( نوسيـن )
الفصل السابـع :
أخذ دقائق قليلة، يحاول فيها إصدار أي رد فعل، كالتحرك ومحاولة الانسجام مع قنبلة الصدمة المدوية التي وُضعت بغتةً بين ثناياه، شاعرًا أنها ستنفجر في أي لحظة ممزقة إياه ومَن حوله لأشلاء!
إلى أن استجابت أقدامه أخيرًا لوجوب تحركه، وتوجه صوبهما، فاخترق سمعه صوت “نوسين” المنتفض بغضب بدا أنها تحاول السيطرة عليه:
-أنتي كدا كذبتي عليا، وأنا وثقت فيكي.
ما أن رآوا “عمر” أمامهما حتى تجمدت كلتيهما من وقع المفاجأة عليهما، هتف عمر يسأل نوسين مشيرًا بيده لتلك السيدة:
-أنتي بتعملي إيه مع الست دي؟!
أغمضت السيدة عينيها لاعنة الحظ التي أوقعهما في الشباك هكذا، فيما كانت نوسين تحاول لملمة شتات حروفها المبعثرة كخلاياها:
-عمر أنا آآ….
قاطعها مكررًا سؤاله ولكن بحروف أكثر اهتياجًا وصوت أعلى، وكأن عقله ما عاد يقبل سوى تلك الاجابة:
-أنتي بتعملي إيه مع الست دي وتعرفيها منين؟
-أنا آآ عارفاها، عارفاها من زمان، من الورشة.
نجحت في اخراج اجابتها التي كانت متلعثمة بتوتر جلي، ولكنها كانت تعلم أنها مجرد باب فُتح لاجابات اخرى كثيرة.
هتافه صار صراخ عالٍ يُنذر ببركان ثائر اوشك على الفوران:
-عارفاها وعارفة اللي عملته فيا أنا ومراتي؟ كنتي بتمثلي عليا وبتخدعيني كل دا ؟
هزت رأسها نافية بسرعة كمَن لدغها ثعبان، ثم نظرت نحو السيدة تتوسلها التدخل وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من صورتها التي تشعر بها صارت مشوهه في عيني “عمر”:
-لا والله ما أعرف هي عملت إيه، قوليله أنتي هو أنا كنت أعرف؟!
هزت الاخرى رأسها نافية وأجابت متنهدة بصدق وضيق:
-لا ماكانتش تعرف فعلًا، أنا آآ…
قاطعها عمر مزمجرًا في وجهها بتوحش، وإنتفضت اوداجه وكأن صوتها و رؤيتها يُيقظا أعتى شياطينه من قاع الجحيم:
-أنتي بالذات تسكتي خالص مش عايز أسمع صوتك، أنتي أخر واحدة ممكن أخد بشهادتها أو أصدقها في حاجة، أنتي مش انسانة أصلًا، أنتي واحدة شهدت شهادة زور وتجاوزت عن قتل واحدة حامل بريئة، عشان ابنها الصايع الخمورجي.
إتسعت عينا “نوسين” وآنست توقف قلبها الوشيك من الصدمات المتتالية وهي تدرك أن تلك السيدة لم تكن سوى والدة ذاك الشاب الفاسق الذي أنهى حياة زوجته وابنه، وحياته ايضًا !
فيما استدارت الاخرى لتغادر دون أن تنبت ببنس شفة، بعد أن تلقت طعنات في كرامتها وكبريائها، ولكنها تعلم أنها لا تزن شيئًا أمام ما تلقاه عمر من قهر ووجع.
شعرت نوسين بالشارع يضيق عليها أمام عمر الذي أحسته في تلك اللحظات كوحش ضاري، خاصةً حين صدح صوته كهسيس خافت مُخيف:
-ازاي كنت مخدوع فيكي كل دا ومفكر إنك ساذجة وبريئة وعفوية، أتاري مفيش حد ساذج غيري.
هزت رأسها نافية وراحت تجاهد لإقناعه رغم يقينها بفشلها مقدمًا:
-لا يا عمر أنت ظالمني، والله العظيم ما كنت أعرف إنها أم الزفت دا، هي قالتي إنها أمك أنت.
ضحكة سوداء فارغة كانت تغادر فمه مع قوله الحاد الساخر:
-لا والله! قالتلك إنها أمي وأنتي صدقتيها عادي كدا؟ حد قالك إني مختوم على قفايا؟!
أردفت نوسين بكلمات متحشرجة انتشلتها من خضم ذكرياتها:
-والله العظيم صدقتها لأني كنت عارفاها من سنتين، فكنت واثقة فيها، وبعدين كنت بقول لنفسي هي هتكذب ليه وهتستفاد إيه؟
صرخ فيها بانفعال مفرط:
-هتستفاد إنها تخليكي تعملي اللي هي عايزاه وتخدعي المغفل اللي صدقك، ودخلك حياته عادي كدا.
-هي ماكانتش عايزه حاجة تأذيك ابدًا، وأنا أصلًا عمري ما كنت هرضى أعمل أي حاجة تأذيك ولو بنسبة واحد في المية، هي كل اللي كانت عايزاه إني أدخل حياتك أساعدك تتخطى اللي حصلك وأرجعك تحب الحياة تاني، لإنك اتأذيت نفسيًا بسببها لما سابتك وأنت صغير واختفت من حياتك وأنت محتاجها، بس غصب عنها وإنها ضميرها معذبها ونفسها ضميرها يرتاح ومش عارفة تساعدك ازاي غير كدا.
أخبرته بلهفة متعجلة وهي تأمل من كلماتها أن تثقل كفتها هي أمامه، ولكن كل أملها فر ادراج الرياح حين سمعت تعليقه الفظ:
-فيلم هندي قديم، وبايخ كمان.
استنجدت بالمنطق لإختراق صلادة عقله، حين استطردت:
-طب فكر كدا من ساعة ما عرفت هل عملت أي حاجة تحسسك إني عايزة أوصل لأي حاجة تاني غير اللي قولتها، او عايزة أأذيك، أنا ماعملتش أي حاجة والله غير إني كنت بحاول أساعدك.
أخطرها بصوت إنخفض قليلًا عن صوته العالي السابق، ولكنه كان حاد وقاسي بنفس القدر المؤلم:
-اللي أنتي عملتيه وبتحاولي توصليهولي إنه خير فـ أحب أقولك لأ دا مش خير دا سذاجة، الخير اللي يجي بالكذب والخداع مايبقاش خير.
أقرت بالحقيقة التي يرفض الإعتراف بها:
-أنا اتخدعت زيي زيك.
فكاد يقنعها هو حين تلفظ بصوت أجش:
-حتى لو ماكنتيش تعرفي فـ أنتي شريكة فيه.
كررت من جديد سؤالها المستنكر مدافعة عن نفسها:
-أنا ما أذيتكش قولي حاجة أنا أذيتك فيها.
ردد بنبرة مغلقة:
-أذيتيني لما كذبتي عليا ولعبتي بيا ايًا كانت الاسباب.
تكلمت بصوت أبرز الإرهاق الذي أصاب روحها الملكومة من كل الجهات:
-تاني هقولهالك هي خدعتني وأنا اتعاطفت معاها.
-أمشي.
نطقها بصوت خافت جامد راغبًا في إنهاء كل شيء هذه اللحظة، فتابعت نوسين:
-عمر أنت لازم تسمعني وتفهمني آآ…
قاطعها حين جذبها بغتةً من ذراعيها ضاغطًا عليهما بقوة، هادرًا في وجهها بزئير عالي شابه الإعصار جعلها تنكمش أمامه كورقة في مهب ذلك الإعصار:
-مش عايز أسمع ولا أفهم حاجة، كل اللي فاهمه إنك واحدة مش سالكة وبتكذبي بسهولة، ومش عايز أشوف وش واحدة زيك تاني.
ثم تركها نافضًا إياها بعيدًا عنه كما لفظها من حياته للتو، واستدار ليغادر دون اضافة المزيد، تاركًا إياها تقف مكانها كالشريدة ودموعها تتسرب ببطء من وجنتيها، تعاني بشاعة النبذ والخذلان من جميع المحيطين بها.
****
بعد مرور يومين…
نوسين التي ظنت أن حياتها ستعود كما كانت، رتيبة ولكنها مغمورة بالرضا والسلام النفسي، وجدت نفسها فجأة تتلظى على جمر تأنيب الضمير اللاسع، ولا زالت كلمات عمر التي حكت عن بشاعة فجوة الصدمة والخداع داخله، تتردد بأذنيها، لا تدري تأنيب الضمير ذاك انساني فقط، ام أن قلبها هو مَن يُضفي هذا الشعور بالعذاب المُهلك لروحها..
قامت لتدور حول نفسها في الغرفة، وعقلها يدور في فلك سؤال واحد، ماذا عساها تفعل لتخفف من ثقل ما حدث؟ أو بمعنى أصح لتنل غفرانه الذي تعلم أنها بينها وبينه أميال كثيرة..
وبالنسبة لعقل متهور كعقلها لم تقفز فيه سوى فكرة متهورة مثله، ألا وهي الذهاب له في عقر داره وانتشال غفرانه بطريقتها !
نهضت بالفعل وبدأت تُعد أطباق من الارز باللبن بمهارة، لتأخذها معها له، ثم ارتدت ملابسها على عجلة من أمرها، وخرجت من منزلها وهي تتصل بتلك السيدة “نوران” التي كانت أصل كل شيء وسببه، فأتاها صوتها بهدوء:
-ايوه يا نوسين.
قالت مباشرةً دون التطرق لإلقاء التحية حتى:
-عايزه عنوان بيت عمر.
-حاضر، هبعتهولك في رسالة دلوقتي.
اومأت نوسين برأسها وكأنها تراها، ثم تمتمت:
-تمام مع السلامة.
لم تنطق حتى بكلمة شكر؛ لأنها ببساطة تشعر أن هذا حق مفروض عليها، خاصةً بعد ما فعلته.
****
بينما على الطرف الاخر، كان عمر يعاني من تشتت تام.. ممزق ما بين عقله الصلد الذي يرفض العفو عن كذبها بمحض ارادتها، مبددًا تمامًا الثقة فيها، وشيء اخر ينهره على رد المعروف لها بهذه الطريقة القاسية!
ولكن كيف له أن يمرر لها تلاعبها به كل هذه الفترة مرور الكرام، وكيف له أن يرمم الصدع الذي أصاب ثقته التي بنتها الأيام بينهما، وأن يدرأ عنه شعور الخذلان الذي ينهش دواخله ويُصيبه بألم مفرط.
وصلت بعد قليل لمنزل “عمر” الذي لم يكن بعيد كثيرًا عن منزلها، بدأت تطرق باب المنزل بهدوء، فمرت دقيقة تقريبًا قبل أن يفتح عمر الباب، معلنًا عن وجه نوسين المبتسم رغم الجزع الذي يشوبه، والذي أحس لجزء من الثانية أنه افتقد رؤيته، وهذا طبيعي بسبب الاعتياد.. أليس كذلك؟
تجاهل ما يدور بخلده وهو يسألها بفظاظة:
-إيه اللي جابك هنا ؟
بُهتت من هجومه السريع الذي شنه عليها، ولكنها لم تتراجع بل أصرت على التقدم حين قالت بابتسامة شقية ذكرته بنوسين السابقة؛ التي لم تخدعه:
-جبتلك رز بلبن، قولت أنت أكيد ماعطفتش على معدتك بأكل عدل وأنت لوحدك.
للحظة إهتزت ذاكرته بذاك الحلم المُلبد بعواطف لم ولن يعترف بها، ولكنه حَجَّم سيطرته على ذاكرته بقوة يُحسد عليها، ثم تفوه بصوتٍ مقتضب كملامحه في تلك اللحظات:
-مش عايز منك حاجة.
ضيقت عينيها وما بين حاجبيها كقطة وديعة، وهي تغمغم بخفوت:
-عمر، لو سمحت.
نهرها بحدة خفيضة مراعيًا ألا يصل صوته للجيران حولهما:
-لو سمحت إيه، ماتطلبيش مني حاجة فوق طاقتي أنتي ماعملتيهاش أصلًا، تقدري تقوليلي إيه شعورك لما عرفتي إن هي كانت بتكذب عليكي زي ما بتقولي ولعبت بيكي؟
نكست رأسها أرضًا وهي تُخرج حروفها مجبرة باجابة خذلتها فخرجت لتكون في الصف المُعَادي لها:
-إتعصبت منها وحسيت إني مش عايزه أكلمها تاني.
أضاف بابتسامة صلفة:
-وهو دا بالظبط اللي عملته واللي أنتي بتلوميني عليه.
نفت برأسها محاولة إقناعه:
-أنا مش بلومك على كدا، أنا بس عايزاك تبقى أحسن مني وتفوتلي الغلطة دي، وتقدر إن نيتي كانت خير.
لمحت الرفض وعدم الاقتناع يلوحا لها من قمم عينيه، فواصلت مسرعة تحاول الضغط على وتر ضميره:
-على الأقل عشان أقدر أسامح نفسي أنا وأرتاح من تأنيب الضمير اللي بقيت عايشة فيه.
سرد لها الواقع الذي تعلمه أصلًا، بلهجة دبلوماسية لم تتوقع أنها سيكون لها هذا الوقع المؤلم على قلبها:
-لو كدا فـ ريحي ضميرك خلاص حصل خير، كدا كدا أحنا مش هنشوف بعض تاني.
أحست بالفشل التام، وأن أي محاولة اخرى ستكون إهدار لكرامتها التي لن تقبل المساس بها رغم كل شيء، فتراجعت خطوتين مهمهمة بأمل في الأيام علها تُصلح ما أفسدته هي دون عمد:
-ماشي يا عمر، اللي تشوفه.
ثم استدارت وغادرت جارة اذيال الخيبة خلفها، تحت أنظار عمر الذي عَلى صوت رقيق داخله معلنًا سعادته لمحاولتها في استرضاؤه، ولكنه سرعان ما إضمحل ذلك الصوت بغلظة صوت أفكاره العنيدة.
****
بعد يومين آخرين…
كانت نوسين مُمدة على الفراش تُريح جسدها بعد ارهاق العمل طوال اليوم لتعويض غيابها السابق، إلى أن قطع قيلولتها صوت طرقات حادة نوعًا ما على الباب، نهضت تعدل من ملابسها وهي ترد بصوت متعجب هادئ:
-ايوه جايه ثواني.
ثم فتحت الباب لتتفاجأ بأخر شخص توقعت أن يأتي لزيارتها، ليس بعد كل هذا الانقطاع!
لم يكن ذلك الشخص سوى عمها، الفظ غليظ القلب والذي لطالما كان خيط الود بين قلبيهما مقطوع..
صدح صوته الأجش قاطعًا حبل أفكارها:
-إيه مش هتقوليلي اتفضل ولا إيه يا بنت اخويا؟
للحظة ترددت، ولكنها لم تكن تملك خيار الرفض اصلًا، لذا أفسحت له الطريق على مضض وقالت مُرحبة:
-لا ازاي، اتفضل طبعًا يا عمي.
دخل يتبختر في مشيته وعيناه تتولى مهمة تفحص كل إنش من ذلك المنزل الصغير الذي لم يزره منذ وقت طويل، ثم جلس على الكرسي الموضوع في جانب صالة المنزل، فقاطعت نوسين وصلة تأمله حين أردفت:
-ازيك يا عمو عامل إيه؟ ومرات عمي وعيالك كله تمام؟
اومأ برأسه مؤكدًا بهدوء:
-الحمدلله كلهم كويسين.
-يارب دايمًا بخير.
تمتمت بها نوسين، وداخلها يتساءل في توجس عن سبب هذه الزيارة المُفاجئة، ولكنها لم تفشي سؤالها الداخلي، منتظرة مبدارته هو التي كانت متأكدة أنها لن تتأخر!
وبالفعل أجلى عمها صوته وهو يقول:
-بصي يا نوسين، أنتي أكيد عارفة إن أبوكي الله يرحمه قبل ما يموت، كان مديون ليا بعشر الاف جنية.
تجمدت لوهله والصدمة تصفعها، قبل أن تنفي بصدق:
-لا ماكنتش أعرف.
ولكنها لن تُكذبه بالطبع، ليس بعد أن اكتشفت سابقًا أن والدها كان مديون لأناس آخرين ايضًا وهربت من براثنهم بصعوبة، فلا تستبعد أن يكون عمها أولهم.
تابـع بجدية:
-أنا لولا ما محتاجهم دلوقتي ماكنتش جيت قولتلك عليهم.
هزت رأسها متفهمة، وتشدقت ببساطة:
-أنا فاهمة، بس أنا طبعًا مش معايا العشر الاف يا عمي، اديك شايف أنا مش قاعدة في ڤيلا في التجمع الخامس يعني.
قالت اخر كلماتها مشيرة بيدها للمنزل الصغير الذي به أثاث شبه متهالك، فبدأ الاخر يُكشر عن أنيابه متلفظًا بجمود:
-وأنا أعمل إيه يعني! ما تتصرفي ما أنتي بتشتغلي في الورشة.
إلتوت شفتاها بابتسامة ساخرة بمرارة:
-الورشة أساسًا مديونة يا عمي.
صاح فيها بانفعال بدأ يُطرق أبوابه:
-وأنا مالي، هو أنا هجوع عيالي وأحرمهم عشان غيرهم يستريح.
هنا شعرت باليُتم يعود ليغزو أطرافها بقوة، مُرسلًا لها مرارة جعلت جوفها يتلوى ببكاء مكتوم بصعوبة وهي ترد:
-لا طبعًا تجوعني أنا، بس أحب أطمنك إن أنا أصلًا محرومة، مش عايشة عيشة مُرفهة.
نهض من جلسته، وهدر بصرامة قاسية خالية كل الخلو من الشفقة الإنسانية:
-مايخصنيش، فلوسي تبقى جاهزة خلال اسبوعين، استلفيهم، بيعي أي حاجة، اتصرفي مليش فيه.
نهضت “نوسين” هي الاخرى، وقد عاودها قناع الشراسة والقوة الذي أنزلته قليلًا احترامًا له ولصلة القرابة بينهما:
-وأنا كمان مليش فيه، أنا ما أخدتش منك أي فلوس، روح خدهم منه في القبر بقا.
لم تحسب حساب الصفعة التي هوت على وجهها بعنف جعلتها ترتد خطوتان للخلف ساقطة على الأريكة الصغيرة تشهق بألم وصدمة!
ثم زمجرته بحروف نارية ضارية:
-أنتي بتقوليلي أنا الكلام دا يا بنت ال*** دا أنا هاخدهم من عنيكي.
صرخت بقهر فيه:
-وأنا مش هاديك حاجة وأعلى ما في خيلك إركبه.
وركضت مسرعة نحو غرفتها تحتمي بها، مغلقة عليها الباب الذي شعرته سينكسر بأي لحظة بسبب طرقات عمها العنيفة المهتاجة عليه وهو يصيح:
-افتحي، افتحي الباب يا بت ال****
جلست كالقط المذعور على الفراش، لا تدري ماذا تفعل او كيف ستهرب من براثنه حتى!
لم يجول بخاطرها سوى أسم واحد وهو “عمر” الذي بمجرد أن تذكرته شعرت بالأمان يقترب ببطء من رحابها المذعورة، فلم تفكر كثيرًا او تردد في امساك هاتفها والاتصال به، لم يجيب اتصالها في المرة الأولى، ولكن في الثانية أجاب بصوت أجش:
-عايزة إيه يا نوسين؟
توسلته بصوت مرتجف كحالها، بالاضافة لاختراق تلك الطرقات سمعه:
-إلحقني يا عمر بالله عليك.
سألها بقلق لم ينتبه لاجتياحه كلماته وجوارحه:
-مالك؟ أنتي فين؟
اجابته مسرعة:
-في البيت، عمي هيموتني أنا حابسة نفسي في اوضتي وهو هيكسر الباب عليا.
لم يتردد في طمئنتها بحنانه الفطري العفوي:
-متخافيش أنا جاي على طول اهوه.
جلست تنتظره على أحر من الجمر، والخوف ينهشها، ولكن لحسن الحظ بعد قليل استكانت ضربات عمها على الباب وخفت صوته، فاقتربت من الباب محاولة سماع الذي يحدث بالخارج، فسمعت أصوات بعض جيرانها الذين يبدو أنهم أتوا بعد سماعهم للأصوات العالية في منزلها، وبدأوا في محاولة إقناعه بتركها وتهدئته.
بعد فترة ليست كبيرة..
سمعت صوت “عمر” وسط الأصوات بالخارج، وميزته بسهولة، فتهللت أساريرها فرحًا بوصوله، وشعرت أن حضوره يحيط قلبها بقوقعة من الدفء والاطمئنان، سمعت جداله مع عمها الذي لم يبخل عليه بالطبع بوابل من الإهانات المُبطنة والصريحة..
بينما عمر يهدر فيه:
-مش من حقك تتعامل معاها بالعنف دا وتمد إيدك عليها.
فقال الاخر بتبجح:
-لما هو مش من حقي أنا، عمها، من حق مين؟ من حقك أنت؟ أنت مين أصلًا عشان تتدخل في حاجة عائلية؟
-مش من حق أي حد، هي مش طفلة عندها خمس سنين هتربيها بالضرب، دي أنسة كبيرة بقت طولك.
تشدق بها عمر بانفعال، وأيده باقي الرجال المجتمعين، إلا أن ذلك لم يؤثر في ذلك الرجل غريب الأطوار، حيث تابع:
-لا من حقي، وأنا بقا مش هاسيبها غير لما أخد حقي.
حينها لم يجد عمر بدًا من استخدام أسلوب التهديد الذي يلجأ له أحيانًا في عمله:
-طب أعمل حسابك لو إتعرضتلها تاني بأي شكل من الأشكال، هعملك محضر وهحبسك.
اهتز صدر عمها بالغضب، ولكن هذه المرة أثارت قلقه كلمات عمر، لذا قرر المغادرة، مع التحفظ على مطلبه:
-أنا ماشي، بس يكون في علمك برضو مش هاسيب حقي.
ثم غادر بالفعل، وبدأوا الجيران يغادرون هم ايضًا واحد تلو الاخر وهم يضربون كف فوق كف بعدم تصديق، فخرجت نوسين أخيرًا، تنهل من تواجد عمر وحضوره الطاغي على قلبها، الدفء الذي تنشده..
ولكن عمر لم يقل سوى جملة وحيدة مقتضبة شبه آمرة، متجاهلًا الإحمرار الذي عَلى وجهها نتيجة صفعته، وجعل غصة تُصيب قلبه الذي تَحرَّق بالغضب متوعدًا لذاك الفظ:
-لمي هدومك هتيجي تقعدي معايا يومين، لحد ما اتأكد إن حوار عمك دا اتقفل ومش هيتجنن في عقله ويتعرضلك تاني، وهنعمله محضر عدم تعرض.
استنكرت نوسين كلماته بشدة:
-أجي أقعد معاك ازاي يعني! أنت مفكر إننا في أمريكا ولا إيه؟!
حكى لها بجدية:
-مش هتقعدي معايا في نفس الشقة، هتقعدي في الشقة اللي في وشي بتاعت أمي الله يرحمها.
هزت رأسها نافية برفض تام:
-لأ مش هينفع، أنا مش هعيش حياتي هربانة من دا شوية ودا شوية، احيانًا بنبقى لازم نواجه.
اخشوشنت نبرته وهو يُنهيها:
-قولتلك بطلي تعيشي دور السبع رجالة في بعض دا، مش كل مرة الجيران هيتلموا وأنا هاجي ألحقك، ممكن المرة الجايه يفتح دماغك ولا حاجة ومحدش يحس، وبعدين بطلي عِند دا مش هروب، دا هما يومين هظبط كل حاجة ونخلص من قرفه، اعتبري نفسك في زيارة سريعة لأي حد.
صمتت لدقيقتين تقريبًا استغرقتهم في التفكير، تود الرفض فعلًا، ولكن كل ما قاله مُقنع ومنطقي، وبما فعله عمها اليوم تيقنت أنه لن يتوانَ عن اثارة البلبلة والفضائح لها يوميًا، وربما كسر دماغها وعظامها ايضًا كما قال عمر، لذا اتخذت قرارها واومأت برأسها موافقة على مضض:
-ماشي.
وبالفعل بعد فترة كانت قد وصلت مع عمر للبناية التي يسكن بها، طوال الطريق لم يوجه لها أي كلمة اخرى، وكأنه يرسل لها رسالة مُبطنة عبر ذلك الصمت؛ فحواها أن غضبه واعراضه عنها لم ينتهي..
فتح لها شقة والدته، مع إعلامه لها ببعض الأمور لتتكيف على المنزل في اليومين القادمين، ثم غادر هكذا دون المزيد..
تنهدت “نوسين” ولتقضي على وقت الفراغ الذي ينتظرها بدأت بتنضيف المنزل الذي لم يكن مهجورًا في الأصل، فقد كان عمر يفتحه كل بضعة أيام لتهوئته..
فتحت الباب وخرجت ترمي القمامة في سلة المهملات التي كانت أمام الباب، وتركت الباب مفتوح وعادت تحضر باقيها من الداخل، في تلك الاثناء تقدمت سيدة ذات ملابس أنيقة مُهندمة في عقدها الخامس تقريبًا، تغطي خصلات شعرها بحجابها الذي يحوي قسمات وجهها التي بدأت تميل لتجاعيد خفيفة، ترافقها فتاة شابة ممشوقة القوام تحمل ملامح شرقية سمراء جميلة، ما أن رأوا الباب مفتوح حتى ظنوا أن عمر بالمنزل يطل عليه كما يفعل كل فترة..
خرجت نوسين في تلك اللحظة ليتصادموا ثلاثتهم ببعضهم، كانت أسرع في قطع خيط الصمت نوسين التي سألتهم بتلقائية:
-أنتوا مين؟
أجابت السيدة بملامح تحمل شيء من التحدي والترقب:
-فين عمر؟ أنا عمته ودي خطيبته، أنتي مين؟
تجمدت “نوسين” مكانها وصدى كلمة خطيبته يتردد باذنيها مسببًا لها طنين مزعج…..
****
رحمه سيد
رواية زواج لم يكن في الحسبان الفصل التاسع