قصص

قصه المصنع القديم

– مهما يحصل إياك تسيب البوابة، عينك دايمًا عليها، المصنع ده على قد ما هو يبان قديم وكحيان من برة، لكنه من جوه حاجة تانية خالص….
خلص عم أشرف كلامه، وأخدني في جولة حوالين المصنع، المكان فعلًا بعيد جدًا عن العمار، مش عارف بنوا مصنع كبير زي ده في منطقة متطرفة ليه!
شرحلي كل حاجة تخص المصنع، وقالي إن المصنع القديم ده أساس سلسلة مصانع للخرسانة.
رجعنا تاني لأوضة الأمن وقعدنا نشرب شاي، بصلي عم أشرف كده، وقالي…..
انت متخرج، ولا بتدرس!
– متخرج من كلية تجارة.
– ومالقيتش غير الشغلانة دي؟
– مرتبها كويس وبعيدة عن الدوشة، أنا حابب أريح دماغي وأستر إخواتي، البنات والمرتب هنا ٣٠٠٠ جنيه، مش هاخدهم لو اشتغلت في وظيفة حكومية.
– تقوم تشتغل فرد أمن في مصنع!
– مش عيب ولا حرام.
– جدع يا حسام، الشباب اليومين دول نادر فيهم اللي بيفكر زيك، كل واحد فيهم عايز مكتب ومنصب ومرتب.
– مش فارق معايا كل ده، مادام هاقبض مرتب يكفيني أنا وإخواتي.
– إن شاء الله أنا معاك يومين، لحد ماتاخد على المكان وتظبط أمورك.
– إن شاء الله.
روحت البيت وحكيت لأمي وإخواتي اللي حصل، كانوا طايرين من الفرح، أخيرًا امي هترتاح من شغلها في البيوت، وهقدر أرد لها جزء من حقها عليا.
إن جيت للحق أنا كنت بحلم بوظيفة في بنك، بس فضلت ٣ سنين أعافر عشان أوصل، ماطولتش غير خسارة وقت وفلوس، كان لازم أدور على شغل بأعلى راتب حتى لو هاشتغل وقت طويل، أهم حاجة مابقاش عالة على أمي.
شوفت إعلان في جريدة: مطلوب فرد أمن لمصنع في منطقة نائية، في البداية كنت قلقان، بس لما رحت المقابلة لقيت صاحب المصنع بنفسه هو اللي بيعمل معايا الانترفيو، والراجل شهادة لله كان محترم، مرتبي ٣٠٠٠جنيه غير الانتقالات والحوافز والذي منه.
نمت بدري عشان هاصحى من الفجر أروح المصنع، الطريق بين البيت والمصنع حوالي ساعتين ونص، والمواصلات بهدلة جدًا، اللي زاد وغطى إني مالقتش مواصلة للمصنع، وكنت هاتأخر فأخدت بتاع حوالي ٧ ك مشي على رجلي عشان أوصل لهناك.
وصلت خلصان، عم أشرف أول ماشافني قالي…..
– مش هتصد على الطريق رايح جاي كل يوم، لما أمشي تقدر تبات في الأوضة دي، واهو هتشتغل وقت إضافي ومرتبك هيزيد.
– لا، مش هينفع أسيب ماما وإخواتي لوحدهم، ماعتقدش إنه هينفع.
-فكر، وبلغ المدير لو حبيت.
– أنا هدخل أخلص ورقي من الإدارة، وانت زي ماعلمتك، لو فيه حاجة كلمني.
مشي وفضلت قاعد مكاني قدام البوابة، كان الطريق فاضي، فيه باصات بتيجي تاخد العمال وتجيبهم كل يوم ما عدا العطلات، يونيفورم موحد، كلهم رجالة!
حسيت بحركة غريبة ورايا فجأة، فاتنفضت من مكاني لا يكون حد نط من السور، بس لقيت قط أسود واقف ورايا بيلحس في مخالبه، رجعت كذا خطوة لورا، واتفاجئت بحد بيزقني في ضهري، وبيقولي….
– اجمد أومال، هتخاف من قط!
لفيت بسرعة! أنا حاسس إن قلبي هيقف، هو إيه اللي بيحصل!
استعذت بالله من الشيطان الرجيم، وقلت….
انت إزاي جاي من برة يا عم أشرف؟ مش انت قلت هتدخل الإدارة تخلص ورق!.
– أيوه يا ابني فيه إيه؟ مالك كده مخضوض ليه! هو انت شوفت عفريت؟
انت كنت بتعمل إيه برا؟
– كنت باجيب ورق مهم المدير نساه في العربية، وهاطلعوله وأنا في طريقي للإدارة.
– تمام.
مشي عم أشرف، وهو بيكلم نفسه، وبيقول….
-هو إيه اللي تمام ده؟ الواد ده ماله!
سحبت الكرسي خليت ضهره للحيطة، أنا كده شايف اللي رايح واللي جاي، ماحدش هيعدي من ورايا وأتخض تاني.
سمعت بعد دقايق كركبة في الأوضة اللي جنب البوابة، دخلت بسرعة أفتشها، لمحت ضل على الأرض، اختفى في لمح البصر، وفجأة حسيت بخبطة جامدة على راسي من ورا، الدنيا ضلمت في وشي، و فقدت الوعي بعدها.
أنا حاسس بألم شديد، راسي بتنبض كأنها هتنفجر، حركت إيدي علي مكان الألم فزاد أكتر، فتحت عيني لقيتني في الأوضة لسه، خرجت برة الأوضة بسرعة..
أول ما فوقت، لفيت حواليها عشان أنا فاكر الضل واللي خبطني، بس الجو كان هادي بزيادة مافيهوش صريخ ابن يومين، لفيت في المكان، الباصات اللي بتنقل العمال ماكانتش موجودة، بصيت على البوابة لقيتها مقفولة، أنا اللي معايا المفتاح، تممت عليه، لسه في جيبي، معني كده إن ماحدش خرج، أنا لازم أبلغ إن الباصات مش موجودة، دخلت جوة المصنع وبدأت أدور على حد، بس للاسف المصنع كان فاضي، مفيش فيه حد، الآلات كلها واقفة مش شغالة!
أومال فين العمال؟ فين الشغل!
لفيت الدور الأول، ماكنش فيه صريخ ابن يومين، الدور التاني برده كده، والتالت فيه مكتب في آخر الطرقة، كان جاي منه صوت زعيق، قربت منه وفجأة فيه إيد اتحطت علي كتفي وقفتني وسحبتني لورا، لحد ما خرجتني من المصنع كله، وقف قدامي بغضب….
انت إيه دخّلك هنا، مش مسموحلك تدخل المصنع إلا بعد ماتاخد إذن؟
– هي الناس اللي شغالة هنا فين؟ المكن واقف ليه!
– الناس روحت لما دوامهم خلص، المكن واقف عشان اللي بيشغلوه مش موجودين.
– روّحوا ومش موجودين إزاي!
– إزاي إيه يا ابني؟ الدوام خلص والعمال روحوا.
– خلص؟ احنا لسه العصر ماأذنش!
– بص في ساعتك كده.
– ساعتي، ثواني…. إيه ده!
إزاي الوقت ده عدى من غير ماأحس!
– اسأل نفسك!
– طب العمال خرجوا إزاي؟
– حد منهم جه ندهلي؛ عشان لقوا البوابة مقفولة، وانت مش موجود.
– أنا.. أنا..
– أنا فكرت إنك في الحمام أو بتصلي، فرحت فتحتلهم واستنيت أما خرجوا وقفلت، ودخلت أخلص ورق للباشا، إياك تكررها بعد ما أمشي انت هتبقي مسؤول عن كل حاجة، عينك ماتغفلش عن البوابة.
بصيت في الأرض كده، وحكيت راسي بإيدي وحسيت إن الوجع اختفي، فاستئذنت منه ووعدته مادخلش مبنى المصنع تاني إلا لو الباشا طلبني، أصل هاحكيله إيه، أقوله ضل شفته واختفى، وبعدين ضربني على راسي وأغمى عليا مافوقتش غير بعدها بكام ساعة، قلت هاسكت أصل السكوت في المواقف اللي زي دي نعمة، بس نعمة لا أُحسَد عليها.
فضلت طول الطريق وأنا مروح أفكر في اللي جرالي طول اليوم، ماحسيتش بالمسافة اللي مشيتها على رجلي مع إنها كبيرة!
روحت ومن غير مااكلم حد دخلت اترميت على سريري ونمت.
تاني يوم صحيت، وأنا حاسس إن جسمي كله مكسر ودماغي في ألم فظيع، أخدت مسكّن وطلعت على المصنع، الوضع كان هادي عن امبارح! يبدو إن رهبة المكان كانت قافلاني منه امبارح.
اليوم عدى بسرعة، وخلاص عم أشرف هيمشي، الراجل الطيب وقف قدامي، وقالي….
– أنا خدمت المكان ده ٢٧ سنة، حافظت عليه، لولا السن والتعب ماكنتش فرطت فيه أبدًا.
– ربنا يباركلك يا عم أشرف.
– ويباركلك ويحفظك يا ابني، بالحق.. في الأجازات انت هتبقى هنا دوام كامل، ده قرار جديد من صاحب المصنع، وطبعًا فيه حوافز وزيادات كتير على الأيام دي، وزي ماقولتلك الأوضة وراك نضيفة.
بصيت ورايا وسلمت عليه وبعدين مشى، اختفى في الطريق.
قعدت مع نفسي بعدها في مكاني المعتاد، وقفت عربية سودة قدام باب المصنع، وقبل ما أتحرك من مكاني لقيت المدير خارج، فاتحركت بسرعة عشان أفتح له البوابة، وقتها بصلي، وقالي…..
انت باين عليك ولد مجتهد، أشرف بلغك بالقرار الجديد!
– بخصوص الدوام الكامل في الأجازات؟
– أيوه بالظبط.
– أكيد يا افندم، وموافق باللي حضرتك تؤمر بيه.
– على كل يوم تباته هنا، وتخلي بالك من المكان فيه هتاخد ١٠٠ جنيه، يعني فيه أجازة العيد الكبير اللي هي بعد كام يوم دي، هتاخد ٩٠٠ جنية زيادة عشان أجازة العيد ٩أيام، احنا صحيح مش قطاع عام لكن باتقي ربنا في الموظفين بتوعي، انت هتبقى مسؤول عن المصنع كله في غياب الموظفين وغيابي، فلازم تتراضى.
– ربنا يخليك يا افندم.
اتحركت عربيته وفضلت واقف، بصيت حواليا، الكل مشى مفروض أنا كمان أقفل وأروح، بس لازم ألف حوالين المصنع زي ما وصاني عم أشرف، قفلت البوابة، أنا لوحدي هنا دلوقتي، لفيت حوالين المصنع، واتأكدت إن كل الأبواب مقفولة، وبعدين خرجت لفيت حوالين المصنع من برا، السور عالي جدًا وعليه إزاز مكسّر من فوق؛ عشان ماحدش يعرف ينط من عليه، بس برده لازم أعمل اللي عليا، خلصت اللفة حوالين السور وطلعت على الطريق، أخدت وقت طويل على ما لقيت مواصلات.
روحت البيت، اتجمعنا على العشا وحكيتلهم عن قرار المدير الجديد، أنا عارف إن الفلوس هتغير حياتنا للأحسن، على الأقل هتخليني مطمن على إخواتي وهتقدرني أستّرهم.
كل يوم كان شبه التاني، عرفت مواعيد المواصلات فبقيت أتأخر شوية في المصنع؛ عشان أظبط مواعيدي على مواعيد المواصلات اللي بتعدي من قدام المصنع، ومااخدش وقت كتير في المشي ….
كنا قبل الوقفة بيوم، دخلت أشوف الأوضة اللي هابات فيها، ذكرياتي مش لطيفة مع الأوضة دي من أول يوم!
الجو كان بارد فيها زيادة عن المكان برة: سرير خشب، ترابيزة صغيرة، سبرتايه وكام كوباية وبراد، وبطانية ومخدة، الشباك الوحيد في الأوضة دي كان عالي جدًا، مش عارف هل سبق وحد فتحه قبل كده ولا لا، طلعت مكاني تاني، كان المدير مروّح قالي…..
– شد حيلك يا بطل، من بكرة انت دوام كامل.
ركب عربيته ومشى، وكالعادة أمنت المكان واتحركت.
ودعت إخواتي يوم الوقفة الصبح، وأخدت شنطتي وطلعت على المصنع، وصلت متأخر مفيش مواصلات، واللي عرفته إن طول الأجازة مش هيبقي فيه مواصلات، انا بيني وبين الطريق حوالي ٧ كيلو، وبيني وبين أول مدينة ٤٨ كيلو، ربنا يعدي الأجازة دي على خير، هي أكيد اختبار من ربنا ليا.
دخلت شيّكت على أبواب المصنع ولفيت حوالين السور وقعدت مكاني قدام البوابة، الوقت كان بيعدي بسرعة، أومال ماله كده بقى كئيب وممل، الساعة لسه ماجتش ١٠ حتى!
حسيت بتقل رهيب في عينيا، ماعدتش قادر أفتحهم، صوت جوه دماغي بيقول نام، نام، نام….
أنا معرفش إزاي نمت مكاني، أو امتى، بس لما صحيت كان جسمي كله متيبس من قعدتي طول الفترة دي على الكرسي.
بصيت في الساعة، كانت قرّبت على ٦ ونص، الشمس كانت قربت تختفي، المصنع كان شكله من برة في الوقت ده يقطع الخلف، حاجة كده تقبض القلب!
ومع آخر شعاع للشمس في السما شق سكون الجو صرخة جامدة طالعة من قلب المصنع، اتكررت سبع مرات وأنا واقف مكاني، مش قادر أتحرك، كل ذرة في جسمي بتترعش من الخوف، مع كل صرخة كنت بحاول أقنع نفسي إنه وهم، بس الصوت كان حقيقة.. حقيقة لدرجة إن آخر صرخة حسيتها جنبي في ودني، فاتنفضت من مكاني، وحسيت إن فيه حد حواليا أنا مش شايفه، بدأت ألف حواليا بعصبية وأقول: مين هناك، مين هناك؟
ماحدش بيرد، جريت على الأوضة وقفلت على نفسي، وحاولت أهدى، طلعت موبايلي عشان أكلم المدير أو عم أشرف، بس المصيبة ماكنش فيه شبكة، دي كانت مشكلة من الأول بس مااخدتش بالي منها، فجأة سمعت حركة برة، وبدأ حد يخبط على الباب بكفوفه الاتنين، كنت واقف مرعوب جوة، ماقدرتش حتى أنطق ولا أقول مين، بس كان فيه صوت غريب بره زي صوت حد مبحوح مش قادر ولا عارف أفسر كلامه، بس أنا لازم أعرف مين برة، نزلت على الأرض في فاصل بينها وبين الباب بتاع كذا سنتي، ممكن أشوف منه على الأقل رجلين الشخص اللي برة، بس يا ريتني ما نزلت، كان اللي برة هو كمان في نفس وضعيتي، عيني جت في عينيه، كان وش أسود متفحم وعينين بيضا خالص، صرخت واتخضيت ورجعت لورا، وقتها كنت حاسس إن من شدة الخبط اللي بره على الباب إن الباب هيتكسر، فضلت أزحف لورا وإيديا كانت بتغرز في رمل، إيه اللي جاب رمل في وسط الأوضة مش عارف، ماكنش هنا من ثواني، كنت باقاوم عشان ماغرقش في الرمل، كنت حاسس إني وقعت في رملة متحركة بتشدني لتحت، بس مسكت في رجل السرير جامد وغمضت عينيا، وكل حاجة تهدا بالترتيب زي ما بدأت، كان جسمي بيتنفض من الرعب، دخلت تحت السرير أول ماحسيت إن الرمله بطلت تشدني، اتكومت على نفسي تحته، ماعرفش إزاي أنا نمت، يمكن من الخوف والبرد الأوضة كانت برد جدًا، صحيت بعدها بساعة أو اتنين، كان الصداع هيفرتك دماغي ولبسي كله مليان رمل، بس الغريب إن الرمل اللي كان في أرضية الأوضة اختفى.
اتحركت ناحية الباب وبحذر نزلت بصيت من تحت عقب الباب ماكنش فيه حاجة، ففتحت الباب بالراحة وطلعت راسي منه أراقب الوضع بره، كانت كل حاجة هادية ما عدا باب الأوضة اللي كان مكتوب عليه بالدم:
امشي أحسن لك! امشي!
ده شغلي، أنا ماضي على وصل أمانة بفترة الأجازة دي، الراجل صاحب المصنع ممكن يوديني في داهية، حاولت أقنع نفسي إن ده حد من العمال بيحاول يخوفني؛ عشان أمشي ويسرق المصنع بكل بساطة، طلعت موبايلي وصوّرت المكتوب على الباب، وجبت قماشة مبلولة مية ومسحته، واحدة واحدة بدأت أتعامل عادي مع المكان، وأحس بالهدوء تاني، ولو إن فيه حاجة جوايا مرعوبة، بس أنا مجبر أتماسك وإلا هاروح في داهية.
فضلت صاحي برا قدام المصنع، عينيا كل ما تيجي عليه أحس برعشة في جسمي فأدور وشي بعيد عنه، كان فاضل كام ساعة على صلاة العيد، دخلت الأوضة وقفلت الباب ونمت، كان نوم متقطع باصحى على كوابيس، بس اهو نمت.
صحيت على وقت الصلاة، اتوضيت وأخدت مصليتي وفردتها على الأرض قدام البوابة من جوة، وهابدأ الصلاة، فجأة موبايلي رن جوه!
سبحان الله، جاب شبكة إزاي دة، عامة مش مهم، دي أكيد ماما بتعيد عليا، دخلت بسرعة عشان أرد لقيت الموبايل مش بيرن!
قلت يمكن بيتهيألي، أنا عارف أصلا إن مفيش شبكة هنا من امبارح، رجعت تاني عشان أصلي لقيت سجادة الصلاة متقطعة وعليها دم!
أعوذ بالله، أستغفر الله العظيم، فيه إيه بيحصل، ده أكيد مقلب دمه تقيل من حد شغال هنا، ماهو مفيش حد قلبه هيجيبه يستظرف كده إلا لو عارف المكان ومطمن.
شديت كرتونة من الأوضة، ونفضتها وفردتها على الأرض وبدأت أصلي!
حسيت ببروده في جسمي وحالة شلل رهيبة، عايز أركع، بس جسمي متشنج!
حركتي تقيلة مش قادر، كنت باقاوم، حسيت فجأة بنار حوالين وشي، فيه حاجة حواليا مش عايزاني أكمل صلاة، إيدي الشمال بدأت تنمل، ورجلي مابقتش حاسس بيها، حاسس إني باتطوح وهاقع، ثبت رجلي في الأرض ورفعت إيديا بعد معاناة، وقولت الله أكبر، وفجأة حد صرخ جامد في وشي، حسيت بحر وصهد ماشفتوش في حياتي قبل كده، كأن حد فتح عليا باب من ابوب جهنم.
غمضت عينيا وكملت صلاة بصعوبة، ساعة ماسلمت وخلصت وقعت على الأرض، نفسي كان بيخرج ويدخل بصعوبة كأن حد بيخنقني، ماكنتش قادر أقاوم، كأن اللي حصل في الكام ثانية دول استهلكني، واستنفذ طاقتي، نمت علي الارض، فتحت دراعاتي، وقلت يا رب وغمضت، صحيت على لسعة جامدة، فتحت عينيا، كانت الشمس في وشي ماشوفتش حاجة منها، فرفعت إيدي عشان أحجب الشمس عن عينيا لقيت إيدي متلطخة بالدم، اتنفضت مفزوع من مكاني، ماكنش فيا أي جرح ولا حاجة متعورة ولا حواليا دم، إيدي بس اللي كان عليها دم.
دخلت الحمام اللي جنب الأوضة عشان أغسل إيدي، وبعد كده طلعت قعدت قدام البوابة، كنت حاسس إني من جوايا مهزوز وخايف، بس كان لازم آكل، ماينفعش أسيب الشغل وأمشي، طب هقولهم إيه!
‏قررت أكلم عم أشرف أعيّد عليه، وبالمرة أحكيله عن اللي بيحصل معايا هنا، فضلت طول النهار متردد أكلمه ولا لا، بس بعد ما صليت المغرب حسمت أمري، وأخدت التليفون وقفلت البوابة، ومشيت ييجي ٤ كيلو لحد ما بدأ التليفون يلقط شبكة، وعرفت أتصل…
– ازيك يا راجل يا طيب؟ عامل إيه!
– الحمد لله يا حسام يا ابني، انت عامل إيه، والشغل أخباره معاك إيه؟
– ماتخدناش في دوامة الشغل، الأول كل سنة وانت طيب، وعيد سعيد عليك.
– وانت طيب يا ابني، وعيد سعيد عليك.
– كنت عايز أسألك على حاجة يا عم أشرف.
– اتفضل يا ابني، خير!
– هو انت كان بيحصلك حاجات غريبة لما بتطبق كذا يوم هنا؟!
– لا يا ابني، أنا عمر ما حصلّي حاجة غريبة، كنت باخلص شغلي أول ما أقفل البوابة ورا المدير، وأدخل أقعد في الأوضة، فيه حاجة يا ابني!
– لا ولا حاجة، انا بسألك عادي، هو ماحدش من الموظفين خالص بييجي في الأجازات هنا؟
– لا.
– طيب الحمد لله إني اطمنت عليك يا عم أشرف، بالإذن انت بقى عشان ألحق أصلي العشا حاضر.
– اتفضل يا ابني.
مشيت المسافة نفسها تاني عشان أرجع المصنع، كان الطريق شكله مرعب، مفيش حتى حيوانات فيه، قلبي كان مقبوض، اتصلت بأمي عشان أعيّد عليهم بس مع أول جرس الشبكة فصلت، وبقيت ألعن حظي الهباب، وصلت المصنع وقفلت البوابة ودخلت الأوضة، رميت الموبايل على السرير، وأخدت نفس عميق وطلعت عشان أتوضا، المية هنا بالليل تلج، طول النهار سخنة جدًا وبالليل ساقعة أوي، مديت إيديا وفتحت الحنفية وبدأت أتوضى، وأنا كل تفكيري في والدتي، أكيد هتقلق عليا، يا ريتني ما رنيت عليها، حسيت إن المية دافية أوي على غير العادة، أما بصيت عليها، سحبت إيدي فجأة وبدأت أصرخ زي المجنون في الحمام، كنت بادور علي الباب عشان أخرج، الحنفية بتنزل دم!
كان دم دافي، مابقتش عارف أتلم على نفسي، وباب الحمام اتقفل مع إني ماقفلتوش، ماكنش راضي يتفتح، بقيت أرزع عليه وأشده وأزقه برجلي يمين وشمال، يا يتفتح يا يتكسر مفيش حل تاني، حسيت إني باتخنق وحد بيضغط بإيديه على رقبتي جامد، وقعت على الأرض وبقيت مش قادر آخد نفسي والدنيا بتلف بيا، حاولت أتماسك، أنا مش هاموت كده لا، حاولت تاني ومديت إيدي على أوكرة الباب، وشديتها بآخر أمل ليا في الدنيا، ماكنش عندي استعداد أموت دلوقتي، في المكان المقرف ده، الباب اتفتح وحسيت إني قادر أتنفس، خرجت أجري برة الحمام والأوضة كلها، فتحت البوابة وطلعت أجري في الطريق، ماكنش فيه صريخ ابن يومين حتى، وقفت لما التعب هدني ماكنتش قادر أكمل، هاكمل ازاي وأنا باجري بهدومي الداخلية كدة، أنا لازم أرجع على الأقل أجيب موبايلي وهدومي، ماهو أنا مش هافضل في المكان ده تاني مستحيل لو هيدوني ملايين الدنيا، سألت نفسي: هو أنا فعلًا هقدر أرجع المصنع القديم بعد اللي عشته فيه؟ أنا لازم أرجع، مش هينفع أمشي كده، عقلي خلاني أرجع، أنا قلبي كان رافض، وعايزني أبعد أكتر عن المكان ده….
رجعت وكنت داخل بحذر، كل حاجة كانت مكانها، هدومي على السرير وباب الحمام قدامي متوارب!
لبست هدومي، مسكت موبايلي، وأخدت شنطتي، وخرجت من الأوضة، زقيت باب الحمام برجلي، كانت الحنفية لسة مفتوحة، بتنزل مية عادية والحمام في أرضيته مية، إزاي ده كان متبهدل بالدم اللي نازل من الحنفية!
فجأة حسيت بحركة خفيفة ورايا، لفيت بسرعة مالقتش حد، قفلت باب الحمام وخدت نفس، وطلعت عشان أخرج برة المصنع ده!
لو هامشي المسافة كلها للبيت وماله، بس ماقعدش هنا دقيقة، حاولت أفتح البوابة ماعرفتش، أنا مش فاكر إني قفلتها بالمفتاح!
حطيت إيدي في جيبي عشان أطلعه وأفتح، بس اتفاجئت إن ميدالية المفاتيح كلها مش موجودة!
إيه ده يعني أنا اتحبست هنا؟
ماهو مستحيل أقدر أوصل للسور، وأنط من عليه!
رميت الشنطة على الأرض وشطت التراب برجلي، وأنا بقول أوووووف على القرف ده، مرة واحدة لقيت قلم بينزل على قفايا، نطيت من مكاني، وبصيت ورايا مالقيتش حد…
وطيت أخدت شنطتي، وجريت على الأوضة، وقفلت بابها ورايا، قعدت على الأرض وأنا بانهج، ماكنتش قادر آخد نفسي، عينيا كانت زايغة وريقي ناشف مش حاسس غير إن دماغي ضخم أوي وهينفجر.
كنت حاسس إن الدنيا بتلف بيا، استجمعت طاقتي اللي فاضلة ورميت نفسي على السرير، كنت باتنفس بصعوبة، حاسس إن دماغي هتقع من على السرير، ماعرفش عدى عليا قد إيه، وأنا في الوضع ده، كل ما باحاول أرفع راسي باحس بحاجة تقيلة بتسحبها وعينيا كانت بتقفل لوحدها، أوقات كنت بابقى واعي ومش قادر أتحرك، وأوقات تانية كنت بابقى مش حاسس بحاجة خالص، وقت ماكنت واعي كنت باسمع صوت همهمة قريبة مني، والصراخ نفسه اللي طالع من المصنع، كل حاجة دخلت في بعضها مابقتش عارف الليل من النهار، مش حاسس بالأيام من حواليا، صحيت وأنا حاسس إني نمت كتير، كتير أوي، لدرجة إني فردت إيديا على وسعهم، وبصيت علي الموبايل كان فاصل شحن، مديت إيدي في الشنطة وجبت الشاحن ووصلته بالفون، كنت جعان أوي، طلعت كل المعلبات اللي في التلاجة، وبدأت آكل فيها زي اللي ماشافش أكل من فترة طويلة، خلصت أكل ورحت الحمام، غسلت وشي ووقفت قدام الباب شوية، الوضع كان هادي جدًا، بس فجأة سمعت صوت كركبة، دخلت الأوضة عشان أشغل كشاف الموبايل وأشوف فيه إيه، بس حسيت بدوخة فظيعة، فقعدت على السرير، شغلت الموبايل، جسمي بدأ يسخن والصداع رجع من تاني هيفرتك دماغي، كأن حاجة بتشدني لورا، بصيت في التليفون اللي في إيدي، وأنا بارجع بضهري على السرير كأني باغرق، آخر حاجة لمحتها قبل شاشة التليفون ماتطفي..
التاريخ!! معقولة عدى ٨ أيام وده اليوم الأخير، خلاص هانت بكرة الصبح أول ما الموظفين والعمال يا هاقدم استقالتي وأروح، دماغي كانت بتتقل، الأفكار بتلف جواها، كل حاجة بتختفي، وحسيت بحد بيكتفني، فتحت عينيا، كان فيه ضل قريب من الحيطة، بس مش شايف صاحبه مين، حد مسكني من رجلي وشدني من على السرير، وبدأ يجرجر فيا لحد ما خرجني برة الأوضة!
فتحت عينيا ببطء، مش عارف مين بيشدني، بس كان بياخدني في طريق مبنى المصنع القديم، وبيبعد بيا عن البوابة!
أصوات الصراخ اللي كنت باسمعه كل يوم بالليل بدأت بس المرة دي الصوت كان قريب أوي، أول مرة أسمعه بالوضوح ده، ومرة واحدة السكينة شقت رقبتي، اللحظات الأخيرة في الحياة صعب تتوصف، حسيت بجسمي خفيف أوي أوي، وفجأة لقيتني طاير فوق، وكان حد لابس أسود في أسود عمال يقطّع في جثتي، ماقدرتش أتحرك بعيد عن جثتي، الصبح اتنين من العمال لقوها، فاتصلوا بالمدير اللي أمرهم يتاووها لحد مايوصل، وبعد ساعة كان جه بدري على غير عادته، وقف قدام الجثة، وقال….
– كان شاب طيب، يا خسارة..
– هنقول إيه لأهله؟ ده كان مفروض يروح النهارده..
رد المدير بمكر وقالهم: نزلوا الجثة دي تحت، وهاتوا كل حاجته، واردموا عليها، وهنقول إننا رجعنا من الأجازة لقيناه سرق فلوس كتيرة من المصنع وهرب، أكيد مش هنقولهم إننا حاولنا نقدم ابنهم قربان للجن؛ عشان نفك الرصد اللي على المقبرة اللي تحت المصنع، وفشلنا.
واحد من العمال قاله: طب ما نبلغ إنه سرق المصنع قبل ما يسألوا هما عنه..
– ذكي، خد حد من المحاميين، واعمل اللازم، واخفوا أي حاجة ليها علاقة بالولد ده هنا…..
كنت واقف مش عارف أعمل إيه، لو جثتي فضلت هنا وماتدفنتش أنا كمان هافضل هنا طول عمري، حفروا حفرة كبيرة، رموا شنطتي وكل حاجتي فوق جثتي وردموها بالتراب، وزرعوا شجرة صغيرة فوقي، الشجرة دي بقى عمرها ١٣ سنه، آه أنا ميت، ومدفون هنا بقالي ١٣ سنة، مش عارف أتحرر.
تمت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى