قصص

قصة الصيدلية المهجورة

قصة الصيدلية المهجورة معظمنا ده اذا ماكنش كلنا بنتفق على ان تغيير السكن حاجة مقرفة، شيل وحط، عفش بيتفك ويتركب، موال وحكاية بنهايتها بيحصل نوع من الفصلان الجسماني، وده بأختصار ملخص ذكرى ماتتنسيش حصلت معايا من 10 سنين تقريبا، مانساش ابدا يوم ما دخل عليا بابا وكانت ملامحه مش بطبيعتها، يعني لا بيهزر معايا ولا بيضحك زي ما متعود منه وقت ما بيدخل اوضتي، وقف قصادي وانا بذاكر وقالي:
ـ انا عارف يا حبيبي ان الفراق صعب، بس ده امر ولابد منه.
جملته كانت مفسرة نفسها، وده لان عندي علم بالمقصود منها، وللسبب ده سيبت القلم من ايدي وبدون ما التفت ناحيته قولتله بضيق:
ـ يعني خلاص يا بابا نويت؟
رد وهو بيبادلني مشاعري:
ـ ايوه يا “مؤمن” جهز نفسك على بعد بكرة بمشيئة الرحمن.
خلص جملته وماستناش مني تعقيب على كلامه، هو حافظ في اللحظة دي اللي بيدور في عقلي وكمان قلبي، قلبي الموجوع من فراق منطقتي اللي اتولدت واتربيت فيها، ما هو مافيش فينا اللي يقدر ينكر ان فراق حيطان وبيوت عيشنا وسطهم، ما يقلش ابدا عن فراق اشخاص من لحم ودم.. ما بالكم بقى بفراق الاتنين.. ناس وبيوت، الموضوع مش سهل، لكن دوام الحال من المحال، وحال البيت اللي ساكنينه مايصلحش للسكن، وللسبب ده اضطر بابا انه يفارق، خدر مشاعره بجملة ” اخسر ارض عيشت فيها كام سنة، ارحم من موت وخسارة زرعة عمرك كله”.. وطبعا يقصدني انا واخويا الاصغر مني.. “هادي”.
وفعلا، نفذت كلام بابا وجهزت حاجتي، وفي خلال يومين كنا بنوضب في الشقة الجديدة، الشقة كانت في منطقة كويسة وهادية، ودي مواصفات مريحة مبدأيا لواحد زيي، عاوز تركيز بسبب دراسته في طب بيطري، اما الشقة نفسها، ف ارتحتلها من وقت ما دخلتها، وبالمناسبة، وقت العزال كنت اول مرة ادخلها واجي المنطقة كلها، وده بسبب استعجال بابا في النقل بعد ما اتبعتله انذار بأخلاء السكن، ف الحكاية كلها تمت في خلال ايام.. يعني اتفرج ودفع تمنها وجينا.. ووقت ما كان العمال والصنايعية بيركبوا الاوض ويظبطوها، استأذنت من بابا اروح اوضب حاجتي في اوضتي، كانت اول اوضة خلصوها العمال، بس لما دخلت الاوضة لاحظت حاجة غريبة ما انتبهتش ليها قبل كده، او يمكن مع انشغالي ما ركزتش، فبدأت اركز اكتر في الحاجة دي وابص في كل ركن في الاوضة، في اللحظة دي كان “هادي” واقف قصاد دولابه وبيرتب هدومه ومش معايا خالص، وبسبب سرحانه اتكلمت وقولتله:
ـ هادي، ياض يا هادي.
برضه ماردش.. لكني لمحت على ودنه السماعات و بيهز في راسه، فعرفت انه مشغل اغاني طرش من اللي بيسمعها ومش سامع صوتي وانا بنده عليه، قربت منه بضيق وضربته على كتفه، لف بجسمه ناحيتي وهو بيشيل السماعة من على ودنه وقالي:
ـ في ايه يا “مؤمن”؟.. مش تبطل هزارك الرخم ده، قطعت اندماجي.
ـ هزار ايه وبتاع ايه؟!.. انا واقف جنبك من شوية وعمال انده عليك، وانت ولا انت هنا.. وكله بسبب السماعات اللي سادد بيها ودانك دي.
لسه هيفتح في الكلام لحقته بلهفة وفضول:
ـ قبل ما ترغي، مش ملاحظ حاجة غريبة في الاوضة؟!
رد وهو مستغرب من كلامي:
ـ حاجة ايه؟!
ـ بطل غباء وركز، من لحظة ما دخلت الاوضة وانا شميت ريحة غريبة، ماشمتهاش في الكام ساعة اللي فاتوا، ركز كده وقولي.. شامم ريحة اي حاجة مش تمام؟
لف “هادي” للحظات في اركان الاوضة وهو بيدور على الريحة اللي بقول عليها، وبعد ثواني قالي:
ـ مش شامم حاجة يا مؤمن.
سكت لحظة وهو بيقرب من شباك صغير، الشباك ده كان بيبص على الشارع من ورا، اةل ما بقى عنده قالي باشمئزاز:
ـ تصدق عندك حق، في ريحة فعلا مش مريحة شمتها لما قربت من الشباك.
رديت عليه بأستنتاج خطر في بالي:
ـ الشباك ده كان متغطي بالدولاب من وقت ما جينا الشقة، عشان كده ماكنش في حاجة.
ـ تقصد ان ممكن الريحة جايه منه؟
ـ مش ممكن.. ده اكيد.
قربت منه وقولتله:
ـ وسع كده شويه.
بعدته عن الشباك وفتحته، وبمجرد ما فتحته هبت ريحة بشعة، كأنها خارجه من قبر، حط “هادي” ايده على مناخيره وهو مشمئز من شدة الريحة، اما انا، ف بصيت على مصدرها اللي كان جاي من سكن او بيت او اوضة من دور واحد، كان واضح انه مهجور عشان قصاده ضلمة واللي كاشفه لمبة عامود الشارع، واللي يأكد شكوكي اكتر انه اتحول لمقلب زبالة بالمعنى الحرفي، سطح المكان ده ايا كان يبقى ايه، عبارة عن مقلب زبالة لسكان العمارات اللي حواليه، ولو حد جواه او ساكنه، مستحيل يسيبه للناس يدمروه بالمنظر المقزز ده، ووقت ما كنت مركز في القرف اللي ورا العمارة اللي ساكنين فيها، قرب مني اخويا:
ـ وانا اقول الشقة سعرها مهاود كده ليه!!.. اتاري ورانا مقلب زبالة، ما هو مين هيرضى يسكن جنب القرف ده غير حد واقع.
دخل على نهاية جملة “هادي” بابا اللي تقريبا سمع كلامه، وساعتها رد عليه:
ـ لسانك متبري منك من صغرك، بس انا مش واقع ولا حاجة يا استاذ “هادي”، شرا الشقة جه بسرعة زي ما انتوا عارفين، ووقت ما كنت باجي في النهار ماكنتش بنتبه للبيت اللي انتوا شايفينه، وع العموم نرتاح بس ونظبط امورنا وهكلم حد اعرفه بيشتغل في البلدية، واخليهم ييجوا يشيلوا القرف ده.
رديت على بابا وانا بقفل الشباك:
ـ طيب وليه اصحابه سايبينه بالمنظر ده؟
رد عليا وهو بيهز راسه:
ـ اللي عرفته يا ابني انه مالوش صاحب، وسمعت برضه ان اصحابه سايبينه من سنين وماحدش بييجي عنده، ايه السبب.. العلم عنده.. بس انتوا حاولوا تكيفوا اموركم اليومين دول لحد ما الاقي حل، او اقولكم.. الباب اللي ييجي منه ريح سد واستريح، ما تفتحهوش خالص، واهو عندكم البلكونه على ناصية شارعنا.
خلص كلامه وهو بيقولنا نيجي وراه عشان نتعشى، خرج وراه اخويا بعد ما قولتله هجيب “عتريس” واحصله، وعتريس ده يبقى القط اللي انا مربيه.. فضلت انده عليه بس ماكنتش لاقيه، كنت سامع صوته بس مش عارف مكانه، وفجأة لقيته خرج من تحت السرير ونط على ترابيزة مركونة جنب الشباك، وقف عليها وحط وشه في الشباك وفضل يزوم بشكل غريب، الصوت اللي كان بيعمله انا حافظة كويس، معناه ان في حاجة مضيقاه وموتراه وعاوز ينبهني ليها، قربت منه وحطيت كف ايدي على ضهره وقولتله:
ـ مالك يا عتريس.. في ايه؟
فضل مستمر في الصوت اللي بيعمله، ومش كده وبس.. ده رفع رجله ناحية الشباك وبدأ يخربش بضوافره عليه زي اللي بيحاول يفتحه، اللي جه في بالي وقتها انه هو كمان بيعبر عن احساسه واشمئزازه من الريحة، بالحركات اللي بيعملها والصوت الغريب اللي خارج منه، فضحكت وانا بحاول اهديه بلمسة ايدي على ضهره:
ـ والله انت قط بتفهم، فعلا تربية ايدي، بس معلش يا عتريس، هنستحمل الريحة دي لحد ما الحج يتصرف ويعملها قرار ازالة.
بس بعدها، زهقت من قلة حركته واصراره على اللي بيعمله، فمديت ايدي وشيلته عشان اخرج بره والا هسمع كلمتين من بابا، شيلته بالعافية وهو بيهبش بضوافره على التيشرت اللي انا لابسه، ودي حاجة استغربت لها جدا، عتريس بطبعه هادي والحركات دي مش بيعملها، وبحكم دراستي في الطب البيطري، خوفت لايكون صابه ميكروب او تعبان، بس الغريب بقى.. ان بمجرد ما خرجنا من الاوضة، اتبدل، رجع القط بتاعي اللي متعود عليه وحط راسه على دراعي وبطل صوت خالص.
فضلت للحظات ابص له بتركيز وجوايا شوية قلق عليه، وده لاحظه بابا لما سألني:
ـ مالك يا “مؤمن”.. واقف مكانك كده ليه؟
رفعت وشي ناحيته:
ـ ها، انا جاي اهو يا بابا، بس شكل عتريس جعان.
ردت عليا ماما وهي خارجة من المطبخ:
ـ انا جهزت له الاكل بتاعه في الطبق جوه، دخله المطبخ ياكل وتعالى عشان تتعشى معانا وتدخلوا ترتاحوا.
هزيت راسي وانا بحاول اقنع نفسي بالكلام اللي قولته، واللي انا اصلا مش مقتنع بيه، بعدها روحت المطبخ وحطيت عتريس قصاد طبقه، بس ماكنش جعان ولا حاجة، هو بس قعد على ارضية المطبخ وحط راسه في وضعية النوم، سيبته وقومت عشان الحقهم على الاكل، وبعد ما اخلص ابقى ارجع اخده واشوف حكايته، قعدت مع اهلي على ترابيزة الاكل وبدأنا ناكل، اتكلمنا في اكتر من حاجة وكان من ضمنهم حوار البيت اللي ورانا، ولما خلصنا، استأذنت عشان ارجع اوضتي ارتاح شوية، وقبل ما ادخل الاوضة روحت جيبت القط من المطبخ، كان لسه زي ما سيبته، قعدت جنبه وانا متضايق من حاله اللي اتغير، بس قولت استنى يوم كمان، ولو فضل كده لازم اتصرف.
شيلته من على الارض وروحت بيه الاوضة، وبمجرد ما فتحت الباب قعد يزوم بصوت عالي، وفجأة نط من على ايدي ودخل تحت السرير، والتصرف ده ما بيعملوش غير لما يكون خايف من حاجة، ماكنتش فاهم سبب تصرفه الغريب او خوفه من حاجة انا مش عارفها.. ومن التعب اللي كنت فيه، رميت جسمي على السرير ونمت، اتسحبت في النوم لحد ما فتحت عيني على ضلمة، انا قبل ما انام كنت سايب نور الاوضة، بس لما سمعت حركة جسم “هادي” على سريره، خمنت انه هو اللي طفاه.
وقبل ما استوعب الضلمة اللي مغطية عيني، سمعت صوت جاي من الشارع، مديت ايدي ناحية اباجورة صغيرة جنبي عشان اقدر اشوف الساعة في المنبه، وقتها اتفاجئت ان النوم سحبني والساعة قربت على 2 بعد نص الليل، اتعدلت في السرير وبدأت الاصوات تتلخبط على بعضها، ما بين صوت عتريس اللي كان لسه مستخبي تحت سريري، وخربشة ضوافره في الارض، وبين الصوت اللي في الشارع، الصوت اللي لما ركزت فيه عرفت انه صوت كلب.. واضح من انينه انه مريض او تعبان، ودي حاجة ما تغيبش عن طالب بيدرس بيطري.. وقتها الحس الانساني والحس المهني اشتغلوا مع بعض، انين الكلب اللي بيتوجع خلاني عاوز البس اي حاجة وانزل الشارع ادور عليه، بس قلقي من المكان الجديد والوقت المتأخر، خلوني ادي لعقلي لحظات يفكر، وفي اللحظات دي عقلي قالي دور على مكانه فين بالظبط..
وفعلا، ركزت على صوته لحد ما عرفت انه في الشارع اللي ورانا، الاول اترددت افتح الشباك واشوفه فين بسبب الريحة البشعة، بس ضميري كان عمال ينقح عليا.. روحت ناحية الشباك وفتحته فتحه صغيرة جدا، يادوب مخرج لوشي عشان اكشف المكان، واللي شوفته رعبني وخلاني اتوترت، انا لمحت كلب اسود في رمادي واقف قصاد باب البيت اللي تحت العمارة، بس مش ده المهم.. ده شئ عادي انه يحصل، انما الغريب بقى.. ان الكلب كان واقف قصاد البيت كأنه بيحرسه، وعند رقبته في جرح طولي بينزل منه دم صبغ لون شعره ونزل منه قطرات ع الارض، وقتها فهمت سبب الانين اللي كنت سامعه، وبدون ما افكر كتير، سيبت الشباك متوارب وروحت ناحية التيشرت عشان البسه، ومع خطواتي وصوت عتريس، صحي اخويا وبص ناحيتي وهو بيتاوب:
ـ انت بتعمل ايه يا “مؤمن”؟
بص ناحية المنبه وكمل كلامه:
ـ ايه اللي مصحيك الساعة دي؟
رديت عليه وانا بعدل في التيشرت:
ـ كمل انت نومك، انا نازل تحت البيت وهرجع بسرعة.
بسبب جملتي، اتنفض “هادي” في السرير وقالي بفوقان:
ـ انت اتجننت؟!.. بيت ايه اللي هتنزل تحته دلوقتي؟.. اعقل كده والا هصحي بابا يعقلك.
ـ اسكت بقى.. انا لازم الحقه قبل ما دمه يتصفى.
اتحرك بسرعة من على السرير ونزل رجله على الارض:
ـ يادي المصيبة، دم مين اللي هيتصفى؟
ـ الكلب.
عقد حواجبه بأندهاش وقالي ببساطة:
ـ كلب!!.. كلب ايه في الوقت ده.. روح ياشيخ منك لله؟
نفخت بضيق من طريقة كلامه بالهدوء ده، خاصة ان مابستحملش تعب اي نوع من الحيوانات، وعشان كده قولتله وانا بشاور على الشباك:
ـ تعالى بص بعينك، الكلب تحت البيت متعور في رقبته وبينزف جامد، ولو ماالحقتوش هيموت.
قام من على السرير وراح ناحية الشباك وقرب عند الجزء المتوارب منه، برق عينه بخوف وقبل ما يتكلم قولتله:
ـ ها، شوفت بعينك وصدقتني، سيبني بقى انزل بهدوء كده عشان الحقه قبل ما يموت.
ولسه هتحرك من مكاني عشان اخرج، شدني من دراعي بكل قوته وقالي بصوت واطي:
ـ استنى يا “مؤمن”، الحق.. تعالى شوف.
اللي خطر في بالي في اللحظة دي انه شاف منظر الكلب وقلق، بس ده ماكنش السبب، انا لما قربت منه وبصيت شوفت اللي ماخطرش على بالي.. المنظر اللي كان قصادي وصفه محفور جوه عقلي ولو مر عليه سنين، الكلب كان موجود زي ما كان واقف بالظبط، تقريبا ماتحركش، اما اللي اتغير.. هو وجود وجه جديد في المكان، مش حيوان، لكن انسان، بالتحديد انسانه، كانت واحده ست ضهرها شبه محني ومتغطيه باللون الاسود، اقصد لبسها كله اسود وحتى طرحتها اللي مغطية وشها كانت سودا، قربت من الكلب ومسحت بأيدها على ضهره وخلته سكت خالص، كأن الالم او الوجع اللي فيه راح، بعدها خرجت من كيس كان في ايدها، قماشة صغيرة شكلها غريب، زي اللي مقطوعة من قميص وعليها بقع، واللي خلاني شوفت كل ده بوضوح، المسافة القريبة بينا.. ما هو شقتنا كانت تاني بلكونة في العمارة.
مسكت الست دي القماشة وقربتها من وشها واستنشقت ريحتها، اقصد يعني كانت بتشمها بشكل مبالغ فيه، بعدها قربت من باب البيت اللي كان مايقلش غرابة عن البيت نفسه وفضلت تمسحه بالقماشة، استمرت في اللي بتعمله لمدة 3 دقايق بالتقريب، بعدها قربت اكتر من الباب ولزقت فيه، او لزقت ودانها عليه، كانت بتتصنط على حاجة جوه وبتسمعها.. مش عارف هي بتسمع ايه.. قطع تركيزي صوت نفس هادي اللي كان هيتقطع من الخوف، ومعاه اتكلم برعشة في صوته:
ـ ممم.. مممين دي يا مؤمن؟
رديت بهمس:
ـ ايه السؤال الغبي ده؟.. وانا اعرفها منين.
اتحرك خطوة لورا وهو بيقولي:
ـ انا هروح اصحي بابا.
شديته من ايده بسرعة:
ـ شششششش، ما تسترجل شوية، بلاش تقلقه على حاجة احنا اصلا مش فاهمينها، ما يمكن ست عقلها ضايع منها ولو قربنا منها تأذينا، اصبر بس لما نشوف اخرتها.
قبل ما يرد، وبلمحة سريعة ناحيتها، شوفتها بتبتسم وهي حاطة ودنها ع الباب، وفجأة سمعت اصوات خارجة من جوه البيت، الاصوات كانت عبارة عن حرب دمويه دايرة بين مجموعة كلاب، الله اعلم بالعدد، بس الاكيد انهم اكتر من واحد، كانوا بيقطعوا بعض جوه البيت واصواتهم كانت عالية جدا لدرجة ان استغربت.. وترجمت اندهاشي بجملة قولتها لأخويا اللي كان هيعملها على روحه من الخوف:
ـ مش فاهم والله!.. هم اهل الشارع دول اموات، معقول ماحدش فيهم صحي على اصوات الخناقة اللي دايرة جوه البيت ده؟!
ـ ده اللي همك في بلوة اخر الليل دي!.. بدل ما تسأل الكلاب دول بيعملوا ايه وعايشين ازاي جوه بيت مقفول من كل الجهات، بتقولي اهل الشارع ومش سامعين!
لفيت وشي ناحيته وقولتله:
ـ تصدق عندك حق.
ماردش عليا، بس برق عينه وهو بيبص لبره وقالي:
ـ بص بص.. بص يا مؤمن.
لفيت وشي بسرعة وانا بزنق وشي جنبه عشان اشوف، نفس الست نزلت بركبتها ناحية الكلب وفردت القماشة اللي كانت معاها ولفتها حوالين رقبته اللي كانت مجروحة، وفي لحظات الدم اللي كان على جسمه اختفى، مابقاش في اثر لا لجرح ولا لاي دم عالارض، بصينا لبعض انا وهادي واحنا مش فاهمين حاجة، وعلى مارجعنا بصينا على الست، كان الكلب اختفى ومالوش اثر، وده تزامن مع ظهور وجه جديد خالص، بنت او ست صغيرة في السن جسمها نحيل لدرجة ان فستانها هيقع منها من وسعه، ملامحها هادية وعليها مسحة حزن، قربت من الست وقالتلها بصوت مسموع، وده وضحلي ان الست الكبيرة سمعها مش قوي كفاية والا ماكانتش التانية علت صوتها بالشكل ده:
ـ كفاية كده يا امي، عينك دبلت ونورها قرب ينطفي، عمر اللي راح ما بيرجع ولو بكينا عليه عمرنا كله.
ردت عليها بكسرة:
ـ اسكتي يا “زينب”، انا لحد ما اموت هفضل اعذبهم وهفضل ابكي عليه لحد ما اموت.. شايفاه يابت؟
بصت الست اللي اسمها “زينب” حواليها وقالت بنفس نبرة الحزن:
ـ مش شايفه حاجة يا امي، ويلا نروح يا حبيبتي احسن “علي” يصحى وما يلاقنيش جنبه فيخاف.
هزت الست راسها وقالت بوجع خرج على لسانها بكلام يقطع القلب:
ـ يا نن عيني من جوه يا “علي”.. اسم ع الارض عايش، وصاحبه متمرغ في التراب.
خلصت جملتها اللي خلت ريقي جف، وبعدها حطت دراعها في دراع “زينب” واتسندت عليها، بصت على المكان ومشيت ببطء مع الست اللي كانت معاها.. وبعد ما مشيوا واختفوا في ضلمة اخر الشارع، الريحة اللي ماكنتش موجودة من دقايق، ملت المكان مرة واحدة، ومن قوتها قفل اخويا الشباك بدون حتى ما يديني انذار.. وبعد ما قفله، راح بسرعة ناحية نور الاوضة وشغله وهو بيقولي بتوتر:
ـ ايه اللي احنا شوفناه ده؟.. ومين دي ولا مين دول؟
رديت عليه وانا بشاورله عشان يهدى:
ـ وطي صوتك لا بابا يصحى ونقضيها اسئلة لحد الفجر.
ـ افهم من كلامك انك مش هتحكى لبابا اللي شوفناه؟!
روحت ناحية سريري وقعدت وانا برد عليه:
ـ اكيد لا طبعا.. مش هقوله.
جه ناحيتي بخطوة سريعة وقعد قصادي:
ـ ده كلام واحد مجنون، اللي حصل ده تحت شقتنا، والناس اللي شوفناهم دول شكلهم مريب، وكله كوم واللي عملته الست الكبيرة كوم تاني، ولا الاصوات.. ولا……….
قاطعت كلامه:
ج٢
ـ بس بس، انت هتوصفلي اللي حصل، ما انا كنت معاك وشوفت بعيني، بس برضه مش هقول، وانت كمان مش هتقول، عالأقل لحد ما افهم انا الاول وبعدين بقى ربنا يسهلها.
عقد حواجبه بعدم فهم:
ـ تقصد ايه؟.. انت ناوي تعمل ايه؟.. اوعى……
ميلت بجسمي ناحية الارض وبصيت على “عتريس” اللي كان بدأ يهدى، بعدها مددت جسمي على السرير وقولتله:
ـ ارجع بس كمل نومك، وبكرة ان شاء الله هعرفك كل حاجة، بس اهو.. بنبهك للمرة التانية، اياك تجيب سيرة لبابا او لماما، والا هقولهم ان قفشتك بتدخن سيجارة مع صاحبك.. “معتز”.
وشه جاب الوان وقالي:
ـ خلاص اتخمد، انا مالي ياعم، اعمل اللي تعمله.
وانتهى الحوار بيني وبين اخويا، ومن بعده قرأن الفجر اشتغل وكل حاجة حوالينا سكتت خالص.
…………………………………………………………………………………………………………………..
تاني يوم الصبح وكالمعتاد قومنا على صوت امي وهي بتخبط علينا عشان نصحى نفطر ونروح الجامعة، صحينا اتوضينا وصلينا وبعد كده فطرنا فطار سريع ومنه للشارع، نزلت قبل هادي وانا في دماغي حاجة هعملها، غيرت طريقي، بدل ما امشي من الشارع اللي ساكن فيه، غيرت اتجاهي للشارع اللي ورا بيتي، مشيت في اتجاه محدده كويس اوي.. عند البيت اللي ورانا.
ماخدتش دقايق وكنت واقف قصاده، ومن هنا كانت بداية المفاجأت بالنسبة لي.. مع ضلمة الليل وعدم رؤية الزاوية الامامية للمكان، مانتبهتش لحاجة مهمة.. ان ده مستحيل يكون بيت سكني، اقصد يعني شكل الباب والتصميم العام من بره، مايدلش على ان ده بيت زي ما كنت متوقع، كان مدخله ساقط لتحت ومش متساوي مع سطح الارض، كأنه مكان لدرجتين تلاته زي العتبات كده، بس مكسرين ومردومين بتراب وورق واكياس متقطعة، ومافيش بيت بالمنظر ده حواليه، لت والاهم بقى شكل الباب نفسه، الباب كان واخد عرض المدخل كله، بالع الحيطة الامامية واللي ظاهر منها مش اكتر من كام قالب على بعض، حتى منظره، الباب كان مغطيه التراب بشكل غريب ومافيش عليه اي علامات لايد الست اللي كانت هنا بالليل.
كنت واقف مركز لما فجأة لمحت حفر في اخر الحيطة عمله قالب متحرك من مكانه، الحفر كان كفاية عشان اشوف ايه اللي جوه، قربت منه وانا بشتم في سري الفضول اللي هيوديني في داهية، بصيت من الفتحة لجوه المكان، بس المكان ضلمة بشكل مرعب، ما فيش اي منفذ لضوء يكشفلي ايه المكان ده، فضلت للحظات ادور عيني على امل اشوف، بس بدل ما اشوف، سمعت.. في حاجة وقعت جوه، على ارضية المكان، حاجة حديد صوتها رنان شبه اصوات المعدن، فضلت متابع الصوت لحد ما غطاني خيال حد واقف ورايا، ومعاه سمعت حد اتكلم وقال:
ـ انت واقف بتعمل ايه هنا؟
تهتهت في الكلام وماكنتش لاقي رد، ومع تهتهتي كمل بعصبية:
ـ اول مرة اشوفك في الشارع، واضح من شكلك وهيئتك انك ابن ناس، ف امشي من هنا وماتقربش من المكان ده تاني، ولو لمحتك هنا تاني، ماتلومش غير نفسك.
كلامه ضايقني وتهديده ليا خلاني اتنرفزت، وبسبب نرفزتي اتعصبت وسألته.. “انت مين اصلا؟.. وانت مالك وايه يخصك”.. بس رغم عصبيتي الا انه رد عليا بكل هدوء:
ـ انا صاحب المكان ده.
وقبل ما اعقب او اسأل، سابني ومشي.. الموقف كله على بعضه غريب ومش مفهوم، وده زود شكي ان في حاجة تخص المكان ده ولازم اعرفها، مشيت من قصاده وانا مقرر حاجة هعملها، لكن ده هيحصل بعد ما تحل ضلمة الليل، وفعلا.. عدا اليوم بروتينه العادي لحد ما بعد ما اتعشيت مع اهلي ودخلت اوضتي.. مثلت النوم عشان اخويا ما يتكلمش معايا في حاجة، وفضلت كده لحد ما سمعت نفسه اللي اتسحب في النوم، وبعد نومه اتكرر نفس اللي حصل من “عتريس”، افعاله الغريبة واصواته الاغرب، وفضل كده لحد ما دخل استخبى تحت السرير.
وعلى الساعة 2 بالليل، سمعت تحت البيت صوت الكلب بيأن من الوجع، اتسحبت بهدوء عشان هادي ما يصحاش زي امبارح وقربت من الشباك وفتحته، فتحته عشان اشوف نفس الكلب واقف قصاد الباب وبيأن بصوت اقرب لصوت طفل بيبكي، زي العيل الصغير اللي بيستبدل كلامه بزن من حاجة بتألمه، والمرة دي الست ماجتش.. بس الغريب بقى ان لما شوفت الكلب بيحرك راسه وهو واقف مكانه، زي اللي بيدور على حاجة او مستني حد.. وقتها عقلي قالي نفس توقعاتكم بالظبط، كأنه مستني الست اللي كانت معاه امبارح وعطفت عليه، لكنها ماجتش.
لفيت وشي ورايا، كان “هادي” لسه نايم، فجت في بالي الفكرة اللي قررت انفذها، وهي ان انزل عند البيت.. واربت الشباك بهدوء وخرجت من باب الاوضة لباب الشقة، ومنها للشارع.. لفيت وروحت للشارع اللي ورانا عشان ادخل البيت، ماكنتش عارف ده هيتم ازاي، بس ده اللي جه في بالي وقتها، اما تنفيذه، على حسب التساهيل، بس اللي حصل انها كانت متسهلة بشكل اتعجبت له، في البداية واول حاجة عملتها اني قربت من الكلب عشان اشوف جرحه اللي كان بينزف.. واللي بالمناسبة خلاني اسأل نفسي سؤال، هو ازاي من امبارح وهو كده..
لما قربت منه شميت ريحة بشعة خلتني اشمئزيت وبعدت عنه، بالرغم من انه نادر اعمل كده بسبب حبي للحيوانات، ولما حاولت اقرب منه تاني، في حاجة منعتني، صوت جوايا بيقولي ابعد، فبعدت فعلا.. وبعد ما بعدت، نزلت على الدرجتين اللي في المدخل، قربت من الباب على اساس اعمل محاولة وافتحه، بس ماكنش في محاولات ولا حاجة، لان يادوب مديت ايدي عشان ازقه، ولقيت الباب اتفتح واتزقيت بجسمي جوه المكان.. المكان كان ضلمة، حتى نور الشارع مش كاشفه، نورت كشاف صغير من اللي بيشتغل بالحجارة ورفعته عشان اكشف المكان، وساعتها شوفت تاني او تالت مفاجئة.. المكان كبير، مش صغير، حيطانه عبارة عن ادراج تحت بعضها، دولايب ظاهر جدا انها من المعدن ومحفورة جوه الحيط، جواها علب صغيرة مليانة تراب ومنها اللي واقع ع الارض، مشيت ببطء اتفحص المكان اللي كنت استوعبت ده يبقى ايه، واللي أكد استيعابي يافطة قديمة مركونة في مدخل طرقة بتدخل على اوضة جوه او مخزن، لما قربت منها ومسحتها بأيدي من التراب قريت اخر كلمتين.. “للأدوية والتركيبات”.. ودول مالهمش الا معنى واحد، ان المكان ده صيدلية او مخزن ادوية!!
مشيت لجوه الطرقة اللي دخلتني اوضة صغيرة زي مخزن، بس لما وجهت ضوء الكشاف على الارضية، كان في حاجة غريبة مش فاهم ازاي موجوده في المكان ده.. عند زوايا الاوضة كان خارج من تحت البلاط القديم زرع، نباتات صغيرة مفرعة لحد نص الحيط، قربت من نبته منهم ووجهت ناحيتها الكشاف.. كانت النبتة ميته وبرغم انها دبلانه، الا ان ورقها موجود، ميلت ناحية الورق وانا بحاول افهم ايه نوع النبات ده، انا ماشوفتلوش شبيه قبل كده.. مديت اطراف ايدي عشان اشوف ملسمه، كان خشن وجاف بطريقة ملفته، من شدة جفافه عورني في طرف صباعي، اتوجعت وشديت ايدي بسرعة وحسست على طرف صباعي.. في اللحظة دي صوت الكلاب اللي بتتخانق ظهر تاني، وقبل ما لف جسمي وابص حواليا، سمعت حد بيتكلم من ورايا:
ـ اوعى تقرب منها، ماضمنش العواقب اللي ممكن تحصل، احنا بنتعامل معاها بحرص الام مع ابنها.
قبل ما انتبه وادور على مصدر الصوت، اتقلب المخزن اللي كان ضلمة كحل لضهر، الكهربا اللي كانت معلقة في السقف نورت، بسرعة اتلفت ورايا على مصدر الصوت عشان ارد عليه او حتى اعتذر عن دخولي هنا، لكن قبل ما ارد شوفت راجل اربعيني مهندم جدا في لبسه، بصيت عليه وقولتله بكلام متكسر:
ـ انا انا اسف، انا هخرج حالا اهو.
بس لاحظت ان اتجاه نظراته مش ناحيتي، كان بيبص على مكان تاني خالص، تقريبا نفس المكان اللي واقف عنده بس مش ناحيتي، كنت بحاول استوعب اللي بيحصل، لكني ملحقتش لاني سمعت حد جنبي او ورايا بيقول:
ـ الحكاية كده هتعك يا دكتور، ولو الحوار ده اتعرف كلنا هنروح في داهية.
اللي كان بيتكلم كان مديني ضهره وباصص على النبته اللي قصاده، ووقت ما بيبصلها رد عليه الراجل وقاله:
ـ اتكلم عن نفسك يا “عزت”، انت عارف انا مين، وع العموم اولك واخرك الفلوس اللي بتاخدها، اما الباقي ده، يخصنا احنا وبس، واه صحيح.. الواد اللي جبتهولنا دهول في نفسه واهبل.. وده عز الطلب.
ضحك الراجل اللي كان جنبي وقاله:
ـ يلا.. اهو كله بثوابه يا دكتور.
وضحكوا هم الاتنين بصوت عالي، وقتها سمعت صوت الكلب اللي بره بينبح واختلطت اصواتهم، مابقتش عارف افرق ما بينهم لحد ما سمعت صوت خطوات من بره، وفي نفس اللحظة رجعت الضلمة جوه المكان، رجعت لورا بضهري، ومع رجوعي اتخبط ف حد واقف ورايا، اتفزعت ولفيت بجسمى وانا بشهق، كان في اتنين واقفين والضلمة مش مبينة ملامحهم، بس لما واحد منهم اتكلم عرفته:
ـ بتعمل ايه هنا يا مؤمن في الوقت ده؟
كان بابا، من التوتر ما عرفتش ارد عليه.. واللي زود قلقي الشخص اللي كان واقف جنبه واللي رد على بابا وقاله:
ـ انا حذرت ابنك يا استاذ “ابراهيم” بس ما سمعش كلامي، فبعتذر لو جيتلك بيتك في الوقت ده عشان تيجي تاخده.
وجهت الكشاف لوش اللي كان بيتكلم، كان هو نفسه صاحب المكان الغريب اللي واقفين فيه، بصيت بطرف عيني على الكلب اللي بره بس ماكنش موجود، وقتها اتكلمت وانا بتهته وقولتلهم:
ـ الكلب اللي كان واقف ع الباب راح فين، ما هو يا بابا سبب نزولي هو اني اعالجه.
بصلي بابا بغيظ وقالي بحزم:
ـ اخرج بره المكان ده دلوقتي… حالاا..
خوفت من نبرة صوته ورد فعله وقت غضبه، فقولت لنفسي مافتحش اي جدال وانفذ كلامه، وبعد ما خرجنا من المكان، لف الراجل وقفل الباب.. فهمت من الحوار السريع اللي دار بينه وبين بابا، انهم اتعرفوا على بعض بعد ما بابا جاب عنوانه عشان يشيلوا الزبالة اللي فوق المكان، وعرفني من صورتي اللي كانت في محفظته، وبمجرد ما لمحني داخل المكان وهو راجع بيته، راح خبط على بابا وصحاه من نومه، وكل ده ما اهتمتش بيه ولا بكلامه، بس السؤال اللي كان شاغلني، هو المكان ده ايه.. وعشان كده سألته، ومن بعد سؤالي رد وقالي بكل بساطة:
ـ كانت صيدلية.
ولما سألته عن الست اللي شوفتها، وحكيت بأختصار اللي حصل وهو كان بيسمعني وماكنش واضح على ملامحه اي رد فعل، ماجاوبش، ده بص لبابا وقاله:
ـ في قهوة بتفضل فاتحة لقرب الفجر، استأذنك في نص ساعة تقعدهم معايا، واهو بعدها تلحق صلاة الفجر حاضر.
وافق بابا ومشينا مع الراجل لحد القهوة اللي كانت على ناصية الشارع، ماكنش في عدد كبير، هم كام واحد قاعدين واحنا، وبعد ما قعدنا قالنا:
ـ تشربوا ايه؟
هز بابا راسه وشكره، بعدها اتكلم الراجل وقالنا:
ـ انا مش مجبر ان اقول اللي هقوله، بس عشان انت راجل طيب وواضح انك في حالك، لازم تفهم الحكاية، خصوصا بعد اللي حكاه ابنك.. من كام سنة فاتوا جم اتنين في المحل بتاعي يبان عليهم الوجاهة والقيمة، بعد ما رحبت بيهم وقعدوا.. واحد منهم اتكلم وقالي:
ـ انا دكتور “سامح” وده صاحبي وشريكي دكتور “اشرف”.. احنا صيادلة وعاوزين نأجر منك الكام اوضة اللي بتملكهم، يعني.. عشان نفتحهم صيدلة ومخزن ادوية.
ولأن المكان ده ما ينفعش للسكن، فعشان كده كنت بأجره دكان او بوتيك هدوم، اي حاجة تمشي مع حجمه، وفعلا.. وافقت على طلبهم، خصوصا بعد ما عرضوا عليا مبلغ مش بطال، مش بطال ايه.. ده كان اكتر من ايجاره ييجي مرتين، المهم.. كتبنا عقد الايجار وانا فرحان بقى بالدخل الكبير لعيالي، بعدها بدأوا يوضبوا في المكان وجابوا دولايب وحاجات لزوم ترتيب العلاجات، وده كنت بشوفه بعيني.. ما هو شقتي في وش الصيدلية على طول، وماخدوش يومين تلاتة وكانت الصيدلية اتملت واليافطة اتعلقت، وفي اليوم اللي بعد كده الزباين اللي داخله الصيدلية بقوا اكتر من اللي خارجين، لدرجة ان استغربت، امتى الناس دي تعبت ومرضت، وامتى شموا ريحة علاج الصيدلية؟!
بس في بالي باركت اللي بيحصل، ما هو شغلها الوفير، نفع ليا برضه.. وفضل الحال كده لحد ما في يوم وانا ماشي في الشارع، وقفتني واحدة ست، لما وقفت عشان اشوفها واعرف طلبها، عرفتها، كانت “ام علي”.. ست طيبة وفي حالها وساكنة في حارة قريبة من هنا، اول ما وقفت معايا قالتلي:
ـ ليا عندك طلب يا حج.
رديت عليها وانا بأكدلها ان طلباتها امر ويتنفذ، فشكرتني وبعد كده كملت كلامها:
ـ ابني “علي” انت عارف ان ماليش غيره، جوزته من كام شهر بنت اختي، بس لاجل الحظ بقى، الراجل اللي كان بيشتغل عنده استغنى عنه.
قاطعت كلامها:
ـ اخص على دي ناس عديمة المروءة.
ـ بس انت كلك شهامة وانا عشمانه فيها ياحج، فيعني لو تتوسطله عند اصحاب الصيدلية يشغلوه عندهم، تبقى كسبت فيه وفينا ثواب كبير.
رديت عليها وانا محتار:
ـ بس يا ام علي ابنك هيشتغل ايه عندهم، دول بتوع ادوية وعلاج.. مش دكان زي اللي كان ابنك بيشتغل فيه.
ردت بكسرة وهي بتترجاني:
ـ اي حاجة، يشتغل اي حاجة، اياك حتى ينضف المكان ويرتبه، وبعدين هو ناصح، مع الوقت هيفهم ويلقط شغلهم كله، بس انت ما ترفضش، ربنا يباركلك في رزقك.
كلامها ضايقني على حالهم، ولولا المحل بتاعي على القد كنت خدته عندي، المهم صعبت عليا ووعدتها ان هكلمهم وبأذن الله يوافقوا.. وده اللي عملته وفي نفس اليوم، روحت وكلمتهم، والغريب بقى انهم ماعارضوش، بالعكس، دول رحبوا جدا وخصوصا بعد ما سألني اللي اسمه اشرف عن حاله وتعليمه واهله، الاول اتعجبت من اسئلته الكتير، بس قولت في عقل بالي حقه برضه يستفسر عن الناس اللي هتشتغل معاه، بس اللي زود غرابة الامر، لما قال شريكه التاني الدكتور”سامح”:
ـ بس لينا شرط عشان يشتغل.
اتحمست لاي حاجة يطلبوها، انا كان هدفي واحد مالوش تاني، انه يشتغل، ايا كانت الشروط، المهم يشتغل، وعشان كده هزيت راسي وهو كمل كلامه:
ـ احنا هنشغل الصيدلية وردية بالليل، من 10 لحد الفجر.. وهو اللي هيتولى شغلها الوقت ده مع متابعة لينا كل شوية.
ماكنتش فاهم ازاي هيسلموه شغلها وهو مايعرفش فيها حاجة، بس هزيت راسي وقولتله:
ـ وماله، اهو كلها اوقات ربنا والرزق يخب العيل الخفيف الحرك، وماظنش “علي” هيعترض.
وفعلا “علي” وافق على شرطهم وبدأ شغله معاهم، عدا على شغله اكتر من شهر.. وفي يوم حسيت بشوية قلق ف اتعدلت في السرير وقعدت اشرب شوية مايه، بس وانا قاعد سمعت صوت دوشة جايه من الشارع، استغربت طبعا.. كانت الساعة عدت نص الليل، ومع برد الشتا ماتسمعش هنا الاصوات دي خالص، وقتها اتسحبت بهدوء من جنب مراتي عشان ما تصحاش، وخرجت للصالة وروحت فتحت البلكونة عشان اعرف في ايه، كان في اكتر من راجل جوه الصيدلية بيتخانقوا، خوفت على الواد “علي” لايكون في حد بيتخانق معاه، حطيت كوفيه على رقبتي ونزلت بسرعة على الشارع ومنه للصيدلية، بس المنظر كان مرعب.. كان في راجلين جتت، اجسام ايه، طول بعرض، كانوا واقفين جوه الصيدلية وقصادهم الدكاترة “سامح واشرف”، واحد منهم كان شادد الواد “علي” ومحاوط رقبته بدراع، وبالايد التانية حاطط سكين على رقبته وبيقول للدكتور “اشرف”:
ـ الله في سماه لو ما طلعتش الحاجة اللي عندك، لاكون مخلص عليه.
اتداريت في زاوية عشان ماحدش منهم يلمحني، خوفت ادخل يقتلوني.. بس المصيبة بقى رد فعل الدكتور، كان بارد ولا كأن في حد هيتقتل:
ـ ماعنديش حاجة.. واوسع ما معاك وريهولي.
وقتها قولت في بالي:
“يخرب بيت ابوه.. ده بكلامه ده بيقوله اقتل الواد”.
وبسبب كلامه، اتكلم الراجل التاني وقاله:
ـ دول ناس مش فارق معاهم حاجة يا “معلم”، حاربونا في لقمة عيشنا باللي بيعملوه جوه المخروبة دي، وكل الزباين اللي كانوا بيشتروا مننا الكيف، بقوا ييجوا يشتروا كيفهم من هنا، دول لازمن يطلعوا باللي معاهم والا بيوتنا هتتخرب.
قاطعه الراجل اللي كان حاطط السكين على رقبة “علي” واتكلم بعصبية:
ـ عاملين فيها دكاترة البهوات وهم بيصنعوا الكيف، بس بقولكم ايه.. اطلعوا باللي عندكم والا هخلص ع الواد ده.
رد عليه الدكتور التاني من غير ما يتعتع من مكانه:
ـ انا هريحك، الحكاية كلها عند الواد ده اصلا، احنا ما نعرفش عن اللي بتقوله ده حاجه، دي صيدلية ادوية وعلاج للعيانين، ازاي هنصنع فيها مخدرات ولا القرف اللي بتتكلموا عنه ده، احنا اصلا كنا شاكين فيه من وقت ما اشتغل عندنا وشوفناه وهو بيتعامل مع ناس مش مظبوطة، ولما سألته عنهم، قال انهم ناس بتاخد مسكن للصداع وكنا هنطرده، بس الدكتور رفض عشان مانقطعش لقمة عيشه.
لف وشه لشريكه وكمل كلامه:
ـ مش ده اللي حصل يا دكتور؟
هز راسه وهو بيأكد على كلامه، وياريت كده وبس، ده كمل كمان وقالهم:
ـ اهو معاكم، اصطفلوا معاه واتصرفوا، يمكن تقدروا تعرفوا منه بيجيب الحاجات اللي بيبعها ده منين، اما احنا، ف هنطرده من شغل الصيدلية.
كلامه كان تأشيرة موت للواد الغلبان، واللي بيها صرخ فيه الراجل اللي حاطط على رقبته السكينة وقاله:
ـ انطق ياض يا ابن امك، والا ورحمة اللي خلفك لا تحصله في تربته.
“علي” ما انطقش ولا رد عليه غير بكلمتين “ماعرفش حاجة”.. وده كان اخر كلام قاله ومن بعده نحر الراجل رقبته.
قاطع بابا كلام الراجل وقاله بارتباك ودهشة:
ـ دبحه!!
ـ ايوه دبحه البلطجي، رد السجون.
ـ طيب وانت ياحج، ما عملتش اي حاجة تنقذه بيها.
رد وعلى ملامحه حاجة مش فاهماها، اذا كان حزين فعلا ولا بيمثل انه حزين:
ـ انا ماكنتش اتخيل ان يعمل فيه كده، ولو اتحركت من مكاني ماضمنش يكوموني جنبه… المهم انهم بعد ما خلصوا ع الواد خرجوا يجروا من الصيدلية، بعدها اتصلوا الدكاترة بالشرطة والدنيا اتقلبت جوه الشارع.. والصيدلية كمان اتقفلت لاكتر من اسبوعين، بعدها رجعوا الدكاترة وفتحوها تاني، والحال رجع زي الاول.. لحد ما الشارع كله صحي على صراخ عالي كان خارج من الصيدلية، جريت مع اللي جريوا عشان نتفاجئ بجثث الدكاترة مرمية في الارض وسايحين في دمهم، بس ماكنش في حد موجود غيرهم جوه الصيدلية، اه، هم قتلوا بعض، او حد قتلهم، الله اعلم.. بس بموتهم اتفضح امرهم، وده بعد ما الشرطة خرجت من جوه اعشاب شكلها غريب بيصنعوا منها ادوية مخدرة، مخدرات يعني.. ومن يوم موتهم والحكومة شمعت الصيدلية، وبقينا كل يوم بعد نص الليل نسمع اصوات عراك وخناقات جواها، ده غير ام “علي” اللي كل يوم والتاني تلاقيها واقفه قصاد الصيدلية.
لما وصل لهنا، قاطعه بابا:
ـ يعني “علي” اتقتل ظلم وغدر، والسبب كانوا الدكاترة يا حج “عزت”.
وقف عقلي قصاد اسم الراجل اللي قاله بابا، وافتكرت اللي شوفته وسمعته جوه المخزن، الاتنين اللي كانوا بيتكلموا واحد منهم قال للتاني اسمه “عزت”.. فبدون ترتيب في الكلام قولتله:
ـ وانت كمان تعرف باللي بيعملوه، وان “علي” مالوش دخل بأي حاجة، يعني انت كمان شريكهم في قتله ظلم.
الراجل ملامحه اتغيرت واتوتر بشكل واضح، وده خلاه يتهته في الكلام لما قال:
ـ ان ان انت بتقول ايه؟
بص لبابا وقاله وهو بيمثل التماسك:
ـ شوف ابنك يا أستاذ “ابراهيم” بيقول ايه، كده مايصحش.
بصيت لبابا وقولتله:
ـ انا شوفت كل حاجة يابابا جوه المخزن، شوفت الراجل ده وهو بيتكلم مع الدكتور اللي مات وكان عارف ان عندهم نباتات مخدرة، لا وجابلهم “علي” عشان طيب وغلبان ومش هيتكلم باللي بيعملوه.
زاح الراجل الكرسي بعصبية وبص لبابا:
ـ خلي ابنك ما ينطقش بحرف من الكلام ده، والا هيحصل اللي ماتوا.. واللي لحد دلوقتي ما نعرفش اذا كان عفريت الواد “علي” خلاهم يخلصوا على بعض، والا الناس اللي وراهم هم اللي خلصوا عليهم، وبقولك ايه.. خاف عليه وعلى نفسك واسكتوا خالص… وألا.. من غير وألا.. اسرح بقى بخيالك انا ممكن اعمل ايه لو نطق تاني..
بعد ما خلص كلامه مشي من القهوة، بعدها بصيت لبابا وقولتله:
ـ شوفت يا بابا.. الراجل ده شارك في ظلم “علي”، بس لا، لازم نبرأه من تهمة لزقت فيه بعد موته.
بابا بص في الارض وقالي:
ـ كده هنفتح على نفسنا طاقة جهنم ياابني، طاقة ممكن مانعرفش نسدها، خصوصا انه كان متهم بده وهم كمان ماتوا والحقيقة ضاعت، لا لا.. بقولك ايه.. انا من بكرة هبدأ ادور على شقة جديدة واعرض دي للبيع.
وحصل.. ابويا كان عنده، وبسبب كلامه ولما فكرت فيه انا سكتت.. سكتت عشان ماكنش في ايدي دليل، ده غير كلام طبعًا بابا اللي نفذ اللي قاله، وفي خلال شهر كنا معزلين من الشقة اللي جنب الصيدلية القديمة… صيدلية البيت القديم.
تمت
#المحكمة
#محمد_جويلي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى