روايات شيقهرواية وبقي منها حطام أنثى

رواية وبقي منها حطام أنثى للكاتبة منال سالم و ياسمين عادل الفصل السابع والعشرون

ابتلعت إيثار ريقها بتخوف واضح حينما رأت مالك مقبلاً عليها وعلى وجهه قساوة غريبة..
ارتعاشة خفيفة دبت في أوصالها، وجاهدت لتحافظ على ثباتها أمامه، التقت عيناها بعينيه، ورأت فيهما تهديداً صريحاً..
نعم عاصفة هوجاء على وشك الانطلاق الآن في وجهها..
راقبة ردة فعله بتخوف، وتراجعت بحذر خطوة مبتعدة عن الفراش..

انحنى مالك على طرف الفراش ليقبل صغيرته النائمة بحنو، ورفع عيناه في اتجاه إيثار ليحدجها بنظرات أخافتها..
اعتدل في وقفته، وأخذ نفساً عميقاً، وقبل أن يفتح فمه ليصيح بها، أردف الطبيب متساءلاً:
حضرتك والد البنوتة؟
أجابه مالك بصوت قاتم وعينيه لم تحد عن إيثار:
ايوه!
تابع الطبيب قائلاً بنبرة إعجاب وهو يشير بيده:
اطمن عليها، المدام بتاعة حضرتك اتصرفت صح، وجابتها على طول على هنا، والحمدلله ده فرق مع الطفلة كتير!

صمت مالك ولم يعقب، ولكنه استدار برأسه تجاه الطبيب لينظر له بدقة..
ابتسم له الطبيب وهو يضيف:
انت محظوظ إن عندك أم حريصة زيها، ربنا يخليكوا لبعض!
جحظت إيثار بعينيها عقب عبارة الطبيب الأخيرة، وتلاحقت أنفاسها نوعاً ما..
بينما تبدلت نظرات مالك للصدمة، فلم يتوقع أن يلفظ الطبيب بتلك الكلمات تحديداً..
حاولت هي تدارك الموقف، وهمست بصوت شبه متحشرج:
الحمدلله إنك جيت، أنا كنت آآ…

قاطعها مالك قائلاً بشراسة أجفلتها وهو يحدجها بنظرات مميتة:
ولا كلمة!
استشعرت الخطر في نبرته، فازدردت ريقها، وهتفت قائلة بنبرة شبه ثابتة:
أنا، عملت واجبي معاها وآآ..
تحرك مالك ليقف قبالتها، فتوقفت عن الحديث ونظرت له بتوتر..
حدق بها بنظرات خالية من الحياة، نظرات أخافتها إلى حد ما، وقبل أن تتجرأ على النطق، صاح بها بغلظة:
إنتي ازاي تتجرأي وتاخدي بنتي من ورايا؟!

اهتز جسدها من صوته المرتفع، وأجابته بتلعثم وهي تبرر تصرفها:
أنا، أنا مكانش ينفع أسيبها وهي حالتها تعبانة وسخنة!
صرخ بها معنفاً إياه وهو يشيح بيده أمام وجهها:
تستنيني، تاخدي راوية معاكي، لكن تاخديها لوحدك وتختفي بالشكل ده وتخليني أقلب عليكم الدنيا عشان أعرف طريقكم!

إنتاب إيثار حالة من الخوف الظاهر حتى في إرتعاشة جسدها، فقد لاح في بالها ذكرى اعتداء محسن عليها بالضرب، خاصة حينما تشابهت حركات مالك الملوحة بذراعه مع حركات طليقها، فتراجعت بحذر للخلف لتترك مسافة أمنة بينهما، ثم ردت عليه بصوت شبه مرتجف:
مجاش في بالي ساعتها، أنا، أنا كان مصلحتي ريفان وبس
صرخ بها متعمداً إهانتها:
انتي مش أمها عشان تعرفي مصلحتها أكتر مني، إنتي شغالة عندي!

ارتجفت من صراخه، وابتلعت إهانته بصعوبة، ثم أخفضت عيناها اللامعتين لتتجنب النظر إليه، وهمست بصوت خفيض:
عندك حق، أنا، فعلاً مش أمها، بس على الأقل قومت بدوري معاها
أخذ مالك نفساً عميقاً ليسيطر على غضبه، فبالرغم من تصرفها الأهوج إلا أنها فعلت الصائب مع ابنته..
لم يستطع شكرها على ما فعلت، وتحكم في مشاعره التي اضطربت قليلاً لرؤيتها في تلك الحالة الغريبة، لم يحدد إن كانت حقاً خائفة منه أم تدعي هذا..

أقنع نفسه أنها تفعل ذلك لنيل تعاطفه، لذا جمدت تعابير وجهه، وقست نبرته وهو يحذرها بتهديد صريح:
لو اتكرر الموضوع ده تاني يا إيثار مش هايحصلك طيب، إنتي سامعة!
أومأت برأسها إيجاباً وردت ممتثلة لأمره:
حاضر يا مالك بيه!
ثم تحركت مبتعدة عنه، فتعجب من تركها إياه، فالتفت برأسه نحوها، وسألها بصرامة:
رايحة فين؟
لم تستدر نحوه، وأجابته بصعوبة وهي تحاول الحفاظ على ثبات نبرتها:.

حضرتك دلوقتي موجود مع بنتك، وأنا دوري خلص، فمروحة، عن اذنك
وقبل أن تخطو خطوة أخرى للأمام، صاح بها بصوت آمر جعلها تتسمر في مكانها:
استني!
تنفست بعمق، وحافظت على رباطة جأشها وهي ترد بإقتضاب:
افندم
تحرك ناحيتها، ووقف إلى جوارها ثم نظر إلى جانب وجهها ليتأملها بتفرس، وتابع قائلاً بجدية:
رقم موبايلك يبقى معايا، وتكلميني لو حصل أي حاجة تخص ريفان!
لم تلتفت نحوه، بل رفعت رأسها في كبرياء، وردت عليه بعزة نفس:.

حاضر، عن اذنك!

ترجل عمرو من سيارة الأجرة، وفتح الباب لروان التي نظرت له بإندهاش من تصرفه الذي لا يليق مع وقاحته وغلظته المعتادة..
تلفت حوله وهو يقول بهدوء جدي:
اتفضلي انتي على البيت، وأنا هامشي وراكي
قطبت جبينها بتعجب، وسألته بعدم فهم:
ليه؟
نظر إليها بثبات، وأجابها بجدية:
عشان أضمن محدش يضايقك وانتي ماشية، وكمان مافيش أي حد يقول كلمة عننا لو شافونا ماشيين سوا.

تفهمت روان مقصده، والتوت شفتيها بإبتسامة خفيفة، ثم فعلت ما طلبه، وخطت بإرتباك أمامه، وشعور قوي بالأمان يتخللها..
حافظ عمرو على مسافة ثابتة بينهما وهو يلحق بها
فكرت روان مع نفسها أنها ربما أساءت فهمه منذ البداية، فشهامته تلك لم تتوقعها معها بعد المواقف التي صارت بينهما..
لكنها لم يتخلَ عنها في موقف حرج، وأثبت لها إن هناك رجالاً بحق..
راقب عمرو روان بنظرات غريبة غير التي كان يراها مسبقاً بها..

لقد تغيرت تلك الفتاة كثيراً، لم تعد الصغيرة الطائشة التي كانت تدفع شقيقته للجنون، بل أصبحت أكثر عقلانية واتزاناً..
لاح على فمه شبح ابتسامة وهو يرى فيها شابة جميلة، لكن سريعاً نفض عن عقله تلك الأفكار الغريبة، وغض بصره وهو يتابع سيره خلفها…

خرجت إيثار من المشفى وهي في حالة يرثى لها..
مازال مالك قاسياً عليها، يعاملها وكأنها الجانية في حقه..
ولم يفكر للحظة في كونها المجني عليها، ضحية كل شيء..
تأخر الوقت نوعاً ما، وكان الطريق شبه خاوياً من المارة والسيارات..
فسارت هي على غير هدى باحثة عن طريق رئيسي لتتمكن فيه من الحصول على سيارة أجرة لتستقلها وتعود إلى منزلها..

تذكرت أنها لم تحضر معها المال الكافي لتدفع الأجرة، فزفرت في ضيق، وأكملت سيرها.
مرت هي بشابين كانا يقفان على قارعة الطريق، ولكن لم يكونا في حالة طبيعة، فقد بدى أنهما يتعطيان شيئاً ما..
لذا أسرعت في خطواتها وهي تمر من جوارهما..
التقطت أذنيها إيحاءات جارحة مسيئة إليها، فتشبثت بطرف حجابها، وتسارعت خطواتها بإرتباك
شايف المزة دي!

قالها أحد الشابين بصوت مرتفع متعمداً أن يصل إلى مسامعها، بينما أضاف الأخر بنبرة مخيفة:
طلقة!
تحرك الاثنين خلفها، وحاولا اللحاق بها، وتابع بصوت ثقيل:
ايه يا جميل، مركبة موتور في رجليكي الحلوة دي، ما تمشي كده تاتا تاتا
ارتجف جسدها بشدة، وشعرت بالرعب من حديثه المنفر، وأسرعت في خطواتها الراكضة..
أضاف الأخر بصوت عالي:
ايوه بالظبط، تاتا خطي العتبة، يا مزة!

ثم قهقه كلاهما بصوت مرتفع أثار خوفها واشمئزازها في نفس الوقت..
هوى قلبها في قدميها من فرط الخوف والقلق..
قررت هي أن تسرع في خطواتها فبدت كالتي تركض هاربة من شيء ما..
اقترب الشاب منها، ومد يده ناحيتها وهو يقول بصوت غريب:
انتي خايفة يا مزة، ده احنا هانقول كلمتين في بؤ بعض!
ارتعش جسدها بفزع، والتفتت برأسها لتنظر إليهما فوجدتهما يلحقان بهما، فصاحت بصوت مرتجف:
احترم نفسك انت وهو، معندكش اخوات بنات، عيب كده.

قهقه الشابان على كلماتها المذبذبة، ورد عليها أحدهما:
لأ معنديش، وأنا ناقص تربية وعاوز مزة زيك تربيني
سمع ثلاثتهم صوت مكابح سيارة قوي جعلهم يلتفون برؤوسهم نحوها..
اتسعت حدقتي إيثار في صدمة حينما رأت سيارة دفع رباعي موديل جيب – تقطع الطريق، وزادت دهشتها حينما رأت مالك يترجل منها ليتجه نحو الشابين، ويتشاجر معهما..
تسمرت في مكانها مرعوبة، وابتلعت ريقها في خوف بائن..

تمكن هو من إبعادهما بعد أن هددهما وسبهما بألفاظ شنيعة، تفاجئت هي من كون مالك يلفظها..
أفاقت من دهشتها المرتعدة على صوته وهو يأمرها:
اركبي العربية
هزت رأسها نافية بصورة عفوية، فصرخ بها بنبرة عنيفة:
اسمعي الكلام واركبي، ولا منتظرة حد تاني يمد ايده عليكي
ارتجف جسدها من كلماته، ومن نظراته الحادة التي اخترقتها..

اتجهت نحو سيارته، وقبل أن تمد يدها لتفتح باب المقعد الخلفي، وجدته يفتح لها الباب الأمامي، فنظرت له بتوجس، بينما أضاف قائلاً بغلظة:
ريفان أعدة ورا في الكرسي بتاعها، ومافيش مكان، اتفضلي قدام
دققت النظر في المقعد الخلفي فوجدته مشغولاً بالفعل بمقعد الأطفال، وريفان غافية عليه..
ضغطت على شفتيها المرتعشتين، وركبت بحذر السيارة..
أغلق الباب خلفها بهدوء، ثم تحرك ليركب في مقعد القائد..

التصقت إيثار بباب مقعدها، وتحاشت النظر إليه..
وزع مالك نظراته بينها وبين الطريق، ولاحظ تلك الإرتعاشة الخفيفة التي تصيبها..
ظن أنها تفتعل هذا لتثير تعاطفه، فرمقها بنظرات ساخطة، ثم هتف متساءلاً بقسوة من بين أسنانه:
كنتي رايحة فين على كده؟
ردت عليه بصوت خافت:
أنا، أنا كنت راجعة البيت
مط شفتيه ليقول بسخرية:
ممم، مروحة لجوزك، تلاقيكي أصلاً مش على باله!

لم تجبه، بل حاولت ضبط انفعالاتها أمامه، لا تريد إظهار ضعفها، ولا حزنها كي لا يزيد من قسوته وتهكمه منها..
أغاظه صمتها، فتابع بجمود:
انتي رايحة فين عشان أوصلك؟ ما هو أنا مش هاعرف بيتك بنفسي!
ردت عليه بصوت خافت وشبه مختنق وهي محدقة في الطريق أمامها
أنا، أنا رايحة عند بيت أهلي
هز رأسه بتهكم، وأكمل قائلاً:.

أها، سايبة عندهم ولادك زي أمهات اليومين دول، ماهو أكيد جوزك مش هايكون فاضي يقعد بيهم! تفكير عملي، إنتي وهو تشتغلوا، وأهلك يربوا عيالكم
أغمضت عينيها قهراً من كلماته الجارحة، هي لم ترزق بعد بالأطفال، والشيء الوحيد الذي كانت سيشعرها بأمومتها ضاع منها قبل أن تستمتع به بسبب عنف طليقها معها..
أدمعت عيناها، وقاومت بصعوبة ذرفها أمامه
التفت ناحيتها، وحل عليه الذهول..
أقسم لنفسه أنه رأى دمعة عالقة في أهدابها..

دمعة أحدثت أثراً في نفسه، وزلزلت كيانه فجأة..
حالة من الوجوم سيطرت عليه حينما تأكدت شكوكه ورأها تنهمر من طرف عينها لتبلل وجنتها…
مدت أناملها لتمسحها سريعاً، ثم همست بصوت شبه متحشرج:
أنا هانزل هنا، احنا وصلنا خلاص
أوقف السيارة بهدوء، فترجلت سريعاً منها دون أن تشكره لمساعدتها، وأسرعت في خطاها لتبتعد عنه..
راقبها بنظرات مثبتة عليها، لم تستطع عيناه أن تفارقها..
شيء ما يجبره على التحديق بها..

لمح طفل صغير يركض ناحيتها وهي تفتح ذراعيها لتتلقفه فظن أنه ابنها الصغير، فزفر بضيق لمتابعته إياها، وتخطيه لحدود التعامل الجاد بينهما، ثم أشاح وجهه بعيداً، واستدار بسيارته عائداً إلى فيلته…
أنزلت إيثار الصغير، ورحبت بوالدته التي كانت جارتهما في البناية القريبة، ثم تبادلت معها حديثاً سريعاً، وتركتها وصعدت إلى منزلها..

تمددت روان على فراشها، وحدقت في سقفية غرفتها، وشردت تفكر فيما حدث مع عمرو في الحافلة..
كان موقفه رجولياً مليئاً بالشهامة والأصالة، رأت نفسها تبتسم عفوياً من شجاعته، ثم سريعاً نبهت نفسها بخطأ التفكير فيه دون داعي..
أغمضت عينيها لتغفو وهي تشعر بشيء غريب، لكنه كان مريحاً بدرجة كبيرة..

جاب مالك غرفته ذهاباً وإياباً وهو يفكر فيما كان يمكن أن يحدث لإيثار..
لم يجد أي تفسير منطقي لإندفاعه لنجدتها فوراً حينما رأها في مأزق خطير وشابين غير طبيعين يحاولان التحرش بها..
فكرة أن يضع أحدهم يده عليها أصابته بالعصبية والغضب..
حاول السيطرة على نفسه، وعاتب نفسه لتفكيره بها بتلك الطريقة..
هي لم تعد لك، لا تخصك، أصبحت زوجة أحدهم، هي خانتك، كانت مخادعة، طامحة وراء المال..

أخذ يردد تلك الكلمات لنفسه ليقنعها بسوء نواياها..
لكن أبى قلبه أن يصدق هذا..
تذكر تلك العبرة التي رأها..
لم يتوهم هذا..
لقد كانت تبكي، وتخفي هذا..
نفخ بحنق، واتجه إلى غرفة صغيرته ليجلس إلى جوارها..
كانت نائمة كالملاك، فتحسس بشرتها برفق، وانحنى ليقبلها من وجنتيها..
ثم ضمها إلى صدره، وظل يهدهدها بحركات هادئة وهو يداعب أصابعها الصغيرة حتى غفا هو الأخر..

مرت عدة أيام، وإيثار تثبت يوماً بعد يوم أنها ماهرة في عملها كمربية للصغيرة ريفان، تشكل بينهما رابطاً وثيقاً، وتعلقت بها الصغيرة كثيراً
كذلك لم تتخطَ حدودها في التعامل مع مالك، وحافظت على وجود ذلك الحاجز بينهما، وبالرغم من حصوله على رقم هاتفها إلا أنه لم يطلبها ولو لمرة واحدة، واكتفى بإملاء أوامره عليها – في حال غيابه – عن طريق راوية..

وذات يوم عاد مالك مبكراً من عمله فوجد الاثنتين تلعبان سوياً في حديقة فيلته..
راقبهما من على بعد..
شعور غريب سيطر عليه حينما سمع ضحكات الاثنتين تعلوان بمرح وسعادة..
خفق قلبه، وتسارعت دقاته..
رأى غمازتها التي عشقها يوماً، استشعر دفئاً نابعاً منها وهي تداعب صغيرته..
تعلقت بها عيناه وأشرقتا من جديد وكأنهما كانت تحترقان شوقاً لها، فبات أسيراً لتلك الهالة المحيطة بها..

أسرع بإبعاد عيناه عنها، وجلس على المقعد المنزوي في جانب الحديقة دون أن ينبس بكلمة..
لمحت طيفه إيثار، فتبدلت ملامحها للإنزعاج، وأولته ظهرها وكأنه غير موجود
هدأت الصغيرة بعد لعبها المتواصل، واقتربت منها لتطلب تناول الطعام، فابتسمت لها إيثار، وأجلستها على حجرها، وقامت بإطعامها بعاطفة صادقة…
رن هاتفها برقم أخيها عمرو، فأجابت على اتصاله قائلة بهدوء:
ايوه! خير..!
صمتت لتستمع إليه ثم أكمل بجدية:.

طيب أنا جاية، حاضر هنعدي عليه سوا، ماشي هستناك هناك!
اصغى مالك لمكالمتها متعمداً، وظن أنها تتحدث مع زوجها، فتحول وجهه للعبوس، وانطفأت نظراته وتبدلت للقتامة..
أنزلت الصغيرة من عليها، وأمسكت بكفها ثم اقتربت منه، وأردفت قائلة بحذر:
ينفع أمشي بدري
نظر لها بإستعلاء وهو يسألها بإختصار:
ليه؟
ارتبكت وهي ترى نظراته نحوها، وأجابته بتلعثم:
آآ، عندي ظروف ومحتاجة أمشي الوقتي.

اعتدل في جلسته، ونظر لها بقوة وهو يردد بصوت صارم:
وريفان!
ردت عليه بخفوت:
هي أكلت، وخدت شاور، وشوية وهايجي ميعاد نومها
نظر في ساعته، وتابع بصوت غليظ:
بس لسه بدري
استشعرت من حديثه أنه على وشك رفض طلبها، فهتفت قائلة بجدية:
حضرتك تقدر تخصم الوقت اللي هامشيه من مرتبي!
نظر لها شزراً، وهتف بصوت يحمل الإهانة:
امشي! هاتي البنت!
نظرت له بضيق، وردت عليه بصوت مقتضب:
اتفضل!

أخذ منها الصغيرة، ورفعها عن الأرضية العشبية لتجلس على حجره، ثم أشار لها بكفه لتمشي..
تحركت مبتعدة عنه وعلقت حقيبتها على كتفها، ثم سارت مسرعة نحو الخارج…
نظر مالك لابنته بحنو، ثم تمتم لها بخفوت:
ايه رأيك لو نروح نقضي اليوم عند عمتو؟
نظرت له ريفان ببراءة، فانحنى ليقبلها وضمها إلى صدره بقوة، ثم تهض حاملاً إياها بين ذراعيه..

صف مالك سيارته على مقربة من بنايته القديمة، حل حزام الأمان خاصته، وأوقف محركها، ثم شيئاً إلهياً دفعه للنظر أمامه، فحدق في المدخل بإندهاش..
لقد كانت إيثار..
اتسعت عيناه قليلاً..
لم يرَ وجهها، بل لمحها من ظهرها وهي تسير إلى جوار أخيها، وأمامهما رجل غريب..
ظن أن هذا هو زوجها، فحل العبوس على وجهه، وانقبض قلبه إلى حد ما، ونفخ بحنق..

لم يعرف لماذا أصابه كل هذا الضيق حينما رأها معه، هو يعلم أنه أغلق باب كل ما يتعلق بالحب…
أخذ نفساً عميقاً، وزفره ببطء ليستعيد هدوء نفسه، ثم اندفع خارج السيارة، وفتح الباب الخلفي ليحمل صغيرته..
تباطيء في خطواته حتى يضمن صعود ثلاثتهم فلا يلتقي بهم…
رحبت ميسرة بإبن أخيها ترحيباً شديداً، وعاتبته وهي تقبله من وجنتيه:
بقى كده يا مالك، تنسى عمتك وجوز عمتك، نهون عليك
رد عليها بهدوء وهو يحتضنها:.

لا والله، ده انتو مكانكم في القلب!
سألته ميسرة بإستفهام وهي تطالعه بنظراتها الحنونة:
أومال مابتجيش ليه زي الأول؟
أجابها بتنهيدة إنهاك وهو يرسم ابتسامة مصطنعة على ثغره:
مشاغل يا عمتو!
ثم عقد ما بين حاجبيه ليتابع بضجر:
وبعدين انتو مش عاوزين تيجوا تعيشوا معايا في الفيلا!
رد عليه زوج عمته قائلاً بصوت جاد:
لا يا بني، ده بيتنا، ومش معقول بعد العمر ده كله نسيبه ونروح نقعد في مكان تاني!

التفت مالك نحوه، وهتف برجاء:
يا عمي ده الفيلا متوضبة وواسعة وآآ..
قاطعه إبراهيم بنبرة عنيدة:
احنا مرتاحين هنا!
وضعت ميسرة كفها على كتف مالك، وابتسمت له قائلة بهدوء:
سيب عمك ابراهيم على راحته، وطمني عليك إنت!
رد عليها مبتسماً:
أنا بخير الحمد لله
سألته ميسرة بإهتمام وهي ترفع حاجبيها للأعلى:
وريفان، عامل ايه معاها؟
رد عليها بتنهيدة مطولة:
أهي زي ما انتي شايفة.

داعبت روان الصغيرة بمرح، وهتفت بسعادة وهي تركض خلفها لتمسك بها:
بنتك دي عسل يا مالوك، أنا بأعشقها
رد عليها مالك بإبتسامة:
وهي بتحبك يا روني!
أضافت روان قائلة بتحمس بعد أن حملت الصغيرة على ذراعها:
أنا جبتلها لعبة جديدة، هاروح أوريهالها
رد عليها بصوت رخيم وهو يشير بعينيه:
عيشي حياتك معاها!
هتفت ميسرة بصوت أمومي ناعم وهي تربت على ظهر ابن أخيها:
طب خش ارتاح انت في أوضتك يا حبيبي لحد ما أحضرلك الغدا.

التفت برأسه نحوها، ورد عليها بفتور:
ماشي يا عمتي، مع إني ماليش نفس والله!
حركت رأسها معترضة وهي تقول بإصرار:
لالالا، مش هاقبل أي حجج، إنت النهاردة هتاكل من إيدي ولا خلاص أكلي مابقاش ينفع
ابتسم لها وهو يرد بنبرة دبلوماسية:
متقوليش كده، ده انتي فيكي البركة يا عمتي!
هتفت بسعادة وهي ترفع بصرها للسماء:
ربنا يباركلك يا حبيبي ويعوضك خير يا رب!
ثم ربتت على ذراعه وهي تكمل بهدوء:
خش يالا اوضتك ارتاح فيها.

أومأ برأسه وهو يقول بإيجاز:
حاضر
ولج مالك إلى داخل غرفته، تأملها بنظرات طويلة ممعنة..
كان كل شيء كما تركه، لم يتغير فيها شيء..
لقد حرصت عمته على الحفاظ على ترتيب غرفته، ونظافتها حتى تظل كما هي، معدة له حينما يعود في أي وقت..
التوى ثغره بإبتسامة راضية..
اتجه إلى شرفته، ووقف بها ليستنشق الهواء المنعش
استند بيديه على حافتي السور، ولا إرادياً إرتفعت عيناه للأعلى ليحدق بنافذتها..

تناقض غريب في مشاعره جعله متخبطاً في تفكيره، في احساسه، في قراراته..
سنوات مرت ومازال شغفه بها موجوداً رغم إنكاره لهذا..
هو كره خيانتها، خداعها، لكن قلبه رفض الإنصات إليه، كلما اقترب منها تجدد شعورها نحوها..
رغم في مقاومة شعوره بالضعف نحوها، وذكر نفسه بأنها خذلته..
أخفض بصره لينظر إلى الطريق..
فرأى عمرو وهو يخرج وبصحبته ذلك الرجل الذي رأه قبل قليل..

دقق النظر فيهما، واستمع إلى صوت عمرو المرتفع وهو يردد قائلاً بعد مصافحته إياه:
متشكر يا دكتور، تعبناك
رد عليه الطبيب بجدية:
متقوليش كده يا أستاذ عمرو، ولو حصل حاجة كلمني أو خلي المدام ايثار تتصل بالعيادة وأنا هاجي على طول!
تابع عمرو قائلاً وهو يربت على ظهره:
كتر خيرك يا دكتور، اتفضل!
تنهد مالك بإرتياح لأن ذلك الرجل لم يكن زوجها، ومع ذلك مازال يزعجه التفكير فيها بتلك الصورة المبالغة…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى