عن عمرو بن مهاجر قال: قال لي عمر بن عبد العزيز رحمه الله: إذا رأيتني قد ملتُ عن الحق، فضع يدك في تلبابي، ثم هزَّني، ثم قل: يا عمر ما تصنع.
٨–” فظًا غليظًا “
تسمرت قدماه على عتبة الباب ، فماذا يقصد أكمل بقوله ؟ أغلق رفيق باب الغرفة ، وعاد إليه ثانية ، ووقف أمام المكتب الخشبى الفاصل بينهما ، تأمله بصمت لبضع لحظات
فوضع يده بجيبه متسائلا ً :
– أنت قصدك إيه يا أكمل يعنى إيه أخد بتارى منها ؟
هب أكمل واقفاً وهو يقول بدهاء :
_ يعنى زى ماهى داست على كرامتك قدام الناس دوس أنت كمان على كرامتها ، يمكن ساعتها تقدر تتجاوز المحنة دى وتخلص منها ، وأظن أنها دلوقتى هتموت وترجعلك ، يعنى الفرصة جتلك على طبق من دهب
– مش أخلاقى دى يا أكمل
قالها رفيق بهدوء ، فحتى إن كان غاضباً وحانقاً مما فعلته به ليلى بالسابق ، إلا أن أخلاقه تمنعه من الاقدام على فعل ما ينصحه به أكمل
أقترب منه أكمل وقبض على كتفه ، وشد عليه قليلاً وقال :
– حاول بس تسمع كلامى صدقنى كل البنات اللى من عينة ليلى وشهيرة مراتى يستاهلوا كل اللى يجرالهم
فهو أيضاً ذاق مرارة الإهانة من زوجته ، فهى لا تفوت مناسبة ، إلا وتذكره بنشئته المتواضعة ، وإنها هى سبيله للثراء
رفع رفيق يده وأزاح يد أكمل بهدوء وقال :
– أكمل شكلك أبتديت تخرف من اللى مراتك عملاه فيك بطل تفكير بالشكل ده ، لا أنا ولا أنت من النوع ده ، ويلا بقى خلينى أروح مكتبى
تلك المرة خرج رفيق من الغرفة ، فعاد أكمل وجلس على مقعده يأنب نفسه ، على تفكيره بإيذاء قلوب الآخرين ، فزوجته جعلته يتخلى عن المنطق السليم بالتفكير ، وسمح لوخزات الشياطين أن تتملك من عقله ، توسوس له بإيذاء كل من كانت تحمل دماء مفعمة بالغرور والكبرياء ، كتلك المتملكة من زوجته
____________
بالمدينة الجامعية… بعد أن أنهت ليان محاضراتها ، عادت الى غرفتها ، كان يمكث معها بالغرفة ثلاث فتيات أخريات ، وهن أيضاً يدرسن معها بكلية التجارة ، ولكن لم تكن بينها وبينهن ألفة ، بل شعرت بالنفور منهن ، ولكنها تحاول الحفاظ على هدوءها وهى برفقتهن قدر المستطاع
ولجت الغرفة قائلة بهدوء :
–:” السلام عليكم”
أجابت إحدى الفتيات الثلاثة قائلة :
–:” وعليكم السلام المحاضرات خلصت من شوية كنتى فين كده ده كله”
إبتسمت فتاة أخرى قائلة بدهاء :
–:” تلاقيها بس لقت شاب حلو كده كانت قاعدة معاه”
تملك الغضب من ليان بعد سماع قولها ، فعلا صوتها بغضب :
–:” أنا مسمحلكيش أنتى فاهمة أنا مش بصاحب ولاد”
أجابتها الفتاة الثالثة ببرود :
–:” مالك يا مزة بس متنرفزة كده ليه ما براحتك هو احنا هنبقى مراقبينك ما تعملى اللى تعمليه”
عقدت ليان ذراعيها وقالت :
–:” والله لو أنتوا مش مراقبينى فربنا مراقبنى وشايفنى وعلشان نبقى على نور من أولها أنا مبحبش الكلام بالأسلوب ده إحنا لسه فى أول السنة وعايزين الأيام تعدى على خير وزى أنا ما بدخلش فى حياتكم أنتوا كمان متدخلوش فى حياتى”
أنهت كلامها وذهبت لتبديل ثيابها، فامتعضن الفتيات الثلاث من حديثها ، فقالت إحداهن :
–:” هى مالها الحلوة دي فاردة جناحتها علينا من أولها ليه كده”
أخذت رفيقتها الجالسة بجانبها المرآة منها وهى تقول:
–:” باين عليها طالعة فيها أوى”
قالت الثالثة بما يشبه الغيرة :
–:” هى الصراحة حلوة بنت الاية مزة على حق “
تهكمت الفتاة الأولى وهى تقول :
–:” وحياتك أنتى اللى عملالنا فيها الخضرة الشريفة دى يعدى الترم الأول وهتلاقيها بقت واخدة على الجو وتعرف بدل الواحد عشرة”
ألتزمن الصمت بعد رؤيتهن لها عائدة إليهن ، بعدما أبدلت ثيابها وأدت فرضها ، فأستلقت ليان على فراشها ، و فتحت هاتفها لتحدث شقيقها وجدتها ، فإبتسمت وهى تقول :
–:” باسم حبيبى أخبارك إيه وحشتنى أوى وحشتنى تيتة أخباركم ايه طمنونى عليكم “
رد باسم قائلاً بلهفة :
– الحمد لله يا حبيبتى كويسين والدراسة ماشية كويس إدعيلى يا ليان مبسوط أن أطمنت عليكى ، دا البيت وحش أوى من غيرك والله
فرت دموعها رغماً عنها كحالها دائما عندما تحدثهما عبر الهاتف ، فخرج صوتها يشوبه الارتجاف :
–:” بدعيلك يا حبيبى ربنا يوفقك يارب ادينى تيتة أكلمها
أخذت علية الهاتف من يد باسم وهى تقول بحنان:
–:” حبيبة قلبي وحشانى أوى أنتى مش ناوية تيجى قريب نفسى أشوفك أوى”
أجابتها ليان بحب :
–:” تسلميلى يا تيتة إن شاء الله هجى على أخر الشهر بس إدعيلى
تهدج صوت علية بكل ما تكنه من حب لليان :
–:” دعيالك يا قلب تيتة ربنا يحميكى ويحفظك يارب وترجعى بالسلامة خدى بالك من نفسك”
بعد أن أنهت مكالمتها مع جدتها ، وضعت هاتفها بجانبها وأغمضت عينيها ، فهى غير راغبة فى الحديث معهن ، ولكن التقطت أذنيها إسم ذلك المدعو رفيق عندما كن يتحدثن عنه
قالت إحداهن بضحكة عالية :
–:” شوفتوا دكتور رفيق ده كمان دا دكتور هولاكو”
وكزتها رفيقتها بكتفها وهى تضحك قائلة :
– :” دا كان فاضله شوية وتحسى إنه عايز يضربنا ولا يفجر المدرج بينا دا إحنا دخلنا كذا دكتور محدش عمل زيه كده خالص”
مصمصت الفتاة الأولى شفتيها قائلة :
–:” كأننا عملنا جريمة وإحنا مش واخدين بالنا مش عارفة ماله ده كمان”
عضت الفتاة الثانية على شفتيها وهى تقول :
–” بس الصراحة هو مز أوى بس ياترى مين اللى غزو فى وشه الحلو ده وعمله العلامة اللى فوق حاجبه الشمال دى”
سأمت ليان من الحديث الدائر بينهن ، فأخذت الوسادة ووضعتها على رأسها ، فغمغمت بصوت هامس:
–:” دا أنتوا مركزين أوى معاه ياريت بس تركزوا فى دراستكم زى ما بتركزوا فى حياة الناس كده”
فكرت قليلاً هل بإمكانها أن تتحمل فظاظة هؤلاء الفتيات ، اللواتى يمكثن معها بنفس الغرفة ؟ أم ربما ستجبر نفسها على تحمل سخافتهن ، فأين تذهب هى وتترك الغرفة ؟ فهى فكرت بشأن الإنتقال لغرفة أخرى ولكن باء الأمر بالفشل ، نظراً لتكدس الطالبات
________________
يتناولون العشاء بصمت رهيب ، لا يسمع صوت سوى صوت الملاعق التى تحتك بالأطباق أمامهم ،فجال مالك بنظره بينهم ، ولا يعلم سر ذلك الصمت المطبق عليهم الليلة ، فدائما ما تكون الجلسة بينهم ودية ولا تخلو من مزاحه هو وشقيقته رهف
فحمحم يجلى صوته قائلاً:
:” وحدوووه إحنا مالنا قاعدين ساكتين ليه كده”
رد جميعهم :
– ” لا إله إلا الله سيدنا محمد رسول الله
فعاد رفيق معقباً:
–:” علشان دى آداب الأكل يا سى مالك “
حرك مالك رأسه قائلاً:
–:” حاضر يا ابيه هسكت خالص بت يا رهف عملتى ايه فى الكلية”
نظرت لها والدتها هى الأخرى متسائلة :
–:” أه أنتى مقولتليش عملتى إيه رجعتى من الكلية نمتى وصحيتى من شوية”
إبتسمت رهف وهى تنظر لرفيق ، فأدعت الإرهاق وهى تقول :
–” الحمد لله يا ماما ، أتعرفت على بنوتة عسولة أوى وحتى دخلنا دكتور حليوة النهاردة كده كان نفسه يولع فينا بجاز وبيقولنا من سوء حظكم إن أنا هدرسلكم السنة دى وقعد يقولنا شوية تعليمات كده كان ناقص يقولنا متتنفسوش”
لوت منى شفتيها وقالت :
–:” يا سلام على إيه يعنى بسلامته هيدرسلكم الذرة”
قال مالك وهو يضع من الطعام بفمه :
–:” هو فى دكاترة كده رخمين أوى وبيحبوا يزهقوا الطلبة”
رمقت منى رهف وهى تقول بثقة :
–:” على نفسه لو زعلك يا بت ولا عمل فيكى حاجة زعلتك اديله على دماغه ولا يهمك”
كل هذا ورفيق يستمع الى حديثهم ، ولكن عندما سمع قول والدته رفع حاجبيه وإبتسم بخفوت وسرعان ما قال بهدوء :
–:” تشكرى يا أمى والله على نصايحك الغالية دى”
قالت منى وهى تبتسم له:
–:” طب تسيبه يضايقها يعنى ، هو لو زعلها شوف شغلك أنت معاه ولا هروحله أنا وأعرفه مقامه”
وضع رفيق الملعقة من يده قائلاً:
–:” أنتى مش محتاجة تروحيله هو قاعد قدامك أهو أنا أبقى الدكتور اللى الأنسة رهف بتتكلم عنه”
قالت منى بإندفاع :
–:” وإيه يعنى …
ولكن ما لبثت أن عاودت الحديث بعد فهمها قول رفيق ، ففغرت فاها وقالت بدهشة :
– “أنت بتقول إيه ، يعنى أنت اللى عمالين نشتم عليه من الصبح يا قلب أمك”
أماء رفيق برأسه قائلاً :
–:” أيوة أنا يا أمى اللى هتروحى وتعرفيه مقامه وعايزة الست رهف تديله على دماغه”
نظرت له والدته بحنان وهى تقول بما يشبه الاعتذار :
–:” بعد الشر على دماغك يا حبيب أمك ، أه منك يا سوسة خلتينى أغلط فى أخوكى”
رد رفيق قائلاً بهدوء :
–:” وحتى لو مكنتش أنا كل دكتور بيشوف شغله زى ما هو شايف أنه صح يعنى كل الطلبة لازم تحترم دكتورها ماشى يا آنسة يا أم ودان مبتسمعش كويس”
ضحكت رهف وقالت :
–:” حاضر يا أبيه طب دا أنت شرحك جميل أوى والله ويدخل القلب قبل العقل دا أنا عشقت كلية تجارة من أول يوم وأول محاضرة بسببك”
دبت منى على صدرها وهى تقول :
–:” يالهوى عليكى وعلى البكش اللى أنتى فيه واكلة عقله وبتبلفيه بكلامك فى ثانية “
ردت رهف بزهو :
–:” كده يا مامتى يا حبيبتى وفيها إيه يعنى لما أكل بعقل أبيه رفيق حلاوة مش هيجرا حاجة يعنى”
قرص رفيق وجنتها قائلاً :
– :” أنا مفيش حد بياكل بعقلى حلاوة يا حبيبتى أنا سيبك تعملى اللى نفسك فيه علشان أنتى قبل ما تكونى أختى فأنتى بنتى حبيبتى “
لمحت منى قدوم الخادمة ، التى تقدمت منها بتهذيب قائلة :
–:” ست منى الآنسة ماهيتاب جت برا”
أشارت منى لها بأن تدعوها للدخول ، فذهبت الخادمة ، ودلفت ماهيتاب بابتسامة ترتسم بأناقة على شفتيها المكتنزتين ، وأول من وقع عليه بصرها ، كان ذلك الرجل الذى يجلس على رأس المائدة والذى لم يرفع رأسه مثل الآخرين مرحباً بقدومها
قالت ماهيتاب بصوت ناعم :
–:” هاى وحشتنونى أوى”
إبتسمت لها منى وهى تشير لها بالجلوس قائلة :
–:” اهلا يا بنتى أتفضلى معانا”
جلست ماهيتاب بمقعد مجاور لمالك وهى تقول:
–:” أنا فعلاً جعانة أوى أوى يا طنط منى”
تردف بكلماتها وعينيها لا تبارح وجهه ، حتى خطيبها لم تنظر اليه ، ولكن أنتشلها صوت مالك من بحر أفكارها وهو يقول :
–:” مفاجأة حلوة يا ماهى نورتى البيت”
خلعت عليه إبتسامة مكرهة وهى تقول :
–:” شكرا يا مالك أزيك يا رفيق”
رد رفيق بهدوء وجفاء كعادته :
–” الحمد لله أهلا يا ماهيتاب”
وبعد ثوانى تعد على الأصابع نهض رفيق معلن عن انتهاءه من تناول طعامه :
–:” الحمد لله عن اذنكم”
تركت رهف مكانها هى الاخرى قائلة :
– :” خدنى معاك يا أبيه عايزة أتكلم معاك شوية”
مد يده لها وهو يقول:
–:” تعالى يا حبيبتى”
أقتربت منه شقيقته ، فوضع ذراعه حول كتفيها بحنان ، وهى تبتسم له كطفلة صغيرة ، تنظر لوالدها الحنون
شدت ماهيتاب على يدها ، حتى أبيضت مفاصل أصابعها ، من فرط غضبها ، من هذا الشخص الذى يتجاهل وجودها دائماً
أخذ رفيق شقيقته وخرج الى الحديقة الخاصة بالمنزل ، وبعد عدة دقائق كان يتبعهما مالك وماهيتاب
– :” أنتى لحقتى تاكلى يا ماهيتاب”
قالها رفيق وهو يضع قطعة من الفاكهة بفم رهف
فوضعت ماهيتاب ساق على الاخرى وهى تقول :
–:” أصل عاملة ريجيم مش باكل كميات كبيرة “
أبتلعت رهف ما بجوفها وقالت :
–:” ليه أنتى داخلة مسابقة ملكة جمال العالم”
وضعت ماهيتاب شعرها خلف أذنها وهى تقول بغرور :
–” أنا متأكدة لو دخلتها اكيد هكسب يا رهف”
إبتسم لها مالك بعشق قائلاً :
–:” أكيد طبعا يا ماهى هو فى حد فى جمالك”
أرادت معرفة رأيه بهذا الشأن فخاطبته بتساؤل :
–:” ميرسى يا مالك وأنت رأيك إيه يا رفيق لو فعلاً دخلت مسابقة ملكة جمال العالم هكسب ولا لاء”
تريد أن تسمعه يخبرها بمدى جمالها ، وأن يمدحها بكلماته التى تخرج من فمه بتلك النبرة الدافئة ، التى تجعل القشعريرة تسرى بعمودها الفقرى
مط رفيق شفتيه قليلاً ، كأنه يفكر بما قالته ، ولكن سرعان ما قال بعدم إكتراث :
–:” دى حاجة أنتى تقرريها مش أنا شوفى أنتى فعلاً جميلة الجمال اللى يستاهل ولا مجرد شكل وخلاص”
هذا ليس مديحاً ، فتلك إهانة ، فهو يهينها بكلامه المبهم ، فهى استشعرت من حديثه ، كأنه يزدرى جمالها ، فعقلها لم يستوعب سوى تلك الحقيقة ،التى صار يصرخ بها الآن ، من أن رفيق يهينها بكلماته ، التى كانت كالسوط يجلد كبريائها كأنثى فاتنة الجمال
فكزت على أنيابها وهى تقول:
–:” أنت قصدك إيه بكلامك ده يا رفيق”
نهض رفيق من مكانه قائلاً :
–:” ولا حاجة يا ماهيتاب عن إذنكم علشان ورايا محاضرات الصبح”
تبعته رهف وهى تنظر لمالك قائلة :
–:” هقوم أنا كمان انچوى يا مالك”
ذهب رفيق تتبعه رهف ، فنظراتها أصبحت كالحمم البركانية فهى حتى لا تنتبه على كلام ذلك الجالس بجوارها ، فرفع مالك يده يشير بها أمام وجهها وهو يقول:
–:” هاااى ماهى ايه روحتى فين”
أكتسح الغضب صوتها وهى تقول :
–:” هو أخوك يقصد إيه بكلامه إن أنا مش حلوة يا مالك”
قطب مالك حاجبيه قائلاً :
–:” ليه فهمتى كلامه كده هو ميقصدش حاجة على فكرة هو أبيه رفيق صريح زيادة عن اللزوم ومبيحبش يزوق كلامه سيبك من الكلام ده كله أنتى وحشتينى”
أجابته ماهيتاب بإقتضاب قائلة :
–:” وانت كمان وحشتنى”
لا تشعر بحب ذلك الشاب لها ، والذى يسأل نفسه أحياناً هل تلك الفتاة تحبه أيضاً كما يحبها هو أم لا ؟ فقضت ما تبقى لها من وقت بالمنزل ، وهى متململة بجلستها ،فهى لم تأتى إلا من أجل رؤيته ، وطالما هو لم يعد جالساً معهما ، فلا حاجة لها بالبقاء ، فهبت واقفة تخبر مالك بضرورة رحيلها ، لإصابتها بألم مفاجئ برأسها ، ورغبتها بأن تنال قسطاً من الراحة
________________
نظرت سارة الى الإعلان بالجريدة التى بين يديها ؛ وهى تقف أمام ذلك المبنى ، شعرت بالسعادة فربما تستطيع أن تتقدم لتلك الوظيفة ،وتحصل عليها لتتقاضى راتباً يساعدها على المعيشة هى ووالدتها
فأغمضت عينيها وهى تدعو الله سراً:
:” يارب وفقنى يارب فى إن أنا اشتغل بقى”
تحمل بين يديها أوراق السيرة الذاتية الخاصة بها ، فشعرت بإرتجافة قوية ، كادت تجعلها تسقط الأوراق من بين يديها ، فدلفت الى المبنى وقابلت أحد العاملين ، فقام باخبارها بالمكتب ، الذى ستقصده من أجل التقدم لتلك الوظيفة
قامت بطرق باب غرفة المكتب ، فسمعت صوت يأذن لها بالدخول ، فتحت باب الغرفة ، ودلفت مغلقة الباب خلفها
رفع أكمل نظره عن الأوراق أمامه ناظراً لها قائلاً بغرابة:
–:” أيوة حضرتك مين”
ابتلعت سارة لعابها عدة مرات ، قبل أن تخرج الكلمات منها تحمل بعض الخوف الذى تشعر به :
–:” أنا أنا جاية بخصوص وظيفة السكرتيرة اللى فى الجرنال ده”
أشار لها أكمل بالجلوس قائلاً :
–:” اه أهلا اتفضلى يا آنسة اقعدى”
جلست سارة قبل ان تخونها قدميها ، فهى تشعر بتوتر بدأ بالتأثير على أعصابها ، فرفعت الملف الخاص بها وهى تقول :
–:” حضرتك ده CV بتاعى فى كل الأوراق”
تناول أكمل الأوراق من يدها يجيل بنظره فيها ،فعقد حاجبيه عندما رأى شهادة التخرج الخاصة بها ، فقال بفضول :
–:” أنتى خريجة كلية هندسة وجاية تقدمى فى وظيفة السكرتيرة ، ليه مبتشتغليش بالمؤهل بتاعك حتى كمان أنتى جايبة إمتياز يعنى المفروض تكونى معيدة فى الكلية”
إبتسمت سارة بألم وقالت :
–:” ماهو لما أكون أنا وابن دكتور من الدكاترة فى نفس القسم أكيد يعنى اللى هيتعين إبن الدكتور مش بنت ناس على قد حالهم”
أماء أكمل برأسه تفهماً وقال :
–:” يعنى الموضوع فيه وسطة وعك”
خفضت سارة وجهها وهى تقول :
–:” يعنى حضرتك مش عارف إحنا عايشيين فين كله بالرشاوى والوسطة بيوصل والغلبان هو اللى بيروح فى الرجلين”
وكأن صوتها يحمل حزن العالم أجمع ، شعر هو به فهو يعلم ذلك الشعور ، فهو أيضاً كان بيوم من الأيام مثلها من هؤلاء الناس الذين يعيشون حياتهم فى فقر مدقع
فأغلق الملف قائلاً :
–:” أوك ماشى أنتى هتشتغلى هنا بس مهندسة مش سكرتيرة”
هل ما سمعته حقيقة ؟ هل سيتم تعينها كمهندسة وستعمل بمهنتها الأساسية؟ نظرت إليه بعدم تصديق ، فلم يكن رده عليها ، سوى ابتسامة بسيطة ، فهو يعلم هذا الشعور حقا عندما تتحقق أمنية كان يرى صاحبها أنها مستحيلة
فهتفت سارة بسعادة غامرة :
–:” حضرتك بتتكلم جد أنا هشتغل مهندسة”
هز أكمل رأسه بهدوء قائلاً :
–:” أيوة يا أنسة سارة وأنتى ان شاء الله تيجى بكرة تستلمى الشغل ”
أستقامت سارة بوقفتها وقالت بإمتنان :
–:” أنا بجد متشكرة جداً لحضرتك عن إذنك”
خرجت وهى تشعر كأنها ستطير من شدة سعادتها ، فهى ستعمل بمهنة محترمة ، وربما سيتحقق جزء ولو يسير من تلك الأحلام التى كانت ترسمها فى مخيلتها منذ دراستها
_________________
منذ بدأ الدراسة توطدت العلاقة بين ليان ورهف ، فدائما ما تجلسان متجاورتان بأى مكان ، وتقضيان اليوم الدراسى بأكمله برفقته بعضهما البعض
فسمعت ليان صوت ينادى باسمها ، وإلتفتت وجدت ماجد ينظر لها بابتسامة ،فشعرت بارتباك شديد
تقدم منهما ماجد وجلس بمكان قريب منهما قائلاً :
:” أزيك يا ليان أخبارك إيه أنا جيت أطمن عليكى ولو فى أى حاجة محتجاها ممكن تقوليلى وأنا عينيا ليكى”
أحمرت وجنتيها وهى تقول:
–:” الحمد لله أنا تمام تسلم يا ماجد وشكرا على سؤالك”
أثناء مرور رفيق ، لمح شاب يجلس مع تلك الفتاة وشقيقته ، فعقد حاجبيه متسائلاً بقراره نفسه ، لما يجلس معهما ؟ فهو سيحاسب شقيقته على ماحدث ، فهو يشدد أوامره لها بعدم إنشاءصداقات بينها وبين أحد من الشباب
فمن يكون ذلك الشاب ، حتى تجلس هى برفقته وبرفقة تلك الفتاة ، فهو لمح تلك الفتاة عدة مرات مع شقيقته ، ولكنه يلمحها بطريقة عابرة ، حتى أنه لا يعرف ملامح وجهها جيداً
فبعد أن أنتهى ماجد من الاطمئنان على ليان ، ذهب الى كليته فنظرت لها رهف بتعجب قائلة :
–:” مين ماجد ده يا ليان”
أرتسمت إبتسامة خجولة على شفتيها وهى تقول :
– :” ده باباه وبابا الله يرحمه كانوا أصحاب اوى وانا اعرفه من وأنا صغيرة هو من بلدنا بس عايشين هنا فى القاهرة بس مكدبش عليكى انا معجبة بيه ومستنياه يخلص دراسة وييجى يخطبنى”
نظرت لها رهف وتساءلت :
–:” وهو قالك كده فعلاً”
حركت ليان رأسها برفض وهى تقول:
–:” مقالهاش صريحة بس هو قالى مرة ان انا هبقى حرم الدكتور ماجد محسن وانا حاسة انه معجب بيا بس انا بتكلم معاه فى الحدود زى ما شوفتى كده”
أخذت رهف يدها بين كفيها قائلة :
– :” كده احسن خلى الخطوة الاولى تيجى منه هو
فنظرت بهاتفها وشهقت بخفوت معقبة :
– “يا خبر المحاضرة هتبدأ يلا بينا”
ذهبتا سريعاً إلى القاعة الدراسية ، فجلستا بمكانهما المعتاد ، وولج رفيق للقاعة وبدأ الشرح كعادته ، فكان الهدوء والصمت يعم المكان ، لمحت ليان رهف تضع رأسها داخل حقيبتها تتناول قطعة من الشيكولاتة ، فلم تتمالك نفسها وضحكت بصوت عالى ، فرن صوتها فى القاعة واتسعت مقلتيها مما فعلت
ترك رفيق ما بيده ، وأستند بكفيه على المكتب الصغير قائلاً بهدوء خطر :
– :” الآنسة اللى ضحكت بصوت عالى كده تتفضل تقوم تقف”
لم تنهض من مكانها ، فشعرت بانقباض قوى وخوف أيضًا ، فهى لا تريد ان تظهر نفسها ، حتى لا تسمع منه كلمة مهينة أو جارحة
فأعاد حديثه ثانية :
–:” أنا قولت الآنسة اللى ضحكت بصوت عالى كده تتفضل تقوم تقف ، أحسن ما أخليها تقوم بمعرفتى ، ومتفتكرش إن أنا مش عارفها ، أنا عارف هى مين بس أحسن ليها تقوم بنفسها”
زاد الخوف وتملك من فؤادها ، فارتعشت قدميها وهى تهب واقفة تعلن عن نفسها أمام ناظريه ، فحاولت أن تقول شيئاً تبدى به أسفها ، فنكست رأسها وهى تقول بندم :
–:” أنا أسفة والله يا دكتور مش قصدى أن أنا أضحك بصوت عالى”
صاح رفيق بصوت عالى قائلاً بغضب :
–:” أنتى حضرتك فاكرة نفسك فين هنا علشان تضحكى بالشكل ده هنا كلية مش كباريه”
كلمة كنصل السكين الحاد ، وقعت عليها مزقت قلبها ، فتلك كلمة مهينة مؤلمة جداً
فدمعت عيناها وهى تقول :
– :” حضرتك والله مش قصدى حاجة بس غصب عنى”
عقد رفيق ذراعيه أمام صدره قائلاً بتبجح :
– :” مبحبش الحجج الفارغة والاعتذرات اللى ملهاش لازمة وأكيد أنتى عارفة أنا محاضرتى نظامها عامل إزاى يا آنسة ولا أنتى أول مرة تحضريلى محاضرة وقبل كده مكنتيش فاضية تحضرى المحاضرات”
نفت ليان قوله وهى تقول:
–:” لاء يا دكتور والله أنا بحضر من أول الدراسة وبحضر كل المحاضرات”
إبتسم رفيق بسخرية وقال :
–:” ما هو واضح يا آنسة إنك عارفة النظام كويس”
أصبحت دموعها ملحة عليها ، تريد أن تخرج من مقلتيها ، فهى لن تستطيع إختزانها اكثر من ذلك ، ففرت دمعة ساخنة على وجنتها ، وهى ترى كل الطلاب ينظرون اليها ، وكأنها تم القبض عليها بجرم مشهود ، وخاصة تلك الابتسامات الهازئة ، التى تراها على وجه هؤلاء الفتيات ، اللواتى أصبحت تتحاشى الجلوس معهن بغرفة واحدة
رأتها رهف هكذا فنهضت هى أيضاً قائلة :
–:” يا دكتور هى مالهاش ذنب دا غصب عنها وأنا اللى إتسببت فى ضحكتها يعنى أنا اللى غلطانة مش هى”
أجابها رفيق بوحشية ، صارخاً بها :
–:” إسكتى أنتى حد طلب منك تتكلمى بتتكلمى ليه أصلا ً، هو أنا أذنت ليكى أنك تتكلمى”
قالت رهف بما يشبه الذهول من حديث رفيق معها :
–:” علشان هى مظلومة وانا مبحبش أشوف حد مظلوم وأسكت “
–:” مظلومة إزاى أنتى مسمعتيش صوت ضحكتها ولا ايه ، اه أنا نسيت أصل سمعك تقيل يا أنسة أنتى كمان ومبتسمعيش كويس”
قالها رفيق ببرود ، وهى لاتصدق ما تسمعه ، فهذا ليس شقيقها الذى تعرفه ، فهو كأنه شخص آخر لا تعلم من يكون أو ماذا أصابه جعله هكذا ؟ فمنذ متى وشقيقها يتعامل هكذا مع الاخرين؟
رأى تلك النظرة بعينيها ، فهو يعلم أنها تظن به كل الظنون الآن ، ولكنها لا تعلم أنه أيضاً مستاء منها ، بسبب جلوسها مع تلك الفتاة وكان يجلس معهم شاب غريب أيضاً
فرفع يده يشير ناحية الباب وهو يقول بأمر:
–:” إتفضلوا اطلعوا برا أنتوا الإتنين “
_________________
يتبع…..!!!!!!!
اترك رد