قال الشافعي رحمه الله: أرفع الناس قدرًا من لا يرى قدره، وأكثرهم فضلاً من لا يرى فضله.
٧–” وادى النسيان”
طافت عينى رفيق بالقاعة الدراسية ، فالقاعة مكتظة بالطلاب ، ولكنه لا يعلم لما يشعر بأنه على وشك إرتكاب جريمة أو إفتعال شجار معهم ، كأنه شخص أكره على فعل شئ لم يكن يريده ، وهذا ما كان ، فعميد الكلية جاءه متحدياً رغبته فى عدم تدريسه لطلاب السنة الأولى بالكلية ، وأجبره على الأمر ، لذلك هو هنا الآن
رفعت رهف إحدى حاجبيها تعجباً لرؤية شقيقها ، فماذا يفعل هنا ؟ فظل يجيل بعينيه فى تلك الوجوه ، حتى وقع نظره عليها ، ولكنه رأى على وجهها طيف ابتسامة عدم تصديق ، فنظر اليها بغضب مصطنع ، محذراً إياها من أن تفتعل أى موقف مضحك ، فهو يعرفها خير المعرفة ، ولما لا فهو من قام بتربيتها ، فهى مدللته الصغيرة
حمحم بصوت منخفض يجلى صوته قبل أن يردف بكلماته التى ساد بعدها السكون فى القاعة :
– :” السلام عليكم أنا الدكتور رفيق رسلان أنا هدرسلكم السنة دى ، طبعا فى حاجات لازم تعرفوها من الأول وهى إن أنا من النوع اللى مش بيحب الدوشة والكلام الكتير فى المحاضرة ، لو فى أى ولد أو بنت داخلين المحاضرة وفاكرين نفسهم فى الكافتريا أو على الكورنيش ياريت لو هيفضلوا بالنظام ده ميحضروش المحاضرة من الاساس، الموبيلات تتقفل اثناء المحاضرة ، مبحبش الاستظراف سواء من الأولاد أو البنات الكلام يبقى بخصوص المحاضرة وبس ، أثناء الشرح مبحبش أسمع صوت فى المدرج غير صوتى أنا، فى أى حاجة مش فهمينها تطلبوا بأدب وأنا هعيدلكم الشرح ، وجو مستر وميس اللى كنتوا عايشين فيه فى الثانوية تبطلوه أنتوا فى الكلية دلوقتى يعنى تقولوا يا دكتور ، وعلشان تبقوا عارفين برضه أنا محبش أدرس لسنة أولى بس من سوء حظى أو سوء حظكم إن أنا هدرسلكم السنة دى”
سمعت ليان قوله فزاد ضيقها ، من ذلك الشخص الذى يحدثهم هكذا ؟ فمن يظن نفسه ؟ فهى شعرت بالنفور ومشاعر الكره تأججت بداخلها من نبره صوته فقط ، فكيف سيتحملوا عام دراسى بأكمله ، وهذا الشخص الفظ يحدثهم بكل هذا الغرور
فغمغمت ساخطة بهمس :
–:” ايه يا أختى الدكتور اللى داخل وناقص شوية ويولع فينا ده “
إرتدى نظارته الطبية ، التى يرتديها أثناء التدريس ، والتى لم تزده الا وقارًا ووسامة ، فخلف تلك النظارة تقبع عينان ذو نظرة غاضبة متأففة ، فهو عندما تذكر حديثه مع عميد الكلية وإصرار العميد على تدريسه لهؤلاء الطلاب وهو لا يحتمل أن يسمع صوت بجانبه
عودة لوقت سابق بغرفة عميد الكلية
جلس رفيق ، على مقعد أمام مكتب العميد ، فبعد إنتهاءه من إمضاء عدة أوراق أمامه ، نظر لرفيق قائلاً بهدوء :
–:” رفيق أنت هتدرس لسنة أولى السنة دى”
أبدى رفيق إعتراضه على ما قاله ، فرد قائلاً :
–:” بس حضرتك عارف أنا مش بحب أدرس لسنة أولى ثم إن الدكتور على هو الى كان هيدرس لهم المادة بتاعتى وخلاص جداول المحاضرات اتعلقت على الأساس ده “
خلع العميد نظارته وهو يقول :
–:” للأسف دكتور على حصل له ظروف طارئة ومش هيقدر فمفيش غيرك أنت تدرسلهم مادته”
حاول رفيق أن يقول شيئاً ، فلم يفسح له العميد المجال لذلك ، فعاد معقباً:
– أنا مش هقبل منك رفض ثم أنت إيه اصرارك كل سنة إنك مش عايز تدرس لسنة أولى إيه السبب أنت بقالك كتير على النظام ده وعلشان أنا بعزك كنت بوافق بس المرة دى أنت مضطر إنك تدرسلهم”
أماء رفيق برأسه قائلاً:
–:” خلاص حضرتك ماشى هدرسلهم”
خرج من مكتب العميد ، وعروق يده بارزة من شدة غضبه ، فهو يقبض على يده بشدة ، حتى شعر بغرز اظافره بباطنها ، حاول تهدئة نفسها من تلك الذكريات ، التى جاشت فى صدره ، من تذكره ماحدث معه منذ سنوات
فبدأت تلك الذكريات ، تعود اليه كأنها حدثت بالامس ، ولم يمر عليها سنوات ، خاصة عندما رأى هؤلاء الطلاب حديثى العهد بالكلية ، فمن كانت السبب فى ما حدث له ، كانت بعامها الاول فى الجامعة أيضاً ، وهى من كانت السبب الأساسى فى كراهيته لتدريس طلاب السنة الأولى
بدأ الشرح فاستمعوا له بإنصات شديد ، وبالرغم من امتعاض ليان من تصرفه المتعجرف ، إلا أنها انبهرت بطريقة الشرح الخاصة به ، فهو يشرح بسلاسة ، أما رهف كانت تبتسم من وقت لآخر ، وهى ترى شقيقها وإمارات الغضب على وجهه ، التى يحاول أن يداريها بتصنعه الهدوء والبرود كعادته دائما
فهمست لنفسها :
–:” حلاوتها أم حسن يا محاسن الصدف أبيه رفيق هيدرسلنا هتبقى سنة حلوة أوى إن شاء الله هنيالك يا رهف”
بعد ان أنتهى من الشرح ، نظر اليهم وخاصة لتلك الفتاة التى لا تفارقها الابتسامة منذ أن رأته ، والتى عندما يرى ابتسامتها يضيق ما بين عينيه بتحذير
فهتف بهم بصوت جهورى :
–:” فى اى حد عنده سؤال فى حاجة مش فهمينها فى حاجة صعبة اشرحهلكم تانى”
أرادت رهف مشاكسته قليلاً ، فقامت برفع يدها دليلاً على أن لديها ما تقوله فأذن لها بالحديث ، فأستقامت بوقفتها قائلة بجدية مصطنعة :
:” لو سمحت يا دكتور آخر حاجة أنت شرحتها مش فهماها وياريت حضرتك بس تعلى صوتك شوية علشان بس سمعى تقيل مش بسمع بسهولة”
إبتسم رفيق إبتسامة صفراء وهو يقول :
–:” بجد ألف سلامة على ودانك يا أنسة أوك ماشى أتفضلى أقعدى”
أعاد الشرح ثانية ، وهو يقسم أن شقيقته ، لم تفعل ذلك إلا لمشاكسته ، فهو الوحيد الذى يعلم ، ما يجول بعقلها الطفولى هذا
فرمقها بهدوء قائلاً بعدما أنتهى :
–:” تمام كده يا أنسة ولا ودانك لسه مش سامعة”
تبسمت رهف بإتساع وقالت :
–:” لاء تمام يا دكتور رفيق وصلت كده “
خرجتا من القاعة الدراسية ، بعدما أنتهى اليوم الدراسى ، فنظرت ليان لرهف بتعجب فهى لا تكف عن الإبتسام ، فسألتها بدهشة :
–:” إيه الابتسامة الهبلة اللى على وشك دى من ساعة ما الرخم ده دخلنا”
قطبت رهف حاجبيها قائلة :
:” أنهى دكتور ده اللى رخم تقصدى مين إحنا دخلنا ٣ دكاترة”
قالت ليان وهى ترفع شفتها العليا بإستياء :
–:” أول دكتور دخلنا المدرج اللى اسمه رفيق ده”
–:” دا رخم ! دا سكر محلى محطوط على كريمة يا حلاوة نظارته “
قالتها رهف بإعجاب أختلط بمزاحها كالعادة
فأبدت ليان إمتعاضها من قولها وهى تقول :
–:” على خيبة ايه دا شكله فطران غرور وتكبر وعجرفة قبل ما يدخلنا”
مطت رهف شفتيها وقالت بوداعة :
– :” لاء والله دا فطر مربى وجبنة وشرب قهوة”
رفعت ليان حاجبيها قائلة :
– :” ليه أنتى كنتى بتفطرى معاه هو أنتى تعرفيه”
فكرت رهف إنها لو أخبرت ليان بأن رفيق شقيقها ، فربما سترفض صداقتها ، لذلك قررت عدم إخبارها بتلك الحقيقة ، فهى تريد تكوين صداقات طبيعية ، ليس من أجل أن شقيقها محاضراً بالجامعة ، فهى ستتعامل معها كأى طالبة حتى لا تتجنبها ليان ، وخاصة أنها هى أيضا أحبت رفقتها ، فهى تشبهها فى بعض النواحى وهى حب المزاح والمرح
حكت رهف جبهتها وهى تقول بتوتر :
–:” أنا بس بخمن ماهو ده الفطار اللى الناس بتفطره”
قالت ليان بإعجاب :
–:” بس تصدقى شرحه حلو ويدخل الدماغ على طول”
قالت رهف بحب وإعجاب شديد :
–:” فعلاً شرحه سهل وبسيط ومريح كده للاعصاب انا كنت هنام من حلاوة صوته”
وكزتها ليان بلطف وقالت :
ليان:” ما تروحى تطلبى منه يغنيلك بالمرة”
ضحكت رهف وقالت :
–:” تفتكرى يعملها ولا مش هيرضى يغنيلى”
قالت ليان بشئ من الضيق :
–:” على فكرة أنتى عمالة تتغزلى فيه وكده حرام عليكى يارهف وأنا مش بحب البنات اللى بتقعد تتغزل فى راجل كده حرام لازم نغض البصر “
تبسمت لها رهف قائلة بوداعة:
–:” حاضر مش هعمل كده تانى بس أنا والله مش من النوع ده”
ربتت ليان على كتفها وقالت :
–:” انا علشان ارتاحتلك قولتلك كده علشان صداقتنا تدوم إن شاء الله باين عليكى طيبة أوى وأنا بجد ارتاحتلك ومبسوطة إن اتعرفت عليكى”
أتسعت إبتسامة رهف وهى تقول :
:” ان شاء الله يا ليان وأنا كمان والله أرتحتلك ، وفرحانة أن هيبقى ليا صديقة من أول يوم فى الكلية ، وكمان محترمة “
أُعجبت رهف بتفكير ليان وحسن خلقها ، فيبدو عليها أنها فتاة طيبة ذات اخلاق حسنة ، فتمنت حقاً أن تكون تلك الفتاة هى صديقتها المقربة ، فرهف حتى الآن ، لم يكن لها صديقة بالمعنى الفعلي
_______________
فتح فاروق عيناه ببطئ ، وضع يده على فمه متثائباً بصوت عالى نسبياً ، نظر بجواره فوجد تلك المرأة مستلقية على وجهها ، ينسدل شعرها على وجهها يخفى معالمه ، فطافت عيناه بأرجاء الغرفة ، فوجد كل شئ مبعثراً خاصة زجاجات الخمر ، وضع رأسه بين يديه ، وضغط على جانبيها ، يشعر بصداع يكاد يفتك بها
أنسحب من الفراش ،وأخذ رداء وضعه عليه ، وشد الرباط حول خصره ، فهو يحاول أن يتذكر ما حدث البارحة ، ولكن ربما مازال يقع تحت تأثير الخمر
سمع صوت خلفه ، يأتيه ناعماً مختلطاً بنعاس :
– صباح الخير يا حبيبى
إستدار برأسه ، ليرى من تكون ، فزوى حاجبيه قائلاً بغرابة:
– أنتى مين ؟
شهقت المرأة بخفوت من سؤاله ، فردت قائلة :
– إيه ده مش فاكرنى واحنا طول الليل مع بعض
فحقاً هو لا يتذكر من تكون ؟ أو كيف قابلها ؟ فأخر شئ يتذكره ، عندما كان بالملهى الليلى خاصته
أقترب من الفراش وجلس بجانبها ، وتفرس بملامح وجهها عله يتذكرها ، لكنه قال بنفاذ صبر:
– أنا بحاول أفتكرك بس مش قادر ولا فاكر حاجة خالص من ليلة إمبارح فقوليلى أنتى مين وخلصينى
وضع ذراعيها حول عنقه وهى تقول بغنج :
– أنا اللى جيتلك الكبارية أمبارح علشان شغل بس أنت أصريت نيجى هنا الأول ، والصراحة أنت طلعت شقى أوى
– اه أفتكرتك
صاح بها فاروق ، بعد تذكره لها ، ولكنه تذكر أيضاً زوجته إلهام ، فهى لو علمت بما يفعله ، ستجعل حياته جحيماً بمعنى الكلمة
فأنتفض من مكانه قائلاً :
– يلا قومى بسرعة وأمشى قبل مراتى ما تيجى يلاااااا
فمن حسن حظه ، أن زوجته لم تكن بالمنزل البارحة ، بل أخبرته بشأن أنها ستقضى ليلتها بمنزل إحدى معارفها من أجل زفاف سيقام هناك
أنتفضت المرأة بعد صراخه بوجهها ، فأسرعت بلملمة أغراضها ، وإرتداء ثيابها ، ولكن سمع صوت باب الشقة يفتح ، وإلهام تناديه من الخارج
جفت الدماء بعروقه ، فسحب المرأة من يدها ، وذهب بها للمرحاض ، فدفعها بيده ، وأوصد الباب بالمفتاح ، قبل دخول إلهام
تبسم بتوتر وهو يرى إلهام تلج الغرفة وهى تقول :
– إيه ده يا فاروق أنت كنت لسه نايم وايه ده الأوضة متبهدلة ليه كده
أزدرد فاروق لعابه ، وإبتسم والخوف يسرى بعروقه ، فقال بتوتر :
– أنت عارفة أن أنا مبعرفش أقعد فى البيت من غيرك يا إلهام ، فرجعت إمبارح وفضلت أشرب لحد ما نمت ومحستش بنفسى
أرادت الذهاب للمرحاض ، فجذبها من ذراعها وهو يقول :
– أنتى راحة فين يا حبيبتى وسيبانى
داعبت إلهام وجنته وهى تقول :
– هدخل أخد شاور هعمل ايه يعنى
ظل يفكر كيف بإمكانه أن يجعل تلك المرأة بالداخل تنصرف ، قبل أن تراها فطرأ على رأسه فكرة ، فهتف بها :
– إلهام أنا مأكلتش من إمبارح فأنزلى هاتيلنا أكل جاهز من المحل اللى على أول الشارع بجد هموت من الجوع وانتى لابسة وجاهزة فانزلى أشترى الأكل وتعالى أكون أخدت شاور وناكل مع بعض وعلشان أنزل أروح المحل
ناولها نقود من جزدانه الجلدى ، فلم تجادله بهذا الشأن ، بل أسرعت بتنفيذ ما يريد ، و خرجت من الشقة ، فأسرع هو بفتح باب المرحاض ، وسحب المرأة من يدها بعدما أرتدت ثيابها ، وخرج من الغرفة ، ففتح باب الشقة ، وجعلها تنصرف قبل مجئ زوجته ثانية ، فبعد أن أغلق الباب خلف المرأة ، استند عليه يزفر براحة ، بل أنه شعر بإرتخاء قدميه ، فسقط جالساً خلف الباب ، فلو كانت إلهام تمكنت من إكتشاف أمره ، ربما كان سيلقى حتفه ، فهى إن كانت تطيعه كل الوقت ، وتلك الطاعة نابعة من حبها له ، فهو لا ينكر أنها مرأة ليست بالهينة ، وبإمكانها أن تصبح أشد خطراً وقتما تريد
________________
طرقت نسرين باب غرفة مكتب مالك ، فدلفت تحمل بيدها قدح القهوة الخاص به ، فكلما اقتربت خطوة علا صوت طنين دقات قلبها بأذنيها ، ولم تنسى ترطيب جوفها من حين لأخر وهى تبتلع ريقها ، فكلما تأخذ عهداً بالإقلاع عن ذلك الحب ، تجد نفسها غارقة ببحر الأوهام والسراب أكثر فأكثر
فوضعت قدح القهوة أمامه وهى تبتسم بخجل شديد :
:” القهوة يا باشمهندس مالك اتفضل أنا عملتهالك بنفسى”
تبسم مالك لها وهو يقول :
–:” مخلتيش الساعى يعملها ليه وتعبتى نفسك”
أخفضت وجهها أرضاً وقالت :
–:” تعبك راحة يا باشمهندس ودى مفيهاش تعب ولا حاجة دى حاجة بسيطة”
أرتشف مالك من قدح القهوة بتلذذ قائلاً :
:” أممم طعم القهوة حلو جدا شكرا يا نسرين”
أبتسم لها ابتسامة عريضة ، فلعنت دقات قلبها ، التى تقفز فرحاً من رؤية ابتسامته ، فقلبها سيودى بها فى النهاية الى طريق التعاسة الأبدية ، بسبب تعلقه بشخص لن يكون له فى يوم من الأيام
فأجابته بصوت هادئ :
–:” الشكر لله يا باشمهندس مالك أى خدمة تانية”
أخذ عدة أوراق وناولها إياها قائلاً :
– :” أيوة الورق ده توصليه لمستر رفيق فى مكتبه ولو لسه موصلش أديه للسكرتيرة بتاعته”
أخذت منه الأوراق قائلة بتهذيب :
–:” حاضر عن إذنك”
قبل أن تخرج سمعت رنين هاتفه ، فوجدته يرد على الاتصال الوارد من خطيبته قائلا بصوت مبتهج:
–:” أهلا ماهى اخبارك ايه”
قبضت بيدها على الورق ، تعتصره بين أصابعها ، كأنها تريد أن تعتصر ذلك النابض بين ضلوعها ، فهو صار يتفتت لوعة بسبب غيرتها ، عندما علمت أنه يتحدث مع خطيبته ، فسارت بخطوات سريعة نحو الباب ، قبل أن تسمع تلك الكلمة التى تنخر فى قلبها كالنصل الحاد عندما يناديها ب” حبيبتى”
أغلقت الباب خلفها ، وعوضاً عن ذهابها لغرفة مكتب رفيق ، جلست على مقعدها خلف مكتبها الصغير ، وضعت رأسها بين يديها ، وهى تحاول أن تستجمع شجاعتها ، فدموعها تلح عليها ، تريد الفرار من مقلتيها ، فإلى متى ستظل هكذا ؟
فربما من الأفضل لها ، بأن توافق على الزواج من ذلك الشاب ، الذى تقدم لخطبتها منذ يومين ، وعملت هى على إرجاء الأمر ، معللة ذلك بأنها تريد وقتاً كافياً للتفكير ، قبل إبداء قرارها النهائى ، فتلك اللحظة التى ضرب سهم الحب قلبها ، مازالت تتذكرها جيداً ، كأنها حدثت بالأمس القريب ، على الرغم من كونها فتاة ليست هوائية ، حتى تقع بغرام كل من تقابله ، ولكن لا تعلم أى سحر هذا الذى قيد به مالك قلبها ، فحتى ذلك الشعور بالعذاب ، بدأت تشعر بلذة منه ، كأن كل ما يتعلق به ، سواء حسناً أو سيئاً ، يجعلها تشعر بأنها تريد المزيد ، حتى وإن أوردت قلبها مورد الهلاك ، بتعلقها بحب مستحيل
فبعد أن أخذت وقتها بالتفكير ، الذى لم يصل بها إلا لمزيد من الحيرة ، تركت مكانها وذهبت لغرفة مكتب رفيق ، ولكنها لم تجده ، فأودعت الأوراق بعهدة صديقتها بسمة حتى يعود
________________
ببلدة مجاورة لتلك البلدة ، التى كان يحيا بها برفقة عائلته ، كان بكر جالساً مع عدد من رفقاء السوء ، بغرفة أستأجرها من أجل أن يعيش بها ، بعدما تم طرده من بلدته ، أمتلأ المكان بدخان السجائر ، وبعض زجاجات الخمر ، فالبعض منهم يضحك ببلاهة ، من تأثير المخدرات التى يتناولوها وتتلخص بعشبة ” البانجو “
فغمغم بكر وهو يشعر بحالة أقرب للثمالة :
– اه يا بنت إلهام بقى أنا تعملى فيا كده وتخلينى أطرد زى الكلب ومش قادر اتكلم ، بس وحياة أمك ما أنا سايبك وهوريكى
صاح به شاب أخر وجسده مترنح قليلاً ويضحك ببلاهة :
– أنت بتقول ايه يا عم أنت ما تسمعنا صوتك
نفث بكر دخان سيجارته وهو يقول:
– أما فى حتة بت محروق منها جامد وهى السبب فى أن قاعد معاكم فى المزبلة دى
أضجع شاب أخر على الأريكة الجالس عليها قائلاً :
– يا أخويا أحمد ربنا أن فى مكان يأويك بس الصنف ده عالى أوى جبته منين يا بكر
تبسم بكر قائلاً بدهاء :
– ده سر بقى بس بعد كده هتدفعوا حق اللى طفحتوه ده ما هو أنا مش كل مرة أجبلكم على حسابى ، حتى القرشين اللى أخدتهم من أبويا قبل ما أجى قربوا يخلصوا ، واللى فاضل هحاول أصرف نفسى بيه
رفع الشاب الجالس بجانبه قنينة الخمر يحتسى منها وهو يقول :
_ يعنى إيه تصرف نفسك بيهم هتعمل ايه يعنى يا بكر
– أنا أتفقت مع المعلم اللى بشترى منه الصنف أن أنا هبقى موزع ليه وهيبقى ليا نسبة يعنى بعد كده أعتبرونى الدولاب بتاعكم
ضحك بكر بصخب بعدما أنتهى من حديثه ، فحسبما ضيق أفقه بالتفكير ، وعدم وجود رادع له ، فكر بالإتجار بالمخدرات من أجل الحصول على المال اللازم له
أخذ منه رفيقه السيجار ، وسحب منه نفساً عميقاً ، عمل على خروجه ببطئ من فمه وأنفه ، فقال وهو ينظر للهيب السيجارة :
– أنت يا بنى عايز تودى نفسك فى داهية ، يعنى بدل ما تتعاطى هتاجر فيها يعنى لو أتقفشت تبقى المصيبة أكبر
دفعه بكر بصدره ، فسقط الشاب على الأرضية ، فلم يكلف نفسه عناء الاعتدال وظل مكانه ، ولكنه سمع بكر يقول بصوت ساخط :
– أنت بتفول فى وشى اتلم بقى ولا أقولكم يلا كلكم أمشوا أنا زهقت منكم ومحدش ييجى هنا إلا لو كان معاه فلوس أنا مش فاتحها تكية يا روح أمك أنت وهو
جذبهم بكر الواحد تلو الآخر ، حتى إستطاع إخراجهم من الغرفة ، فأغلق الباب خلفهم ، وأوصده بأحكام حتى لا يقتحم أحد منهم الغرفة ثانية ، فعاد وأرتمى على ذلك الفراش الشبه متهالك ، فصوت صريره من ثقل جسده ، جعله يخشى أن يسقط به أرضاً ، ولكنه ظل شارداً يحملق بسقف الغرفة ، وتلك النيران التى أشتعلت بصدره ثانية من تذكره لما حدث له بالآونة الأخيرة ، أحرقت كل ما تبقى له من قدرة على التفكير السليم ، أو التروى بأخذ الأمور بعقلانية
________________
بعد نصف ساعة تقريباً ، وبعد انتهاء يومه بالجامعة ، ولج رفيق إلى غرفة مكتب أكمل لمعرفة خط سير العمل
فرفع أكمل رأسه بعدما سمع صوت باب غرفة مكتبه يفتح ، ويدلف منه رفيق ، فتبسم قائلاً :
–:” حمد الله على السلامة يومك كان عامل ايه النهاردة فى الكلية”
أجابه رفيق بفتور :
–:” يعنى ماشى الحمد لله”
جلس رفيق على مقعد وأستند برأسه على حافته مغمض العينين ، فأثار دهشة أكمل من فعله وهدوءه غير المعتاد
فسأله أكمل بإهتمام :
–:” مالك يا رفيق فى ايه ، وشك كده باين عليه فى حاجة حصلت ، خير”
فتح رفيق عينيه مغمغماً:
–:” العميد غصب عليا أدرس لسنة أولى “
مط أكمل شفتيه قائلاً :
–:” وفيها إيه أنت لسه ده كله مش عايز تنسى يا رفيق”
تبسم رفيق بسخرية وهو يقول :
–:” أنسى ! أنسى ازاى يا أكمل أنسى كسرة نفسى ولا كسرة قلبى ولا الفضيحة اللى حصلت يومها واللى محدش يعرف عنها حاجة غيرك أنت حتى اهلى ما يعرفوش “
رمقه أكمل بشفقة وقال :
–:” أنا مقدر ظروفك يا رفيق بس حاول تنسى أنت مش هتفضل عمرك كده يعنى “
خرجت زفراته حارة وهو يقول بأسى :
–:” أنسى لما البنت اللى حبيتها قالتلى فى وسط الكلية كلها و قدام الطلبة وهيئة التدريس ، أنت تبقى مين وإبن مين ، تطلع ايه أنت علشان تحبنى وتحلم بيا أنت ناسى أنا بنت مين بص على قدك يا تربية الورش والحوارى ، كلامها وجعنى وكسرنى ، لما أفضل أربع سنين أحبها وأرسم أحلام وأصحى على كابوس”
قال أكمل بإستياء عارم :
–:” هى كانت قليلة الذوق واستغلالية استغلتك علشان كنت المعيد ومعجب بيها وكمان كنت بتذاكر لها ، أخدتك سكة علشان تنجح “
شد رفيق على يديه قائلاً :
–:” أه فضلت معشمانى بوهم ولما أتخرجت واجهتنى بالحقيقة أنا أبقى فين وهى فين وإن أنا الشاب الفقير اللى مش لازم يحلم ببنت الأكابر”
ترك أكمل مقعده وأقترب منه يربت على كتفه بمواساة :
–:” الحكاية دى فات عليها سنين حاول تنسى بقى يا رفيق”
خرجت نهدة حارة منه وهو يقول :
– :” مش عارف أنسى أو بمعنى أصح كل ما أنسى دى تفكرنى بأصلى وتفكرنى بمعايرتها ليا وسط الناس كلها”
أشار بيده الى تلك الندبة بوجهه ، وهو يبتسم بسخرية على حاله ، ولكنه يشعر كأن قلبه ينزف بقوة ، حتى يكاد ان يبلغ أنفاسه الأخيرة ، فتلك الندوب بقلبه رافضة أن تندمل أو أن تتركه يكمل حياته كباقى البشر ، فهو كأنه بدائرة مغلقة ولا يعرف السبيل إلى الخروج منها
–:” ما انت اللى رافض تعمل عملية تجميل بس والله هى مش مأثرة فى وشك ولا حاجة “
قال أكمل عبارته وعاد يجلس على مقعده ثانية
فنهض رفيق من مكانه قائلاً :
–:” سيبك من الكلام ده دلوقتى عملت ايه فى العرض درسته ولا لسه”
أماء أكمل برأسه قائلاً:
– :” أيوة وحتى طلبت من مالك يعمل دراسة جدوى للمشروع وان شاء الله خير”
–:” ان شاء الله أنا رايح مكتبى لو فى حاجة بلغنى بيها”
عندما هم بالخروج من غرفة مكتب “أكمل” متجه الى غرفة مكتبه ، فاليوم برمته كان مرهق للغاية ، فأعصابه لم تعد تحتمل التظاهر بالبرودة واللامبالاة اكثر من ذلك ، فهو يريد الاختلاء بنفسه قليلا ، حتى يستطيع أن يعيد الى نفسه الهدوء الذى اعتاد الجميع ان يراه به
ولكن قبل أن يخرج من الباب ، سمع صوت أكمل قائلاً :
– ما تاخد بتارك منها يا رفيق مش ليلى عايزة ترجعلك دلوقتى ما تحاول تكسرها زى ما كسرتك قبل كده ، يعنى ردلها اللى عملته
________________
يتبع ……!!!!!!
اترك رد