روايات رومانسيهرواية نوسين

رواية نوسين الفصل السادس

( نوسيـن )

الفصل السادس :

أدخل عمر الطفل للسيارة التي كانت تنتظره، والتي كان بها “نوسين” ومعها جارها وصديقها المقرب “حوده”، ثم ركب هو الاخر، فأشارت نوسين لـ “حوده” هاتفة بتوجس وكأنهم سيتم امساكهم بالجرم المشهود في أي لحظة:
-اطلع بسرعة يا حوده يلا.

وبالفعل إنطلق “حوده” بالسيارة، فالتفتت نحو عمر تسأله بقلق لم يخفَ عليه:
-متأكد إن محدش شافك؟ دي فيها كلبشات دي.

شبه ابتسامة ملتوية متشبعة بالسخرية تراقصت على ثغره وهو يُجيبها بذات اللهجة المقتضبة التي باتت تكرهها فعليًا، وتجهل سببها حتى الان:
-محدش شافني.

ضربت نوسين على كتف “حوده” وأخذت تتلفظ بنبرة ذات مغزى وهي ترمي عمر بنظرات تحمل معاني يفهمها جيدًا:
-سوق يا حوده، سوق يا سِمح يا ابو وش بشوش، أنت لازم تشكر ربنا إنه ماخلقكش بوش بومة زي ناس.

تعترف داخلها أنها أرادت اثارة كمده، ولكنه الان بتجاهله الواضح لِمَ ترميه من كلمات ذات معاني مبطنة، نجح وبجدارة في رد الصاع صاعين لها واشعال الغيظ داخلها دون مجهود يُذكر.

تنهدت وهي تُريح جسدها للخلف مستندة على مقعد السيارة، تتذكر ما حدث قبل هذه الوقعة، أي قبل هذا اليوم بيومين…

كانت نوسين تغسل يدها حين صدح رنين هاتفها معلنًا وصول اتصال لها من “حوده” فأجابت الاتصال بأطراف أصابعها بصوت هادئ وهي تفتح مكبر الصوت وتضع الهاتف أسفل ذراعها:
-عامل إيه يا حوده؟

أتاها صوته الأجش:
-الحمدلله يا نونا، أنتي عاملة إيه؟
-بخير الحمدلله.

سألها:
-هتيجي امتى؟ ياريتك ما ورطتي نفسك مع الجدع دا، مش هيجيلك من وراه غير الهم.

عقدت ما بين حاجبيها متعجبة من لهجته القانطة المتحفظة:
-ليه بتقول كدا يا حوده؟

تكلم بنفس اللهجة:
-من ساعة ما مشيتي وتقريبًا كل يوم بيجي اتنين يتأكدوا أنتي رجعتي ولا لا، شكلهم مش هينسوكم لما تغيبوا كام يوم زي ما قولتي، وأكيد أنتي مش هتفضلي هربانة طول عمرك؟

برغم القلق الذي استباح مكمن احساسها، إلا أنها سألته بتشكك:
-أنت متأكد إنهم هما؟

أكد لها دون تردد:
-ايوه طبعًا متأكد زي ما أنا متأكد من أسمي، دول بيطلعوا يتأكدوا فوق من الشقة نفسها، دا كان يوم اسود يوم ما شوفتيه وساعدتيه.

دون سيطرة منها وجدت لسانها يتولى دور ترجمة ما هدر به قلبها:
-ماتقولش كدا يا حوده.

سمعت نغمة صوته التي تلحنت بالسخرية البحتة:
-يا حنينة! وماقولش كدا ليه مش دا اللي حصل؟

صمتت برهه وقد ارتبكت من افصاح لسانها عما يحويه قلبها، ولكنها أغلقت مكبر الصوت وأمسكت بالهاتف متابعة بصوت جاهدت أن يبدو ثابت وعادي:
-أكيد هو ماكنش عايز يحصل اللي حصل، بس دا قدر، وبعدين هو شخص كويس جدًا ماشوفتش منه حاجة وحشة، وسافر معايا وفضل جمبي عشان يتأكد إن محدش يأذيني، واحد غيره كان ممكن يختفي من حياتي ويطنش، خصوصًا إنه فيه اللي مكفيه.

أحست أنه يهز رأسه وهو يغمغم بيأس:
-طيب.

-طيب، هقفل أنا دلوقتي وهكلمك تاني.
-ماشي مع السلامة.

وبالفعل أغلقت الخط، ثم استدارت لتجد أمامها “عمر” الذي لم تشعر بوجوده، فشهقت بفزع:
-بسم الله الرحمن الرحيم، في إيه ما تقول احم ولا دستور!

لم يسخر بأي قول كالعادة او يشاكسها، بل بدا وكأنه لا يريد أن يضع نقطة تواصل جديدة معها، مكتفيًا بما دونه القدر في صفحاتهما السابقة، ورافضًا إياه ايضًا:
-أنا هخلصك من الموضوع دا.

سألته بعقل لم يدرك مقصده كليًا:
-موضوع إيه؟

اجابته كانت باردة مقتضبة:
-الناس اللي بيجوا كل يوم يشوفوكي في بيتك، فعلًا أحنا مش هنفضل طول عمرنا هربانين.

استفسرت بنبرة غلب عليها التوجس:
-وهتخلصني منهم ازاي؟

هز رأسه نافيًا بصدق:
-حاليًا مش عارف، بس هتصرف.

ثم استدار لينصرف، عازمًا على تنفيذ ما قاله وتخليصها منهم، وتخليص نفسه ايضًا من الوقوع في فخ الخيانة الذي لا يقدر على تحمله..!

هكذا كانت البداية، ثم بالطبع لم تتركه نوسين سوى بعد أن أخبرها بما يود فعله، فأصرت على مشاركته مرددة بعزم بعد أن أعرب عن رفضه:
-أحنا مع بعض في الموضوع دا سوا، يبقى هنخلص منه سوا برضو.

هز رأسه نافيًا وراح يخبرها بشيء من السخرية:
-يعني أنا عايز أخلصك من الموضوع دا أقوم أورطك في اكبر منه، لا طبعًا.

إنخرط المكر بحروفها وهي تسرد له دهاء تفكيرها:
-مش بمزاجك على فكرة، لأن أنت محتاج مساعدتي.

رفع حاجبه الأيسر محتجًا:
-محتاج مساعدتك ليه يا عبقرية زمانك؟

أكملت بذات الطريقة:
-تقدر تقولي هتجيب منين العربية اللي هتروح بيها المنطقة اللي هتاخد منها الواد، وكمان البيت اللي هتحط فيه الواد بعد ما تاخده؟

تنهد وقد أيقن أنه وقع في مصيدة سؤالها ولن ينفك منها سوى بموافقته على مصاحبتها:
-كنت هتصرف.

-الكلام سهل، بس التنفيذ أصعب، أنا عندي الشخص الثقة اللي هنحط الواد في بيته وهيتصرفلنا في عربية يودينا بيها كمان.

وبالطبع ذلك الشخص لم يكن سوى صديقها المقرب المُخلص “حوده” والذي لم يعترض اطلاقًا على مساعدتهما.

وبالفعل تم الترتيب لكل شيء، وأعدا نفسهما للمغادرة من منزل خالتها، التي لن تنسى الدموع التي ذرفتها ما أن علمت بمغادرتهما وهي تقول بصوت مبحوح يقطر حزنًا جعل نوسين تود مشاركتها البكاء:
-يعني خلاص هتمشوا وهرجع أقعد لوحدي تاني؟

احتضنتها نوسين مسرعة بقوة وهي تردف بلهفة وحزم:
-أنتي عارفة إنه غصب عني والله، بس صدقيني أول ما أرجع هظبط أموري وهاجيلك كل شوية، او هجيبك أنتي تقعدي معايا.

فشددت ثريا من احتضانها بابتسامة صغيرة ساكنة..

حتى عمر استشعر الفراغ الذي هدد بمداهمته ما أن أوشك على ترك الجو الأسري الدافئ الذي غمره مؤخرًا بعد أن كان مُفتقده لفترة طويلة.

**
عادت “نوسين” بذاكرتها للواقع على صوت أبواق السيارة التي دخلت للحارة الشعبية التي تقطن بها ويقطن بها “حوده”، فعدلت من غطاء الوجه الأسود الذي ترتديه حتى لا يعرفها أي شخص، وارتدى “عمر” القبعة والنظارة الشمسية اللذان ارتداهما ليخفي ملامحه ايضًا تحسبًا لأي شيء.

وحمل “عمر” الطفل بحرص، ومن ثم تحركوا خلف “حوده” الذي قادهم نحو بيته، دلفوا جميعهم البيت بسلام فأزالت نوسين غطاء وجهها وهي تتنهد بصوت مسموع:
-الحمدلله، قلبي كان هيقف من الخوف.

تحدث “حوده” متهكمًا بشفاه ملتوية:
-ماشاء الله يا نونا أنا ملاحظ تطور في الاداء، كان الاول عصابة بتدور عليكوا، دلوقتي بقينا أحنا العصابة وبنخطف أطفال.

زجرته نوسين عاتبة:
-حوده! ما أنا فهمتك كل حاجة، أحنا مش خاطفينه أحنا هنخليه معانا مؤقتًا لحد ما أبوه يعمل اللي أحنا عايزينه.

-اه طبعًا طبعًا.

دمدم بها حوده ساخرًا، قبل أن يربت عمر الذي كانت ملامحه متجهمة، على كتفه بخفة ويتشدق بصوت أجش ذو مغزى:
-تسلم يا حوده على مساعدتك، نردهالك في الأفراح.

ود حوده لو يهتف فيه أنه لا يريد منه مردود سوى أن يغادر حياة نوسين التي قلبها رأسًا على عقب، ولكنه اكتفى برمقه بنظرات شزرة وكتم ما يجول خاطره.

بعد قليل…

كان ثلاثتهم جالسين على الأريكة جوار بعضهم، وعمر يمسك بهاتف “حوده” الذي أعطاه له ليتصل بوالد الطفل، والذي كان صديقه غير المقرب “حازم”، الشخص الذي أغراه للمشاركة في هذه المصارعة يوم كان ينوي الانتحار..

أتاه صوت حازم المتلهف، الذي يبدو أنه قد علم بغياب طفله:
-الو؟

تلفظ عمر بهدوء:
-ازيك يا حازم؟

سأله حازم بشك في نبرة الصوت:
-مين معايا؟
-أنا عمر.

دوت المفاجأة في صوته الذي عَلى مرددًا الاسم:
-عمر!

-ايوه، وأبنك معايا، اعتبره في مشوار معايا لحد ما أنت تخلص اللي هنتفق عليه.

أصاب الهلع نبرته حتى استحكمها تمامًا وهو يتوسله:
-ابني ملهوش دعوة بأي حاجة يا عمر، دا جزاتي بعد ما خرجتك من المكان بعد ما أغمى عليك، وبسببي شافتك البنت اللي أنقذتك، رجعه وهعملك اللي أنت عايزه.

هز عمر رأسه وكأنه يراه، وهمهم بنبرة دبلوماسية:
-اسف، أنا عارف إن أنت اللي خرجتني ساعتها، بس ممكن ولائك ليهم يكون اقوى من حبك لصديق عادي زيي، بس أكيد مش هيكون أقوى من حبك لابنك.

صمت برهه ثم تابع وكأنه قرر استعطافه قليلًا بدلًا من التهديد المستمر الذي لربما يأتي بنتيجة عكسية:
-أنا حياتي وحياة واحدة ملهاش ذنب في أي حاجة هتدمر، بسبب ناس غرورها وقسوتها عاميينهم.

سأله “حازم” بخفوت مستكين بعد صمت لم يطول:
-أنت عايز إيه بالظبط يا عمر؟

بدأ عمر يخبره مسرعًا بتركيز:
-كل اللي عاوزه إنك تجيبلي طقم من اليونيفورم اللي بيلبسوه الناس اللي شغالة هناك، وتأمن دخولي عشان أصور اللي بيحصل هناك وأسجنهم وأخلص منهم.

لم يأتي الرد سريعًا من حازم الذي كان يحسب تلك المسألة جيدًا من جميع جوانبها قبل اتخاذ قراره؛ والذي أفصح عنه بعد دقيقة تقريبًا ليريح المنتظرين على الهاتف من لهيب انتظارهم:
-ماشي يا عمر، هساعدك عشان أنا نفسي أخلص من القرف اللي بقيت فيه ومن ذنب الناس اللي بتموت وذنبهم في رقبتي، وهطلعك الدور اللي فوق بتبقى شايف كل الموجودين واللي بيحصل، بس لازم تعرف إن الموضوع مش سهل ومش أمان، وكل الاحتمالات وارد تحصل جوه.

هز عمر رأسه مؤكدًا على مضض:
-عارف، بس مش قدامي حاجة غير كدا.

-تمام، بليل هنتقابل في ****.
-ماشي، سلام.

لم يصر “حازم” على عودة طفله الان؛ لأنه يعلم تمام العلم أن عمر من المستحيل أن يؤذيه، ليس بعد ما مر به، والذي استغله هو بشكلٍ قذر حين وسوس له كالشيطان ليشارك في تلك المصارعة بعد أن اصحبت حياته فارغة ولا قيمة لها !

فيما أغلق عمر الهاتف، ثم نظر صوب نوسين وحوده وأمرهما بلهجة صارمة لا تقبل النقاش:
-انتوا هتيجوا في العربية تستنوني لحد ما أخرج، ومهما حصل ماتدخلوش.

اومأ “حوده” موافقًا، بينما نوسين تشعر أن قلقها عما قد يحدث لعمر، صار كسكين بارد داخلها يُمزق نياط قلبها ببطء قاتل، ولكنها لا تملك حق الإفصاح عن هذا القلق.. لا تملك سوى أن تدفنه داخلها ويظل ينهش في جدران صمتها.

نطقت مقترحة فكرة لم تكن مفعمة بالذكاء:
-طب ما تبلغ عنهم وخلاص والبوليس يروح يمسكهم متلبسين.

أخذ يشرح لها عمر بأسلوب عملي بحت:
-اولًا كل الناس اللي بتشارك في الحاجات القذرة دي ليهم نفوذ وواصلين، وثانيًا أكيد عاملين احتياطهم عشان لو أي حد جه فجأة، ثالثًا البوليس مايقدرش يقتحم المكان من غير دليل او اذن نيابة.

هزت نوسين رأسها بيأس مرددة بحروف غلب عليها المرح الذي تخفى خلفه قلقها:
-محامي محامي يعني مش أي كلام.

****

جاء الليل وكم تمنت “نوسين” أن تمنع الشمس هيمنته على الأجواء وألا يأتي!
رغم رغبتها في التخلص من هؤلاء الناس، والعودة لحياتها بشكل طبيعي، إلا أن رغبتها في عدم اصابة عمر بأي خدش تفوقها بمراحل..

كان كلاً من “نوسين” و “حوده” في انتظار “عمر” الذي ارتدى الزي الرسمي للعاملين في ذلك المكان، ودلف مع “حازم” للداخل..
ونوسين تناشد الله في سرها ألا يحدث أي مكروه له وأن يسير كل شيء على ما يرام..

بينما في الداخل كان كل شيء يسير وفقًا للخطة المُحكمة التي أعدها عمر مع حازم، وبالفعل إلتقط عمر عدة صور ومقاطع مصورة لجميع الحاضرين في المكان، مع حرصه ألا يُظهر ذلك لأي شخص، وألا يظهر في كاميرات المراقبة أرضًا.

وحين أنهى ما أراد، تحرك على عجلة من أمره، للركن المتفق أن يتقابل فيه مع حازم حتى يُسهل عليه الخروج، ولكن جاءت اللحظة التي تعجب عمر تأخرها وهي العقبة المتوقعة التي يجب عليه تخطيها، فقد أصابته الدهشة من سير كل شيء بشكل جيد بل افضل من الجيد.

أوقفه احد الأشخاص العاملين في المكان بصوت أجش:
-أنت مين! وإيه اللي جابك هنا؟

تجمد عمر مكانه للحظات يدرس خطوته التالية، ثم استدار نحوه ببطء، وبدأ يقترب منه، إلى أن عاجله بضربة عنيفة كان المغزى منها أن يُفقده الوعي لتسنح له الفرصة بالهرب، ولكن الرجل كان أمهر مما توقع، واستطاع تفادي ضربة عمر ببراعة، بل وفي لحظة غير متوقعة كان يُخرج من جيبه سلاح أبيض يحمله بالقرب منه دومًا للطوارئ..

وبحركة مباغتة كان يُصيب عمر بها في ذراعه، فتأوه عمر وهو يشعر بالألم المفرط يشل ذراعه للحظات، وقبل أن يكتمل هجوم الرجل عليه مستغلًا حالة الضعف التي اعترته نتيجة شعور الألم الذي تدفق بغزارة داخله مسببًا له انسياب وضعف عام، كان حازم يضرب الرجل على رأسه بعنف من الخلف، ناجحًا في إفقاده الوعي.

ثم مد يده بالسترة الخاصة به لعمر قائلًا بنبرة متعجلة:
-خد إلبس الچاكيت دا وخبي جرحك بسرعة يلا قبل ما حد تاني يجي.

اومأ عمر مسرعًا وبالفعل كان يتحامل على نفسه مرتديًا تلك السترة، وبعد قليل نجحا أخيرًا في الخروج من براثن ذاك المكان الموحش.

ركبا السيارة وإنطلق حوده بها على الفور، فشهقت نوسين بفزع ما أن رأت الجرح في ذراع عمر:
-يالهوي، دراعك حصله إيه؟

هز رأسه نافيًا يحاول طمئنتها:
-دا جرح بسيط متقلقيش.

نجحا القلق والخوف في هدم جدران صمتها والإنفجار على هيئة حروفها الملتاعة:
-جرح بسيط إيه أنت مش شايف كمية الدم!

ثم وجهت حديثها لحوده بحزم دون أن تأخذ رأي أيًا منهما:
-خدنا على المستشفى يا حوده.

اعترض عمر مسرعًا:
-لا طبعًا مستشفى إيه، احنا لازم نشوف دكتور في البيت وخلاص، لكن مستشفى يعني سين وجيم، ولازم نودي الصور والڤيديوهات دي للبوليس دلوقتي، وكمان الراجل دا عايز يطمن على ابنه.

قال اخر كلماته مشيرًا برأسه لحازم.. فأومأت نوسين موافقة على مضض، وتدخل حوده يخبرهم بجدية وثقة:
-أنا عندي الدكتور اللي يخلصلنا الحوار، وفعلًا يا نوسين الجرح شكله مش خطير ان شاء الله.

****

بعد فترة…

كانوا قد انتهوا اخيرًا من علاج جرح “عمر” الذي لم يكن خطير لحسن الحظ، ثم توجهوا على الفور للشرطة وتقدموا بالأدلة التي بحوزتهم، ثم العودة مع حازم لمنزل حوده ليستعيد طفله، مصحوبة باعتذار عمر عما جعله هو وطفله يعيشوه، ولكنه كان شر لا بد منه كما يقولون..

واخيرًا كانت نوسين تقف مع عمر في مدخل البناية التي تسكن بها، وكأنهم عادوا من جديد لنقطة البداية، ولكن ما لم تعد ابدًا كما كانت هي قلوبهم الغارقة حد النخاع في احاسيس جديدة عليها..

أحست نوسين بقلبها ينخلع رفضًا لذلك الفراق المرفوض الذي فُرض عليه بموافقة من عقلها، لا تدري حتى متى تدخل قلبها في تلك المعادلة، ولكنها اكتشفت أنها خسرت سيطرتها عليه وعلى دقاته في خضم ما حدث..

وعمر لم يكن بأفضل حال منها، ربما فقط أفضل في جعل مشاعره المنتفضة وقلبه يرتديا ثوب الجمود والصلابة المنسوج بخيوط وفائه لزوجته.

قطعت النوسين الصمت حين أردفت بصوت به بحة حزينة:
-بما إن دي اخر مرة هنشوف بعض فيها، لسه برضو مش واثق فيا عشان تحكيلي إيه اللي خلاك تورط نفسك الورطة دي وتكره حياتك كدا؟

تنهد عمر بصوت مسموع، قبل أن يقرر بهدوء:
-هاحكيلك.

غاصت ذاكرته في قاع بئر ماضيه المُظلم، متذكرًا ذلك اليوم الذي هُدمت فيه حياته وأصبحت مجرد ركام، خرج صوته متحشرج مطعون بالألم:
-عرفت إن مراتي وحبيبتي حامل، وكنا خارجين بنتفسح في اليوم دا كإحتفال، وطايرين من الفرحة حرفيًا، قولتلها عدي الناحية التانية للعربية استنيني، وأنا هجيب أيس كريم وجاي، وياريتني ما قولتلها كدا، أنا اتسببت في موتها من غير ما أقصد، هي وبتعدي جت عربية سايقها واد صايع سكران ماشي بسرعة مجنونة وخبطها ماتت في ساعتها هي واللي في بطنها.

فرك عيناه وكأنه يحاول منع تلك الدمعة التي تصر على الهرب من عينيه، وتابع:
-سبحان مغير الأحوال من حال لحال، حالي وحياتي إتغيرت من واحد طاير من الفرحة وحاسس إنه مالك الدنيا وما فيها، لواحد خسر كل حاجة فجأة ومش طايق الدنيا باللي فيها، حاولت أجيبلها حقها عشان ترتاح وأنا ارتاح، بس الواد كان معاه وسايط ونفوذ وعرف يطلع من القضية زي الشعرة من العجين.

إلتوت شفتاه بسخرية بدت لها أنها لقدره وعجائبه وليست لها حين تشدق:
-تخيلي أبقى محامي والمفروض بساعد الناس وأجيبلهم حقهم، وماعرفش أجيب حق مراتي وأقرب الناس ليا.

أحست بذبذبات صوته تُنقل لها الألم الذي يفيض من نبرته فتشاركه إياه، ورغبة برقت بغتةً داخلها تود لو تحتويه بين أحضانها علها ترطب جروحه الملتهبة، ولتُسكت الضجيج الذي بدأ يعلو بعقلها، سألته:
-طب فين أمك وأبوك؟

زفر بصوت مسموع قبل أن يجيبها بهدوء ونبرة اعتيادية:
-اتوفوا من زمان، من بعد ما اتجوزت بكام شهر تقريبًا، وابويا مكنش له غير أخت واحدة، وعلاقتي مع أهل أمي مش قد كدا.

شعرت بالصدمة تعقد لسانها تمامًا، عاجزة عن نطق المزيد، وتسقط في دوامة من الصدمة والاسئلة التي لا قرار لها، فلماذا كذبت عليها تلك السيدة وعقدت معها ذاك الاتفاق؟!

حاول عمر إجبار شفتاه على الابتسام وهو يقول:
-يلا اطلعي تصبحي على خير، عايزه حاجة؟

هزت رأسها نافية ولكنها كانت الأكثر فشلًا حين عجزت عن اصطناع ابتسامة مثله، فاكتفت بالتحدث بصوت يكاد يسمع:
-تسلم يا عمر، مع السلامة.

وبالفعل تحرك عمر ليغادر، وابتعد قليلًا عن باب البناية، ولكنه وقف يتنهد وهو يحدق بالبناية بشرود، وكأنه يسألها بصمت.. فقط هكذا ؟ أ هذا اللقاء الأخير؟

تفاجأ بعدها بدقيقتين تقريبًا نوسين تخرج من البناية، وامارات الغضب تعلو فوق وجهها، عقد ما بين حاجبيه بتعجب، ولم يقدر على السيطرة على فضوله وتوجسه اللذان أجبراه على السير خلفها ومعرفة المكان الذي تذهب إليه..

حتى وجدها توقفت في مكانٍ ما، تفرك يديها بتوتر مفرط، ويبدو أنها تنتظر شخصًا ما…

وبالفعل كان ظنه في محل، فقد تقدمت نحو سيدة ما، دقق النظر في تلك السيدة التي ظهر وجهها، وهنا شعر وكأن الأرض تُزلزل من أسفله، وهو يرى أخر وجه توقع رؤيته…..

****

رحمه سيد

صفحتنا علي فيس بوك

تحميل تطبيق لافلي Lovely

رواية زواج لم يكن في الحسبان الفصل 18

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى