة هى والدتها ، فهى تستحق أماً أفضل منها ، فهو يريد أن تعيش طفولتها كباقى الأطفال
سمعته يضحك بصوت عالى مع طفلتهما ، فإزداد غضبهاً وغيظاً منه أكثر ، بسبب إهماله فى خطب ودها ، فبالرغم من أنها كانت أحيانا كثيرة تتهرب من واجبها الزوجى تجاهه ، إلا أنها الآن تكاد تموت غيظاً بسبب اهماله لها من كل النواحى الزوجية
ولجت غرفة طفلتها كعاصفة هوجاء ، فرمقها بنظرة لامبالية ، وعاد يكمل ما كان يفعله ، فيكفى أن صغيرته لاتحصل على حب والدتها ، فلن يكون هو وهى السبب فى تعاسة تلك الصغيرة ، فهى إبنته وهو يعشقها ولا يريد سوى أن يرى إبتسامتها دائماً
نظرت إليه شهيرة ، وهى عاقدة ذراعيها قائلة بغيظ :
–:” ممكن تقوم نتكلم شوية وأنتى يا كنزى يلا علشان تنامى”
ردت الصغيرة بخنوع :
–:” حاضر يا مامى”
رمقها أكمل قائلاً بحنق :
–:” أنتى عايزة إيه مش شايفة أن أنا قاعد مع كنزى يلا يا حبيبتى نكمل ولما نخلص أبقى نامى”
أخذت من يده الدمية ، وألقتها هادرة بصوت غاضب :
–:” انا مش قولتلك عايزة اتكلم معاك”
أخذ أكمل صغيرته ووضعها على ساقه قائلاً ببرود :
–:” لما أخلص هبقى اجى أتكلم معاكى وأخرجى بقى واقفلى الباب وراكى”
تقف مشدوهة من حديثه ، فما هذا التمرد الذى تملكه ؟ ما الذى حدث له؟ فهو كأنه شخص اخر ، ولكنها لا تعلم أنه قد وصل إلى حافة صبره وتحمله
فخرجت تصفع الباب خلفها بقوة ، فأرتعدت الصغيرة بين ذراعيه ، فضمها إليه بحنان ليهدئ من فزعها
فبعد الاطمئنان على صغيرته ، وأنها أوت لفراشها ، عاد إلى غرفته ، فوجدها تجلس على الفراش بملامح وجه مكفهرة من الغضب ،ذهب الى غرفة الثياب، وبدأ بتبديل ثيابه وهو يفكر هل سينام اليوم بدون مشاجرة ام ستفتعل معه شجارًا يجعل النوم يهرب من جفنيه؟
عاد إلى الغرفة ثانية و تمدد على الفراش ،وكل هذا وهى تنظر له بعدم استعاب لما يحدث
فنادته قائلة :
–:” أكمل”
أجابها أكمل وهو يزفر بنزق :
–:” نعم يا شهيرة فى إيه وعايزة إيه منى”
أنحنت إليه تنظر إليه ، وهى تجز على أنيابها بغيظ وقالت :
–:” أنت مش ملاحظ انك زودتها اوى اليومين دول”
رفع حاجبيه قائلاً بسخرية :
–:” لا والله زودتها وتقولى ايه على نفسك يا شهيرة”
زاغت بعينيها عن مرآى عيناه وهى تقول بحرج طفيف :
–:” أنت حتى مبقتش تقرب منى”
قال أكمل وهو يحرك رأسه بيأس :
–:” لأن مش كل مرة هستحايل عليكى يا شهيرة وأنتى تصدينى زى ما أكون بشحت منك وأن ده مش حقى عليكى كزوج بس خلاص أنا أكتفيت”
تركت الفراش ووقفت بجانبه ، وهى تصيح به :
–:” يبقى أكيد أنت بتخونى يا أكمل وصدقنى لو ده حصل أنت مش عارف أنا هعمل فيك ايه أنا هخلى بابى يقلب عليك الدنيا وهخليك ترجع مكان ما كنت “
أولاها ظهره وهو يقول ببرود :
–:” طفى النور يا شهيرة ونامى تصبحى على خير”
أغلق عينيه بتعب من تلك المرأة ، التى لا تكف عن حديثها السخيف وتهديدها الأخرق له دائما بذكر أبيها ، فهو يلعن الآن تفكيره الذى أوقعه بحبائل تلك المرأة المتغطرسة
_______________
لملمت الأطباق الفارغة ، بعد الانتهاء من تناولهما وجبة الغداء ، وقف زوجها بالشرفة ينفث سيجارته ، التى ربما ستحرق أصابعه ولا ينتبه لها ، ولا تعلم سبب تلك الحالة الشاردة التي أصبح عليها
وضعت إلهام الاطباق بحوض المطبخ ، على أن تقوم بجليها فيما بعد ، فأعدت له كوب من الشاى ،ونادته بصوت انتبه عليه ، فعاد للصالة ثانية
دعس سيجارته ، وهو يقول بفتور :
–:” فى ايه يا إلهام بتنادى ليه عايزة إيه”
قالت إلهام وهى تضع كوب الشاي على المنضدة الصغيرة:
–:” تعال أشرب الشاى مالك يا فاروق اليومين دول مش على بعضك كده فى ايه”
أرتمى بجسده على الأريكة العريضة وهو يغمغم :
–:” مفيش حاجة يا إلهام مشاكل شغل”
جلست إلهام بجانبه وتساءلت :
–:” ماله الشغل مش ماشى كويس ولا ايه”
فرك فاروق عيناه ، كأنه يشعر بإرهاق من كثرة التفكير ، فرد قائلاً :
–:” مش أوى يا إلهام ماشى نص نص عايز اغير الوشوش اللى عندى وشهم اتحرق وبقوا معروفين عايز حاجة جديدة حاجة طازة كده وكمان فى محل فتح على أول الشارع وواكل مننا الجو ، وبالنظام ده هنقفل كده”
نظرت إليه إلهام بقلق وقالت :
–:” وهتجيب بنات منين يعنى يا فاروق ثم أن المحل ده شقى عمرنا وملناش دخل غيره”
أفتر ثغره عن إبتسامة ماكرة وهو يقول :
–:” أهو ده اللى الواحد عايز يخططله عايز بنت تبقى للعرض بس ومش للمس حاجة تجيب الزباين على ملا وشهم ومنبقاش ملاحقين على الشغل”
تلمست إلهام جبهتها بتفكير وقالت:
–:” وانت تجيبها منين البنت اللى بالمواصفات دى يا فاروق”
عاد لإبتسامته الخبيثة ثانية وقال :
– :” بنتك ليان يا إلهام “
جحظت عيناها عندما استمعت لاسم ابنتها ، فماذا يقول هذا المعتوه؟ فهى تعلم ما يحدث فى ذلك الملهى الليلى ، فهى حتى لم تخبر ابناءها ، حتى لا تسقط من أعينهما ، عندما يعلمان أن والدتهما تزوجت من رجل مثل هذا بعد أبيهما الراحل
فقالت بدهشة أقرب للصدمة :
–:” أنت بتقول إيه يا فاروق أنت اتجننت”
أدنى فاروق بوجهه منها ، تكاد تشعر بأنفاسه تحرق وجهها ، فقال بخبث :
–:” صدقينى بنتك دى اللى هتخلينا نقب على وش الدنيا يا إلهام دى هيبقى الزباين علي المحل كده كده مش هنبقى ملاحقين عليهم”
أنتفضت من مكانها صارخة به بصوت جهورى :
–:” ابعد عن بنتى يا فاروق أنت فاهم وإلا مش هيحصلك طيب”
جذبها فاروق من ذراعها ، جعلها تعود لمكانها ثانية ، فقال بصوت يغلب عليه الوداعة :
–:” بنتك يا حبيبتى هتبقى صاغ سليم محدش هيقربلها خااالص ، هى بس تبقى تغنى بصوتها الحلو ده مع جمالها والفلوس هتنزل ترف علينا زى المطرة ، وأنتى عارفة بنتك صوتها حلو إزاى ، وأنا مش هسمح لحد يقربلها نهائى ، هى هتبقى للعرض وبس يا إلهام ، ومش هيعدى علينا السنة الا واحنا ساكنين ف احسن كومباوند فيكى يا مصر غير العربيات والفلوس وعيشة نغنغة فكرى فيها بس كده واتخيلى زى ما أنا متخيل العز اللى هنبقى فيه وأنا أوعدك يا ستى بعد ما يحصل المراد ونأمن نفسنا ومستقبلنا مش هخليها تعتب المحل تانى هخليها تقعد معززة مكرمة فى البيت قولتى إيه بقى فمتبقيش خايبة يا إلهام وتضيعى فرصة زى دى من إيدينا أنا عايز مصلحتك يا حبيبتى”
حاول رسم مستقبلهما الخيالى فى عين تلك المرأة ، حتى يجعلها تنصاع لأفكاره الشيطانية ، ويجعلها توافق على أن إبنتها تعمل بهذا المكان ، الذى أقل ما يقال عنه أنه أحد أبواب الجحيم
_________________
يتبع ……!!!!!!!!
تم نسخ الرابط