

إحنا عايشين في عالم مليان حاجات غريبة، حاجات العقل البشري ميستوعبهاش، لدرجة إن في ناس مش بتؤمن بالحاجت دي رغم إنها اتذكرت في القرآن والأديان السماوية.. وللأسف أنا واحد من الناس اللي حصل معاهم موقف عيشني أيام في رعب.
كنت لسه مستجد في الجيش، واتوزعت في منطقة صحراوية جنب مدينة مش هينفع أذكر اسمها. استلمت خدمتي في أوضة في الجبل، مفيش فيها غيري أنا وعسكري قديم. أول لما الظابط سلّمني له، قعد معايا وبدأ يشرحلي تفاصيل خدمتي.
الوضع كان طبيعي، مفيش أي حاجة تخوف… لحد ما الليل دخل.
استلمت الخدمة منه، وفضلت واقف بسلاحي بحرس المكان. وفي نص الليل، حَسّيت إني محتاج أروح الحمّام. بالمناسبة، الحمّام مكنش قريب، كان بيني وبينه حوالي ٣٠٠ متر.
صحيت زميلي وبلغته، وبعدها مشيت. قلبي كان مقبوض وجسمي بيرتعش. المكان كله ضلمة، مفيش أي نور، ولا أي صوت غير وش الهوا اللي كان يرعب.
كملت طريقي، وفجأة لمحت شخص واقف عند الحمّام!
استغربت، لأن المفروض مفيش غيري أنا وزميلي، مين ده؟
قربت بحذر، ووجهت سلاحي ناحيته، وعيني عليه لحد ما دخل الحمّام.
أول لما وصلت، خبطت على الباب… مفيش رد.
فتحت الباب بإيدي اللي بتترعش، وشّي شحب، وضربات قلبي زادت.
الحمّام فاضي! مفيش أي حد.
حاولت أطمن نفسي:
“يمكن كان بيتهيألي…”
قضيت حاجتي بسرعة، وقررت أرجع.
وأنا ماشي، حَسّيت إن في حد ورايا… صوت خطوات بيقرب.
ومع كل خطوة، جسمي كان بيسخن أكتر رغم إن الجو كان ساقعة.
لفيت وشي بسرعة… مفيش حد!
سرّعت خطوتي، لكن الصوت اتكرر تاني، ومعاه همسات بتطلع من كل اتجاه.
بلعت ريقي، ووقفت:
-في حد هنا؟
صوتي كان بيتردد في السكون.
ولما لفيت وشي، لقيت شخص واقف قدامي، لابس زيي… عسكري، ومديني ضهره.
افتكرت إنه زميلي، حطيت إيدي على كتفه…
اتلفت ناحيتي، و… شوفت أبشع منظر في حياتي.
وشه كان مـ،سلوخ، وعينه مش في مكانها، وإيده التانية مقطوعة…
ومع ذلك، كان ماسك سلاح وواقف ثابت، مش بيتحرّك.
جسمي اتجمد، شعري وقف من الخوف، ورجعت لورا كذا خطوة.
كنت عايز أصرخ، بس صوتي مش راضي يطلع.
دماغي جابت الحكايات اللي سمعتها عن الصحرا…
عساكر ماتوا في الحروب ومحدش لاقى جثثهم.
يا ترى اللي قدامي ده روح من الأرواح دي؟
اتفاجئت بصوت بيناديني:
-إيه اللي أخّرك كده يا عسكري؟ من أولها كده؟
-انتَ مين؟
عرفني بنفسه، وقال إن الظابط وزّعه معانا.
رفعت إيدي، وشاورت له على الكيان اللي كان قدامي.
-فيه إيه؟ مالك واقف كده كأنك شوفت عفريت؟
-هو المكان ده فيه عفاريت؟
ضحك وقال:
-عفاريت؟ آه… مستجد بقى وكده. تعالى، تعالى وأنا هحكيلك عشان تتعوّد.
-أتعود؟ أتعود على إيه.
-تعالى بس.
رجعنا الأوضة، وقلبي كان هيخرج من صدري.
ماكنتش مستوعب اللي شوفته.
قال لي:
-اقعد وارتاح، أنا هفهمك…
المكان اللي انت فيه ده حصل فيه حرب زمان، يمكن سمعت عنها.
مات فيها عساكر كتير، وفي منهم اللي الرملة بلعته، ومحدش قدر يوصله.
ومن يومها، أرواحهم بتحوم في المكان، بنفس الشكل اللي ماتوا عليه.
بُكرة تتعوّد عليهم، ومتخافش… هم مش بيأذوا.
ماكنتش قادر أستوعب كلامه.
معقول هقضي سنتين جيش وأنا محاصر بالأرواح دي؟ صحيت من شرودي على صوت جاي من برا…
كان محسن، زميلي.
-كنت فين يا ابني؟
بقى تذنبني التذنيبة السودة دي لوحدي؟ خلي بالك، الوقت اللي ضاع هتقضيه خدمة!
-والله يا محسن أنا مش عارف أقولك إيه، بس هو اللي هيحكيلك، عشان مش هتصدقني.
-هو مين؟
لفيت وشي…
ملقتش غيري أنا ومحسن في الأوضة! عيني جحظت، ولساني اتكتف، وطلعت الكلمة بصعوبة:
-كان في عسكري غيرنا هنا… صدقني! هو اللي جالي، ورجعني، وقال إن الظابط وزّعه معانا.
-يا ابني مفيش حد غيرنا، والمكان ده بياخد اتنين بس.
يعني مستحيل عسكري تالت ييجي هنا.
-يعني ايه… يعني العسكري ده كان روح؟
-إنت عرفت الحكاية منين؟
-هو اللي قال لي!
-طالما عرفت، جمد قلبك واتعوّد… لإنك هتشوف كتير من ده.
***
بس ده كل اللي حصل.
عدّت الأيام بصعوبة، ومقدرتش أتأقلم مع المكان.
كنت كل يوم ألاقي نفسي مغمى عليّا في مكان شكل، ومحسن زهق، واشتكى للظابط.
وفي الآخر، اتنقلت، والحمد لله، خلصت الجيش بسلام.
لكن عمري ما هنسى إني شفت روح، واتكلمت معاها…
زي ما باتكلم معاكم دلوقتي.
تمت.