قصه انا و العجوز (أنا والعجوز) – قصة رعب قصيرة
بقلمي: إسلام صابر
تاريخ الكتابة: صيف 2019
===========================================
سمعتُ صوت الاصطدام الحادّ القوي بلوح الخشب أمامي، وأنا محشور في مكاني الضيِّق..
ميَّزتُ في وضوح صوت الاحتكاك المؤذي للأذنين والمثير للأعصاب، الذي تلا الاصطدام الحاد..
تكاثفَتْ حبات العرق فوق جبيني ووجهي أكثر، حتى صَنَعَتْ قطرات راحت تسيل بلا توقف..
كنتُ أعلم أن ما وراء اللوح سكينًا صدئًا كبيرًا، بشع المنظر..
سكيني الخاص، الذي يتعطَّش الآن لإراقة دمي!
**********
أعيش في واحدة من تلك المناطق التي تعتبرها الحكومة رسميًا عشوائية.. برغم ذلك، أقف أحيانًا حائرًا قبل أن أصفها بالمنطقة الفقيرة.. على مسافة غير بعيدة من هنا توجد فيلَّات.. نعم فيلَّات، أنتم لم تخطئوا الكلمة.. ليسَتْ شديدة الأناقة والفخامة وشديدة الاستفزاز، كتلك التي نراها في إعلانات التلفاز، لكنها تبقَى في النهاية فيلَّات.
ومن حين إلى آخر، تَرَى شخصًا -ربما لا يساوي قرش صاغ واحدًا في نظرك- لكنه يقرِّر فجأة أن يبني “برجًا سكنيًا” أو بيتًا، في نفس هذه المنطقة! يأتي بمقاولٍ ما -لا أفهم كيف يمكن تسميته مقاولًا- ويتفق معه على بناء البناية أو “البرج”، على مساحة من الأرض، لا يمكنك أن تصدِّق من شِدِّة صغرها أنها تصلح حتى لبناء مراحيض عمومية.. لكن صاحب “رقعة الشطرنج” هذه يجلب كرسيًا خشبيًا من أقرب مقهى إليه، ويجذب واحدًا آخر للمقاول، الذي سيحيلها إلى برج سكني بمعجزة ما، ويجلسان أمام كارثة المعمار التي يشتركان في صنعها، في شارع اتساعه متران تقريبًا، يحتسيان الشاي أو ربما يدخنان النارجيلة، ليتحدثا بصوت عالٍ عن المستقبل، كأنما امتلكا الدنيا كلها!
أمام شيء كهذا، كان يتساءل شابٌ مثلي في نفسه، من أين يأتون بالمال اللازم لفعل هذا؟!
على شاشة التلفاز اللعين، أشاهد تلك الإعلانات المستفزَّة -المطوَّلة للغاية- عن أسعار الشقق.. الفرصة التي لا تُعوَّض.. الشاب الرقيع الذي يعتقد أنه لم تَعُد هناك حجة يؤجِّل بها زواجه، لأنه وجد أخيرًا شقة ثمنها يزيد كثيرًا عن المليون، مطلوب دفع نصفهم مُقدَّمًا، والمرأة الحيزبون التي تتصوَّر أن ذلك المبلغ هو ببساطة لا شيء.. وأجدني أعيد على نفسي السؤال ذاته، مِن أين يأتي هؤلاء بالمال اللازم لهذا؟!
أكثر مَن أعرفهم إمَّا عاطلين وإمَّا غارقين في دوَّامة العمل حتى النخاع.. غارقين فيها لدرجة أنني أكاد ألَّا أراهم أصلًا.. لكنهم لم يكسبوا قط أو يدَّخروا تلك الآلاف المؤلَّفة أو ملايين الجنيهات.. لا أحد منهم يستطيع دفع قسط من أقساط وحدة سكنية من تلك التي يعلنون عنها، ولا حتى عُشر ذلك المبلغ!
يسمع أحد الأصدقاء يومًا سؤالي، فيضحك مني ويقول:
– مشكلتكَ أنكَ تتعامّل مع هذا المجتمع على أنه طبقة واحدة، طبقة واحدة فقط هي الطبقة التي تعيش أنتَ فيها، وفاتكَ أن تنتبه إلى أن هذه الطبقة ليسَتْ في حسبان مَن يصنعون تلك المشاريع ويعرضون لها الإعلانات في التلفاز من الأساس.
وأَرُدُّ في عصبية:
– وما عيب هذه الطبقة؟ وما عيبنا نحن أبنائها؟ لسنا متسوِّلين أو جهلة أو عالة على المجتمع.. لقد اجتهدنا وأتممنا مشوارنا التعليمي بأكمله بجد وأدَّينا واجباتنا، لكن هذا البلد مُقَصِّرٌ كثيرًا في حقوقنا بالفعل!
فيضحك مني مجددًا، ويشير إليّ بيده لأصمت ويقول:
– اخفض صوتكَ إذًا؛ أنتَ تتحدث بعصبية حقيقية، وقد تجلب إلينا المتاعب.
لكنه يخطئ في تقييم موقفي وانفعالي على أنهما عصبية فقط.. مجرد عصبية.
لا يمكنه أن يتصوَّر في الواقع مشاعر الغِلّ والكراهية التي تغلي بداخلي.
هناك مَن لا يستحقون العيش في هذه الدنيا.
هناك مَن لا يستحقون الحياة بالفعل!
**********
ربما تُعتَبر واحدة من العلامات المُميِّزة لشارعنا، تلك العجوز صاحبة الكُشك عند نهاية الشارع..
امرأة عجوز متغضِّنة هي، ذات ظهر منحنٍ، ترتدي نظارة سميكة للغاية، وتجلس بالكُشك أغلب الوقت، ولا أفهم ما الذي تفعله به!
الكُشك يبيع إلى جانب الحلوى والبسكويت، وتلك الأشياء العجيبة المعبَّأة في الأكياس التي يشتريها غالبًا الأطفال، عُلَب السجائر، ويضم مجموعة من البضائع، التي تجدها دائمًا مرصوصة بالأكشاك، وتبدو -على الرغم من صغر حَيِّز الكُشك- كأنها تتحداك أن تحصيها وتفنِّدها، خاصةً مع نظرات العجوز المزعجة.
وهذه النظرات المزعجة، والسلوك العام العدائي العصبي، ربما مع مظهر العجوز المتغضِّن الدميم، هي الأشياء التي كانت تجعلني أتعجَّب.. لماذا تبقَى المرأة في ذلك الكُشك طوال سنين؟! ما الذي تجنيه منه أصلًا؟!
لا أكاد أرَى أي طفل يجرؤ على الذهاب ليشتري منها شيئًا.
لا أكاد أذكر أنني رأيتُ حتى رجلًا يبتاع علبة سجائر منها ذات مرة.
بل ولم أرَ أي سيارة من سيارات البضائع يومًا تتوقف عند الكُشك، لمدّ العجوز بحاجتها من البضائع التي تعرضها به، لا سيارة ولا دراجة ثلاثية “تريسيكل” ولا أي شيء آخر.
إذا فتّشتُ في ذاكرتي عن مشاهد تتعلَّق بتلك العجوز، لانحصر الأمر في مشهد خروجها الغاضب من الكُشك، لتقف بعصا خشبية متسخة، تنهر الصبية المزعجين لصوتهم العالي، أو تصرخ فيهم بأن يذهبوا إلى الجحيم.. إمَّا هذا وإمَّا مشهد جلستها الأبدية بداخل الكُشك، أو منظر فتحها للكُشك في الصباح الباكر، وإغلاقه والاتجاه إلى بيتها عند حلول المساء.
بيتها؟ نعم، بيتها.. وهو بيت وليس شقة في بناية، كمساكننا التي سنطلق عليها تجاوزًا اسم “مساكن”.
تلك العجوز كانت تمتلك بيتًا مستقلًا، قديمًا كئيبًا ككل شيء يخُصَّها، يرتفع عاليًا إلى حوالي ثلاثة طوابق، ويميل إلى الأمام، كشيخ أسقمته العقود التي قضاها من الزمن، يكتنفه الفضول فيطلّ على ساكني ومرتادي الشارع أسفله، في حين تبدو بوابته الحديدية، التي كاد أن يأكلها الصدأ، والتي تهبط للدخول عبرها عن مستوى الشارع نحو درجة أو درجتين، كفم كئيب، حرصَتْ العجوز على أن تكمِّمه بسلسلة من الجنزير، علَّقتْ فيها قفلًا عملاقًا عتيق الطراز، كأنما تمنع بها البيت من البَوْح بسرٍ ما لأي كائن من كان.
وبالطبع كانت العجوز تقطن البيت وحدها، لا أحد يشاركها السكن به.. لا تؤجِّر منه ركنًا تافهًا يصلح حتى لسكنى فأر صغير.
منذ كنتُ طفلًا، وأنا أعرف تلك العجوز، وأعرف أن المتاح عنها لأهل الشارع كلهم هو أقل القليل، فلا أحد يعرف لها اسمًا، ولا أحد يعرف لها تاريخًا، ولا أحد يعلم تقريبًا متى حصلَتْ على ذلك البيت القديم، فأصبح ملكًا لها. هل ورثته؟ أم اشترته؟ إن كانت ورثته، فعمَّن، ولم يرها أحد تتزوج قط؟ عن أبيها؟ ومتى كان أبوها هذا مقيمًا هنا؟ وكيف لا يعرف عنه أحد شيئًا؟! وإن كانت اشترته، فمِمَّن فعلتْ؟ لا أحد يعرف صاحبًا للبيت سواها، والبيت نفسه -الذي يبدو أقدَم من الشارع فعليًا- لا أحسبه لو نطق، كان ليقول شيئًا يجهله الجميع!
بكم أقدِّر عمرها إذًا؟ ليس أقل من ثمانين سنة ويزيد.. تلك المرأة كانت عجوزًا منذ كنت طفلًا أبله عمره ثلاثة أعوام يهاب شراء الحلوى المصَّاصة منها، وأنا تجاوزت العشرين الآن.. لذا فهي لن تقِلّ عن الثمانين أبدًا حاليًا.
أقف أحيانًا لأرمق البيت من بعيد، محاولًا تقدير ثمنه، فلا يعوقني عن ذلك، سوى كوني لا أفهم في تثمين العقارات شيئًا!
أفكِّر في رؤوس الأموال غير المستغلَّة.. تلك العجوز اللعينة، الميتة الحية، تمتلك بيتًا ربما كان ثمنه يتجاوز المليون جنيه، وترفض بيعه أو تأجير جزء منه، أو الانتفاع به بأي وسيلة، غير سكنها هي!
قال لي أحد الأصحاب مازحًا ذات مرة وهو يضحك، مشيرًا بطرف شطيرة الفول التي يأكلها ناحية بيت العجوز:
– لو كانت تقبَل الزواج، لتقدمتُ للزواج منها بلا تردد؛ لابد أن تلك اللعينة تمتلك ثروة.. أنا لم أرَها تنفق قرشًا واحدًا طوال عمرها المديد. لكن أتدري شيئًا؟ أتعرف ماذا يقولون عن السبب في عدم زواجها، وعدم رغبتها في أن يشاركها أي شخص سُكنَى البيت؟ يقولون إن البيت فيه كنز قديم مدفون.. ويقولون إن تلك الشمطاء، تنقِّب عنه منذ زمن طويل جدًا.
**********
في غرفة المعيشة الضيِّقة الحقيرة بمنزل عائلتي، أجلس على قطعة حصير قديمة، ممزَّقة في أكثر من جزء منها، وأرتكن بظهري إلى الأريكة خلفي.. أنظر إلى التلفاز الصغير الذي يعمل، الذي تبث شاشته معظم الضوء المبدِّد للظلام من حولي، وأنا أدخِّن سيجارة في شرود، دون أن أتابع بتركيز حقيقي ما يعرضه.
تنفتح أمام عين خيالي طاقة، أرى فيها تلك العجوز، وهي تدخل مساءً إلى بيتها، فتغيِّر موضع القفل في السلسلة الجنزيرية فقط من الخارج إلى الداخل.. تسير إلى غرفةٍ ما فسيحة بالطابق الأرضي.. تضيء مصباحًا من مصابيح الكيروسين، فهو يليق بها أكثر من المصابيح الكهربائية.. تتحرر من ذلك الشال الذي ترتديه تقريبًا طوال الوقت، حتى مع حرارة الجو.. تتناول رفشًا أو فأسًا، لابد أنها تمتلك أيهما حتمًا.. ثم تبدأ في ممارسة مهمتها التي تبدو أزلية.. الحَفر!
لكن لماذا لم يسمعها أي جار من الجيران وهي تحفر طوال كل تلك السنين؟!
وأي عُمق هذا الذي تحفره خلال كل تلك العقود؟ لو كانت تبحث عن البترول، لوجدَتْ ضالتها.. لو كانت ترغب في حفر نفق يوصلها إلى الطرف الآخر للشارع الممتد لأكملَتْ حفره!
يردِّدون الأقاويل عن أن تلك الكنوز الدفينة القديمة غالبًا ما يكون عليها حارس.. حارس خاص -ربما من الجن- خادم للكنز.
إذا كنتَ سعيد الحظ، والكنز مرصودٌ باسمك -وهو شيء لا أفهمه كثيرًا بالمناسبة- ينزاح الخادم جانبًا، وربما يرشدكَ إلى مكانه.
أما إذا كنتَ غير ذلك، فالحارس لا يسمح لكَ أبدًا بالعثور على الكنز.. يخفيه عنكَ.. ربما يقتلكَ أيضًا، إذا حاولتَ الحصول عليه عنوة.
كلام لم أكُن أجد أي دلالات منطقية عليه، لكن مَن قال إن الخيال يجب أن يرتبط بالمنطق دائمًا؟ أحيانًا يُفسِد المنطق الخيال تمامًا.
والصورة التي أراها في الخيال الآن، كانت أجمل من أن يفسدها أي منطق.
أرى تلك العجوز تجد صندوقًا معدنيًا ضخمًا، صندوقًا يشي مظهره بأن امرأة مثلها على مشارف الموت، لن تستطيع بأن ترفع ثقلًا مثله أو تزحزحه حتى عن موضعه. لكن مَن قال إنها كانت لتفعل؟ ما الداعي لأن تفعل أصلًا؟
فقط تنحني عليه تفحصه، تضربه بضع ضربات بالرفش أو الفأس معها، ثم تفتح الصندوق فتتسع عيناها الذابلتان في جشع وشهوة، وبريق ما فيه من ذهب ومجوهرات وحُليّ يكاد يغشي بصرها!
وللأسف يتعكَّر المشهد كله ويتشتَّت، بسبب دخان سيجارة، يطلقه أحمق مثلي وقد غرق في التفكير فيما تراءَى له..
أحقًا يحوي ذلك البيت القديم كنزًا؟ لماذا لم تجده العجوز إذًا؟ أو ربما هي وجدته بالفعل، لكنها تخبِّئه ولا تنتفع به.. تدَّخره لصاحب النصيب، كما تقول أمي دائمًا “مال الكُنَزي للنُزَهي”.. ستظل تكنزه حتى تموت، من ثَمَّ يأتي وريث ما، ليبعثر كل ما كنزته، فيستمتع هو به.
لكن أي وريث؟ لم أرَ ولم أعرف لتلك العجوز أي أقارب ليكونوا ورثة من بعد موتها؟ لا أعرف لها وريثًا، ولا أعرف أحدًا يعرف.
ربما ظهر قريبٌ من بعيد -بعد موتها- عاش حياته لا يحتاج شيئًا، ليبيع البيت سريعًا سواء فحص محتوياته أم لا.
وربما ظهر نصَّاب ادَّعى أنه قريبها، فقط ليكون من حقه أن يختلي بالبيت، فينقِّب فيه عمَّا يحلو له أولًا، قبل أن يحاول بيعه.
أو لعله يكون ببساطة من نصيب الحكومة، إذا لم يظهر مَن يدَّعي أنه قريبها، أو يطالب بنصيب فيما تركته.
الفراغ أمر سيئ، يُشعِر المرء منا أن الوقت مُملٌ بطيء في مُضِيّه، وأن الدنيا على اتساعها ضيِّقة جدًا كثقب إبرة..
لكن فراغي أنا هذه الأيام كانت تملأه الأفكار والتساؤلات..
كنتُ أرى أن تلك العجوز وبيتها يداريان سرًا غير تقليدي، يستحق المغامرة..
وشاب مثلي وبمثل حالي، كان يمتلك كل المقوِّمات اللازمة للقيام بمثل تلك المغامرة.
**********
تحديدًا لا أعرف متى اختمرَتْ الفكرة في رأسي..
لا أعرف كم استغرقتُ من وقت، وأنا أراقب خِلسة العجوز وكُشكها وبيتها، ولا وأنا أضع خطتي، ولا وأنا أجهِّز ما يلزم للأمر!
فقط أقول إنني رأيتُ فجأة أن الوقت المناسب قد حان للتحرُّك وخوض تلك المغامرة..
حملتُ معي ما أحتاج إليه، وتسللتُ خارجًا من المنزل في وقت متأخر ليلًا.
**********
هذه ليلة من ليالي الصيف..
ليلة من الليالي التي يسهر الناس فيها حتى أوقات متأخرة جدًا، بسبب الجو الحار، أو إجازات المدارس والجامعات، أو أي إجازات أخرى، أو ربما حتى لأنهم اعتادوا هذا.
لكن هذه الليلة بالذات، عندما أعلنَتْ الساعة أنها الثانية والنصف صباحًا، كان الشارع صامتًا جدًا ساكنًا جدًا، أكثر مما اعتاد من أي ليلة صيفية أخرى.
كنتُ قد احتطتُ للأمر في الواقع، وقررتُ أنني لن أستعمل الشارع أصلًا..
لذا كان اتجاهي عندما غادرتُ شقتنا إلى أعلى وليس إلى أسفل.. إلى حيث الأسطح. بِمَ كان يفيدني استعمال الشارع على أية حال، طالما أن العجوز تغلق بوابة بيتها بالجنزير والأقفال؟
على الدرجات غير المستوية، التي تقول في وضوح إن هذه منازل أهالي، بنوها هم بأنفسهم، أو ربما استأجروا مقاول بناء، جاء بأسوأ الخامات وعُمَّال البناء، ليتم الأمر كيفما اتفق بقَدْر ما دفعوه، رُحتُ أصعد محاذرًا أن أصدر صوتًا مسموعًا.
وبعد بضع دقائق، كنتُ قد بلغتُ السطح..
كان معي ذلك الكشَّاف الضوئي اليدوي، لأن سطح البناية عديم الإضاءة، والذي أوقدتُ إضاءته فكشف لي المنظر المعتاد لأرض السطح، التي تراصَّت فوقها أكوام من التراب والطوب في فوضى عارمة، وسط شبكة مُعقَّدة من أسلاك أطباق استقبال البث “الدِّش”، لا تعرف من أين تبدأ وإلى أين تنتهي.
ثمة دلو مكسور به بقايا مادة داكنة، خمَّنتُ أنها الأسمنت، وأنا أحاول انتقاء موطئ قدميّ بعناية، محاذرًا أن تشتبك في الأسلاك، وأدنو ببطء من الحافة، ذات السور القصير جدًا، الذي لا يتعدَّى ارتفاعه السنتيمترات العشرة.
اخترتُ تلك الحافة بالذات، لأنها كانت الحافة التي توصلني إلى أسطح مجاورة أخرى وأخرى.. كان عليّ أن أختار الأسطح المتقاربة، وهذه كانت متوفِّرة بشكل معقول في منطقة يصفونها بالعشوائية كمنطقتنا، لأنني لستُ بطل العالم في القفز بين الأسطح حتمًا.
قبل أن أنتقل إلى السطح التالي، وقفتُ بضع دقائق أخرى أُمعِن النظر، لأتأكَّد من خلو تلك الأسطح من الكلاب.. تلك الظاهرة اللعينة، التي غَزَتْ المجتمع المصري، فبات الناس -مع شكواهم من ضيق ذات اليد- يرون أنه من اللطيف حقًا أن يقتني كل منهم كلبًا مسعورًا، لا يستطيع التعامل معه أو التحكُّم فيه، ووضعه فوق سطح داره!
لم تكُن هناك كلاب لحسن الحظ، ومع ذلك فقد قررتُ أن أفحص مبدئيًا أي سطح قبل أن أنتقل إليه.. حتى لو سلمتُ من هجوم الكلب أو تجنَّبتُ شر عضته، فنباحه فقط كان كفيلًا بإفساد الأمر برمته.
لا أدري كم استغرقتُ من وقت لأصل إلى المبنى المجاور لبيت العجوز، كم ماسورة تسلَّقتُ، كم سطحًا تجاوزتُ.. لكني في النهاية وجدتُني أخيرًا قُرب البيت المنشود، أفكر في مشكلتين كبيرتين كانتا شديدتيّ الوضوح بمجرد أن وصلتُ إليه.
كان سطح بيت العجوز بعيدًا نوعًا عن أي سطح آخر يحيط به..
أمَّا المشكلة الأكبر، فكانت أنه مُحاط بسياج من السلك الشائك!
**********
مرة أخرى، هذا سبب قوي يشير إلى أن البيت يخفي سرًا ما…..
لماذا تقوم العجوز بإحاطة السطح بسياج من السلك الشائك، طالما أنها لا تضع ولا تربِّي عليه شيئًا، تخشى هروبه أو سقوطه؟
من وراء السياج، كان يبدو السطح مثل باقي الأسطح، فيما عدا أنه لا يحوي طبق استقبال البث، ولا حتى هوائي التقاط عاديًا، ولا أي شيء آخر.. الأمر لا يزيد عن أكوام من التراب وكثير من الطوب والحصى فحسب.
طبيعي جدًا ألَّا تشاهد تلك المرأة العجوز التلفاز، طبيعي جدًا ألَّا تمتلك واحدًا. طبيعي أيضًا أن تقضي أوقاتها في الاستماع إلى الراديو، ربما عن طريق جهاز مذياع قديم، من ذلك الطراز الذي كان يربطون له حجارة البطارية الجافة لئلا تسقط منه. الغريب -في الواقع- هو أن أجد العكس.
الآن كيف أتغلب على هاتين المشكلتين، لأصل إلى سطحها؟
المسافة بين السطحين كانت تتجاوز المتر والنصف، كما كان يقف ذلك السياج عائقًا بعدها، بارتفاع متر تقريبًا..
مُكهرَب؟! أشك في هذا.. السياج يبدو رديئًا جدًا، مصنوع من السلك الشائك الذي يحيط به الأهالي الحدائق عادةً، والعمل ككل -حتَّى من هنا- يبدو يدويًا غير مُتقَن.. إذًا فهي محاولة لإبعاد الفضوليين والمتطفلين ليس إلا.. هذا فضلًا عن أن تلك العجوز لن تدفع قرشًا واحدًا من أجل عمل نظام مُكهرَب للسلك، يستدعي دفعها بانتظام لفاتورة شهرية، وفي النهاية، ماذا كان ليَصعَق؟ بعض العصافير والفئران؟
ذلك السلك ليس مكهربًا.. أنا واثق من هذا.
كنتُ قد أحضرتُ معي حقيبة صغيرة، من تلك الحقائب ذات الحمَّالات التي تُحمَل على الظهر، التي يطلقون عليها اسم “جربندية”.. أنزلتُها عن ظهري، وأخرجتُ منها حبلًا سميكًا، قمتُ بلفه حول قبضتيّ جيدًا، قبل أن أختبر حركتهما لأتأكد أن لف الحبل عليهما لم يُعِق الأصابع عن الانقباض، خاصةً مع وجودهما داخل قفازين.
رفعتُ الحقيبة أُعلِّقها على ظهري مجددًا، اقتربتُ من الحافة في حذر، أقيس المسافة ببصري مرة أخيرة، ثم تراجعتُ حتى منتصف السطح.. استغرقتُ لحظة واحدة تقريبًا، حسمتُ أمري خلالها، قبل أن أندفع إلى الحافة، ثم أقفز منها لأطير في الهواء نحو الأسلاك الشائكة لسطح بيت العجوز مباشرةً!
**********
كانت المسافة أكبر مما حسبتُ!
واصطدامي جاء أعنف مما توقعتُ!
وبدلًا من أن توصلني قفزتي إلى مستوى السلك الشائك، الذي خططتُ لأن أمسك به بقبضتيّ الملفوفتين بالحبال، وجدتُني أتعلَّق به بقبضتيّ هاتين، على امتداد ذراعيّ، وقد أصبحتُ في مستوى منخفض عنه، أجزُّ على أسناني بقوة، بسبب ألم الاصطدام بالمبنى!
لكني تماسكتُ في جَلَد وصلابة!
كان لاصطدامي صوت مكتوم، لأنه جاء في منطقة بلا نوافذ.. بلا أي شيء في الواقع سوى طوب المبنى نفسه.
وفي وضعي المُعلَّق، خفضتُ رأسي قليلًا إلى أسفل، لأرى الشارع من تحتي -من ارتفاع ثلاثة طوابق- ساكنًا، ينتظر في صمت ما إذا كان هناك اصطدام آخر لجسدي به، أم أن الأمر انتهى عند هذا الحد.
بعد لحظات، تمالكتُ نفسي، واستطعتُ أن أرتفع بجسدي أكثر، معتمدًا على قبضتيّ وقدميّ اللتين تتسلقان المبنى من الخارج، لأصبح أخيرًا في مستوى سياج السلك، ثم لأثب فوقه وأتجاوزه إلى سطح البيت نفسه.
ولدقيقة أو يزيد، بقيتُ ساكنًا في موضعي، لأتمالك نفسي وأعصابي أكثر، وأفكّ الحبال عن قبضتيّ، وألتقط مجددًا كشَّافي الضوئي اليدوي، وسكينًا كبيرًا صدئًا، استعرتُه من أدوات مطبخنا القديمة، يصعُب أن تلاحظ أمي اختفاءه.
الآن أتحرك نحو باب سطح البيت قاصدًا سلمه..
الآن تبدأ مغامرتي الحقيقية.
**********
لم يكن باب السطح مفتوحًا..
كان مغلقًا ومحشورًا في إطار خشبي بالٍ، لكني جاهدتُ باستعمال نصل السكين، حتى فتحته..
والعجيب أنه عندما استجاب لي أخيرًا، بعد جهدٍ مُضنٍ، فدفعتُه لأفتحه في حذر، وأنا أسلِّط الضوء من ورائه، رأيتُ ذلك المزلاج الصدئ يتدلَّى من طرفه من الناحية الأخرى! مزلاج قديم جدًا، ولولا كونه قديمًا صدئًا ضعيفًا، لما خرج من الجدار مع محاولاتي القوية.
أتقدَّم في خُطًى حَذِرة فأتجاوز المدخَل، أغلق باب السطح المفتوح، حتى يعود لوضع الانحشار مع الإطار الخشبي ثانيةً.. ألتفتُ إلى الوراء، وأُسلِّط ضوء الكشاف إلى أسفل، لأستوضح موضِع درجات السلم القديمة المتآكلة..
يا الله! لم أرَ درجات سلم أقدَم من هذه!
كنتُ أهبط في بطء، بين أطنان من الغبار وأعشاش العناكب، التي ملأتْ كل ركن وزاوية من جدران السلم.. وفكرتُ أن تلك العجوز اللعينة تفتقر إلى النظافة حتمًا. لو صادفتُ هنا العقارب أو الثعابين لما اندهشتُ.. لقد حوَّل الإهمال البيت إلى ما يشبه الخرائب!
على أن الشيء الذي بدا لي مثيرًا للاستغراب والدهشة والتوجُّس أيضًا وأنا أهبط، كان طوابق البيت نفسها..
فالطابق الثالث مثلًا، أول طابق قابلني أثناء هبوطي، لم ألمح فيه أبدًا أي باب يدلُّ على وجود شقة ما فيه!
ولم آبه للأمر كثيرًا وأنا أهبط إلى الطابق الثاني.. لكني رأيتُ المشهد نفسه يتكرر!
ثم يعود ليتكرر مجددًا في الطابق الأول! وعندها توقفتُ في دهشة!!
من الخارج يبدو البيت عاديًا جدًا، بيت من ثلاثة طوابق، لكل طابق نوافذه، التي تَدُلَّكَ في وضوح أن ثمَّة شقة واحدة على الأقل في كل طابق منه.
وإن كنتُ لم أهتم كثيرًا بالنظر إلى الطابق الثالث وفحصه جيدًا، واعتبرتُ خلو الطابق الثاني من أي شقق تجاوزًا، فالأمر يبدو الآن غريبًا جدًا في الطابق الأول! ما فائدة كل هذه الطوابق، إن كانت ثلاثتها عبارة عن بئر سلم عميق يصل من السطح إلى الأرض؟!
لم يدخل أحد من قبل إلى بيت العجوز، ليخرج فيحكي عمَّا رآه فيه، لذا اعتبرتُ أن الأمر -على غرابته- ربما يكون مقبولًا.. صحيح أنه يمثِّل لي لغزًا غريبًا، لكن -من جديد- هذا يناسب تلك العجوز غريبة الأطوار.. كل شيء غريب يناسب غرابتها يمكن هضمه.
أدرتُ الكشَّاف من حولي، أتفقَّد نفس منظر الغبار وأعشاش العناكب، الذي يمنحني انطباعًا بأنني دخلتُ مغارة أو كهفًا، ثم شرعتُ أهبط إلى الطابق الأرضي..
من موضعي على السلم كنتُ أرى البوابة القديمة، التي تفتحها وتغلقها العجوز بكيفية ما لا أعرفها؛ فهي تبدو محشورة في الأرض تمامًا كقضبان سجن حديدية ثابتة، غير قابلة للتحريك.
أسرعتُ أداري ضوء الكشَّاف وأحدَّه بيدي؛ خشية أن يلمَح بقعة الضوء من الخارج فضوليّ ما، فيقترب ملصقًا وجهه بالبوابة، متسائلًا عمَّا يحدث وراءها.
وأكملتُ الهبوط، حتى صرتُ أقف على الأرض المنبسطة للطابق نفسه، فأدرتُ كشَّافي الضوئي بحذر، ليكشف لي أن المكان فسيح إلى حد ما هنا، وبه مدخل واحد فحسب مفتوح إلى غرفة أو شقة مظلمة.
هكذا الأمر إذًا؟! البيت -برغم كبره- لا يحوي إلا مكانًا واحدًا للسكنى، ربما لا يزيد عن غرفة تلك العجوز، وهي لا تؤجِّره ولا تسمح لشخص آخر بمشاركتها السكن، لأنه ببساطة لا يوجد بالمبنى ما يصلح للسكن إلا تلك الغرفة وهذا السلم الذي يقود إلى السطح.
ولكن كيف يتفِق هذا مع المنظر من الخارج؟! المنظر الذي يدُلّ على وجود طوابق وشقق؟! حقًا، لا أفهم! لكن لا وقت كذلك الآن لأحاول الفهم.
رحتُ أدير بقعة الضوء من حولي في بطء وحذر، لأكشف تفاصيل المكان جيدًا، فلم أجد مدخلًا آخر..
إذًا يبقَى ذلك المدخل الوحيد المفتوح الذي رأيتُه..
عدتُ ببقعة ضوء الكشَّاف إليه، وتحركتُ في حذر مقتربًا منه.. حتى إذا أوشكتُ على الدخول منه، ظهرتْ أمامي فجأة على عتبة المدخَل العجوز بنفسها!
**********
حقًا كانت مفاجأة مرعبة!
أجفلتُ وأنا أتراجع إلى الوراء في رهبة، وأسلِّط الضوء على وجه العجوز، فلم يبدُ لي أنني رأيتُه من قبل يحمل مثل هذا القبح والشر!
كان شعرها الأشيب القصير مشعثًا ثائرًا حول رأسها، ووجهها المتغضِّن عابسًا غاضبًا، وفي عينيها لمعَتْ نظرة تفيض بالشر والإيذاء.
أفلتتْ مني مع المنظر تمتمة رهبة أثناء تراجعي وأنا أقول:
– تبًا!
ويبدو أنها كانت الإشارة التي تنتظرها العجوز لتنقض..
لقد رفعتْ يديها كأنها مخالب حادة، وانقضتْ عليّ في هياج وغضب، مصدرة زمجرة حيوانية عجيبة، فوجدتُها تسقطني أرضًا وتسقط فوقي، ليطير الكشاف الضوئي من يدي، فأزداد اضطرابًا وتوترًا!
لكني إذ رفعتُ يديّ محاولًا إبعاد شبحها المظلم عني في يأس، تذكرتُ ذلك السكين الكبير معي، الذي لم تفقدني إياه تلك السقطة على ظهري..
أدركتُ أن أصابعي كانت لا تزال قابضة عليه..
وهكذا تحوَّل انفعالي كله إلى طاقة هجوم، تمثَّلت في طعنات قوية سددتُها إليها في الظلام تباعًا دون توان، وأنا أقول في عصبية:
– موتي أيتها اللعينة! موتي! موتي وابتعدي عني!!
وسمعتُ منها صوتًا أشبه بحشرجة..
وبدا أن جسدها الذي نال الطعنات قد تشنَّج، فلم يَعُد قادرًا على المزيد من الحركة..
وقبل أن تسقط فوقي، أزحتُها بذراعي لتسقط بعيدًا، وتدحرجتُ على الأرض بسرعة، لأجد أن كشَّافي الضوئي ليس ببعيد، فأسرعتُ أختطفه، وألتفت لأصوِّب ضوءه إليها وأنا أنهض لاهثًا..
وعلى ضوء الكشَّاف كانت المشهد أكثر وضوحًا الآن؛ العجوز المستقرة على ظهرها، الغارقة في دمائها الداكنة، هامدة الحركة، عيناها مفتوحتان تحدِّقان إلى أعلى في ثبات جامد، وفكاها مفتوحان كفكيّ ثعبان كان يمنِّي نفسه بابتلاع ضحيته، فلم يجد الفرصة ليفعل!
لوقتٍ أحسبه امتد نحو دقيقة أو دقيقتين، بقيتُ على وضعي نفسه، أرمقها وألهث انفعالًا، حتى هدأتْ ثائرة أعصابي وبدأتُ أتمالك جأشي..
عندها حوَّلتُ ضوء الكشَّاف من جثة العجوز الهامدة إلى مدخل الغرفة من جديد..
كان لا يزال ينتظرني عمل لم يبدأ بعد.
**********
غرفة العجوز كانت صغيرة وكئيبة للغاية..
كما تصورتُ تمامًا، كانت تضيئها تلك المأفونة بمصباح كيروسين، من تلك المصابيح التي عفا عليها الزمن، رأيتُه وأنا أدير ضوء كشَّافي اليدوي بالغرفة..
أربعة جدران ذات طلاء رديء تساقط في أكثر من موضع، مليئة بالتصدُّعات والشروخ، كوَّنتْ غرفة بمساحة لن تزيد عن ستة أمتار مربعة، لم تكن تحوي سوى سرير قديم حقير من النحاس للعجوز، يكاد أن يبتلعها، وحامل مُثَبَّت إلى أحد الجدران، موضوع فوقه مصباح الكيروسين.
وماذا بعد؟ أهذا كل شيء؟
هل بَنَتْ تلك العجوز أو زوجها أو أجدادها هذه البناية ذات الطوابق الثلاثة، من أجل هذه الغرفة الضيِّقة الخانقة وحسب؟!
هل ذهب مجهود مغامرتي سدى إذًا؟! ألن أجد أي نفع من كل هذا؟!
أين تحتفظ تلك العجوز اللعينة بأشيائها إذًا؟ أين تدَّخر النقود التي تأتي بها من فتح الكُشك، إذا ما اشترى أحدهم منها شيئًا؟!
لم يكن في الغرفة شيء آخر سوى السرير والحامل.
وجعلني هذا أفكر في الاحتمال المنطقي الوحيد، أسفل السرير.
ربما في صندوق السرير، إذا كانت قاعدة السرير عبارة عن صندوق “صحَّارة”، أو تحته فحسب.
وهكذا، لم أتردَّد في أن أجذب حشية السرير في عنف، لألقي بها من فوقه لأرى ما الذي تحتها..
أسفلها بدت الألواح الخشبية المرصوصة لحمل الحشية، والتي أسرعتُ أزيح بعضها في عصبية أيضًا، قبل أن أتوقف، لأسلط الضوء على ذلك المربع واضح الحدود ذي الحلقة المعدنية في الأرض أسفلها!
الأمر لا يحتاج إلى ذكاء كبير، لأخمِّن أن هذا باب سرداب أرضي..
سرداب ربما يقود إلى الكنز؟!
**********
انحنيتُ لأمسك بالحلقة المعدنية في حماس لأجذب منها الباب، لكني وجدتُ أن الأصابع الحرة في يديّ المشغولتين بحمل الكشاف الضوئي والسكين لن تقدرا على إنجاز العمل..
الكشاف الضوئي كان ضروريًا للرؤية، فلا مصدر للإنارة سواه.. لذا كان لزامًا عليّ أن أترك السكين..
ولم يكن ثمة مكان مناسب لأتركه فيه مؤقتًا إلا الحامل الخشبي نفسه، الموضوع عليه مصباح الكيروسين المطفأ، فتركتُه عليه محاذرًا أن يمس نصله الدامي سطح الحامل الخشبي. كنتُ أحتاط جيدًا لكل شيء، ستكون هناك شرطة وتحقيقات وفحص بصمات بعد هذا، وأنا لا أريد أن أترك أثرًا يدُلّ على شخصي أو هويتي.
بل وحتى الكنز، الذي أعود الآن إلى باب السرداب بحثًا عنه، أنوي أن أتخذ كل سُبُل الحيطة والحذر في التصرُّف فيه.. ففي منطقة كهذه، وبعد أن ينكشف حادث مقتل العجوز، أي شخص سيثرَى ثراءً مفاجئًا، لابد من أن تتجه إليه فورًا أصابع الاتهام، برغم أن نظرية ثراء العجوز والكنز كانت طوال الوقت مجرد أقاويل أقرب إلى الخرافة.
أنحني لأمسك بالحلقة المعدنية هذه المرة بقبضتي كلها في إحكام، أجذبها بكل قوتي مندهشًا من مدَى ثقلها.. أنا لا أستطيع أن أرفعها بذراع واحدة مهما حاولتُ!
أمسك الكشَّاف بين أسناني لأنه ضروري، وأعيد الكرَّة مستعملًا كلتا يديّ هذه المرة، أستجمع قوتي كلها لأن الباب اللعين ثقيل حقًا، ويصدر عني ذلك الأنين الدال على مدى ما أبذله من جهد..
الباب يستجيب.. يرتفع.. أجذبه أكثر حتى أفتحه عن آخره..
وإذ يستقر في وضعه المائل للوراء شبه القائم مفتوحًا، أتركه أخيرًا لألتقط أنفاسي متعجبًا وأنا أرمقه على ضوء الكشَّاف، الذي عدتُ ألتقطه بين أصابعي مجددًا.. كيف كانت تلك العجوز اللعينة تفتحه إذًا، لو أنه بهذا الثقل؟!
الدرجات الهابطة لأسفل كانت حجرية بدائية الشكل، لكنها بدت لي قوية متماسكة، تبدأ من مسافة تنخفض عن فتحة السرداب في الأرض بنحو نصف المتر، وتمتد لمسافة طويلة لا يدرك مداها بصري من هنا.. لذا صوَّبتُ ضوء الكشَّاف إلى أسفل، ووثبتُ إلى ذلك الجزء المسطَّح عند قمة الدرجات الهابطة، وانحنيتُ أتطلع إلى ما كان محجوبًا عني.
كانت الدرجات تهبط لعدة أمتار، قبل أن تلتقي بممر طويل ضيِّق الاتساع، تضيئه إضاءة خافتة صفراء مجهولة المصدر، ينعطف عند الاتجاهين أمامي وخلفي في نفس الاتجاه، كما لو أنه يدور ليلتقي بنفسه عند نقطة ما.
لكن بينما أتأمل ذلك المشهد، شيء ما جعلني أرفع رأسي فجأة، وأطُلّ بها مجددًا عبر فتحة السرداب، على غرفة العجوز، لتقع عيناي المذهولتان على مشهد جمَّد الدم في عروقي..
لقد وجدتُني أحدِّق إلى تلك العجوز نفسها من زاوية منخفضة، وقد وقفتْ فوق رأسي عند أحد أعمدة سريرها النحاسي، حاملة سكيني الكبير في قبضتها، بادية الغضب!
**********
بشكل غريزي تلقائي بحت، دفعتُ ثمنه سقطة موجعة، تفاديتُ ضربة العجوز بالسكين..
انحنيتُ بسرعة متقيًا النصل الحاد، وتحركتُ حركة عشوائية، كان من شأنها أن جعلتْ توازني يختل، فأسقط لأتدحرج فوق الدرجات القاسية الصلبة، حتى أصطدم بأرض الممر!
ومن فوقي لم يكن المشهد الذي رأيتُ يسمح برفاهية تفقُّد ما أصابني أو حتى التأوُّه ألمًا..
هذا لأن مشهد العجوز وهي تهبط نحوي من فتحة السرداب إلى حيث الدرجات الهابطة كان مرعبًا حقًا!
لماذا وكيف لم تمُت تلك المرأة؟ كيف تركتها طعنات سكيني حية، بل وقادرة على أن تحمل سكيني فتطاردني به؟!
لكني منذ الوهلة الأولى التي بدأتْ فيها حركتها الهابطة نحوي، استوعبتُ الإجابة..
تلك العجوز اللعينة لم تكن تمشي على قدميها إليّ، بل كانت تسري..
تسري كأنما تطير فوق الأرض كجنية شريرة، مشعثة الشعر متجهمة الوجه، لا أثر في ملابسها لطعنات أو دماء، حاملة سكيني الضخم، الذي يطل شبح الموت من نصله الصدئ المخيف الملوث بالدم!
ونهضتُ مسرعًا لأهرول مبتعدًا عنها على غير هدى موغلًا في الممر، وجسدي يئن بإصابات سقطتي، وكشَّافي الذي تهشَّم مع السقوط، أفقدني عونًا يحسِّن من الرؤية السيئة لمعالم المكان في الإضاءة الخافتة..
وانعطفتُ مع الممر، لأُفاجأ بأنه لا يمتد لمسافة طويلة بعد المنعطف، ولا يتفرَّع لأي فروع أو اتجاهات جديدة، لكنه ينتهي بما يشبه بابًا خشبيًا مغلقًا يقود إلى المجهول!
ولم يكن أمامي إلا أن أقصده دون تردد أو تفكير..
وعندما بلغتُه ففتحتُه بصعوبة، لم أجده إلا لوحًا من الخشب يمثل بابًا لفراغ صغير خلفه، أشبه بقبر قائم رأسي.. لكن التفاتة واحدة إلى الخلف، رأيتُ فيها العجوز القادمة نحوي في غضب وإصرار، جعلتني آوي إليه بسرعة لأحشر جسدي داخله كيفما اتفق، وأجذب ذلك اللوح الخشبي، لأغلقه ورائي بقوة، متعشِّمًا أن ينحشر في إطاره، فلا تجد تلك العجوز سبيلًا لفتحه أو تجاوزه.
وفي قرارة نفسي كنتُ أعي أن هذه هي نهاية المطاف.
الآن في موقفي هذا ولحظاتي هذه أعرف إجابات تبدو منطقية عن تساؤلاتي، وربما عن تساؤلات الآخرين أيضًا..
الآن يمكنني الجزم بأن تلك العجوز نفسها، هي حارس الكنز.. هي ذلك الخادم الخاص الموكَل بحمايته..
لهذا عاشت طويلًا جدًا بلا زوج ولا ولد.. لهذا لا يهم كثيرًا مَن يشتري البضائع من كُشكها القديم البالي ولا مَن يمدها بها.. لهذا يبدو منزلها من الخارج واجهة مموِّهة فقط، ومن الداخل أشبه ببئر عميق، لا شيء فيه إلا تلك الغرفة المؤدية إلى هذا الممر.. لهذا لم تخلِّصني منها الطعنات.. ولهذا كانت تسري الآن سعيًا في أثري!
تلك العجوز ليسَتْ بشرية أصلًا؛ وجودها الأساسي كان من أجل حماية الكنز..
هل يوجد كنز هنا حقًا؟ هل كنتُ لأجده لو كنتُ قد اتخذتُ الاتجاه الآخر من الممر؟ وهل كنتُ إذا وجدتُه سأحظَى بفرصة مناسبة لجمع أي شيء منه؟ ماذا كنتُ لأفيد به لو كنتُ قد وجدتُه؟
وتذكرتُ الأقاويل التي يرددها الناس في هذا الشأن..
إذا كنتَ سعيد الحظ، والكنز مرصودٌ باسمك -وهو شيء ما زلتُ لا أفهمه كثيرًا بالمناسبة- ينزاح الخادم جانبًا، وربما يرشدكَ إلى مكانه.
أما إذا كنتَ غير ذلك، فالحارس لا يسمح لكَ أبدًا بالعثور على الكنز.. يخفيه عنكَ.. ربما يقتلكَ أيضًا، إذا حاولتَ الحصول عليه عنوة.
وأنا لم أكُن أبدًا سعيد الحظ..
كنتُ شقيًا دائمًا، وصرتُ أكثر شقاءً وتعاسة بهذه الفكرة، التي وضعتْ حياتي على كفة ميزان، في حسبة لم أُجِد القيام بها.. إمَّا أنا وإمَّا العجوز..
الآن، وأنا أسمع صوت ارتطام سكيني المتعطِّش لإراقة دمي، في قبضتها، باللوح الخشبي الذي يداريني مؤقتًا، أعرف أي كفتيّ الميزان سترجَح، وأعرف أن اللغز ربما سيعود بشكل ما مع مطلع الصباح الداني، ليستمر مع أهل منطقتي طويلًا، دون أن يفهم أحدهم أو يمكنه تصوُّر كيف وأين اختفيتُ.
لقد أقدمتُ على خطأ لا سبيل للاعتذار أو التراجع عنه..
وخلال دقائق على الأكثر -كما ينبئني الصوت المزعج لضربات وخدش السكين- سأدفع الثمن.
هناك مَن لا يستحقون حقًا العيش في الدنيا..
وهناك مَن يتحيَّن القدر مغادرتهم لها قريبًا جدًا..
فقط لم أتصوَّر قط أنني ربما أكون واحدًا منهم!
**********
(تمت بحمد الله)