الفصـل الثامن عشـر:
في عالم المـال، أرخص الأشيـاء هي روح البشـر.
حاول رشوان ان يناول زياد بعض الحساء الساخن، لكنه رفض بتعند مصّـرًا بجدية انه لن يفعل شيئًا او يتنـال شيئًا حتي يطمئن علي تلك السلمي، زفـر رشوان بضيق وهو يبعد يداه الحاملة بالطبق عنه، ما كان لينقصه تلك السلمي وظهورها في حياة ابنه الان..
ليس متفرغ ليبحث عنها حتي ويطمئن من نيتها نحو ابنه، فيه ما يكفيه ويشغله
تأفف بضيق يشعر ان الحياة تضيق بيه من كل جانب..
بينما زياد كان قلقًا.. لا يتذكر سـواء اخر لحظة جمعته بها واخر ما رأه في عيناها من خوف ورجاء له
لا يعلم هل رجاء بأن ينقذها.. ام.. رجاء بأن يسامحها!
انفتح الباب وطل منه دياب، ملامحه غير معلومة ومفسـرة.. سأله دياب بلهفة وهو يعتدل في جلسته:-
_طمني يادياب، عرفت توصلها؟ الكاميرا بتاعت الشارع اظهرت اي حاجة.. رد عليا انت ساكت لية
تطلع اليه ثم الي رشوان كأنه يطلب منه الحديث، من مظهره علم رشوان ان الامر جّلل، فنهض وقال لزياد وهو يشير لدياب بتتبعه:-
_ارتاح انت يازياد ووعد…
قاطعه صائحًا:-
_محدش هيطلع من هنا غير لما اعرف دياب عرف اية.. قولي اللي عرفته، سلمي كويسة صح؟
نظر دياب لرشوان ثم لزياد قائلًا بأسـف:-
_ميـن سلمي؟ مفيش حد اسمه سلمي عدي علي اي مكان من اللي قولتي عليهم يازياد باشا، الشالية دا فاضي بقاله سنة، وانا شوفت الكاميرات بنفسي مفيش اي عربيات عدت في الوقت اللي قولتلي عليه، وحارس الشالية ميعرفش حد اسمه سلمي
نهض زياد رغم الآمه.. يمسك قبضة قميص الاخر بين يداه وهو يصيح بعدم تصديق:-
_اية اللي بتقوله دا؟ انت خرفت! بقولك انا شوفتها، انا عيشت معاها ودخلت الشالية معاها، ازاي مش فيه.. ازاي مفيش سلمي.. ازاي
وتابع صراخه وهو يتهادي رويدًا.. رويدًا علي فراشه من جديد، يصيح ويصرخ بغضب ان دياب يكذب عليه هو ووالده وهم يفعلون ذلك ليبعدوه عنها، لكنه لن يسمح لهم وظل هكذا كثيرا حتي اخذ دون دراية منه ابرة مهدئ وغفي.. تحت انظار والده رشوان.. المقهورة عليه!
نظر الي دياب سائلًا بجمود:-
_الكلام اللي انت قولته دا صح؟
اؤما دياب بنعم..
فقال رشوان:-
_فيه حاجة غلط.. مش معقول زياد يكون بيتخيلها مثلًا!
*****
هـدأ قليلًا عن ذي قبل، ونجح في تمالك اعصابه، لـذا كان اول ما فعله مغادرته مكتبه والتوجة حيث نازلي..
بالأعلـي..
فتح نزار الباب فطلت نازلي الباكية علي الفراش امامه، تألم قلبه وهو يراها بتلك الحالة، لكنه سرعان ما تمالك نفسه وهو يردف:-
_جهزي نفسك علشان هنطلق.. مقدرش اخليكي علي ذمتي يوم تاني
توقفت عن البكاء لكن لم تتوقف هزات جسدها وارتعاشها، رفعت عينها الحمراء من البكاء عن الوسادة ونظرت له بصدمة.. أسيتخلي عنها؟
اعتدلت في جلستها وترجمت مخاوفها له:-
_هتسيبني؟
لم يجيب لـ لحظات قبل ان يردف بقسـوة:-
_مقدرش اساعد بنت الراجل الوحيد اللي كرهته وكسرني في حياته
قالت دامعـة:-
_رشوان رغم ان بينكم عداوة الا انك ساعدتني اتخلص منه
نزار:-
_اللي بيني وبين رشوان ميجيش نقطة في بحر من اللي بيني وبين فاروق.. لولا انه مات انا مكنتش هرحمه من زمان بس حظه ان ربنا رحمه من ايدي
قالت متعجبة:-
_مات ازاي؟ فاروق عايش..
بـ لحظات وجدته قد وقف امامها و:-
_مين اللي عايش؟
_فاروق
صاح فيها وهو يضع يداه حول اكتافها ويضغط عليهم بشدة:-
_كدابة.. فاروق مات من زمان
اؤمات بالنفي بخوف و:-
_والله عايش، انا بسمع رشوان دايمًا يكلمه و..
ولم يترك لها فرصة لـ الحديث وهو يتركها ويغادر.. بينما يكتشف ان كل ما عاشه ما كان سـواء ثراب، والراحة التي كان يحياها كانت كذبة فـ كيف يرتاح وعدوه ما زال علي ارض الحياة يحيا؟!
لم يعد يفهم شيئًا ولم اعد افهم شيئًا، وبالطبع انت عزيزي القارئ لم تعد تفهم شيئًا.. فتبًا لأبطال الرواية جميعًا..
دخل الي غرفته واغلق بابه عليه، جلس علي فراشه واضعًا كلتا يديه علي رأسه، يشعر بعقله سيتوقف عن العمل، فاروق الزاهر عايش! كيف؟ ومَن ذا الذي غرق!
نظر امامه بشرود ودموع.. كاد يبكي وهو يتذكر والده الذي مات ضحية لنصب وفخ من اعز صديق له.. لم يكن سـواء ذاك الذي يدعو فاروق الزاهر..
سمـع صوت من خلفه يقول:-
_كان طيب.. طيب اوي، ياما حظرته ومسمعنيش، جابله صفقة تطلعه فوق السما، عايزة شغل وسيـولة كبيرة، عايزة حاجات مكانتش لسة عنده.. نصاحة كان لسة ممتلكهاش وهو اللي لسة بيبدأ حياته لكنه اصّـر يدخلها..
ونظر راجي امامه كأنه يتذكر الماضي ونزار يستمع له
فلاش باك.. منذ سنوات عديدة
_ياحاتم اسمعني، الصفقة دي مغرية بس مش ليك، اي وقعة بفورة، دول ناس مش سهلة هيضيعوك ويودوك ورا الشمس لو حسوا انك مش قدهم
قالها راجي محاولًا تثنيته وابعاده عن مجازفة ك تلك، فهو ما زال صغير في عالم الحيتان ذاك، لكن الاخر اردف بتعند:-
_انا هدخلها، لازم نجمد قلبنا ياراجي، لو فضلت كل مرة اقول مجازفش هموت واعيش صغير
قال بتنهيدة حارة:-
_ياعم جازف براحتك.. بس مش المرة دي
اؤما بالنفي و:-
_انا قررت خلاص، فاروق جابلي الشغل وهو مستحيل يأذيني ابدًا
وبدأ في تنفيذ ما خطط له، رافضًا كل محاولات الاخر في اثناءه عن قراره، وعندما تملك الاحباط من راجي وعلم انه لا امل، تركه وغادر الي الخارج حيث كان مازال طالب يدرس بامريكا، خاصًة بعدما تقدم لبينار حب حياته ورفضته لـ المرة الرابعة علي التوالي، متعللة بأنها ليست جاهزة لأي ارتباط
غير عالمًا احد ان هناك من حام حولها ولعب بقلبها وشغله منذ زمن، حتي سلمت قلبها وعقله له.. واشياء اخري!
صاح حاتم بغضب:-
_يعني اية عثمان يعتذر ويغيب في يوم زي دا! هو مش عارف اننا انهاردة هنمضي العقود ولا اية؟ خلاص ابعتيها لرشوان خليه يراجعها بسرعة ولما يجيلي عثمان
وتم مضي العقود التي تجهزت في اخر لحظة، حتي انه لم تتيح فرصة لحاتم بقرأتها..
توجه حاتم بعد مضي اكبر عقد كما يظن بحياته الي صديقه فاروق ليزف ليه الخبر، فسمع ما لم يتوقعه
رشـوان ضاحكًا:-
_بس ياباشا وانا فضلت كل ما يطلب الورق يراجعه اقول لسة.. الورق كتير، لحد ما سلمته ليهم اخر لحظة، ملحقش يقرأ غير اول سطرين ودخلنا.. رجالتنا اللي جايبينهم بدل العملاء الاصليين اللي بلغناهم برفضه لـ الصفقة من الاساس قالوا اي كلمتين وهو زي الاهبل صدق انه تعاقد مع اهم مستوردين صينيين ومضي علي عقد تنازل عن كل قرش ليك.. وادي الملف وعليه بوسـة
انفتح الباب وطل من حاتم هاتفًا بعصبية وغضب:-
_ياولاد الـ…
نهض رشوان فازعًا بينما ارتسمت السخرية علي ملامح فاروق، هتف حاتم متألمًا:-
_بقي انت يافاروق تعمل كدا؟
هتف فاروق:-
_واكتر من كدا كمان، في سبيـل اني..
واشـار الي الملف متابعًا:-
_اكسب فلوس.. من غير ولا ذرة تعب وكله علي حساب الاغبياء امثالك
حاتم بألم:-
_انا كنت بعتبرك اخويا
فاروق:-
_وانت عارف اني وحيد.. مليش اخوات، ودلوقتي انا هخليني جدع واسبلك اسبوع قبل ما تفضيلي كل حاجة تخصني، انا كنت عايز اعملهالك مفاجاة واطب عليك بعد اسبوع بس يلا ملحقوه
لم يتحمل حاتم واقترب منه ناويًا ضربه، وبالفعل تشابكا الاثنان معًا، حاول رشوان الفك بينهم لكنه لم يستطع، ابتعد حاتم عنه بعد ان لكمه كثيرًا وانتبه علي صوت رنين هاتف الاخر الموجود علي المكتب ولمح اسم بينار وانها المتصلة، صاح وهو يقترب منه ضاربًا اياه مرة اخري:-
_رقم اختي بيعمل عندك اية يا…
قال الاخر ضاحكا بسخرية:-
_اية دا؟ انت متعرفش ان متجوز اختك عرفي ولا اية! ياجدع عيب عليك دي حتي حامل مني وبتتحايلي دلوقتي استر عليها.. امم برأيك استر عليها واكسب فيك جميل وكفاية عليك افلاسـك ولا..
ولم يترك له حاتم فرسة الحديث، بل تناول مكعب نحاس مدون عليه اسم فاروق موجود اعلي المكتب وراح يضربه به علي رأسه بتتابع وهو يصرخ فيه ان يسكت ويهدده بالقتل والاخر يضحك باستفزاز..
لحظات وسقط حاتم ارضًا جراء ضربه علي رأسه، سقط علي الارض فظهر رشوان خلفه يمسك مزهرية، نهض فاروق وربت علي كتفه:-
_جدع يارشوان..
ونظر الي حاتم الذي حاول ان ينهض مرة اخري و:-
_تقدر تمشي، اللي حيصل بيننا دلوقتي انت ملكش دخل فيه
بالفعل غادر رشوان، ولكن قبل ان يخرج نهائيًا من الشركة سمع صوت طلع ناري ووو..
فاق راجي من ذكرياته متنهدًا و:-
_ابوك مات.. او بمعني ادق اتقتل علي ايده، امك مستحملتش الخبر وماتت وراه، جدتك تعبت ومطولتش ولقيتها حصلتهم، اختك كانت تعبانة قلب ومحدش عارف.. مكناش مقدمين ليها الاهتمام الكامل وسط انشغالنا باللي بيحصل، للاسف هي كمان اتوفت، مكنتش عارف اعمل اية! كنت بس عايز اخد حق حاتم وحق عيلتنا اللي ادمرت بسببه، مكنتش اعرف اي تفاصيل غير ان حاتم مات في شركته، وبعد الوفاة بأسبوع عرفت اننا افلسنا، قعدت مدة كبيرة مش عارف مين السبب! واية السبب! الحكومة هي اللي مسكت فلوسنا طيب! لحد ما عرفت انها بقيت لرشوان
هتف نزار بعيون حمراء:-
_انا مش هسيبهم.. مش هرحمهم
هتف راجي وهو يربت علي كتفه:-
_وانا معاك.. بس نازلي ملهاش ذنب
نظر له بمعني ‘ انت من تقول ذلك؟ ‘ اؤما الاخر مرددًا:-
_ايوة ملهاش ذنب، بينار مكنش ليها ذنب واتدمرت علي ايديهم لانها بس اخت طرف من الاطراف، انت هتخلق معاناة بينار تاني في نازلي لمجرد انها بنت طرف منهم!
قال وهو يضع وجهه بين كفيه:-
_مش قادر ابصلها.. مش طايقها
راجـي:-
_ولا هي طايقة نفسها، هي مختارتش تكون بنت مين يانزار، زي ما انت مخترتش تكون ابن مين، ارحمها، مش انت والزمن عليها
نهض وقال قبل ان يغادر:-
_عمتك كانت هتموت وتدخلك لكني رفضت.. قولت اكلمك الاول
اؤما له شاكرًا وبالفعل غادر راجي، لحظات وطرق الباب وطلت منه بينار التي سألت بأستغراب:-
_نـزار.. انت كويس؟ و لية كنت بتزعق في نازلي و..
قاطعها قبل ان تتابع، بجمود وهو يحاول ان يبعد عيناه عنها، فهو يري انه هو من احضر تلك الغير مرغوب بها الي عائلته:-
_نازلي بنت فاروق الزاهر وهو لسة عايش
توسعت عيناها بصدمة وقد اختطفت اول الحديث فقط وتركت باقية:-
_اية! بنته؟
اؤما بنعم فقالت بتشوش:-
_ازاي! ازاي بنته! فاروق لحد ما اتجوزني عرفي مكنش متجوز او مخلف ونازلي مش صغيرة علشان يجيبها بعد طلاقنا.. ازاي بنته؟
كان لا يستطيع ان يفكر بطريقة جيدة الان.. فالصدمة كانت قوية، لذا اكتفا بهز كتفاه علامة الجهل وفقط..
بينما ظل عقلها هي يلف ويدور، كيف لنازلي تكون ابنه فاروق! هل كان متزوج من غيرها ويضحك عليها بينما يفعل معها ذلك؟ ولما لم يقتل تلك الفتاة كما فعل مع ابنتها و.. توقفت عن التفكير وهي توسع عيناها بزهول من الاستنتاج الذي جاء بخاطرها..
والتفتت لـ نزار لتحادثه، لكنه غادر بعد ان علم ان عدي بالاسفل ويريده…
اترك رد