“القصة مستوحاة من أحداث حقيقية”
البشر نوعين، نوع عنده الموهبة ونوع معندوش، هي كده، ببساطة كده، لو كل اللي معندوش موهبة أدرك ده من بدري بدري وريح دماغه مش هيضيع عمره ف حلم كداب، مش هيضيع مجهوده ف مكان غلط، هيوجه طاقته للاتجاه الصح، النشاط والوظيفة المناسبة ليه، يعني مثلًا مش لازم الناس كلها تبقى مطربين، مش عشان الواحد قعد جنب الراديو وسمع كام حفلة ورا بعض لكذه مطرب قديم على جديد وسمع تشجيع الجمهور ليهم وشاف أفيشات الأفلام ولمس هيبتهم وتأثيرهم في الشارع يبقى خلاص لازم هو كمان يبقى مطرب وينول من الحب جانب وأنا كمنتج مشهور في فترة الأربعينات للأسطوانات وأفلام السيما كتير كانوا بيلاحقوني عشان يعرضوا مواهبهم الزايفة عليا وكنت بحاول أتخفى لكن للأسف كنت بفشل كتير، معرفش إزاي كنت بتفضح، ألاقي اللي جي عليا وبيعرفني على نفسه وبيأكدلي إن مفيش زيه، مطرب عصره وأوانه، واللي بقى يستذكى، يفضل يحوم حواليا وبعدين ينطلق في الغُنى ويعمل لي تلوث سمعي على أساس يعني هقوم أسقف وأقول “عظمة على عظمة” تعالى هنا عايز أتبناك، أنت دونًا عن غيرك، ده أنت هتقعد فريد الأطرش ف بيته وهتخلي عبد الوهاب يحس بالتهديد!
وللأسف كلهم كوارث، صداع وإزعاج ووجع دماغ. أنا مكنش عندي وقت لكل ده، وقتي من دهب، ما هو حاجة من الاتنين، يا أستثمر وقتي ف صناعة فيلم يزود ثروتي وتقلي الفني يا أستمتع بالكام ساعة اللي بخطفهم من الزمن عشان أروق وأريح دماغي، والكام ساعة دول عادة بيبقوا ف آخر الليل، سهرات ف أماكن الصهللة، الكازينوهات أو الكباريهات.
“بدر” كان من إياهم، من الجماعة اللي معندهمش ريحة الموهبة وسبحان الله، لسبب ما اتهوس بالمزيكا والطرب من أيام مراهقته، كان مبيسبش العود، بيمشي يعزف بيه ويغني طول الوقت، كان معتقد، لأ معتقد إيه، ده كان عنده يقين إنه هينجح ويكسر الدنيا ويبقى مطرب مشهور، تتعمل له حفلات زي حفلات “أم كلثوم” كده، والناس تتسابق على شباك التذاكر والقاعة تتملي ف مفيش وكمان يبقى نجم سيما، يعزف ويغني ويمثل والبطلة قدامه تبقى هيمانة فيه والبنات اللي بتتفرج على أفلامه يتمنوا يكونوا مكان البطلة، كل ده على مفيش، حرفيًا مفيش، لا صوت ولا موهبة ولا حضور، منين وإزاي اتبنى الحلم ده؟ هو الهوس الجماعي، الهوس بحاجة معينة، بنوع من الفن، يخلي الكل يفتكر إنه يقدر يبقى فنان، مش من الجمهور، لأ، يعتقد إن مكانه عالمسرح..
“بدر” عدى على كل بارات وقهاوي وكازينوهات القاهرة، كان من غير استئذان بيرفع العود ويبدأ يعزف ويغني النشاز بتاعه، الناس كانت بتتعصب، صوته كان مستفز جدًا، كإنه مخلوق مزعج غرضه يدمر طبلة الودن، ومهما اعترضوا، زعقوا أو حتى شتموا ورفعوا الكراسي ورموها عليه مكنش بيبطل، يمكن يقع أو إيده تفلت من على العود والعود يقع منه، يرفعه تاني عادي جدًا ويكمل..
وأكيد، أكيد مكنتش صدفة لما دخل كباريه من أشهر كباريهات القاهرة واللي كنت بتردد عليه كتير. هو عمل كإنه مخدش باله مني، قال يعني ميعرفش إني سهران ليلتها فيه. أنا بقى كنت قاعد على طرابيزة قريبة أوي من المسرح، طرابيزة مكنش متسلط عليها الضوء، يعني كل اللي قاعدين على الطرابيزات التانية مكنوش يقدروا يشوفوا وشي. ودي الطريقة اللي كنت بتخفى بيها، دايمًا كنت بنقي الطرابيزة دي، عشان تاثير الأنوار عليها قليل، بحكم موقعها وزاوية الضوء.
وفجأة بعد ما فقرة استعراض خلصت والمؤديين حيوا الجمهور والستارة اتقفلت، سمعنا صوت من ورا الستارة، صوت مزعج، بشع.
لأ هم كانوا صوتين، صوت عود ونبرة بني آدم معرفش صنفه إيه، حد بيغني مع العود، حقيقي متعرفش تميز أنهي أبشع من التاني، العزف ولا الغُنا.
ولقينا اللي خرج من بين الستاير وقعد على حرف ساحة العرض، وفضل مكمل في المهزلة دي. أنا اللي جه ف بالي إن دي فقرة كده كوميدية، مونولوج مضحك وإن ده بهلوان، مشخصاتي عايز يضحك الناس، يعمل فاصل كده ما بين الفقرات. وده اللي نجح فيه فعلًا، القاعة كلها اتحولت لهستيرية ضحك، الناس بقت تقع من كراسيها وتتمرمغ على الأرض وتخبط برجليها وتسقف، بس العرض طول أوي، طول زيادة عن اللزوم. ما داهية؟ لا يكون أخينا واخد الموضوع جد ويكون فاكر نفسه مغنواتي؟! لا صحيح، ده باينه كده، الشخص الهُزأ ده كان مندمج، متأثر، مصدق نفسه، بيغني ألحان وأغاني خاصة بيه وأغاني تانية لمطربين مشاهير، ده بيغني للست ليلى مراد!
وبس…
الضحك اتحول لزعيق، شتايم، السكران فاق، واللي كان بيسقف بقى يرمي الكاس اللي ف إيده عليه وفجأة بقى في موجة غضب، الناس بدأت ترميه بأي حاجة إيديهم تيجي عليها. واللي بيشتغلوا في المسرح بقوا يحاولوا يجروه جر، وهو كإنه متمسمر ف مكانه، مش راضي يتتعتع، إيده مش بتفلت من على العود.
والغضب بقى يتصاعد ويتصاعد، اتحول لعنف، ساحة معركة، رعب، الراجل اللي إسمه “بدر” خرج طاقة الغضب اللي في الناس، خلاهم ينفسوا عن ضغوطاتهم والعقد اللي عندهم، كإنه عروسة من غير روح وكانوا على إستعداد يمارسوا عليها كل أنواع العنف والتعذيب لو بس أخدوا فرصتهم، ودي مش مبالغة، البوادر كانت واضحة، لإن في عدد منهم قاموا من أماكنهم وقربوا عليه، في اللي كسر الأزازيز وشالها ف اتجاهه، واللي كور إيديه وكان هيضربه على وشه واللي خرج أسلحة حتى، مسدس هنا، على فتاحة أزازيز هناك، وحاجات تانية.
اللي وقف الهرجلة صوت واحد، صوتي أنا..
-جرا إيه يا واد أنت؟ الأرصفة خلصت فجي ترمي بلاك علينا؟
خرجت من الضلمة للنور وحدة وحدة، أنظار الناس اتوجهت ليا وفي اللي منهم بدأ يتعرف عليا.
-مفضلش غيرك يا رمامة الحواري تحشر نفسك وسط أسيادك، جي تقل بمزاجنا وتطير الكاسين وتنكد على البشاوات والهوانم؟
هو ده، كلامي هو اللي وقفه، مش الشتايم والإهانات والأسلحة اللي اترفعت عليه والخطر على سلامته وحياته، كلامي اللي كان عامل زي السكاكين هو اللي هبطه وكسَر مأاديفه وخلاه يبطل عزف. وهو ده بالظبط اللي كنت عايزه. أنا مدرك وعندي خبرة ف المجال ده، إزاي تكسر نفس حد وتخليه يفوق من نومه ويموت حلم، عدى عليا كتير قبله، وكنت بكام كلمة بس بفوقهم وأخليهم يرجعوا لأرض الواقع عشان أحولهم للمسار الصح، الطريق اللي المفروض يمشوا فيه. لكن بصراحة برضه كان ليا غرض تاني، أنا وقفت جريمة، الواد كان هيموت لو كان كمل النشار بتاعه. أنا بكسرة نفسه دي أنقذته، إحنا كنا ف بؤرة جحيم، ف مكان الشياطين مش بترمح فيه، عشان مفيش حاجة لوجودهم أصلًا، خمور وسكر وعربدة ورقص ومغنى، ليه الشياطين تشغل بالها وتضيع وقتها هناك؟ الشياطين اللي ف الكباريه كانوا شياطين إنس وبس، المزاج سيدهم والخمرة مسيطرة عليهم وأي حاجة تهدد المزاج الحقير ده مستعدين يمسحوها من على وش الدنيا، حتى لو كان بني آدم من لحم ودم.
“بدر” قام من نفسه، كان ماسك عوده بالعافية، رجله مش شايلاه، مش ماشي ف خطوط مستقيمة كإنه شرب كام إزازة مع إنه مشربش ولا كاس، كلامي كان ليه تأثير الخمرة وأكتر.
عينه اتكسرت، مرفعش راسه، الناس بقت توسعله، اتقسموا صفين، صف يمين وصف شمال، بيتحركوا ف مكانهم وهم بيتابعوه لحد ما خرج..
يفوت شهر واتنين ويجروا ف رجليهم أربعة تانيين، 6 شهور كاملة من الليلة العجيبة دي بتاعة شجيع السيما وفقرته اللولبية.
وأقرر أروح للمكان المفضل بالنسبة لي، الكباريه إياه. أدخل من بدري، قبل ما الليل يغوط والناس تيجي والعروض تبتدي، أتوجه على طرابيزتي المضلمة اللي قريبة من ساحة العرض، أخرج علبة السيجار وأرميها قدامي وأنده الجارسون وأقول له على طلباتي اللي هيقدمها بعد كده بييجي ساعة ونص وده عشان مش عايز أعمل حركة ولا أطلع صوت لما يبقى في زباين، عايز أستخبى، مش عاوز وجع دماغ.
وييجي المخرج صاحبي وينضم ليا عالطرابيزة، ويبدأوا الناس ييجوا أفواج ورا أفواج، والليل يزحف ولمض الكباريه تنور أكتر وأكتر..
كانت الليلة ماشية زيها زي الليالي أختها، برغم إنهم بيحاولوا ينوعوا ف الاستعراضات والأغاني والمونولوجات، لكن نفسه، هو هو الجو، بس ده اتغير، الليلة مبقتش معتادة أبدًا..
وده لإن في واحد دخل من الباب بثقة، ماسك ف إيده عود. مشي ف خط مستقيم كإنه رايح لهدف معين، وصل لساحة العروض ودخل وسط العرض ووقف..
ده كان “بدر”! تاني، بكل بجاحة ظهر تاني. أنا كنت نسيته تمامًا، نسيته من الليلة الأولانية ، من أول ما خطى بره الكباريه، مكنتش فاهم، الواد ده مستبيع ولا إيه، مش خايف على حياته؟ الناس المرة دي كان ممكن تفعصه، داخل مولود وخارج ف كفنه!
العرض وقف، كل المؤدين اتثبتوا ف مكانهم والأنظار اتجهت ناحيته..
-يا “منصور”!
ندهني وهو بيبص ف اتجاهي، إيه الجرأة والوقاحة دي! هي وصلت للدرجة دي؟! بيوجهلي أنا بالذات الكلام، وبيعلي صوته كمان عليا؟
-اديني فرصة كمان، فرصة واحدة بس، مش طالب أكتر من كده.
فرصة إيه دي اللي كان عايزني أديهاله، ده لو فرص الدنيا اتجمعت كلها برضه كان هيفشل، مستواه حقيقي كان بشع، ملوش علاقة بالطرب والفن. ده اللي فكرت فيه وقتها ومع ذلك..
قمت، مشيت لحد ما خرجت من الضلمة، هزيت راسي، بديله إشارة إنه يبدأ، يوريني هيعمل إيه.
وبدأ العزف..
من أول مقطوعة بوقي اتفتح على آخره، أنا والجمهور كله، العزف ده محدش فينا سمع زيه قبل كده، كإنه من مكان تاني غير الأرض.
ولما ابتدى يغني، الموضوع أخد شكل تاني خالص، صوت رهيب، أداء رهيب، كلمات، أحاسيس، قوة نبرة، مسمعتش اغنية زي كده ف حياتي، إبداع ملوش مثيل!
بعد ما العرض خلص، الناس كلها بلا استثناء قامت وفضلت تسقف كتير، متهيألي إيديهم ورمت من التسقيف. أما أنا فوضعي كان مختلف، المفروض كنت أسقف زيهم وأرفع برنيطتي وأنحني إحترامًا وتقديرًا ليه، مش كده؟ لأ مش كده، أنا مكنتش مبهور على قد ما كنت خايف ومستغرب. البني آدم ده مش ممكن يكون نفسه اللي عزف وغنى من شهور قليلة، ولو هنقول إنه سرق اللحن من حد تاني، فإزاي قدر يعزفه وقدر يغني بالطريقة دي، ده مش نفس الشخص..
الحجة اللي “مهدي” قالها، اللي هو المخرج صاحبي، هو إنه أكيد طحن نفسه تدريب في الكام شهر دول وأصر إنه ينول إعجابي عشان أنتجله أغاني وأفلام. لكن لأ، دي مش نتيجة تدريب، لا شهر ولا اتنين ولا سنين، التدريب ممكن ينمي موهبة لكن ميوجدهاش! خصوصًا في مجال الغنا والموسيقي، يجوز واحد مش بيعرف يمثل يكثف تدريب ويمارس التمثيل لحد ما ينجح لكن إزاي حد معندوش طبقات صوت مناسبة ولا نفس طويل ولا قدرة على التلحين والعزف مع التدريب يبقى مغني ومؤدي؟ تيجي إزاي دي؟ ده حتى هيئته ومشيته ونبرة صوته لما اتكلم قبل العرض، كلها مكنتش بتاعته، مش بتاعة نفس الإنسان اللي كان هناك من مدة.
واللي خلاني أخاف أكتر هي بصته بعد ما خلص الأغنية، لما مشي وسط الجمهور وهو بيسقف ، عينه وهي بتبص عليا كان فيها شعاع بسيط أخضر، متأكد إن المصدر كانت عينه نفسها، مش إنعكاس الأنوار عليها، مفيش نور أصلًا في القاعة كلها باللون ده..
لكن وبرغم إحساسي، برغم عدم إرتياحي ليه كنت مضطر أتعامل معاه، مهو لو مش أنا كان هيبقى منتجين تانيين وكنت هموت فنيًا، لإن خلاص “بدر” كان واضح إنه هيكسح السوق كله، هيقعد على عرش نجوم السينما والطرب.
وكل مدى كنت بخاف أكتر، كل لما بقعد معاه، بحس بطاقة سلبية مظلمة، حاجة مش شايفها ولا لامسها، لكن زي ما يكون أنا وهو مش لوحدنا، في حد أو حاجة مش مرئية معانا.
وأوقات كتير لما كنت بدخل عليه أوضته في الاستوديو، كنت بشوفه بيتكلم مع حاجة قدامه، بيتجادل أو بيضحك أو بياخد رأيها ف حاجة، المشكلة إن مكنش في حد، كإنه بيكلم الهوا، وكان بيسكت لما بياخد باله إني دخلت عليه. مش هو ده اللي خوفني على قد ما خفت من المرة اللي سمعت فيها حركة فعلًا، خطوات في أوضته ف نفس الاتجاه اللي كان بيبص ليه ، لكن برضه مشفتش حاجة.
ف ليلة من الليالي اللي سهرنا فيها مع بعض لقيتني بسأله بشكل صريح عن السر ورا التحول بتاعه، إزاي من واحد معندوش أي موهبة، ملوش في الغنا ولا العزف لواحد موهوب بالشكل الرهيب ده، ده غير كل حاجة فيه، مشيته وبصته ووقفته ونبرة صوته..
رفع الكاس اللي ف إيده وقرب مني، ضيق عينه وبص بصة لئيمة وقال:
-مفترق طرق!
=نعم؟
-فاكر يوم ما استهزأتوا بيا، أنت بالذات كسرت معنوياتي ومرمطت كرامتي في الأرض؟
=ودي ليلة تتنسي؟ واللي عملته ده كان عشان أنقذك، كام دقيقة كانت بتفصل ما بينك وبين الموت، كذه حد كان حالف يقتلك بعد ما عكننت مزاجهم بالنشاز بتاعك.
ضحك ضحكة خفيفة، بيستهزأ بكلامي وبعدي قال:
-المهم إني كنت حاسس إني بموت، وصلت للقاع ، ومش هقدر أقوم تاني، أنا مكنتش شايف ف مستقبلي غير الغنا والمزيكا، ومن غيرهم مليش مستقبل، مفيش حياة، كنت حاسس إني انتهيت. مشيت في الشوارع بجرجر ف رجلي، الأنوار كانت خفيفة أوي، يدوبك كل فترة ألاقي عمود بنور ضعيف، اللي نور الشوارع مرة واحدة للحظة هو البرق اللي في السما، بصيت للسما الضلمة بعدها ولاقيت البرق ظهر مرة تانية ومرة تالتة ومع المرة الرابعة لاقيته قدامه ف مفترق الطرق.
=مين؟
-راجل طويل لابس بالطو وبرنيطة مخبية أغلب وشه. الراجل فضل واقف مكانه، حاطط إيده ف جيبه، باصص ف اتجاهي. عدى الشارع، مشي لحد عندي. اتكلم بصوت مبحوح. قال لي وهو بيبص عالعود:
-إيه اللي معاك ده؟
ضحكت ضحكة مكتومة وقلت:
-مش باين ولا إيه؟ ده العود بتاعي.
-بيعزف كويس؟
-المشكلة مطلعتش في العود، المشكلة فيا أنا، أنا اللي فاشل، حياتي ملهاش قيمة.
وبس يا سيدي، ربعت وقعدت عالرصيف والراجل لسه واقف بيتابعني بنظراته. فجأة لاقيته شد العود ورفعه، لعب فيه بصوابعه وبعدين لفه ما بين إيديه ومدلي إيده بيه. مكنتش فاهم حاجة، مديت إيدي بتلقائية عشان أخده قام سحبه.
حواجبي اتعقدت، استغربته. قال لي:
-أنت متأكد إن ده أهم حاجة عندك، فعلًا ملكش مستقبل من غير العود؟
-أيوه طبعًا.
-يعني مستعد تبيع كل حاجة قصاده؟
-وأنا عندي إيه عشان أبيعه؟
-لأ، عندك حاجة تهمني أوي، روحك.
-روحي؟!
حرك راسه بيأكد عاللي قاله.
ضحكت، اللي جه ف بالي إن الراجل ده عبيط أو شارب أو شاف الكآبة اللي عليا فحب يهزر شوية عشان يخرجني من الحالة اللي كنت فيها. رديت بسخرية:
-روحي، روحي، كده كده الطرب كان روحي ومن غيره الحياة ملهاش قيمة.
مد إيده وسلم عليا وهو بيقول “اتفقنا” واداني العود ولف ومشي. عيني نزلت لتحت، شفت رجله، مكنتش رجل بني آدمين، كانت رجلين معيز!
وقتها بس أدركت إن كلامه كان حقيقي وإني وقعت على عقد حالًا، عقد بيع روحي للشيطان.
…………………….
كنت عارف! من قبل ما “بدر” يقول لي كنت عارف إن في حاجة مش طبيعية، حاجة شيطانية، من ساعة ما دخل الكباريه وعزف للمرة التانية بالأداء الرهيب اللي ملوش علاقة بأداءه أو بيه المرة الأولانية، عرفت إنه اتبدل، والعزف نفسه، على قد ما كان حلو، يطير العقل، على قد ما كان مش مريح بالنسبة لي، كإن الشيطان نفسه بيعزف بحرفنة.
كنت متأكد إنه مش كلام سُكر، مكنش بيهذي.
قمت من القعدة وأنا مرعوب، فجأة مبقتش عايز أكمل، مش قصدي عالقعدة والكلام، مبقتش عايز أكمل في الحياة دي كلها، الأضواء والشهرة والعربدة والسُكر والفجور، حسيت إني كان ممكن جدًا أكون مكانه إن مكنتش فعلًا مكانه، سلمت نفسي للشيطان وبعدت عن ربنا، بعت نفسي عشان شوية ملاليم واهتمام من الناس، وكل ده ف الآخر هيسوى إيه؟ هعمل بيه إيه لما أقف قصاده وأتحاسب؟
خرجت من البار وأنا فايق، برغم إني شربت كتير.. كنت راكن العربية بعيد شوية، الشوارع كانت فاضية. وأنا ف طريقي للعربية شفت راجل ظهر من العدم، معرفش جه منين، كان طويل جدًا، لابس قميص وبنطلون واضح إنهم غاليين وبرنيطة وف بوقه سيجار. وطيت راسي وبصيت للأرض وفضلت ماشي في المسار بتاعي، معرفش ليه خفت منه، خفت أوي، افتكرت كلام “بدر” عن الراجل إياه اللي عمل معاه العقد.
الغريبة إن الراجل فضل ماشي جنبي، وكان عمال يقرب ويقرب، كإنه مستهدفني أنا. سرعت ف خطواتي لحد ما وصلت للعربية، فتحت الباب، لكن هو مد دراعه وقفله!
قال لي:
-إيه يا فنان؟ هتفضل لحد إمتى راضي بالقليل؟
=قليل؟
-اه، أنت صحيح أشهر وأغنى منتج ف مصر، بس ممكن تكبر كمان عن كده، توصل للعالمية، تنتج أفلام هوليوود، إيه رأيك؟
=وإيه التمن؟
-بسيطة، أنت وروحك ملك لينا، إحنا مش هنبخل عليك بحاجة، هنخلي الأضواء دايمًا متسلطة عليك، لحد آخر يوم ف عمرك هتعيش ف جنة، فلوس ملهاش آخر، ستات، نفوذ، شهرة.
=أنتوا مين؟ ليه جمعت وقلت “لينا”؟
-الله، بتسأل ليه في اللي ميخصكش؟ المهم العرض.
=الله الغني!
-نعم؟! بترفض؟؟
=ايوه برفض، مش عايز عرضك.
-بس أنت كده مش بس بتتخلى عن فرصة مش هتتكرر أنت بتمسح مجدك كله بأستيكة، إحنا هنوقعك، هنخلي منتجين تانيين ييجوا مكانك وهتشحت، وكل مجهودك هيروح، محدش هيعرف إسمك تاني.
=وأنا عامل حسابي على كده.
كنت شايف بجنب عيني وشه والذهول اللي عليه، مكنش مصدق إني رفضت، واضح كده إن مفيش حد بيتقدمله نفس العرض وبيرفضه.
وف لحظة مبقاش موجود! اختفى من غير أي أثر، مبقتش شايفه بجنب عيني ، ولما اتلفت ملقتوش فعلًا. ده مكنش إنسان، ده كيان شيطاني، نفس الكيان اللي عرض الصفقة على “بدر” وقبلها.
أما “بدر” فنهايته مكنتش سعيدة أبدًا، البواب بتاع فيلته لاقاه ف يوم من الأيام مخرجش تمامًا طول اليوم، ودي حاجة مش معتادة، حب يتطمن عليه لكن “بدر” مردش عالباب وده خلى البواب ف الآخر يضطر يكسره ويدخل، عشان يلاقي “بدر” مقتول، بوقه مشقوق وجفونه متشاله ومطعون ف كل مكان ف جسمه تقريبًا، مع إن المفروض محدش لا دخل ولا خرج و”بدر” مصرخش، محاولش يستنجد، غريبة مش كده؟