( نوسين )
الفصل الخامس :
كانت “ثريا” تعد الطعام، وخرجت من المطبخ وهي تمسح يدها المُبللة، فـ فوجئت بالشجار الذي يحدث أمام باب منزلها، تحركت نحوهم مسرعة وهي تسأل مصدومة:
-في إيييييه؟
أجابها الرجل بلهاث عنيف، وكأن ذلك البربري يحمل قدرًا لا بأس به من الشهامة التي لا تليق بما يفعل:
-دا واحد عايز يتأدب وبأدبه يا حاجة، ادخلي أنتي.
زمجرت فيه ثريا بعصبية غير مبررة وهي تشيح بيدها:
-وملاقتش حتة تأدبه فيها غير قدام باب بيتي ياخويا !!
إتسعت عينا “عمر” ذهولًا وهو يُدرك أنها قد نسته للمرة التي لا يذكر عددها منذ مجيئهما، ولكنه لم يكن في وضع يسمح له بتصحيح الصورة لها، فقد كان في هم الدفاع عن نفسه ضد هذا الثور الهائج، الذي أخذ يردد بغلاظة:
-عشان تتعلم إنك ماتتطاولش على أسيادك ومعلمينك.
اخيرًا علم سبب دق طبول هذه الحرب دون مقدمات، ولاح بمخيلته صورة الشخص المقصود من حديثه؛ والذي لم يكن سوى ذلك البائع الوقح، ألا يكفيه جرأته التي تجاوزت الحد المسموح به، ليرسل له مَن يدعي تأديبه ايضًا !!
ازدادت اعصابه اهتياجًا وغلًا ليرد الصاع صاعين لذلك الهمجي الذي دخل في عراك معه بمفرده آمرًا مَن معه ألا يتدخلوا، ويبدو أنه يتفاخر بضخامته!
فيما كادت “ثريا” تغلق الباب، فأوقفتها نوسين التي جاءت بسبب الأصوات العالية، تستفسر عن مصدرها:
-في إيه يا خالتي؟
لم يخفَ عليها المفاجأة التي لوحت من قمم قسمات خالتها التي تبدلت عصبيتها العارضة بفرحة مخلوطة بالدهشة وهي تردد لقبها اللعين الذي فُرض عليها قسرًا:
-برقوقة! أنتي جيتي امتى؟
ثم أجابت سؤالها بلامبالاة:
-دا شكله حرامي وبيأدبوه.
هزت رأسها بلامبالاة مماثلة وهي تهمهم:
-يأدبوه يستاهل ابن ال***
ثم اقتربت من خالتها وهي تقلب عينيها بملل حقيقي، وتُهيء نفسها لاعادة الاسطوانة الصوتية التي حُفظت داخلها مؤخرًا، تُسمعها لخالتها كل حينٍ وآخر، ولكن استوقفها رؤية “عمر” الذي كان يتبادل الضربات واللكمات مع ذاك الرجل، فصرخت بفزع وهي تلطم خديها:
-يالهوي حرامي إيه دا جووووزي.
ثم ركضت نحوهم وبدأت تصرخ ليجتمع الجيران في محاولة لتفريقهم، وبالفعل نجحوا في ذلك بعد أن أصاب كلاً منهما الاخر بجروح واضحة بوجهه..
كانت ملامح عمر متجهمة، يشعر أن داخله ينصهر بلهيب الغضب والغل وأنه لم ينل منه كما يريد..
تحركت “نوسين” تبحث عن صندوق الإسعافات الأولية، ولكن لم تجده مكانه، فنظرت نحو ثريا تسألها:
-علبة الإسعافات الأولية فين يا خالتي؟ أنا كنت حطاها هنا؟
ولكن ثريا لم تتذكر، وأردفت بتيه وعيناها تجوب المنزل يمينًا ويسارًا:
-مش عارفة، ممكن أكون شيلتها، بس مش فاكرة فين!
تنهدت الاخرى ولم تعلق، ثم بدأت البحث عنها، فيما نظرت ثريا نحو عمر الجالس جوارها بصمت محترق، وهمست بتأنيب ضمير:
-معلش يا عمر، يقطعه الزهايمر والله ما افتكرتك يا حبيبي، كنت بحسبك حرامي وبيضربوك عشان كدا.
هز عمر رأسه وهو يغتصب ابتسامة رقيقة مخففًا عنها ثقل الذنب:
-ولا يهمك عادي يا حاجة، ماحصلش حاجة.
بعد قليلٍ من البحث، جاءت نوسين حاملة بيدها صندوق الإسعافات، ثم جلست بالقرب من عمر، تنظر لجروحه بتركيز، قاطبة جبينها وعيناها تضيق بلمعة تأثر واضحة، تتوارى خلفها مشاعرها المنتفضة بالقلق عليه؛ داعبت رغمًا عنه دواخله.
ولم يشعر ولو ثانية برفض لذلك الاهتمام، بل شعر بخلاياه تنساب في استسلام متلذذ أسفل حَدْوَته!
تنحنح يُجلي صوته الذي خرج خشن رخيم:
-دي حاجة بسيطة مش مستاهلة.
عادت له بعينيها باستنكار تردد:
-بسيطة إيه دا أنت إتخرشمت!
أبعد يدها التي كانت تقترب من وجهه وهو يقول في اعتراض حانق بدا لها طفولي:
-على فكرة هو إتخرشم وإتضرب أكتر.
اومأت برأسها مؤكدة تهاوده:
-ايوه طبعًا ما أنا عارفة.
أحسها تسخر منه ومما حدث، فتلفظ بغل متعمدًا تذكيرها:
-وهو كل دا بسبب مين؟!
هزت كتفاها معًا متهكمة:
-وأنا مالي يا لمبي؟!
عض شفتاه وإحتشد الاستهجان في كلماته المستنكرة:
-دلوقتي وأنتي مالك؟ صحيح عاملة زي القطط تاكلي وتنكري، بس عندك حق كان مفروض أسيبهم يرنوكي علقة في السوق.
ضغطت على جرحه بقوة متعمدة فتأوه بألم، لتَدعي التأثر الذي غطى بمهارة على غيظها ومكرها في تلك اللحظات:
-لا مؤاخذة يا حبيبي مش قصدي.
دومًا تنجح في اختزال كل طاقته في رغبة وحيدة بقتلها بسبب مشاكستها المستمرة، وفي نفس الوقت يستمتع بتلك المشاكسة التي تصل لنقطة مغمورة داخله وتداعبها فارضة عليه الانسجام الشعوري.
****
بعد أيام…
هكذا توالت أيامه التي صارت موجزة في شخص واحد “نوسين”، وما فعلته نوسين.. وما قالته نوسين.. يشعر بتأثيرها عليه، وتغيير في نفسه ولكنه يرفض الاعتراف به.
نفسه التي كانت مستسلمة للاحتراق الضاري والتناثر كالرماد، رافضة لكل ألوان الحياة المُبهجة، فأضحت بوجودها كالعنقاء؛ تُبعث من جديد من رمادها المحترق.
وفي يوم العطلة، كانت “ثريا” جالسة بمفردها منسجمة أمام التلفاز كالعادة ونوسين تجالسها، خرج عمر من دورة المياه، وجلس جوار نوسين، مكررًا الروتين اليومي بالجلوس معهما قليلًا بعد تناول العشاء ثم المغادرة بأي حجة..
أشارت “ثريا” برأسها لنوسين هامسة لها بحروف آمرة:
-قربي منه.
ابتلعت ريقها ونفذت الأمر على مضض بالاقتراب قليلًا، فاحتدت نظرات ثريا وهي تشير لها لتقترب أكثر، كظمت نوسين توترها الذي بدأ يضرب ضلوعها واقتربت اكثر حتى كانت شبه ملتصقة به، تشعر أن كل خلية بها تهدر بصوت عالٍ مسموع وليس قلبها فقط!
اما عمر، شعر بجسدها الغض يلتصق به مسببًا له ذبذبة عاطفية ملحوظة لأول مرة وغير هينة، فآنس حرارة تتسرب له مُذيبة إياه ببطء جاعلة من صدره موقد لها، ويدٍ خفية داخله تُولد من رحم تلك الجَنَان المُهلكة تود جذبها لأحضانه أكثر، لتكون أقرب له من أنفاسه، علها تُهدئ ذلك الثوران العاطفي الذي ضرب ارجاؤه.
ابتلع ريقه ببطء مقررًا تخليص نفسه، فنهض متنحنحًا بصوت مسموع:
-استأذن أنا بقا.
ثم تحرك وكاد يغادر، ليبيت في الغرفة التي تقبع بالأعلى، دون علم ثريا بالطبع..
فأوقفته منادية بحزم:
-عمر.
استدار لها متوقعًا سؤالها الذي لم يتأخر كثيرًا:
-أنت رايح فين؟
-رايح أقعد مع الشباب تحت.
نهرته بعصبية خفيفة تعود على طفوها بدون مبررات:
-بلا شباب بلا نيلة، مراتك دي ليها حق عليك، اعتبرها شاب من الشباب يا سيدي واقعد معاها شوية.
كاد يعلن حجة جديدة ليهرب، ولو أن الحجج كلها فرغت منه:
-ما أنا آآ…
ولكنها قاطعته بحزم غير قابل للنقاش:
-اتفضل روح يلا اقعد مع مراتك شوية قبل ما تناموا، يلا.
تنهد بقوة قبل أن يستدر مجبرًا على مضض ويعود للغرفة لنوسين التي ما أن رأته حتى سألته بتلقائية مدهوشة:
-إيه دا أنت إيه اللي رجعك؟
تلفظ ساخرًا:
-قلبي مش قادر على بُعدك.
رفعت حاجبيها معًا بتعجب وعلى طرف لسانها شك في جنونه، فجلس على الفراش وقال متنهدًا:
-خالتك اللي أجبرتني إني أرجع أقعد معاكي.
-معلش اقعد شوية وهي هتنام وابقى انزل.
هز رأسه مؤكدًا على كلامها..
وبعد قليل، سمعا صوت المفتاح يتحرك في باب الغرفة، ولم يكن الأمر يحتاج الكثير من التفكير ليستنتجا أن خالتها أغلقت الباب عليهما، فاتسعت حدقتاه وهو يشير نحو الباب بذهول:
-إيه اللي حصل دا ؟
-قفلت الباب علينا.
غمغمت نوسين التي كانت منخرطة معه في فقاعة واحدة من الصدمة، فتصرفات خالتها قد فاقت التوقعات، ثم نهضت مسرعة نحو الباب لتحاول فتح الباب حتى تتأكد من ظنونهما التي كانت شبه مؤكدة، وحين تأكدت استدارت لعمر الذي تكلم بكمد:
-خالتك بتعاملنا معاملة يهود، هنعمل إيه بقا في الورطة دي؟
صمتت لدقيقتان تقريبًا منغمسة بين طيات عقلها تفتش فيه عن حل سريع، ثم برقت بعقلها فكرة جعلت الابتسامة الشقية تتراقص على شفتيها وهي تستطرد بزهو:
-أنا عندي بعون الله الحل لكل حاجة، ثق فيا.
لمح بطرف عينيه “برص” كان يسير على سقف المنزل، فأردف ساخرًا وهو يشير له:
-دا أنا أثق في البُرص دا وماثقش فيكي.
افترش التحدي ساحة عينيها البندقية، ثم أمسكت “دبوس شعرها”، ونفخت خصلتها السوداء التي تدحرجت مغطية جزء من عينيها بغرور طفولي، ثم اقتربت من الباب وبدأت تحاول فتحه بدبوس الشعر، ولكن محاولتها باءت بالفشل، فنظرت للدبوس وهي تتمتم كأنها تناشده الاجابة:
-الله هو مافتحش ليه زي في الافلام؟
قاطعها صوت عمر المُستهزئ وهو يردد:
-مش يمكن عشان المخرج عايز كدا مثلًا؟
تعلق الاحراج على أطراف معالمها ولم تنفجر حروفها كالعادة، فهز عمر رأسه بيأس:
-انتي دماغك إتلحست من الافلام، وبعدين أنا مستني إيه اساسًا من واحدة اسمها برقوقة.
رمقته شرزًا وهي تحذره من بين أسنانها ضاغطة على كل حرف من حروفها:
-أكتر حاجة بكرهها في حياتي هي الاسم دا، أنا اسمي نوسين.
إنطلقت الكلمات من جوف الكتمان تعلن السؤال الذي كان يراوده منذ رآها:
-اهو الاسم اللي عامل زي التعويذة دا بالذات أنا شاكك فيه، انتي مين سماكي اسم زي دا ومعناه إيه؟
رمقته بنظرات متلألئة بالغرور الذي من المفترض أن يستفزه ولكنه على غير العادي يُضحكه:
-معناه المستقبل، ماما اللي سمتني، أصل أنا ليا اصول تركية.
استسلم لذلك الحبس الاجباري لكليهما، وقرر الاستمتاع به، فـ راح يحثها ولأول مرة على الثرثرة معه معترفًا أن ثرثرتها مفيدة احيانًا للقضاء على وقت الفراغ:
-وعلى كدا بقا بتعرفي تتكلمي تركي؟
أكدت بفخر:
-طبعًا امال.
-طب ما تسمعينا حاجة كدا.
تفوهت بنبرة درامية مرحة:
-دخيلك عدنان بيك لا تتركني هيك.
لأول مرة تنطلق ضحكات عمر مخترقة حاجز السكون لدرجة أن برزت نواجزه، مناغشة دقات قلب الماكثة جواره تتأمل ضحكاته الرجولية بشجن، ثم سألها ولازالت بقايا ضحكاته متعلقة بفمه:
-دا تركي دا؟
إنتقلت لها الضحكة مُزينة اجابتها التالية الغارقة بالغرور :
-لا أنا كنت بهزر معاك، اوعى تفكر إني جاهلة عشان مكملتش تعليم، أنا مثقفة بالفطرة، وأعرف كلمات تركية بجد.
سألها متهكمًا:
-كلمات زي عدنان بيك لا تتركني هيك؟
فهزت رأسها نافية بسرعة تخبره بالكلمة التي كانت ترجمتها ” أنا أحبك” :
-لا لا كلمات بجد، زي Seni seviyorum.
ضيق عيناه بشك:
-اوعي تكون شتيمة؟
فنفت وراحت تسرد في مكر أجادت اخفاؤه:
-لا لا شتيمة إيه، دي حاجة كدا زي صباح الخير.
-امممم فعلًا؟
أكدت بلا تردد بنبرة صبيانية معهودة:
-عيب عليك هو أنا هضحك عليك يعني!
هز رأسه مبتسمًا، ثم استشعر الجو الحار الذي خنق الغرفة، فنهض وفتح الشرفة سامحًا للهواء باختراق الغرفة، ولكنه دخل مُحملًا برائحة الطعام من المطعم الصغير الذي لم يكن بعيدًا عن المنزل، فأغمضت نوسين عيناها بانتشاء وهي تبلل شفتاها بلسانها في حركة تنم عن تلذذها الكبير، مهمهمة كالقطط:
-أنا مابحبش الكفتة، بس ريحة الفحم بتغسلني من جوه.
لم تدرِ أن حركتها العفوية كانت كلسعة سوط ضاري على مشاعر “عمر” التي يكبحها بشق الأنفس محاولًا تسكينها، فعادت تزلزل ضلوعه من جديد، مُنددة برغبة شفتاه في استكشاف تلك الشفاه..!
فيما كانت “نوسين” منشغلة بثرثرتها المعتادة عما تحب من الأطعمة وما تكره، غافلة تمامًا عما يعانيه ذلك المسكين..
إنتبهت اخيرًا لنظراته المُسهمة على وجهها، فأشارت له بأصابعها منادية:
-إيييه أنت متنح كدا ليه روحت فين؟
أخذ نفس عميق، وغضبه الداخلي بدأ يتصاعد.. لاعنًا مشاعره الذكورية الغريزية التي قررت إنهاء غفوتها الطويلة.
ثم نهض بقليلٍ من الانفعال، وبدأ يبحث في الغرفة عن أي شيء يفتح به ذلك الباب، وأجابها اثناء ذلك:
-أحنا لازم نتصرف ونفتح الباب دا.
اومأت نوسين مؤكدة وبدأت تبحث معه، حتى وجدا أخيرًا آلة حادة رفيعة، بدأ عمر يحاول فتح الباب بها دون ضوضاء حتى لا يتسببوا بإيقاظ خالتها، وربما تتهامهما أنهما لصوص!
نجحا أخيرًا في الخروج بعد عدة محاولات، وتوجه عمر صوب الغرفة التي يقطن بها والتي كانت عبارة عن غرفة فارغة صغيرة جدًا، بها فرش على الأرضية ينام عليه..
****
قطع غفوته صوت طرقات على باب الغرفة، ثم صوت نوسين يناديه بهدوء ورقة:
-عمر.
فاعتدل جالسًا وهو يجيبها بصوت أجش لازال به اثار النوم:
-ادخلي يا نوسين.
دخلت بالفعل، حاملة بين يديها طبق من الأرز بلبن، وتتحدث بابتسامة حلوة رائقة زادت ملامحها جمالًا فوق جمالها:
-أنت طولت في النومة النهارده، وخالتي عاملة رز بلبن قالتلي أصحيك وأطلعهولك تفطر بيه.
اومأ برأسه موافقًا بغير حماس، ثم نهض فعقدت ما بين حاجبيها واستفسرت:
-أنت مش بتحب الرز بلبن ولا إيه؟ دا حلو أوي.
قالت اخر كلماتها وهي تلتقط الملعقة وتتناول جزء منه بها، مهمهمة باستمتاع وتلذذ وهي تكرر ذات الحركة اللعينة بإغلاق عينيها والإنسجام المفرط في التذوق..
ثم مدت له الطبق، لمح عمر بقايا الأرز عالقة بطرف شفتاها، فمد إصبعه دون أن يفكر ومسحها جاعلًا رجفة عنيفة ترج قلب وكيان الماثلة أمامه، محاولًا تجاهل نداء قوي يأتيه من داخله آمرًا إياه بإستبدال إصبعه بشفتاه، ولكنه لم يستطع تمالك زمام عاطفته هذه المرة ولبى ذلك النداء، جاعلًا شفتاه تلتقي بسبب شقاؤه “شفتاها” في قبلة كانت الأكثر حلاوة وشغفًا، كانت لاهبة مفعمة بالعاطفة بشكل أشعره أنه يخطو أولى خطواته في درب الهوى، مترنحًا بسُكره العاطفي الطاحن.
***
صوت ضوضاء خارجية كان السبب في استيقاظ عمر منهية حلم كان من ألذ ما حلم، نهض يلتقط أنفاسه، وكأنه كان في ماراثون عاطفي، مصدومًا من هذا الحلم وتلك المشاعر !
وشعور قوي بالخيانة يتفجر داخله مسممًا ثناياه؛ فهو بشكلٍ ما قد نسى زوجته الحبيبة ومعشوقة روحه، ولم يحلم بها منذ فترة، وفوق ذلك يحلم أنه يُقبل امرأة غيرها.. امرأة غريبة عنه.. بل ولا زال حتى اللحظة يشعر بنفس الغزو العاطفي، وكأنها….. وكأنها ليست مشاعر ذكورية غريزية عابرة !!
نهض بحركات عصبية رافضًا الاعتراف بما توصل له عقله واحساسه، يدور حول نفسه كليثٍ حبيس، يحاول ايجاد مبررات تهدئ من لوع تأنيب الضمير القاسي الذي ينحره نحرًا…
ضرب الحائط بعنف وغضب عدة مرات بيده صارخًا صرخة عبرت عن جزء قليل مما يجيش بصدره.
واخيرًا بعد قليل بدأ يهدأ، ولكن جوفه لا زال محتفظ بذلك الشعور كالعلقم، نزل نحو شقة خالتها، طرق الباب، وعلى عكس كل أمنياته كانت هي التي فتحت الباب، وقابلته بابتسامة هادئة:
-صباح الخير يا عمر.
هز رأسه بلا معنى وكاد يعبر لولا أن اوقفته متسائلة بشيء من الاستنكار:
-إيه دا مش هتقولي صباح الخير؟
-صباح الخير.
رددها باقتضاب، فعبست عمدًا وراحت تشاكسه:
-إيه دا صباح الخير عادي كدا؟ وكل الدروس بتاعت الكلمات التركي امبارح ما أثرتش فيك؟!
رمقها بنظرات مغلقة مقتبضة ومر دون أن يجيبها مسببًا لها دهشة لم تفصح عنها وفضلت الصمت.
وحين خرج من المرحاض، كانت نوسين تتقدم منه ممسكة في يدها طبق ارز باللبن، فاتسعت حدقتاه غير مصدقًا أن ذاك الحلم البغيض يلاحقه الان ايضًا !
وقبل أن تقترب أكثر كان يوقفها هادرًا وكأنها ستُصيبه بوباء قاتل:
-ابعدي ابعدي اوعي تقربي!
تجمدت نوسين مكانها ولم تستوعب ما أصابها، فتلكأت حروف أسمه على شفتيها بتعجب جلي:
-عمر!
-بلا عمر بلا زفت.
ثم تحرك بخطى سريعة ليغادر دون اضافة المزيد تاركًا إياها تحاول استيعاب ما أصابه.
****
بعد يومين..
في منطقة مختلفة، كان عمر يقف في جانب من الشارع، وعيناه مُسلطة على الأطفال الذين يلعبون سويًا، منتظرًا شيء معين، حتى تحقق وتقدم منهم احد الأطفال الذي يقصده عمر..
فتحرك بحذر وهو يوزع نظراته من حوله ليتأكد من عدم انتباه أي شخص له، وانحنى حتى أصبح في مستوى الطفل فسأله بصوت هامس:
-عاوز شيكولاته من الكبيرة يا حبيبي؟
هز رأسه مؤكدًا بلمعة سعادة طفولية، فتابع عمر:
-بس اوعى تقول لصحابك عشان أنا مش معايا غير واحدة، وأنا حبيتك فقولت محدش هياخدها غيرك.
اتسعت ابتسامة الطفل بنصر طفولي، ثم إلتفت لأصدقائه قائلًا:
-استنوا خمس دقايق وجاي.
وأمسك بيد عمر التي مدها له، وسار معه نحو احد الشوارع الجانبية، وما أن اصبحا بمفردها حتى أخرج عمر قطعة صغيرة من القماش بها مخدر، ووضعها على أنف الطفل الذي لم يستغرق دقائق طويلة ليفقد الوعي بين ذراعي عمر….
. ****
رحمه سيد
رواية اسيرتي المتزوجة (كاملة جميع الفصول) بقلم مريم الشهاوي