رواية وبقي منها حطام أنثى للكاتبة منال سالم و ياسمين عادل الفصل الثالث والعشرون
أفاق محسن من نومه على صوت الصراخ الهادر الذي ينبعث من خارج غرفته، وتثاءب وهو يصيح بتأفف:
مين ابن ال اللي بيزعق في بيتي ده، وقعت أهله منيلة!
نهض عن الفراش، وتحرك صوب الباب وعلى وجهه نذير شؤم، ولكنه تفاجيء ببابه يُفتح مرة واحدة ليرى عمرو أمامه، فحدق فيه مشدوهاً..
تحولت نظرات عمرو للإحتقان الشديد، وأسرع ليمسك بتلابيب محسن، وهزه بعنف وهو يصرخ فيه بصوت مهتاج:
عملت في اختي ايه يا بن ال؟!
حاول محسن إبعاد قبضتيه عنه بعد أن صدمته حركته المباغتة، ورد عليه بصعوبة:
الله! الله! جرى ايه يا عمرو، إنت جاي تتهجم عليا في بيتي!
ده أنا هاموتك!
قالها عمرو وهو ينهال باللكمات المتتالية على وجه محسن حتى رأى خيوط الدماء تتدفق من بين فكيه ومن أنفه..
ثم أسقطه أرضاً، وركله بعنف في معدته، وتابع بحنق شديد:
بقى تضحك عليا، وتستغفلني، وتخلني أجوزك اختي، وانت طلعت واطي!
تأوه محسن من الآلم، وقاوم قدر إستطاعته ضرباته الشرسة، وتمكن من الإمساك بقدمه ليجذبه منها، ثم طرحه أرضاً، وجثى فوقه ليضربه هو الأخر، وهدر بصوت غاضب:
هو أنا ضربتك على ايدك، ما إنت اللي مصدقت
دفعه عمرو من صدره بركلة عنيفة، وصاح بجنون:
صح، أنا غلطت، وجاي النهاردة عشان أصلح غلطي!
سأله محسن بريبة وهو يعتدل في وقفته:
قصدك ايه؟
وقف عمرو قبالته ليلتقط أنفاسه، وهدر بصوت جهوري:
أنا هاخد اختي من هنا، وهاطلقها منك.
أشعلت كلماته الأخيرة الغضب في محسن، فتوهجت عيناه، وصرخ من بين أسنانه بعصبية:
لا عندك، اختك مش طالعة من بيتي إلا على جثتي، دي مراتي، وأنا حر في التصرف معاها!
رد عليه عمرو وهو ينقض عليه:
مش هاسيبهالك
ثم تابع إعتدائه الشرس عليه، ولم يترك فيه جزءاً إلا وقد ركله أو لكمه…
لم يكن محسن بالشخص الهين الذي سيسقط من قوة الضربات، بل قاوم حتى الرمق الأخير نوبة جنونه..
وما إن تمكن عمرو من طرحه أرضاً حتى ركض إلى خارج الغرفة صارخاً بإهتياج:
ايثار، انتي فين؟
حاول محسن إمساكه، وقبض على ذراعه، وأعاق حركته وهو يقول:
استنى، مش سايبك!
لطمت أمل على صدغيها وهي تصيح بهلع:
إلحق يا محسن، إلحق!
انتبه لها الاثنين، فأكملت بفزع وقد زاغت أبصارها:
إيثار مش موجودة في أي حتة في البيت
صدم كلاهما مما قالته، وحل الصمت لثوانٍ قبل أن يقطعه محسن صارخاً بجموح:
انتي بتقولي ايه؟
انفعل عمرو متساءلاً بحدة:
اختي فين؟
تلعثمت وهي تجيبهما بنبرة مرتجفة:
ب، باين، آآ، إنها، إنها هربت!
لم يقتنع عمرو بما قالته، فقد ظن أنها خدعة مفتعلة منهما، لذا لوح بذراعه بغضب وهو يقول:
ده ملعوب عاملينوه عليا أنتو الاتنين!
هزت أمل رأسها نافية وهي تقول بخوف:
لا والله، هي فعلاً مش موجودة
أطبق محسن على عنق زوجته، وضغط عليه بقسوة وهو يسألها بشراسة:
عملتي ايه في البت يا ولية؟
اختنق صوتها، وجحظت عيناها من فرط الخوف، وأجابته:
مجتش جمبها يا محسن!
أرخى قبضته عنها ليمسك بطرف ذقنها، واعتصره بقوة وهو يكمل بإهتياج:
شكلك إنتي اللي هربتيها من هنا
هزت عيناها نافية، وهمست بصوت متحشرج:
م، محصلش، والله ما عملتها
صرخ فيه عمرو من الخلف بنبرة عدائية:
قسماً بالله يا محسن لأندمك على كل لحظة أذيت فيها أختي! ومش هاسيبك، هاتدفع تمن اللي عملته في أختي غالي.
التفت محسن برأسه نحوه، ولم يفلت أمل من قبضته، ورد عليه بتحدٍ سافر:
هي مراتي، وانت ملكش حكم عليها، وهاجيبها تاني هنا إن شاء الله بحكم الطاعة!
هدر فيه عمرو بانفعال:
مش هاتلحق لأني هاطلقها منك، وإن حكمت هاتخلعك، وأنا وإنت والمحاكم بينا..!
ثم تركه واندفع نحو الدرج ليتجه بعدها إلى باب منزله، ثم صفقه خلفه بعنف..
ترجلت إيثار من عربة القطار، وسارت بخطوات سريعة نحو المخرج..
بحثت بعينيها عن وسيلة مواصلات تقلها إلى محافظة الإسكندرية، خاصة أن المسافة لم تكن بعيدة..
فوجدت منطقة خاصة بالحافلات، فحجزت مقعداً لها في الخلف بعد أن استقلت إحداهن…
استندت بيدها على النافذة، وظلت محدقة في الطريق أمامها..
لمعت عيناها وهي تقاوم سيل ذكرياتها المريرة..
بحثت في طيات عقلها عن أي ذكرى سعيدة لتهون بها على نفسها، لكن للأسف، لم تجد..
ظلت خلال رحلة عودتها شاردة، صامتة، في حالة وجوم واضحة حتى توقفت الحافلة في الإسكندرية، فردت إليها روحها..
تفقدت المال المتبقي معها لتستقل أخر وسيلة مواصلات لتعود إلى منزلها..
رفعت تحية جبهتها عن سجادة الصلاة، وتهدل كتفيها في خزي، ثم حدقت في السماء ببصرها، وتضرعت للمولى قائلة بخشوع وهي تبكي:
رجعالي يا رب، احفظهالي من كل سوء، يا رب، أنا أمتك الغلبانة، ماليش غيرك يا رب أشكيله، نجيها من الهم اللي هي فيه، ردهالي سالمة غانمة، يا رب، إنت السميع البصير، يا مجيب الدعوات قرب البعيد يا رب..!
قاطع دعائها الباكي صوت قرع الجرس، فالتفتت برأسها للخلف، وشعرت بخفقان قوي في قلبها..
استشعرت بروحها أن المولى قد أجاب دعائها، فنهضت على عجالة من مكانها، وركضت مسرعة نحوه…
بيدٍ مرتعشة أدارت المقبض، وفتحته لتجد صغيرتها أمامها..
شهقت مصدومة من رؤيتها على تلك الحالة المفزعة..
وهتفت بعدم تصديق:
بنتي، إيثار!
ثم ألقت بجسدها نحوها لتحتضنها وتضمها إلى صدرها بقوة، وتابعت بنحيب:
ياه يا بنتي! آه يا ضنايا!
استكان جسد إيثار في أحضان أمها، وشعرت أنها وجدت الملجأ من كل الشرور المحيطة بها في صدرها الحنون، فاستسلمت لشعورها بالأمان، وفقدت وعيها بين ذراعيها..
عودة للوقت الحالي
فتحت إيثار عينيها الذابلتين فجأة لتأتي بحجابها الذي تطاير عن رأسها للوراء علي أثر الهواء، ثم استنشقت رائحة البحر ليتخلل صدرها، وزفرته على مهلٍ وهي تتنهد بعمق..
توجهت نحو المقعد الممتد الطول ثم جلست عليه واضعة نظارتها الشمسية على عينيها لتحجب عنها ضوء الشمس، فقد بات ذلك الضوء بمثابة ذكرى مؤلمة نبشت بصندوق ذكرياتها الموجعة…
ها قد تذكرت ما مرت به خلال الثلاث أعوام المنصرمة..
أوجاع تلتها أوجاع، وذكريات تبعتها أخرى أضنت قلبها وعقلها..
تركت لهواء البحر مهمة تجفيف عبراتها المتجمدة، وأخذت تتنفس بعمق لتسيطر على نفسها الهائجة كموج البحر الذي تطالعه..
نعم تبدل حالها، وتغيرت ظروفها، وأصبحت الآن امرأة أخرى غير تلك الصغيرة التي قاست على أيدي الأقرب إليها…
وبتثاقل مصحوب بالإرهاق، نهضت من مكانها لتعود من جديد لتكمل خطواتها، فلم تعد لديها رغبة في البكاء على الأطلال أكثر من هذا، لقد انتهى عصر الأحزان، وبدأ عهد الآمال..
انتهى شتاء عاصف من حياتها، وصيف مثير على وشك البدء في القادم من عمرها…
(( لنترك ما مضى جانباً
ونبحث بين طيات عقلنا
عن جانب السعادة الخفي في حياتنا، ))…
تحسست إيثار بكفها ملمس القماش الناعم المغطي للمقعد الممتد الطول، ولكنها شعرت بشئ غريب، ربما فقدت قدرتها على الإحساس بالمثيرات من حولها، أو شعرت بمرارة طعم الحياة گكل..
أراحت رأسها وتمددت بجسدها على المقعد وصوبت بصرها من خلف نظارتها نحو السماء المشعة بضوء الشمس..
التوى ثغرها بشبح ابتسامة، وتمتمت مع نفسها ( ياللهي ما أجملها وأسطعها! ).
ورغم ضوئها الساطع إلا أنها بدت في عينيها مظلمة سوداء، لا تشعر بجمال صفوها خاصة أنها ببداية فصل الصيف، ولا باعتدال الجو ودرجات الحرارة..
كان هجوم ذكرياتها ذكرى تلو الأخرى هجوماً عنيفاً تصدع له القلوب، تشعر بلوعة الإشتياق والتي لايضاهيها شعور، ويؤلمها شعور الخزي والحسرة، بينما ينهش بها شعور الفقدان والمذلة لغير الله.
ولكنها ابتسمت ساخرة عندما تذكرت كيف تخلصت من هذا الزوج الشنيع الخلق الفظ اللسان السيء الطباع، كما تخلص بُصيلة الشعر من العجين، وكان هذا نتيجة الخطة التي فكرت في تنفيذها فوراً عقب علمها بفقدانها قطعة حية من روحها، ابن قلبها الذي لم تره بعينيها ولم تلمس نعومة أظافره..
ولكنها علمت حكمة الله في قضاه فيما بعد، فلم يشأ المولى أن يتوطد الرابط بينها وبين هذا الطالح، وخيراً خيراً ما حدث…
شردت في ذكرى بقائها في المشفى، وما تلته من لحظات حرجة…
(( عودة بالوقت السابق، قبل ثلاث سنوات ))
دلف الطبيب لحجرتها لكي يطمئن على حالتها المتدهورة، ويعاود فحصها، وعقب غرزه للأبرة المحوية بالمحلول الطبي، وتفحصه له، اتجه نحو الباب، و كاد يترك الحجرة وينصرف ولكنها استوقفته بصوتها الواهن، فاستدار نحوها، وبلهجة ضعيفة يتملكها الوهن رددت:
دكتور، أرجوك أنا، آآ محتاجة مساعدتك!
نطق الطبيب مترقباً وقد قطب جبهته بفضول زائد:
مساعدتي! في اي بالظبط؟
ابتلعت مرارة حلقها وهي تجاهد للنطق بحروف متقطعة وهي تمسح بكفها على جبينها:
انا آآ جوزي، ي، يعني، اعتدى عليا بالضرب و، و، آآ..
قاومت إنهيار عبراتها، لكنها لم تستطع، فالأمر أكبر من قدرتها على الإحتمال..
تساءل الطبيب محاولاً مساعدتها وإستكمال القطع المتناقصة من كلامها:
وكان السبب في إجهاض الجنين!؟
أجابته إيثار وهي تهز رأسها بتحسر متألمة:.
آآآه، اا انا، انا عايزة حقي وحق ابني اللي مشافش النور، و، وكنت عايزة حاجة تثبت كلامي عشان آآآ…
بادر الطبيب قائلاً بثبات وهو يوميء برأسه متفهماً: تقاضيه بيها! يعني تقدميها للمحكمة، صح كده؟!
تحول وجه إيثار للوجوم، وظهرت في نظراتها، وخلف جفنيها روح الإنتقام والعدائية، واجابته بمرارة:
ايوة، عايزة تقرير طبي بحالتي كاملة، وآآ، يا ريت. لو، لو أمكن ت، توضح الضرر اللي آآ…
إشرأب الطبيب بعنقه ليجوب بناظريه الخارج جيداً ليتأكد من عدم متابعة أحد له، ثم اعتدل في وقفته واخفض جزعه قليلاً وهو يتكلم بصوت خفيض:
ماشي، انا هعملك تقرير طبي وافي، فيه حالتك وحالة الجنين اللي نزل، وهيكون مفصل فيه آثار الكدمات والخدوش اللي بسببها خسرتي الجنين، يعني هعملك تقرير تاخدي بيه حكم من أول جلسة لوقوع ضرر عليكي!
وكأن بريق الأمل قد تراقص في مقلتيها الدامعتين، فتابع بحسم:.
انا عندي اخوات بنات زيك كده، وقريبين من سنك، واللي شوفته فيكي محبش اشوفه في اهل بيتي يا مدام، ولا في حد أعرفه، وعشان كده هساعدك، متقليش!
ضغط بكلماته على جرح علاقتها مع أخيها..
فابتلعت حديثه الذي آثار ذاكرتها نحو فعلة أخيها، أخيها الشقيق الذي زج بها للتهلكة ودهس مشاعرها بنعل حذاءه قبل أن يتركها خلف ظهره ويمضي.
، في حين رأت نصب عينيها نموذجاً حياً لا يقبل المساس بأهل بيته، فكانت المضاهاة غير عادلة البتة…
وبالفعل كان التقرير الطبي الذي وصف حالتها بالفعل مفصلاً وحتى أصغر تفاصيل الإعتداء والإصابات ذُكرت به، كان هذا التقرير هو العضد لها في مسيرتها العدائية والدفاعية ضد زوجها، فبه قامت برفع دعوة عاجلة لطلب الطلاق منه..
واستعانت بمحامية خبيرة بأحوال الأسرة لمساعدتها وقدمت الدعوة في محكمة الأسرة..
وكانت تلك هي أولى خطوات الخلاص منه..
لم تكل أو تمل فلم يعد هناك جدوى من البقاء مع من إرتضى أن يخدعها ويهينها من أجل الظفر بطفل، ذاك الطفل الذي لم يقدر له الحياة..
مرت الشهور عليها وهي تنتظر حكم المحكمة القضائي بالطلاق منه لوقع الضرر وكأنها أدهر، كان محسن في مناصفتها منذ الجلسة الأولى، ورفض تطليقها، ولكن قضت المحكمة بحكمها، وحصلت في النهاية على حريتها، ولم تكتفِ بذلك فقط، بل أرادت تأمين حياتها لذا لجأت إلى هيئة النيابة الموقرة لتحرر محضراً ضده بعدم التعرض لها بأي شكلٍ كان.
ومنذ أن حصلت على حريتها مرة أخرى، تركت ما مضى خلف ظهرها، وتخلت عن التقاليد والعادات، وقررت الرحيل عن أسرتها، وقامت بمتابعة سير العملية التعليمية خاصتها بمفردها، أجل بمفردها…
حيث أقامت بالسكن الدائم المسمى بدار المغتربات في محافظة الأسكندرية، واستغلت بطاقة هويتها والمدون بها محل إقامتها بالقاهرة حتى تضمن موافقة مسئولي الدار على انضمامها لقائمة القاطنات بها..
وبالفعل وفقت في ذلك وسكنت الدار طوال ما تبقى من فترة دراستها، ما يقرب من العامين والنصف.
ومن بعد ذلك، وأمام رغبة والدتها الملحة طوال هذه المدة للعودة لمنزل أسرتها، عدلت نوعاً ما عن رأيها و تخلت عن تعندها وعادت لمنزل أبيها لتسكن حجرتها گغريبة عنهم..
تشاطرهم المكان، لكنها لا تشاطرهم ما يخصها..
قلت التعاملات بينها وبين أخيها وأبيها، وأصبحت نادرة بدرجة واضحة..
كانت تضع عملها ودراستها في المقام الأول لها..
نعم لقد عرضت عليها إحدى زميلاتها بالدار العمل گمربية وجليسة للأطفال لواحد من أفضل المكاتب الأسرية التابعة لوزارة التضامن الإجتماعي مقابل الحصول على راتب مجزي، فوافقت عليها إيثار بعد تفكير متأني..
هي أرادت الإستقلال، الخروج من الحيز الضيق الذي فرض عليها..
وبالفعل وجدت في تلك الوظيفة مؤنس لها ومساعد لقضاء وقت فراغها وسط الكائنات الصغيرة الملائكية والتي تعشقهم عشقاً من نوع خاص…
وبعد أن أتمت دراستها، كان من المفترض أن تترك تلك الوظيفة، وتتقلد وظيفة أخرى تناسب مجال دراستها ولكنها رفضت ذلك، وتخلت عن أحلامها، فقد تعلق فؤادها بالأطفال، وأحبت مهنتها حباً جماً…
إيثار
عادت هي إلى أرض الواقع على صوت أخيها الذي هتف منادياً بإسمها…
، أشاحت بصرها ووجهها بعيداً عنه وهي تنبذ اقترابه منها ثم نطقت بتذمر واضح في نبرتها:
خير! اي الحاجة الكبيرة اوي اللي حصلت وخليتك تيجي بنفسك هنا؟!
ضغط عمرو على شفتيه، وأجابها وهو يبتلع أسلوبها الفظ في الحديث معه:
بابا ياإيثار، تعبان أوي ولسه الدكتور نازل من عندنا من شوية، لازم تيجي تشوفيه يا إيثار ده طلبه!
ابتسمت من زاوية شفتيها بتهكم ثم أردفت بلهجة قاسية متحجرة:
انت الحيلة و ابنه الكبير، خليك انت جمبه انا ماليش لزوم
اقترب منها ثم انحنى بجسده ليجلس جوارها..
حدق بها لبرهة، لكنها لم تعبأ به، وكأن وجوده والعدم سواء..
تنهد بعمق، ثم مد يده لينزع نظارتها الشمسية التي تحجب عنه رؤية عينيها، وإذ به يتفاجأ بالعبرات العالقة بأهدابها وبقايا الدموع التي جفت على وجنتيها..
تفاجئت من فعلته، ورمقته بنظرات حادة، وأشاحت وجهها بعيداً..
سكين حاد النصل انغرز بين ضلوعه، وجثى على صدره حجر صوان بعد أن رأى الوهن داخل مقلتيها، فأجفل بصره بندم بيّن ثم نطق بصوت خفيض:
تلات سنين ومنسينيش، مكانش قلبك أسود كده ياإيثار
ابتسمت بسخرية مريرة، وقد ظهرت علامات الإستنكار على وجهها، وهتفت بحنق:.
أسود! هو في أسود من الأيام اللي عيشتها بسببكوا، شبابي ضاع وانا لسه مكملتش 25 سنة، حاسة اني ست عجوزة مكرمشة من كتر القهر اللي شوفته وحسيت بيه، جاي تقولي اسود!
تحسست ذراعيها بكفيها وكأنها تتذكر لمسات طليقها المقززة على جسدها..
ارتجفت أوصالها وهي تتذكر قسوته في معاملتها والخدعة التي سقطت أسفلها وما كانت له سوى وسيلة رخيصة للوصول لمبتغاه الطامع والغير عادل..
انتفضت بذعر وهي تقاوم أبشع اللحظات في علاقتهما الحميمية التي أجبرت عليها، ثم أطبقت جفنيها وهي تذكر قائلة:
لسه فاكرة كل حاجة قذرة كان بيعملها، حتى كلامه الزبالة اللي شبه وطريقته الشوارعية، كل حاجة مغابتش عن بالي!
بدى التأثر على وجه عمرو، فهو لم يهنأ من ضميره الذي لامه بشدة على فعلته..
مد يده بحذر نحوها، وربت على ذراعها بحنو وقد أثارته كلماتها، فرد عليها بحذر:.
كل حاجة أنتهت وخلصت ياإيثار، وبقالك أكتر من سنتين ونص حرة، انسي و عدي كل حاجة، وارميها ورا ضهرك، انسي!
ردت عليه إيثار وقد سبقت عبارتها الساخرة قهقهه عالية:
حاضر هنسي، اصلي ماشية بالريموت! بمزاجكم أفتكر، ووقت ما تعوزا مني أنسى هانسى!
جذبت نظارتها من يده الأخرى ثم نهضت عن جواره وأشارت له بعينيها لكي يفسح لها المجال حتى تطوي المقعد الخاص بها، ففعلت ما أرادت دون أن ينطق، ووقف قبالتها ليكون حائلاً بينها وبين المقعد ثم أردف بنبرة جادة:
إيثار، لو لسه ليا عندك ولو شوية معزة لازم تيجي معايا وتقعدي مع بابا، بابا بيموت ياإيثار، أرجوكي
حدجته بطرف عينها بنظرات قاسية، فتوسل لها برجاء أكبر..
أطرقت هي رأسها بإستسلام، وردت عليه بتنهيدة عميقة:.
ماشي
تهللت أسارير عمرو، و انفرج ثغره بفرحة جلية وهو يهتف بحماس بعد موافقتها العسيرة:
يبقى يلا بينا، وانا هشيلك الكرسي بنفسي ياستي
لم تبدِ اهتماماً بما قاله، بل تحركت للأمام، وقام هو بطي المقعد ولاحقها بخطوات أشبه للركض حتى أصبح جوارها في سيرها…
كان الكبر قد ظهر على تجاعيد وجهه، وقد جعل المرض منه كهلاً كبير السن وكأنه أضعاف عمره..
منذ زمن لم تنظر هي لوجه أبيها رحيم، تشعر وكأنه تغير كثيراً، فتحول من الرجل الحاد الطباع الذي اعتادت عليه، ليظهر أمامها عجوزاً واهناً ضعيفاً لاحول له ولا قوة..
رق قلبها إليه، وأشفقت على حاله العاجز، هو أبيها رغم كل شيء، تشتاق إليه، تريد التنعم بحضنه الأبوي الدافيء، تتلهف للإحساس بخوفه الفطري عليها، لكنه أضاع كل شيء بفعلته، وهي لم تردْ أن تظهر ما تكنه أمامه، فعقلها أجبرها على الصمود، اظهار القسوة، هي لم ولن تنسى فعلته بحقها، وما زاد من الأمر سوء هو عدم مواجهته لها بشناعة فعله حتى هذا اليوم.
لذا حافظت على اقتضاب حديثها وعبوس ملامحها أمامه..
ولكن وبدون سابق إنذار، شعر رحيم بملك الموت يحوم حوله منتظر لحظة قبض روحه فقرر التنازل عن قسوة طبعه والانصياع أمام خطئه، حيث سد جوعه بالنظر إليها وهتف بصوت ضعيف ولهجة معاتبة لعلها تشعر به:
كده يا إيثار! بقالي كتير تعبان ومستنيكي تسألي عني يابنتي، بس انتي مسألتيش
ردت إيثار بثبات وجدية وهي تتحاشى النظر إليه:
الف سلامة عليك.
وضعت تحية كفها على جبهته تتحس حرارته التي أخذت تنخفض ثم ربتت على كتفه وهي تحاول تخفيف الأوضاع وحدتها لدى الأب وابنته:
إيثار كانت مشغولة اوي اليومين اللي فاتوا ياحج ماانت عارف، شغلها واخد كل وقتها
أضاف عمرو قائلاً وهو يبتسم لوالده بعاطفة: ولما عرفت جت ومتأخرتش ياحج!
سيبونا لوحدنا
هتف رُحيم بعبارته بملامح خالية من المعاني ثم أشار بعينيه للخارج.
ترددت تحية في فعل هذا، ورغم ذلك حسمت رأيها، وظنت أنه ربما يكون السبيل لكسر الحواجز التي بُنيت بينهما، ولعل هذا الحوار والجلسة الودية بينهما تذيب الجليد، فأشارت بيدها لعمرو لكي يتبعها للخارج ثم أغلقت الباب وأخذت تتلصص عليه.
جاهد رحيم ليستقيم في جلسته حتى اعتدل وأسند ظهره على الفراش ثم تابع النظر إليها وهو يقول بدفء أبوي غير معهود منه:
بصيلي يابنتي وانا بكلمك.
حركت حدقتيها لتكون في مواجهته بينما ابتسم هو وهو يتذكر أياماً قديمة لا تتذكرها هي، ثم ردد قائلاً بخفوت:
زمان، لما كنت بشتريلك لبس العيد بنفسي وانتي كنتي بتتقمصي عشان مش بخليكي تنقيه بنفسك زي عمرو وآآآ…
قاطعته إيثار وقد ظهر التجهم على قسماتها وزادت عدائيتها:.
لبس العيد كنت بشتريه كل سنة، ولو معجبنيش في مرة كان بيعجبني في التانية، انما الجواز بيبقى مرة تعيش عليه العمر كله، ولا كنت فاكره قابل للتبديل والتغيير؟
لم يطرق رأسه أو يبعد بصره عنها، بل بعث لها كم الندم الذي يحمله على عاتقه منذ ثلاث سنوات وحتى هذا الحين من خلال نظراته النادمة، وتعابيره الأسفة..
استشعرت صدق نظراته ولكن عقلها رفض الإستسلام والعفو عنه..
استندت بساعديها على ركبتيها ثم دفنت رأسها بين كفيها وهي في حيرة من أمرها بينما تابع والدها حديثه قائلاً:
عارف اني ظلمتك، لكن كل اللي كان شاغلني الناس وكلامهم، مكنتش هطيق حد يجيب سيرتك بكلمة يابنتي
كانت إيثار على وشك مقاطعته، ولكنها أشار لها بكفه لتصمت، وتابع بجدية:
اسمعيني يابنتي، انا اب وانتي عمرك ما هتفهمي كلامي ولا احساسي، انا عمري ما تمنيت في الدنيا غير سعادتك انتي واخوكي، حتى لو كان اسلوبي غلط!
اخذ شهيقاً عميقاً ثم زفره على مهلٍ وتابع بكلمات مؤثرة وقعت على حواسها وقعاً مثيراً:
عدت سنين وكلامي مش هيفيد، بس محبش اني اموت وسايب حته مني زعلانة مني يابنتي، سامحيني ياإيثار
حدقت به غير مصدقة ما سمعته للتو وحالة الذهول مسيطرة عليها، فهز رأسه للتأكيد ثم كرر كلمته وهو يقول بجدية تحمل الندم:
ايوة زي ما سمعتي، انا بطلب منك لأول مرة تسامحيني على اي حاجة يابنتي!
زحزح جسده ليهبط أسفل الغطاء ثم أراح رأسه على الوسادة وسلط بصره على سقف الحجرة.
في هذا الحين كانت تقف تحية وأطرافها ترتعش من وراء الباب لتستمع لحديثهما إلى أن اختفى الصوت فجأة، فرفعت رأسها للسماء وفتحت كفيها وهي تنطق بتضرع:
وحياة حبيبك النبي يارب حنن قلب بنتي وأرضيها وأسعدها يارب!
انفتح الباب لتظهر إيثار من خلفه ثم عبرت للخارج أمام والدتها ومنها إلى حجرتها دون أن تنطق ببنس شفة..
أوصدت الباب خلفها لتستمر مسيرة عزلتها، ثم وقفت أمام النافذة تتطالع الغروب وقرص الشمس يهبط بإتجاه البحر من الغرب، وكأن هذا القرص الذهبي تحتضنه الأمواج وينغمس أسفل الأعماق..
كان مشهداً مريحاً للعين مثيراً لهدوء الأعصاب، أغمضت عينيها استسلاماً لنسمة هواء طفيفة لمست وجهها حتى هاجمتها ذكرى آخرى سابقة أسعدت فؤادها في وقت ما، لكنها استعدت عبرات الاشتياق الممزوج بالعتاب…