قصص

قصة رعب

الخوف إحساس مطاطي، بيتشكل ويختلف من شخص للتاني، وبياخد شكله على حسب الزمن والبيئة المحيطة وطبيعة التربية والمكتسبات من الحياة، مثلا: لو فيه مجموعة ناس عايشين في بيئة صحراوية فهيبقى عنده تقبل للبيئة دي، ويقدر يواجه ذئب أو ديب من غير خوف، في حين إنك كواحد من سكان المدينة هيصيبك حالة هلع وفزع لو شوفت ديب مثلا، وهكذا يمشي الحال على جميع الأمثلة، ناس بتخاف من القطط، من الكلاب، الزواحف والحشرات، المرتفعات، فخليني أسأل حضرتك: إيه أكتر حاجة بتخوفك؟ بس اصبر، ما تتسرعش، خلي الإجابة في الآخر، بعد ما تسمعني، بعد ما تكون فكرت كويس، لأن أنا عندي الإجابة للشيء الوحيد اللي كل الناس بتخاف منه، ومفيش شخص واحد في التاريخ مبيخافش منه، ولو حتى مبيخافش، فبيحس برهبة ناحيته .. الشيء ده هو (أنا)..
**************
_ إيه يا جميل مش ناوي ولا إيه؟
كنت واقف من بعيد براقب عم أبو زيد وهو قاعد على باب دكان الجزارة بتاعه، كعادة كل يوم بينزل الدكان، يحط الكرسي ويقعد، ويجي القهوجي يجيب له الشيشة ولوازمها، ومع كل نفس بيسحبه ويخرجه، بيعاكس واحدة شكل، برغم أنه راجل عدى السبعين من عمره، إلا إنه مواظب على نفس المنوال من سنين وسنين .. شد من الشيشة مرة كمان، بس المرة دي قطع معاكساته للستات شاب قرب منه واداله حتة حشيش، فقال عم أبو زيد بصوت عالي للشاب:
_ أوعى تكون زي حاجة المرة اللي فاتت وتطلع أونطة؟
رد الشاب بكل ثقة بطريقة كلام غريبة جدا، عوج بوقه وحرك ايده في الهوا وقال:
_ عيب يا معلم، ده أنا كاتانيلا، وانت عارف حاجة كاتانيلا كويس.
كان بيمط الحروف بشكل عجيب، لدرجة اني ضحكت، بس ضحك يبكي، واستغربت إن عم أبو زيد معملش حساب زيارتي .. مشيت ناحيته، سحبت كرسي وقعدت جمبه، بص لي باستغراب وقالي:
_ أؤمر؟!
_ ازيك يا عم أبو زيد
اتعدل في قعدته وقال:
_ وانت تطلع مين بقى يا حبيبي
ساب لَي الشيشة وبدأ يبص لي بنظرات كلها شر، فقولت:
_ أنا الشيء الوحيد اللي انت معملتش حساب لمقابلته، أنا الحقيقة اللي انت عارفها كويس، وياما شوفتها، بس لسه بتنكرها.
قام وقف وزعق وقال للناس اللي شغالين معاه في محل جزارته:
_ تعالوا بقى شوفوا الكتكوت ده عايز ايه.
محدش رد عليه، محدش سمعه أصلا، وقولت له:
_ عموما لسه باقي شوية، هزورك مرة تانية بليل.
قومت مشيت، وهو وقف مستغرب ومذهول، ملحقش يرد عليا عشان كنت مشيت وبعدت عنه … رجع قعد تاني، غير حجر المعسل بواحد جديد، بس حط عليه حتة من الحشيش، وحط الفحم واخد نفس كبير، غمض عنيه وهو بيقول:
_ أيوة كده خلينا ننبسط بدل الغم اللي بلاني بيه المجنون اللي مشي ده..
ورجع عاكس واحدة تانية، بس المرة دي ضحكتله ضحكة كده مش ولا بد، وقربت منه واتكلموا، وقام مشي وهي مشيت وراه..
رجع البيت بعدها بساعتين عرقان وفي حالة إعياء شديد جدا، وطلب من مراته تسيبه لوحده شوية، دخل أوضته وهو بيترنح، جسمه تلج، ووشه بقى أصفر، نام على السرير وهو بيقول بصوت بيخرج في الروح:
_ البرشامة وقفت على قلبي..
قربت منه، اتفزع، عنيه برقت، بدأ يرتعش ويخطرف، صرخ، صوته خرج منه فجأة، كان في قمة الرعب، مراته دخلت عليه بعد ما سمعت صوت صرخته، وأول ما دخلت أنا مشيت وسمعتها بتعيط…
****************
_ مش ناوية ترجعي عن أذية مرات ابنك بقى يا فتحية؟
سابت الكوسة اللي كانت بتنقيها من ايدها، اتفزعت، عنيها برقت وبصت لي بإستغراب وقالت في صدمة:
_ انت مين انت؟
رديت من غير ما أبص لها، كنت ماسك الكوسة بنقي زيها:
_ أنا الحق
اتغيرت ملامحها، وعبر صوتها عن الوعيد وقالت لي:
_ والنبي لو ما نطقت لأصوت وأفرج عليك الناس.
بصيت لها وسألتها:
_ تفتكري أصلا الناس شايفين إنك بتكلمي شخص تاني ولا افتكروكي مجنونة وبتكلمي نفسك؟
اتلفتت حواليها وهي في حيرة من أمرها، شافت الناس باصين نحيتها، وكل اتنين بيهمسوا وبيتغمزوا بينهم وبين بعض، ففهمت إن كلامي كان صح، رجعت بصيت لي تاني وسألتني بخوف:
_ انت شيطان؟ من شياطين الدجال ده اللي عمل اللي السحر؟
عرفت وقتها قد إيه هي ضعيفة، افتكرت بس نفسها قوية لإنها مارست القوة دي على حد أضعف منها، ولما اتعرضت لشيء لمحت فيه قوة أكبر منها، انهارت بدون مكابرة أو عناد، فسألتها:
_ ليه دمرتي حياة ابنك، وروحتي لدجال عمل لك سحر يخرب بيت ابنك ويأذي زوجته؟
عنيها فاضت بالدموع، وقالت:
_ والنبي الشيطان، الشيطان عمى قلبي وبصيرتي، بس أنا فوقت، كلامك فوقني، حسيت في لحظة اني ندمانة على كل حاجة عملتها، مش عارفة الاحساس ده جه جوايا بسرعة كده ازاي، بس أنا هصلح كل حاجة.
_ للأسف يا فتحية .. الوقت انتهى.
وقعت فتحية على الأرض، اتلم حواليها الناس يفوقوها، وأصوات تانية همهمت بلا إله إلا الله، سبحان الله، الست وقعت ماتت..
**************
مشيت شوية في السوق، ووقفت قدام شيء ما توقعتهوش، لأول مرة دي تحصل قدامي، وهو كمان وقف قدامي بس من غير ما يعرفني، هو استغرب لأنه لقاني ببص له ومركز معاه، حاولت أكلمه، فضل يصرخ وسابني وجري، خاف مني لمجرد احساسه اني شيء مخيف، خاف برغم انه ميعرفش أنا مين، ورغم استغرابي وسؤالي: هو هنا ليه؟ لكن أكيد هو راح لمصيره، اصل محدش بيهرب أبدا، تقعد تفتكر إنك جامد، وذكي ومفيش زيك، والدنيا بتتاخد بالفهلوة وبالأونطة، بالضحك على الناس والنصب، اكل الحقوق وبخس حقوق الغير .. لكن في النهاية هتروح فين؟ أكيد هنتقابل..
مشيت وراه ولحقته عند بيته، كان غالبا فاكر إني حد من اللي أذاهم بيلاحقوا وقدر يوصل له، جمع كل اللي يقدر عليه من فلوس وهدوم وحطهم في شنطة، ونزل يجري على عربيته، وقبل ما يمشي صاحبه قابله متلهوج ومستعجل ومعاه كل الحاجة دي فسأله:
_ على فين يا حسين؟
كان ساعتها قرب منه اوي، بقى عند شباك العربية، فقال حسين بخوف وهو بيتلفت حواليه:
_ الجماعة بتوع المقبرة اياها عتروا فيا وباعتين واحد يقتلني، اهرب انت كمان.
مستناش لحظة، باع صاحبه وشريكه، داس على البنزين وطار، بس ملاحظش إني جمبه في العربية، من سربعته وسرعته العالية، عمل حادثة في طريق اسكندرية الصحراوي، العربية اتقلبت بيه 20 مرة، زي ما مصيره كان متقدر بالظبط، ومشيت أنا لحال سبيلي..
***************
_ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
ضحكت، وقولت:
_ إيه يا دسوقي؟ إنت مش بتاع عفاريت وشياطين وبتعمل أحلى نصب على الناس؟ خايف ليه؟ مش دول حبايبك؟
جسمه اترعش، ووشه أصفر، رجليه خانته، فاترمى على الكنبة اللي كانت وراه، قال وهو بياخد نفسه بصعوبة:
_ انت مين سلطك عليا؟ تبع مين؟ ايه مدى قوتك اللي تخليني في الحالة دي؟
_ أنا؟ أنا مش تبع اللي تعرفهم، أنا هو أنا .. أنا اللي متقدرش تشوفه أبدا، ولو شوفته فهتبقى أول وآخر مرة..
_ ايه نوع طلبك؟ مين باعتك؟
_ برضو انت مصمم يا دسوقي؟ أنا هنا عشان رحلتك هتبدأ، رحلة الحقيقة، بعيد عن النصب والدجل، اديك عملت فلوس، ركبت بدل العربية 5، واتجوزت وخلفت، عرفت وشوفت، امتلكت وفقدت، لكنك في المجمل اكتسبت قوة سيطرت بيها على عقول الناس، لكنها قوة مزيفة، زي اللى بنى قصر ضخم فاره يسرق النظر، ونسي يعمل له أساس قوي، في الحقيقة هو ما نسيش الأساس، هو نسي الأساس نفسه، إن عملت كل حاجة زي ما انت حلمت بكل اتقان، لكن نسيت زي ما قولت لك الأساس نفسه، نسيت اننا هنتقابل يا دسوقي..
وشه بقى أصفر بطريقة بشعة، نام على الكنبة ومسك قلبه، فضل يكح وهو بيتخنق، شفايفه ازرقت، عنيه دمعت، راسه مال وعنيه ثبتت … بعد أسبوع شوفت الناس واقفين على باب شقته حاطين مناديل على مناخيرهم، والشرطة والاسعاف في المكان..
***********
عديت في رحلتي على راجل في الاربعينيات، كان قاعد في مكتبه بيتكلم مع واحد صاحبه، فصاحبه سأله:
_ عملت ايه يا رشدي في موضوع الشاب اللي طالبك بحقه.
رد بكل ثقة وقال:
_ حق مين يا عم سامي! أنا اللي عملته، أنا ليا فضل عليه، جبته وشغلته واديته زقة عفية ووقفتوا على رجله، جاي يقول لي حق؟
_ بس يا رشدي ده مجهوده، وده فلوسه، وانت ساعدته عشان عارف انه عنده حاجة يقدمهالك، وهو فعلا قدم حاجات اكتر من اللي انت توقعتها اصلا، وكسبت من وراه 5 أضعاف حقه ويمكن أكتر، فأكيد الشاب ليه حق.
اتنرفز رشدي جدا، ولع سيجارة وقال بغضب:
_ بقول لك يا سامي، عايز تديله حقه، ادهوله من جيبك، أنا مش هديله حاجة، وملوش عندي فلوس، وهو اصلا مش هيقدر يعمل اي حاجة، ولا يجرؤ.
_ ده دليل انه غلبان ومحترم
_ غلبان، محترم، ضعيف ..ميخصنيش، أنا عارف شغلي كويس، المهم عندي إن مفيش حد ينتصر عليا، وانت عارف أخوك، بياع كلام، أقدر أبلف أي حد بكلمتين.
_ بس الواد عارف انك نصبت عليه، وبتكدب، لكنه مش قادر يدخل معاك في أي صراع، هو مش بتاع كده، زي ما قولت لك، غلبان وملوش في حاجة.
_ وأنا شاطر، وده سبب نجاحي، بعدين هبقى أشوف موضوع الحساب ده، ابقى اديله كده حاجة يمشي بيها نفسه..
_ حاسبه قبل ما انت اللي تتحاسب يا رشدي.
قام سامي ومشي، وفضل رشدي لوحده، طفى سيجارته، وسند براسه على ضهر كرسي مكتبه الفخم، غمض عنيه في حالة انتصار، غمضها مرة أخيرة أبدية
****************
قعدت جمب سعد اتأمل ملامحه البريئة من تحت قناع التنفس الصناعي، كان مغمض عنيه وفي دنيا غير الدنيا، بدأت أفكر في السلام النفسي اللي هو فيه، أمه وهي حاضنة مراته، الحب ما بينهم هو حلقة وصله، صحابه سابوا بيوتهم وأشغالهم وبيتناوبوا في زيارته وقراءة القرآن والتضرع لله والدعاء عشان يشفيه، سيرة طيبة جميلة وكبيرة جدا سعد سايبها في كل اللي حواليه، حتى من غير ما يحس بكده، بمجرد ما غمض عنيه ودخل في غيبوبة بسبب المرض، فقد احساسه بالحياة، لكن ساب بصمته فيها، فتح عنيه وابتسم لما لقاني وقال:
_كنت مستنيك
ابتسم وقولت:
_ أثرك باقي يا سعد، ودي بداية للحياة الحقيقة، بدون صراع أو ألم، راحة نهائية من كل تعب عانيت بيه.
حافظ على ابتسامته وقال:
_ ما عند الله هو خير وأبقى
_ والخير يتسارع للوصول لأصحاب الخير.
غمض سعد عنيه، واتوقف الجهاز عن العمل، استوى واستقام خط الذبذبات، ووقف أهله خارج الغرفة يعيطوا من خلف الشباك العازل الشفاف، عياط من ألم الفراق، أثر الحزن المؤقت على شاب في مقتبل العمر، لكنهم على يقين إن ربنا أنقذه من صراعه مع المرض.
مشيت وأنا بفكر في النهايات اللي بتقود الإنسان للبداية الحقيقية، سعد هيقابل رشدي في مكان تاني، مكان مفيهوش فهلوة ولا نصب ولا حداقة ولا تشغيل دماغ، أما الباقي فالوقت هيجمعهم، ما أصل كل الحكاية شوية وقت، شوية وقت قصيرين جدا جدا، هيعدوا هيعدوا، هيعدوا لدرجة إن أنا نفسي مش هكون موجود، لأن هكون اتممت مهمتي، وهيجي دوري في وقت من الأوقات..
ودلوقتي .. عرفت ليه أنا قولت لك إن الخوف نسبي، لأن فيه قلة قليلة ممكن تشوفني ضيف خفيف، وتعاملني بلين ولطف، أتمنى أنت تكون واحد منهم لما نتقابل إن شاء الله ..
تمت..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى