اغمضت مريم عينيها على الفور عندما خرجت من مكتب عمر ووضعت يدها على قلبها متسارع الدقات، كادت للحظات تقسم أنه قد عرفها، ولكنها مالبثت أن نفت الفكرة عندما تحدث وكانه لا يعرفها، فتحت عينيها فى حيرة، لقد ظنت أن الماضى ولى وانتهى وأن مشاعرها تجاه عمر قد انتهت، ولكن دقات قلبها تخبرها عكس ذلك الى جانب غيرتها الشديدة عليه والتى اكتشفتها اليوم، انه مازال مالك قلبها الوحيد، ذلك الاكتشاف جعلها موقنة من شئ واحد، لابد وان تبحث عن عمل آخر فهى لن تحتمل كثيرا، وقناع البرود لن يستمر طالما هو إلى جوارها، أفاقت من أفكارها على صوت هاتفها فأجابته قائلة:.
بنت حلال
قالت نور بمرح:
طبعا، قوليلى اخبارك ايه؟
تنهدت مريم قائلة:
لسة خارجة من عنده، حسيت للحظة انه افتكرنى بس احساسى كالعادة طلع غلط، المهم انتى اخبارك ايه؟وأخبار كارو ايه؟
قالت نور:
كارو مبسوطة اوى بالخضرة والهدوء اللى هنا، اما انا…
وصمتت لا تدرى ماذا تقول، لتحثها مريم قائلة:
انتى ايه يانور؟
أحست مريم بدموع نور وهى تقول:
أنا حازم وحشنى أوى، اوى يامريم
قالت مريم بعطف:
الله يرحمه يانور.
ثم صمتت للحظة قبل ان تستطرد قائلة بحزم:
عارفة انك بتتعذبى يانور بس انا عايزاكى تفكرى فى المستقبل ياحبيبتى وتحاولى تنسى الماضى
قالت نور:
الماضى مابيتنسيش يا مريم، انتى مثلا قدرتى تنسى ماضيكى؟
تنهدت مريم قائلة:.
انا وضعى مختلف يانور، الماضى بتاعى دايما أدامى، بشوفه فى سيف وعمر، انا رضيت بقسمتى، رضيت اعيش فى الماضى وأربى ابنى اللى هو الحاضر والمستقبل، لكن انتى لسة أدامك مستقبل كبير، بيت واسرة وولاد ولا منفسكيش تبقى ام يانور؟
تنهدت نور قائلة:
عشان خاطرى يامريم اقفلى الكلام فى الموضوع ده دلوقتى
قالت مريم بقلة حيلة:
خلاص يانور، بس اوعدينى تخلى بالك من نفسك و تطمنينى عليكى
قالت نور:.
تمام ياقلبى، أوعدك، وانتى كمان، ابقى طمنينى عليكى، سلام مؤقت
وأغلقت الهاتف تاركة مريم شاردة فى أفكارها وخوفها على نور ثم أسرعت تنفض أفكارها وهى تحضر ماطلبه عمر من اوراق لتسلمه اياها وتخرج بسرعة تاركة اياه فى حيرة اكبر ورغبة شديدة منه فى معرفة لماذا تتحاشى النظر اليه ولماذا تجنبت لمس يديه وهى تمنحه الاوراق، لماذا؟
ابتسم عمر قائلا:
بجد برافو، شغلك هايل، أستاذ حمدى كان عنده حق، انتى مكسب كبير لشركتنا ياآنسة مريم
ارتسمت ابتسامة ساخرة على وجه مريم وهى تقول فى هدوء:
مدام مريم
ألقى عمر نظرة سريعة على يديها، فلم يجد بها خاتم يدل على ارتباطها فقال بهدوء لا يعكس الغصة التى ملكت قلبه:
مش لابسة دبلة يعنى؟
نظرت الى عينيه مباشرة ويخيل اليه انه لمح تلك النظرة التى تحمل العتاب ولكنها مالبثت ان اختفت كالعادة قائلة:.
أنا وجوزى منفصلين عن بعض
لا يدرى لم شعر بالإرتياح ليعود فيسألها قائلا:
مطلقة؟
هزت رأسها نفيا ليشعر بيد تعتصر قلبه ألما وهى تقول:
انفصلنا بس من غير طلاق
لا يعلم لم شعر بالغيرة والغضب، لقد أوضحت نبراتها الحزينة انها مازالت تحب زوجها، اذا لم الانفصال؟
أفاق على كلماتها وهى تقول:
أى أوامر تانية؟
هز رأسه نفيا فخرجت من المكتب تتابعها عيناه وهو يقول لنفسه فى حزن:.
لازم انساها، هى صحيح منفصلة عن جوزها بس لسة بتحبه، مفيش قدامى اى فرصة عشان اقرب منها، لازم أنساها واعتبرها صفحة وانتهت من حياتى قبل حتى ماتبتدى، لازم.
نظرت نور الى نفسها فى المرآة فى حزن شديد فها هى تلبس فستان الزفاف الأبيض كما تمنت ان تلبسه ذات يوم ولكنها ترتديه اليوم دون ارادتها لتزف الى يوسف وليس الى حبيبها حازم، تذكرت ذلك اليوم الذى وافقت فيه على هذه الزيجة، فى ذلك اليوم ثارت على جدتها عند عرضها عليها طلب يوسف بالزواج منها، انهارت الجدة واحضروا لها الطبيب الذى حذرهم من تعرضها للضغط العصبى والذى يؤثر على قلبها العليل، ثم تذكرت اتفاقها مع يوسف على ان يتزوجوا صوريا حتى تتحسن صحة جدتها ثم يتعللا بالمشاكل وينفصلا بهدوء، وها قد جاء اليوم الموعود، نظرت الى نفسها بالمرآه مرة أخيرة قبل ان تخرج من غرفتها لتنزل درجات السلم الى حيث تقف العائلة يتقدمهم يوسف الذى تسمرت ملامحه على نور وهى تتجه اليه، كان يوسف يحسد نفسه على امتلاكه لكل هذا الجمال، اقتربت منه نور حتى اصبحت امامه مباشرة، واستطاع ان يرى تلك الدموع الحبيسة التى تترقرق فى عينيها فأحس بألم فى قلبه ولكنه تمالك نفسه وقبلها فى جبينها فأغمضت عينيها ألما، ثم أمسك يديها وتقدم بها الى حيث جدتهما التى قبلتهما وضمتهما فى حنان، وتبادل كل من يوسف وآسر التهانى، وضمت كرمة نور فى سعادة، ثم جلسا فى مكانهما يستقبلان تهانى المدعوين حتى ختام ذلك الحفل البسيط الذى اصرت نور علي بساطته، فقام يوسف وحمل نور التى تفاجأت بذلك ثم صعد بها درجات السلم وسط تصفيق الجميع حتى دلف بها الى حجرتهما فأنزلها وما كاد يفعل حتى قالت نور فى عصبية:.
ممكن افهم حضرتك بتعمل ايه بالظبط؟
نظر اليها يتابع حركات وجهها العصبية ثم قال فى هدوء يخالف تلك النار المتأججة فى قلبه:
هكون بعمل ايه يعنى؟ بكمل التمثيلية
نظرت اليه شذرا قائلة:
مش لازم الحركات دى، ومن فضلك متلمسنيش تانى مهما كان السبب
ضاقت عينا يوسف فى غضب ولكنه مالبث ان تمالك نفسه قائلا:
انا هستعمل الحمام الخارجى وحمام الأوضة تحت أمرك وياريت لما آجى تكونى خلصتى لأنى محتاج أنام، اليوم كان طويل ومتعب.
ثم تركها وخرج من الغرفة يتآكلها الغيظ من بروده، وتقدمت تجاه الحمام وهى تلعن اليوم الذى وافقت فيه على تلك الزيجة.
ماكادت نور تنام فى السرير وتشد الغطاء عليها حتى فتح الباب ودلف يوسف الذى نظر اليها فى شرود، كم هى جميلة حبيبته، خاصة بعد ان أزالت زينتها وتركت لشعرها العنان، تبدو كالأطفال وتعكس عينيها اضطراب وخوف أثارا شفقته عليها فتقدم نحوها وهو يلاحظ اضطراب انفاسها و تسارع دقات قلبها الذى انعكس على العرق النابض فى عنقها، وريقها الذى تبتلعه فى صعوبة فقال فى هدوء:
متخافيش يانور انا وعدتك ملمسكيش غير بارادتك.
تذكرت نور ذلك الوعد الذى قطعه يوسف على نفسه وهو يقنعها بتلك الزيجة، نعم وعدها الا يلمسها الا اذا طلبت منه ذلك بنفسها، يومها نظرت له شذرا قائلة:
ده فى احلامك
ولكنها لاتدرى حتى الآن لم صدقته وشعرت بالأمان من جراء كلماته فقط. عادت نور الى ارض الواقع قائلة:
انت عارف يايوسف ان قلبى مش ملكى وان اليوم ده مستحيل ييجى
اغمض يوسف عينيه فى ألم ثم فتحهما قائلا:.
ياريت بعد اذنك متكرريش الكلام ده ادامى تانى، أنا راجل وصعب على أى راجل انه يسمع ان قلب مراته ساكنه واحد تانى حتى لو كان الواحد ده ميت.
ثم اتجه الى السرير ونام على الجهة الأخرى معطيا اياها ظهره فى هدوء لا يعكس مشاعره المشتعلة داخله تاركا اياها يتآكلها الذنب على كلماتها التى تعلم انها تقتله، نعم، فهى تشعر بمشاعره التى يكنها لها والتى تعكسها عيناه كلما نظر اليها ولكن مابيدها حيلة فقلبها حقا ملك لآخر، حازم، صديق الطفولة والصبا، وخطيبها، ومالبثت ان استسلمت لنوم عميق.
ابتسمت ملك أخت عمر وهى ترى عادل يدلف الى الحديقة، فأسرعت اليه قائلة:
عاش من شافك ياكابتن، كنت غطسان فين اليومين اللى فاتوا دوووول
نظر عادل اليها فى دهشة قائلا:
كابتن وغطسان، اللى يسمعك ميقولش ابدا انك خريجة جامعة أمريكية
ثم ألقى عليها نظرة سريعة ليلاحظ غيظها ولكنه تجاهلها قائلا:
انا ظبط كل حاجة عشان ننقل اسكندرية ونكون جنب عمر، فين طنط نادية؟
جزت على أسنانها وهى تقول:
جوة مستنياك.
أشار لها بيده فى تحية قائلا:
هروحلها، سلام
تابعته بعينيها ومشاعر الغضب تشتعل فى قلبها تتساءل فى صمت حزين، لم لا يشعر بها عادل؟انها فتاة جميلة بتلك العينين الخضراوتين ووجهها رقيق الملامح وشعرها البنى المسترسل فى نعومة، رشيقة القوام، حادة الذكاء، خفيفة الدم، تحبه بجنون وهو لايشعر بها أبدا، يعاملها كأخت له فقط، لماذا؟ولم يسمع لسؤالها صدى سوى الصمت.
تأمل يوسف ملامح نور النائمة فى عشق تام، كم هى ملاك بملامحها الطفولية البريئة وكم هو محظوظ بها، وكأنما أحست نور بأنها مراقبة حيث فتحت عينيها فجأة لتجده ينظر اليها متأملا فى عشق غير مدرك لاستيقاظها فتنحنحت بارتباك وهى لا تدرى لما تسارعت دقات قلبها فقالت فى هدوء يخالف اضطراب مشاعرها:
صباح الخير
افاق يوسف من شروده قائلا:
احمم، صباح النور
ثم نزل من على السرير متجها الى الحمام قائلا:.
انا هدخل الحمام وبعدين هيكون تحت امرك، جهزى نفسك عشان ننزلهم تحت.
اومأت نور برأسها فى صمت وقامت تحضر ما سوف ترتديه وانتظرت حتى خرج يوسف من الحمام فشهقت وهى تدير له ظهرها فابتسم من خجلها حيث كان يرتدى المنشفة فقط حول خصره تاركا الجزء العلوى من جسده عاريا، ومالبثت ان اسرعت بدخول الحمام مهرولة تتبعها نظراته الضاحكة، اغلقت نور عليها باب الحمام وهى تضع يدها على قلبها متسارع الدقات وهى تغمض عينيها متذكرة كتفيه العريضتين وعضلات صدره ثم فتحت عينيها فى قوة وهى تتعجب من تفكيرها ثم استغفرت فى سرها واسرعت بأخذ حمام من الماء البارد حتى تهدئ من اشتعال خديها خجلا وعندما انتهت ارتدت ملابسها وخرجت من الحمام متمنية ان يكون يوسف قد سبقها فى النزول ولكن آمالها خابت عندما رأته بكامل ملابسه يجلس منتظرا اياها فى هدوء قائلا وكأنما يقرأ افكارها:.
مكنش ينفع انزل لوحدى هتكون غريبة قوى ومش مفهومة.
أومأت برأسها موافقة واتجهت الى الطاولة لتسحب فرشاة تسرح بها شعرها وهو يتابعها بنظراته العاشقة والتى تربكها، تمنت ان تنهاه عن النظر اليها هكذا ولكنها آثرت الصمت، لم تضع على وجهها اية زينة فقد حباها الله بجمال طبيعى وعندما مرت من امامه استطاع ان يشم عبيرها الرائع الذى يسكره فأغمض عينيه وشدد قبضته حتى لا يتهور ويأخذها فى أحضانه ولا يدعها حتى تكون زوجته قولا وفعلا، امسك يدها فى يده وشدد عليها عندما حاولت ان تنزعها منه، ونزلا السلالم فى هدوء لا يعكس اضطراب ايا منهما، واتجها الى الطاولة التى يجتمع عليها الجميع للافطار وما ان رأتهما الجدة حتى قالت فى سعادة:.
اهلا اهلا بالعرسان، مبروك ياولاد
اتجها اليها سويا وقبلاها كل على حدة، وباركا لهما كل من آسر وكرمة، وتبادل كل من كرمة ويوسف النظرات والتى تابعها آسر فى حنق شديد، ومالبثوا ان جلسوا فى هدوء لتناول الطعام فى جو عائلى بهيج، ثم استأذن يوسف منهم ليحضرا الحقائب ليذهبا لشهر العسل فنظرت اليه نور فى دهشة فقال بهدوء:
دى مفاجأة ياحبيبتى، يلا بينا.
قامت فى هدوء رغم اشتعال الثورة فى اعماقها واستأذنت منهم وصعدا الى الحجرة وما ان دلفوا اليها حتى قالت فى غضب:
شعر عسل ايه وزفت ايه، انت صدقت نفسك
تبدلت ملامح يوسف الى غضب شديد واتجه اليها قائلا:
صوتك مايعلاش تانى
احست نور باضطراب شديد من انعدام المسافة بينهما ولكنها قالت فى حدة:
انت عايز ايه بالظبط؟
نظر يوسف اليها متاملا ملامحها الغاضبة وهو يقول:.
قلت توطى صوتك. واجابة لسؤالك، انا مش عايز حاجة منك وفكرة السفر دى لمصلحتك
همت ان تقاطعه فوضع يده على شفتيها يمنعها من الكلام قائلا:
هش، من فضلك اسمعى كلامى الأول. انتى الفترة الجاية دى لو فضلتى قاعدة هنا هتكونى مجبرة تمثلى قدام الكل انك الزوجة السعيدة اللى بتحب جوزها وصدقينى انتى مش هتستحملى ده كتير، فقلت نبعد ونكون براحتنا وعلى طبيعتنا بدل حرق الاعصاب ده ولا ايه؟
نظرت اليه فى حيرة من اضطراب مشاعرها نتيجة لمسته لشفتيها وكلامه الهامس امامهم حتى انها تشعر بدفئ انفاسه فأدرك يوسف من اضطراب انفاسها انه مازال يضع يده على شفتيها فاضطرب قليلا وابعد اصابعه قائلا:
ياريت تجهزى الشنط وانا هنزل احضر العربية
وأسرع من امامها تاركا اياها فى حيرة نفضتها سريعا وهى تقوم بتجهيز الحقائب لتبعد عن افكارها كل تلك المشاعر المختلفة التى يثيرها فيها هذا المدعو يوسف، زوجها.
قالت مريم فى استنكار:
اتجوزتى يانور من غير ما تقوليلى ولا تعزمينى؟
قالت نور برجاء:
غصب عنى ياروما، الموضوع جه فجأة وبسرعة، وجوازى كان ع الورق بس عشان خاطر تيتة، عشان خاطرى سامحينى
تنهدت مريم قائلة:
خلاص يانور، حصل خير، قوليلى بقى انتى اخبارك ايه مع يوسف؟
زفرت نور قائلة:
محيرنى بشخصيته يامريم، مش فاهماه خالص
ابتسمت مريم قائلة:
يبقى الصنارة غمزت ياحبى
قالت نور بضيق:.
صنارة ايه بس، ما انتى عارفة اللى فيها، سيبك منى ومن يوسف وقوليلى اخبارك ايه مع عمر؟
قالت مريم بحزن:
زى ما قلتلك قبل كدة، ساعات بيتهيالى انه فاكرنى وان فيه جواه مشاعر من ناحيتى وساعات بحس انى مش اكتر من مريم سكرتيرته
قالت نور فى حنان:
اصبرى ياروما وان شاء الله ربنا هيصلحلك الحال ياحبيبتى
قالت مريم:
يارب يانور، انا وانتى ياقلبى يارب
قالت نور بسرعة وهى تسمع يوسف يناديها:.
هقفل دلوقتى عشان مسافرة مع يوسف وهكلمك بعدين
قالت مريم فى مزاح:
الله يسهلووووووو
قالت نور بابتسامة مكتومة:
امشى يابت يلا
ابتسمت مريم قائلة:
سلام يانؤنؤ، ابقى خلى الندلة كرمة تكلمنى
قالت نور ضاحكة:
عيونى، سلام ياقلب نؤنؤ
واغلقت نور الهاتف وقلبها يرتجف فى صمت وكأنه يخشى الآتى.