رواية وبقي منها حطام أنثى للكاتبة منال سالم و ياسمين عادل الفصل السابع عشر
اعتلى مالك سطح الباخرة التي ستقله إلي بلد أخرى غريبة لا يعرف بها أحد، وقفت روان وعمتها وزوج عمتها يودعونه بالتلويح، في حين كانت الدموع لا تتوقف فيضانها من أعين الجميع..
كان وداعاً مؤلماً أيقظ ذكريات الفراق بصميمهم.
تحرك مالك لسطح الباخرة ووقف ينظر لظُلمة البحر، لطالما عشق البحر بكل حالاته ولكنه الآن بات يخشى هذه الظُلمة..
تساءل مع نفسه بخوف طبيعي، هل ستكون حياته گظلمة البحر في ساعته هذه أم ماذا يخبئ له القدر؟
لمس جبينه لفحة من الهواء أغمض جفنيه على أثرها ثم راح يشرد بعالم آخر، عالم من الذكريات قد جرفه للعيش بداخله سجيناً بين جدرانها الموجعة.
وكأن الساعات لا تمضي، وقت ممل ودقائق تمر بصحبته وكأنها أدهر، وأخيراً انتهى حفل الزفاف وانتهت مسرحيتها المزيفة التي تجسدها أمام الجميع، وأسدلت ستائرها أخيراً بعد انتهاء أخر مشاهدها المعروفة..
نعم هي مسرحية السعادة التي ارتسمت كذبا على محياها، ولكن ما بقى بداخلها هو، هو ( حُطام أنثى ).
انطلقت السيارات في موكب العرس، وأخذت الأبواق في إصدار صوتها المزعج مما سبب لها ألم بالرأس حتى وصل الجميع أسفل بناية محسن..
نظرت إيثار للبناية بإمتعاض وقد تشكل بذهنها مشهداً لتلك الليلة الحميمية مع زوجها..
فشعرت برغبة في الانتحار لتتخلص من هذا الجحيم الذي تعيشه..
وإذ به فجأة يسد عنها الرؤية عندما فتح لها باب السيارة لتخطو خارجها..
فأمسكت بفستانها ثم حاولت الخروج من السيارة بمفردها دون الإهتمام بذراعه الممدودة إليها..
نظرت للمحيطين من أصدقاء وأقرباء وهم يتمنون لهم حياة زوجية سعيدة بنظرات خاوية من الحياة، وكأنها تُساق إلى الموت لا إلى عش الزوجية الهانيء…
اقترب منها والدها وهو يحفر بذهنه صورة ابنته العروس..
كان كفيفاً عن رؤية قلبها وشعورها المؤلم، فقط يرى ما أراد رؤيته وغض الطرف عن سعادتها الحقيقية..
هو يعتقد أنه قد وصل بابنته لمرسى الأمان عندما تركها لزوج آخر لتكون في ذمته من بعده…
وضع رأسها بين راحتيه ثم ابتسم لها، وقال متمنياً السعادة من شفتيه:
ربنا يسعدك يابنتي
ردت عليه بجفاء واضح في نبرتها وقد نطقت نظراتها عما يجيش في صدرها:
شكراً
شعر رحيم بنظراتها المعاتبة، و بتقلب مزاجها، فحاول طمأنتها قائلاً:
بكرة مش هتفكري غير في عيلتك وبيتك!
دنا عمرو منهما ثم أزاح كف والده عنها وهو يمازحه قائلاً:.
سيبني أسلم عليها يابابا ولا هتقضيها طول الليل هنا
قبّل رأسها ثم مسح على وجنتيها برفق وهو يردف بحنو:
مبروك ياإيثار، صدقيني أنا مبسوط عشانك أوي ياحبيبتي
إيثار وهي تبتسم من زاوية فمها بتهكم: كويس إن انبساطك بقى على حسابي
بدت كلماتها كالخنجر المسموم في صدره، فجاهد ليحافظ على هدوئه أمامها، ورد بحذر:
أعقلي ياإيثار، السعادة قدامك متسيبهاش وتمشي!
رقعت تحية الزغاريد المتتالية وهي تقترب من إبنتها ثم دفعت عمرو برفق واحتضنتها بقوة وقد انفلتت العبرات من عينيها فرحاً
لتقول بسعادة:
عيشت وشوفتك عروسة ياحبيبتي، ربنا يهنيكي يارب!
حك محسن مؤخرة رأسه، وانزعج من طول الوداع، فصاح هاتفاً بعجالة:
مش كفاية ياجماعة ولا إي، عايز أخد عروستي وأطلع
ربتت تحية على ظهر ابنتها فشعرت بتقلص ملامحها، وبرعشتها الخفيفة، فطمأنتها قائلة بحنو:
بكرة هجيلك الصبح إن شاء الله.
عمرو مقوساً فمه بإستنكار: صبح إي ياماما؟ سيبيهم على راحتهم
هز محسن رأسه رافضاً لما يقال، ثم هتف بنبرة متعجلة:
لالا متتعبيش نفسك ياحجة، انا هاخدها ونسافر الصبحية
فغرت إيثار فاهها بصدمة ممزوجة بالرفض…
بينما تساءل رحيم بإستغراب وقد أنعقد حاجبيه بذهول: رايحين فين؟
أجابه محسن بنبرة جافة: مسافرين البلد عندي، في مانع ولا إي؟!
رحيم وقد شعر بالحرج وأنه قد تطفل على حريتهما: لأ مفيش يابني، بنسأل بس!
ابتسم محسن ابتسامة صفراء فبرزت أسنانه التي تغير لونها على أثر النيكوتين، وتابع ببرود: مراتي يعني وأخدها مكان ماأنا عايز
شعرت إيثار بالريبة والتوتر من تصريحه الأخير…
ولكن لم يكن بمقدورها فعل شيء، فأخر ما يمكن أن تصدره هو نظرات معاتبة نحوهم..
أمسك محسن بكفها وشبك بين أصابعهما ثم هتف بفحيح أرجفها:
مش يلا ياحبيبتي؟
ردت إيثار بإنصياع وهي تجاهد للحفاظ على هدوئها:
ماشي.
دنت إيثار من شقيقها، ثم مالت برأسها نحوه، وهمست بصوت خفيض مختنق اخترق آذانه:
يارب تكون خلصت من همي اللي كان متشعلق فوق كتافك!
نظر لها مذهولاً، وتابعها بنظراته وهي تمسك بثوبها الأبيض لترفعه عن الأرض ثم سارت مع ( زوجها ) لداخل البناية، وروحها المعذبة ترتعد مما هي مقبلة عليه…
((( أدخلني حبّك سيّدتي مدن الأحزان
وأنا من قبلك لم أدخل مدن الأحزان
لم أعرف أبداً أنّ الدّمع هو الإنسان
وأن الإنسان بلا حزنٍ ذكرى إنسان )))
شهقت إيثار مصدومة، ودبت رعشة قوية في أوصالها حينما وجدت ذراعي محسن تطوق جسدها وتحملها فجأة..
توترت من قربه الشديد، وشعرت بالنفور من نظراته الجائعة التي تكاد تلتهمها حية دون أن تلمسها..
كذلك شعرت بالإشمئزاز من أنفاسه اللاهثة التي تحرق وجنتيها كأنها ألسنة اللهب..
بعد أقل من عدة دقائق، وصل بها إلى باب منزلهما، أو ما أسمته سجنها الأبدي، وهو يتحرق شوقاً للتنعم بجمالها الملائكي..
فتح الباب، وهمس بنبرة خشنة:
خشب برجلك اليمين يا عروسة
ازدردت إيثار ريقها المرير بصعوبة، وانحنت لترفع أذيال فستان عرسها، وولجت للداخل بخطوات بطيئة متثاقلة..
جابت بنظرات خاطفة وسريعة للمكان من حولها، تأملت الصالة بنظرات أكثر دقة محاولة تذكر ما فعلته لترتب الأثاث..
ولكن باءت محاولتها بالفشل، فهي كانت شاردة معظم الوقت، تساق كالمغيبة، وترك أغلبية الأمور لأمها وأخوها..
فاقت من غفلتها السريعة على صوت صفق الباب بعنف، فانتفضت مذعورة بجسدها، وأدارت رأسها للخلف لتنظر إلى محسن الذي كان يحاصرها بنظراته الجريئة..
التوى ثغره بإبتسامة صفراء وهو يقول:
نورتي بيتك يا حلوة، والليلة ليلتك يا قمر! أظن بقى مافيش أحلى من دي ليلة!
ثم زاد من نظراته الوقحة نحوها..
شهقت مصدومة من أسلوبه الفظ في الإشارة إلى ليلة عرسهما..
ضاقت نظراتها نحوه، وهمست بصوت شبه متحشرج:
أنا هاغير هدومي الأول
مش عاوزة مساعدة
قالها محسن وهو يتقدم صوبها، فتراجعت مذعورة للخلف، وهزت رأسها معترضة بإصرار وهي تقول بهلع قليل:
لأ، أنا هاتصرف مع نفسي
رمقها بنظرات غامضة قبل أن يرد عليها بمكر:
وماله، خدي راحتك يا عروسة، ما انتي معذورة لسه مش واخدة عليا!
سارت مسرعة نحو غرفة النوم وهي تعض على شفتيها قهراً، وفكرة واحدة مسيطرة على عقلها كلياً، أن أخيها قد زج بها في تلك الكارثة بلا رحمة…
أغلقت الباب خلفها، واستندت بكفها عليه قليلاً محاولة السيطرة على نوبة البكاء التي تهدد بالإنطلاق في أي لحظة، أغمضت عينيها بقوة، ونكست رأسها حزناً..
لم تكن هي ليلة عرسها التي تخيلتها ولطالما حلمت بها، ولم يكن محسن هو فارس الأحلام الذي انتظرته بعشق لتتوج قصة حبهما بالزواج..
أخذت تتنفس بعمق في محاولة بائسة منها لنفض ذكريات الماضي عن عقلها، والتطلع إلى مستقبلها المجهول مع شخص بالكاد عرفته..
تحركت بتثاقل للأمام، فوقعت عينيها على الفراش، فتسمرت في مكانها مشدوهة..
تذكرت كلمات والدتها المقتضبة حول ماهية ليلة الزفاف، وما على العروس من فعله لتنال رضاء زوجها وتوقعه أسير غرامها…
فإنتابتها حالة من الإرتباك الممزوجة بالرعب، تنفست ببطء لتسيطر على إنفعالاتها المتوترة..
ثم بحذر شديد أزاحت حجاب رأسها عنها..
مدت يديها للخلف لتفك السحاب الخاص بفستانها، ولكن انتفض جسدها فزعاً حينما رأت محسن يقتحم عليها الغرفة دون سابق إنذار..
تراجعت برعب للخلف، وحدجته بنظرات نارية وهي تصرخ فيه معنفة إياه:
في ايه؟ إنت ازاي تدخل عليا كده
برقت عينيه بشرر مخيف وهو يرد عليها بنبرة حادة:
جرى ايه يا حلوة، مش إنتي مراتت ولا أنا غلطان؟!
ابتلعت ريقها بصعوبة وهي تهمس برجاء:
لو سمحت، أنا محتاجة آآ…
قاطعها وهو يهجم عليها مطوقاً إياها من خصرها بذراعيه وكأنها فريسة قد وقعت في شباكه:
أنا مش قادر أصبر أكتر من كده.
حاولت إيثار دفعه بقبضتيها من صدره، وقد بدى النفور واضحاً على تعابير وجهها، وتوسلت له بنبرة مختنقة:
لو، لو سمحت أنا محتاجة أخد الأول عليك، اديني فرصة آآ…
قاطعها قائلاً بهمس فحيح وهو يحاول تقبيلها رغماً عنها على وجنتها:
تاخدي عليا؟! هو احنا لسه هنتعرف، ده انتي مراتي!
زاد شعورها بالإشمئزاز والغثيان من قبلاته المتتالية التي تحرق روحها قبل بشرتها، واعترضت بخوف وهي تتلوى بجسدها:
سيبني!
زاد من قبضتيه حولها، وعمق من تقبيله إياها بصورة أعنف وهو يقول لها بنبرة غاضبة:
انتي بقيتي مراتي، وحلالي، وأنا من حقي أعمل اللي عاوزه فيكي
ثم أطبق عليها أكثر بذراعيه حتى كادت تشعر أن عظامها ستحطم مما يفعله بها، وصرخت مستغيثة:
لأ، ابعد عني!
أغضبه بشدة نفورها منه، وهتف وهو يصر على أسنانه بغلظة:
الظاهر إن حبيب القلب لسه في بالك!
ارتعدت من أسلوبه العنيف، ومن نظراته المميتة المسلطة نحوها، وتحركت شفتيها قائلة دون أن تنطق
م، مالك!
وكأنه قرأ ما قالته في صمت، فإهتاج بشدة، وزاد عنفه نحوها وهو يصيح بجنون:
أنا هاعرفك مين هو محسن! إنتي مش متجوزة عيل!
دفعها بقوة للخلف لتسقط على الفراش، فصاحت بذعر ثم ألقى بنفسه عليها ليزيح عنها فستانها غير عابيءٍ بصراخها ولا ببكاءها…
قاومته بشراسة، لكن إصراره بإفتراسها كان يزداد مع كل مقاومة منها، نجح في نزع فستانها عنها، فكشف عن جسدها، وانتزع بعنف ما بقي من ثيابها التحتية لتصبح هي تحت رحمته..
لم تجد منه إلا العنف المفرط معها..
حاول إخضاعها لرغباته متجاهلاً توسلاتها..
لم تهدأ ثورته الهائجة للحظة معها، فإصراره على تملكها كان يزداد بإثبات رجولته عليها…
تمزقت روحها مع ما كان يفعله بها..
لم تستطع المقاومة، فالآلم بات أكبر من قدرتها على التحمل…
انهارت قواها تماماً، وخارت روحها مع ارتخاء جسده..
بكت بحرقة، وأغمضت عينيها قهراً وخزياً، فها قد تدمرت أخر أحلامها الناعمة، وحل محلها ذكرى أخرى بائسة لن تمحى من ذاكرتها..
طالعها محسن بنظرات مطولة ممرراً عينيه على كل تفصيلة في جسدها البض وهو يهمس لها بصوت أصابها بالغثيان:
انتي ليا وبس!
طبع على جبينها قبلة عميقة، ثم وضع يده على فكها ليدير رأسها نحوه، وإنهال عليها بقبلات أخرى أصابتها بالإختناق..
كم كرهت وجودها معه، كم احترقت شفتيها بسمه الذي يبثه فيها مع كل قبلة ينالها منها..
أخذت تئن بصوت مكتوم وهي تكافح لإلتقاط أنفاسها..
أرادت أن ينتهي هذا الكابوس، لكن أبت آمالها ألا تتحقق، وظلت في عرض مستمر حتى لم تعد تشعر بشيء…
مر الوقت بطيئاً عليها حتى وجدته قد تراجع مبتعداً عنها لينهض تاركاً الفراش وهو يتمتم بكلمات لم تتبينها..
لم تتحرك قيد أنملة، كانت كالصنم، روحها تحترق، وجسدها يئن من لمساته المقززة عليها..
جفت عبراتها بعد ساعات من البكاء المتواصل..
وأغمضت عينيها مستسلمة لأوجاعها التي بدأت للتو..
رست السفينة على رصيف الميناء ليبدأ ركابها في التحرك نزولاً منها..
تملك مالك إحساساً غريباً بالغربة، لمحة من الحنين الممزوج بالضياع قد بدأت تتغلل فيه..
هو متيقن أنه فعل الصواب برحيله وبقبوله لعرض صديقه بالسفر إليه والعمل في تلك الوظيفة الشاغرة..
كانت الفرصة الوحيدة لكي يبتعد عن أوجاع الماضي، عن تلك الذكريات الآليمة التي أصبحت كظله..
أكثر ما آلمه هي نظرات الفراق مع عائلته الغالية..
وما أوجعه هو اعتقاده بخيانة إيثار له وتخليها عنه بتلك السهولة..
اعتصر قلبه بشدة من ذكراها، وشد من قبضة يده الممسكة بالدرابزون المعدني وهو يتحرك نزولاً عن السفينة..
جاهد ليمحو طيف صورتها التي تتشكل أمامه بين الفنية والأخرى، وكأنها تتعمد إلهاب جرحه..
ابتلع ريقه بصعوبة، وحبس أنفاسه في صدره ليهدأ من تلك النيران المستعرة بداخله..
جاب المكان أمامه بنظرات خاوية، وحدق في أوجه الواقفين على رصيف الميناء بنظرات واجمة..
مالك، يا مالك، أنا أهوو
صوت تردد بنبرة مرتفعة أثار انتباهه وجعل رأسه يدور في أغلب الاتجاهات بحصاً عن صاحبه..
وبالفعل وقعت أنظاره على رفيقه نادر..
ابتسم له ابتسامة مجاملة، وتحرك صوبه
استقبله رفيقه بحرارة، وضمه بشدة إليه وهو يضيف بحماس:
أخيراً يا سي مالك حنيت عليا ووافقت تيجي!
التوى ثغره بإبتسامة خفيفة وهو يسأله:.
ازيك يا نادر؟
أجابه نادر بنبرة مفعمة بالحيوية وهو يجر حقيبة سفره من حاملها:
الحمدلله، قولي ايه الأخبار معاك، والرحلة كانت عاملة ازاي؟
رد عليه بنبرة مرهقة وهو يعلق حقيبته الأخرى على كتفه:
الحمدلله ماشي الحال
وكأن رفيقه قد رأى لمحة الحزن المتجسدة في عينيه، فسأله متوجساً:
في ايه مالك؟ انت شكلك مش آآآ…
قاطعه مالك مسرعاً حتى لا يترك له الفرصة لإستجوابه:
متخدش في بالك، ده بس من تعب السفر.
أومأ الأخير برأسه موافقاً وهو يضيف:
أها، عندك حق، برضوه السفر بالمركب بيتعب، يالا بينا، هوديك عند بيتي تغير هدومك وتاكل وترتاح
ماشي
ثم تحرك الاثنين في إتجاه إحدى السيارات المصفوفة خارج الميناء ليستقلاها بعد أن وضع نادر الحقيبتين في صندوقها..
كانت ليلة كئيبة بحق، لم يغمض فيها جفن لإيثار التي ظلت تبكي في صمت مرير..
نام محسن إلى جوارها، وغط في سبات عميق بعد ذلك المجهود المتوحش الذي استنفذ طاقته كلها..
وبعد أن اطمأنت إلى انتظام أنفاسه وسكون جسده كالموتي، وعدم احساسه بما حوله، نهضت عن الفراش، وركضت إلى المرحاض وهي تحاول التماسك كاتمة فمها بيدها، فهي لم تعد تطيق جسدها من لمساته الحقيرة عليها، بالإضافة إلى ذلك الآلم الذي يجتاح جسدها من حميميته القاسية معها..
لقد فاق ما فعله بها تصورات والدتها التي كانت تخبرها بها على استحياء..
أوصدت الباب خلفها، وأسرعت بفتح صنبور المغطس لتنهمر المياه على جسدها لتبرد نيرانه المحمومة، ولكنها لم تفعل..
ظلت تغتسل وتغتسل وتغتسل وهي تبكي بآسى وحسرة لعلها تزيل تلك الأثار المقيتة عنها..
ولم تمنع شهقاتها من الظهور..
بقت لفترة في المرحاض حتى زاد وهنها، فأغلقت الصنبور وخرجت منه وهي تلتف بروبها القطني..
لم ترغب في العودة إلى غرفة نومها..
وسارت بضعف في اتجاه الصالة، وألقت بجسدها المنهك على أقرب أريكة، ثم لفت نفسها بذراعيها وكأنها تحتمي من ذلك الشر القابع بالداخل..
أرجعت رأسها للخلف، وأغمضت عينيها وهي تتنهد بإنكسار لم تتذوق سواه، وما هي إلا لحظات واستسلمت لصوت جسدها المتعب، ونامت ودمعاتها الدافئة تنساب على وجنتيها…
انتهى مالك من ترتيب متعلقاته الشخصية في خزانة الملابس بغرفته في منزل رفيقه نادر..
ذلك الرفيق الذي ندر وجوده في تلك الأيام..
كان عرضه سخياً بحق، فرصة عمل مميزة من وجهة نظره بإحدى شركات الإستيراد والتصدير متعددة الجنسيات والتي يعمل بها كمدير تنفيذي..
لم يستطع الرفض، خاصة وأنه كان يحتاج إلى مكان يبعد فيه عن كل ما يتعلق بالماضي المؤلم..
أراد فرصة ليبدأ فيها من جديد..
فرصة تتيح له الوقت ليلملم شتات نفسه ويستعيد هويته التي ضاعت بخيانتها..
إيثار، مازال صدى اسمها يتردد في أذنيه، وطيف ضحكاتها الناعمة تداعب قلبه، ووميض نظراتها الباسمة تسيطر على عقله..
غمازتيها، تلك العلامتين التي طالما أسرته..
إيماءة رأسها، وإلتواءة شفتيها وهي عابسة..
كم يقتله الحنين إليها..
تنهد بعمق لأكثر من مرة محاولاُ إبعادها بيأس عن ذاكرته..
ظل يذكر نفسه مراراً أنها لم تعد له، هي خائنة العهود، هي التي إرتضت بغيره لأنها أقدر مادياً، وأوهمته الحب، فتركته يقاسي بمفرده في غربة موحشة..
فردد مع نفسه إحدى قصائد نزار الشعرية مواسياً روحه:
وما بين حُبٍّ وحُبٍّ
أُحبُّكِ أنتِ
وما بين واحدةٍ ودَّعَتْني
وواحدةٍ سوف تأتي
أُفتِّشُ عنكِ هنا وهناكْ
كأنَّ الزّمانَ الوحيدَ زمانُكِ أنتِ
كأنَّ جميعَ الوعود تصبُّ بعينيكِ أنتِ.
فكيف أُفسِّرُ هذا الشّعورَ الذي يعتريني
صباحَ مساءْ.