روايات رومانسيهرواية كتاب الحب

رواية كتاب الحب للكاتبة منال سالم الفصل الثالث

وعلى مدار الأسابيع التالية، عاون رائد إيلي في ترتيب الكتب الموجودة بالقبو إلى أن انتهى الاثنين من إخراجها جميعاً إلى النور، ثم حثها رائد على أن تقوم بالدعاية إلى مكتبتها لكي تدر عليها الربح المادي وتمكنها من إكمال تعليمها والإلتحاق بالجامعة، خاصة أن بها آلاف من الكتب الثمينة، ووعدها بأن يدعو كل من يقابله من أهل البلدة أو من خارجها للمجيء إلى هنا، وإقناعهم بإقتناء تلك الكتب المقدمة بالحب..

شكرت إيلي رائد كثيراً على مساعدتها، وعلى وقته الذي يقضيه معها، ولكنه أخبرها بأن متعته الحقيقية هي بوجوده معها، وبوجودها في حياته..
خجلت إيلي من مداعبات رائد لها بالكلمات، وحاولت قدر الإمكان أن تخفي تعلقها به، فهي كانت تخشى أن يفتضح أمر حبها البريء له، وبالتالي تخسره إن كان لا يحبها حقاً، فأثرت أن تجعل حاجز الصداقة بينهما قائماً، وتكتفي بالتعبير عن حبها له في مفكرة خواطرها..

لم يتجرأ رائد على أن يخطو أي خطوة إضافية في علاقته بإيلي، فقد كانت دائماً تصرح له بأنها تعتبره صديقها الوفي الذي لا تريد خسارته، وكان متوجساً خيفة من أن يكون حبه من طرف واحد، وأنها لا تحمل له نفس المشاعر العميقة التي يكنها لها في قلبه قبل عقله..

كما لم تكف جينا هي الأخرى عن خداع رائد بأنها قد تغيرت، وأنها تعتبره الصديق الصدوق لها، وأن نصائحه لها هي التي تعينها على المضي قدماً في طريقها العملي ومسيرتها العلمية، فسقط رغماً عنه في مصيدة صداقتها الزائفة، ووثق بها، واعتبرها رفيقته المقربة التي يمكن أن تؤتمن على أسراره، ولم يتردد في إخبارها عن حبه العذري لإيلي…

كانت كلمات رائد عن حبه الكبير لإيلي بمثابة الطعنات القاتلة والنافذة في الصدر بالنسبة لجينا، لقد أصغت إليه باهتمام، وحاولت أن تبدو هادئة طبيعية رغم رغبتها العارمة في اقتلاع عنق إيلي وتمزيق جسدها إرباً إرباً، تحاملت جينا على نفسها كثيراً حتى لا تفسد بغيرتها ما وصلت إليه مع رائد، وقررت أن تجاريه إلى أن تتمكن من إزاحة إيلي من طريقها..

وفي أحد الأيام قرر رائد أن يدعو إيلي للخروج معه في نزهة بالبلدة لكي يصرح لها فيها عن حبه ورغبته في الزواج بها، وظل طوال اليوم واقفاً أمام المرآة يتدرب على كيفية بدء الحديث معها، لقد شعر أنه كالمراهق المخبول الذي لا يجيد التعامل مع الفتيات رغم أنه كان متمرساً في فنون الأدب المختلفة..

اعتذر رائد عن إلقاء محاضرته هذا اليوم، وظل قابعاً طوال وقت الدراسة في القاعة يحاول أن يكتب الكلمات التي سيبدأ بها الحوار، في نفس الوقت بحثت جينا عن رائد في غرفة أعضاء هيئة التدريس ولكنها لم تجده، فتوجهت إلى القاعة الخاصة به، فرأته هائماً على وجهه، فدلفت إلى داخل القاعة وهي تسير بخطوات رشيقة، ويعلو وجهها ابتسامة عريضة..
وما إن رأها رائد حتى أسرع ناحيتها و…

-رائد بنبرة متلهفة: جينا، أنا في حيرة من أري، هلا مددتِ إلى يدك بالعون
تنهدت جينا بإرتياح، وشعرت بنشوة عارمة تجتاحهها وهي ترى رائد متلهف ومتشوق أمامها و..
-جينا بنبرة متحمسة، ونظرات متفائلة: بلى، فيما تريد مساعدتي؟
-رائد بنبرة متلعثمة: أنا، لا، أعرف كيف أبدأ، ولكني أريد، أريد أن أتقدم لخطبة إيلي، ولا أعرف كيف أفاتحها في هذه المسألة، وآآ…

كانت تلك الكلمات كافية لتجعل ابتسامة جينا تختفي، ووجهها ينطفيء، ونظراتها تتحول إلى الضيق..
لم تستمع جينا إلى كلمة اخرى مما قالها رائد بعد هذا رغم أنها كانت تتابع بعينيها القاتمتين حركاته الحماسية، ونظراته العاشقة لقد طعنها رائد في قلبها مجدداً بقسوة، وها هو قد قضى على أخر بارقة أمل في أن تظفر به..

وضعت جينا كلتا يديها على أذنيها لتغطيهما، وتمنع حديثه عن خطبة من يحبها والزواج منها من إختراق أذنيها، ثم هدرت فجأة عالياً ب…
-جينا بصراخ حاد: كفي رائد، كفى..!
قطب رائد جبينه في استغراب، ورفع أحد حاجبيه في اندهاش، ونظر إلى جينا بنظرات متعجبة و…
-رائد متسائلاً بنبرة حائرة: ما الأمر جينا؟ هل هناك ما يزعجك؟
عضت جينا على شفتيها في ضيق، ثم أخذت نفساً عميقاً وزفرته على عجالة و..

-جينا بنبرة متشنجة: إن كنت تريد خطبة إيلي، فأخبرها هي بهذا
-رائد بصوت آجش ومتوجس: كم أود أن أفعل هذا، ولكني أخشى أن ترفض حبي لها، فمازالت أجهل مشاعرها تجاهي، وهي لا تعرف بعد بمشاعري الحقيقية نحوها.

شعرت جينا أن هناك فرصة لكي تتخلص من إيلي إن كانت تبادل رائد تلك المشاعر الفياضة، هي فقط عليها أن تعد لمكيدة توهم فيها إيلي أن رائد لا يحبها، ويعتبرها كصديقة، وأنه مرتبط بزميلته في العمل ومتعلق بها لدرجة الجنون، وأن وجودها في حياته لا يتخطى كونها بائعة الكتب..
ابتسمت جينا في خبث، ونظرت إلى رائد بنظرات لئيمة و…
-جينا بنبرة هادئة: لا تقلق رائد، أنا سأساعدك لكي تعترف لها بحبك، فقط دعْ الأمر لي.

-رائد بنبرة متشوقة، ونظرات متعشمة: حقا؟
-جينا بنظرات شيطانية، ونبرة أقرب للفحيح: بلى، فأنت لا تعرف مكانتك عندي..
قضت جينا وقتها كله تفكر في وضع خطة للإيقاع بين رائد وإيلي، وبالفعل توصلت إلى خطة شيطانية، وبدأت في تنفيذها..

طلبت جينا من رائد أن يذهب إلى إيلي في مكتبتها، ويطلب منها أن تلقاه في الجامعة لاحقاً بحجة أن هناك كتباً معينة يريد عميد الجامعة أن تحضرها له، بالإضافة إلى أنه يرغب في مفاتحة العميد في مسألة التحاقها بالجامعة أثناء وجودها، ولكنه على العكس سيكون في انتظارها في قاعة الدراسة الخاصة به، والتي ستتولى هي تزينها من أجل أن يتمكن هو من التعبير لإيلي عن حبه، ومن ثم التقدم لخطبتها دون أي خجل أو أي عوائق تمنعهما من فعل هذا..

وافق رائد على تلك الخطة البسيطة، وظن أنها ستجدي نفعاً مع إيلي، خاصة أن جينا تلاعبت على مسألة شغف إيلي بالمفاجأت الرومانسية، وعلى حب رائد للنهايات الغير متوقعة في الأعمال الرومانسية السعيدة، بالإضافة إلى أن الغد هو يوم الحب العالمي، وبالتالي فسيكون مناسباً للتقدم بعرض الزواج، وحينها سيحظى الاثنين بذكرى خالدة في ذاكرة حبهما..

وبالفعل توجه رائد إلى مكتبة كتاب الحب ، وطلب من إيلي أن تقابله غداً في الجامعة، وأوهمها أن الأمر يتعلق برغبة عميد الجامعة في اقتناء بعض الكتب، ولكن وقته لا يسمح بالذهاب والبحث عما يريد، بالإضافة إلى إمكانية مفاتحته في مسألة التحاقها بالجامعة..

وافقت إيلي على طلب رائد، وتحمست للقائه في مكان عمله، فتلك هي المرة الأولى التي ستراه فيها وهو يمارس عمله، وظنت أنها الفرصة المناسبة لكي تقدم له هدية غالية، فهو لم يكف يوماً عن التفكير فيها، وفي دعمها وتشجيعها، وبالتالي فهو يستحق أن ينال تلك الهدية الثمينة..

لقد آن الآوان لكي تعطيه مفكرتها الخاصة المليئة بخواطرها الصادقة، خواطرها التي تمثل عنوان حياتها، وفيها ستعترف بحبها الشديد له، حبها البريء الذي لم تعد تستطيع أن تخفيه أكثر من هذا…

على غير العادة تأنقت إيلي كما لم تتأنق من قبل، وارتدت فستاناً شتوياً قصيراً من اللون الأوفوايت، وذو فتحة صدر مثلثة، ويتوسط خصره حزاماً عريضاً من اللون الأسود أبرز رشاقتها، كما مشطت شعرها الحريري بطريقة منمقة وتركته ينسدل خلف ظهرها ورفضت أن تعقصه كما تفعل دائماً، وفرقته من الجانب لتترك المجال لبعض الخصلات الكستنائية بالانسدال على جبينها، ثم وضعت لمسات رقيقة من مساحيق التجميل على وجهها لتزداد إشراقاً..

تأملت إيلي هيئتها في المرآة، ورأت بريق الحب يلمع في عينيها العميقتين، ثم ابتسمت لنفسها في رقة، ومدت يدها لتمسك بمفكرة خواطرها الموضوعة على الكومود المجاور لفراشها، وقامت بلفها بشريط أحمر وعقدته كالفيونكة حتى تقدمه هدية لمن تحب..
انصرفت إيلي خارج منزلها، وكلها حماسة ورغبة في لقاء رائد، وتأمل هيئته حينما يقرأ عن اعترافها بحبها الشديد له..

كان قلبها يخفق بشدة، وصدرها يعلو ويهبط من شدة التوتر الممزوجة بالحماسة..
استقلت إيلي سيارة أجرة حتى لا تفسد مياه الأمطار الراكدة، ولا برك المياه الضحلة هيئتها الهادئة و المنمقة..

توقف السائق أمام الطريق الذي يؤدي إلى مدخل الجامعة، فترجلت إيلي من السيارة، ثم تنهدت في خوف وارتباك، وفركت أصابع يدها في توتر، وقبضت باليد الأخرى على المفكرة، ثم سارت بخطوات حذرة عبر المروج الخضراء المحيطة بمبنى الجامعة لتتجه إليه..
في تلك الأثناء لمحت جينا إيلي وهي تترجل من السيارة من نافذة غرفة أعضاء هيئة التدريس، فابتسم في خبث، ثم..
-جينا بخفوت شديد، ونظرات شريرة: لقد حان الوقت..!

سارت جينا بخطوات متعجلة خارج الغرفة، ثم توجهت ناحية قاعة التدريس التي ينتظر بها رائد..
كان رائد في حالة توتر ملحوظ، ظل يجوب القاعة ذهاباً وإياباً في ارتباك وهو ممسك بعلبة زرقاء صغيرة بها خاتم ماسي رقيق، وما إن رأى جينا وهي تدلف إلى الداخل حتى أسرع إليها ومد يده ليمسك بكف يدها و..
-رائد بنبرة متوترة، ونظرات مترقبة: أوووه، جينا، أنا متلهف لرؤية إيلي والاعتراف لها بحبي.

-جينا وهي تبتسم في لؤم: لا تقلق، هي ستأتي و، وستراك
وضعت جينا كفها الأخر على يد رائد الممسكة بكفها، وظلت تربت عليه وكأنها تحاول طمأنته، ولكنها كانت تتعمد أن تجعل رائد ينشغل بالحديث معها، فتقترب هي منه دون أن يشعر بها، وبالتالي تراه إيلي حينما تدلف للقاعة وهو ممسك بها، فتنجح خطتها في إفساد أي علاقة قد تنشأ بينهما..

لن تنكر إيلي أنها كانت تشعر بالخوف وهي تمر بين الأروقة المختلفة في تلك الجامعة التي طالما تمنت أن تكون إحدى طالباتها، وها قد اقترب حلمها من التحقيق، كما اقتربت أيضاً لحظة اعترافها بحبها لرائد..
سألت إيلي أحد العاملين عن مكان رائد، فأخبرها العامل عن مكان القاعة المتواجد بها، فشكرته إيلي على مساعدته لها، ثم توجهت بخطوات مرتبكة ناحيتها..

وضعت إيلي يدها على صدرها لتهديء من روعها، فقد أصبح صوت خفقان قلبها يخترق آذانها، تنفست إيلي بهدوء وهي تقترب من باب القاعة الذي كان شبه مغلقاً..

في نفس الوقت، أغدقت جينا على رائد بالكلام المعسول عنأهمية وجود الأصدقاء في الحياة، وكيف أنهم يد العون الحقيقية لرفاقهم، وشكرته مجدداً على وقوفه معها، ثم اقتربت منه ومدت ذراعيها حوله لتحتضنه وتضمه إلى صدرها، فبادله هو الأحضان دون أن يدري بنواياها الخبيثة، ثم استندت برأسها على كتفه، و…
-جينا بخفوت وهي مغمضة العينين: شكراً لك رائد على كل ما فعلته من أجلي، أنا حقاً ممتنة لك.

وضعت إيلي يدها على الباب لتدفعه بهدوء، ولكن كانت المفاجأة أكبر من قدرتها على الاستيعاب..
لقد رأت إيلي رائد في أحضان فتاة ما ويضمها بشغف إلى صدره، وهو ممسك بعلبة زرقاء بها خاتم في يده التي تحاوط خصرها، فبدى وكأنه يتقدم بعرض الزواج منها، فألجمت المفاجأة لسانها، وجعلتها عاجزة عن النطق، عاجزة عن التنفس، عاجزة حتى عن الصراخ..

فتحت جينا عينيها بهدوء، فوجدت إيلي تقف على بعد بجوار باب القاعة، فابتسمت في لؤم، وتابعت ب…
-جينا بصوت ناعم للغاية: كم أحبك رائد، أنت رائع بحق..!
-رائد بنبرة هادئة: لا داعي لقول هذا جينا، فنحن أكثر من مجرد أصدقاء
أدمعت عيني إيلي وهي ترى رائد محاوطاً لتلك الفتاة بذراعيه، ويعرض عليها الزواج، فتراقصت العبرات في مقلتيها بشدة، ومن ثم إنهمرت على وجنتيها بغزارة..

انسحبت إيلي في هدوء، وشعرت أنها أخطأت حينما ظنت يوماً أن رجل جامعي ومتحضر مثله سيحب فتاة بسيطة وجاهلة مثلها..
شعرت إيلي أن هناك آلماً حاداً يعتصر قلبها، وأنها تعاني جرحاً غائراً لا يمكن أن يشفى يوماً، لقد وثقت بالحب، وها هي تختبر الشعور بالخيانة والخداع، لقد لامت نفسها كثيراً لأنها استسلمت لمشاعرها البريئة ولم تقاومها منذ مهدها..

ركضت إيلي بخطوات سريعة إلى خارج مبني الجامعة، ركضت وهي متشبثة بمفكرتها بكلتا يديها وهي تضمها إلى صدرها…
كانت تشعر بحرارة دموعها على وجنتيها رغم برودة الطقس، ظلت تركض وتركض لعل النيران المتأججة بقلبها تخمد، ولكن هيهات، فقد إزداد لهيب الحب بصدرها، وطغى على كل جوارحها، وأصبحت تعاني من ويلاته…

إنسلت جينا من أحضان رائد وهي تبتسم بثقة، فقد نجحت خطتها، وأنهت علاقة الحب قبل أن يكتب لها النور، وانصرفت من القاعة وهي توهم رائد بأنها تنتظر اخبار اعترافه بحبه لحبيبته – التي لن تصل أبداً – على أحر من الجمر..
وقف رائد أمام النافذة يطالع الأشخاص المتواجدين بالأسفل، وظل بين الحين والأخر ينظر إلى ساعة يده، وإلى الطريق مترقباً وصول إيلي بشغف كبير…

مر الوقت بطيئاً على رائد وهو منتظر إيلي، وظل يُحادث نفسه ويقنعها بأنها على مشارف الوصول، ولكن كان قلبه يخبره بأن هناك خطب ما قد حدث، ثم مرت الساعة وراء الساعة، ولم تأتي إيلي، ورائد يزداد ضيقاً وتوتراً، ورغم هذا ظل مسلطاً بصره على الطريق، ولم يحيد عنه إلى أن اقتربت الشمس من المغيب، وإيلي لم تحضر، فتنهدت في يأس، وجمع أشيائه، واغلق العلبة الزرقاء بعد أن رمق الخاتم الرقيق الموضوع بها بنظرة حزينة، و..

-رائد بصوت حزين: أين أنتِ إيلي، لقد طال غيابك…!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى