

القصة كاملة بناءً على طلبكم…
مُش دايمًا كل مكان جديد يُعتبر بداية حياة جديدة، وارد جدًا يكون بداية متاهة بتلاقي رجلَك اتزحلقت فيها بدون ما تاخد بالك..
الحكاية بدأت لما وصلت المزلقان اللي بشتغل فيه ودخلت بلوك التحويلة، عشان أستلم النبطشية من علي؛ المحولجي اللي قابلي، لكن لقيته قبل ما يمشي بيقول لي:
-في جواب عشانك من الهيئة يا حسن، ابقى وقع باستلامه.
بصّيت له باستغراب وسألته:
-جواب إيه اللي من الهيئة، دعوة فرح دي ولا إيه؟
-لأ وأنت الصَّادق.. حركة تنقّلات، أنا لسَّه موقع على الجواب بتاعي النهارده.
بعدها سابني ومشي. ساعتها عيني راحت ناحية الترابيزة اللي فوق منها أوراق تخُص الشغل وأنا بقول في سرِّي: يا مُنجّي من المهالك يارب.. لمحت ظرف أصفر جنب الأوراق، مديت إيدي وأخدت الظرف وفتحته، طلَّعت الجواب اللي جوَّاه وبدأت أقرأ.. “السيد/ حسن عطية أبو العينين؛ تحية طيبة وبعد.. نوَّدُ إبلاغكم بأنه تم نقلكم إلى مزلقان منطقة…؛ وذلكً بدءًا من تاريخ…/ التوقيع بالعلم والاستلام”.
وقَّعت في المكان اللي المفروض أوقَّع فيه رغم إن الموضوع كان تقيل على قلبي.. أصل المنطقة دي بعيدة، وبعدين الموضوع مش سَهل زي ما أنتم متخيّلين، دي فيها شَحططة ونقل عفش وليلة طويلة، وخيريّة مراتي هتقعُد تِندِب حظنا، لأننا عايشين في البيت اللي ساكنين فيه من سنين، وبقينا من أهل الشارع والجيران يعرفونا كويس، وفي نفس الوقت مكانش ينفع أسيبها وأروح لوحدي، لأني هضطَر أشوف أي مكان أسكن فيه هناك، وبكده هكون بدفع إيجارين، ودي حاجة تكسر ضهري، والأهم من كل ده هو موضوع الخِلفة.. أصل أنا وخيريّة متجوّزين من عشر سنين، ولسَّه ربنا مرزقناش بالذرية، وبنتابع مع الدكاترة وبناخد بالأسباب ومنتظرين ربنا يأذن.
صوت سارينة القَطر طلَّعتني من دوامة التفكير اللي غرقت فيها، حطيت الجواب والظرف في مكانهم، وبعدها رُحت أشوف شغلي، وسارينة ورا التانية؛ وقَطر ورا التاني، لحد ما النهار طلع والنبطشية خلصت.. انتظرت لحد ما علي وصل وسلِمته البلوك وبعدها مشيت، بس مروَّحتش على البيت زي كل مرة؛ لأني أخدت بعضي وطلعت على الأستاذ رمزي ناظر المحطة، قُلت جايز يشوف لُه صِرفة ويكلّم حد من معارفه يلغي حكاية التنقلات دي، ولما وصلت عنده ودخلت المكتب، لقيته مشغول في دفتر موجود قدامه، لكنّي صبَّحت عليه عشان ينتبه إني موجود وقُلت:
-صباح الخير يا أستاذ رمزي.
رفع وشه من الدفتر ورَد عليا الصباح، وساعتها كمّلت كلامي…
-معلش ممكن آخد من وقت حضرتك دقيقة؟
-أوي أوي يا حسن، تحت أمرك.
طلَّعت الجواب من جيبي وأنا بقول له:
-أنا وقعت على الجواب، بس يعني لو في إمكانية إنك…
ملحِقتش أكمّل كلامي؛ لأنه صادر عليا وقال:
-أنت عارف إني متأخَّرش عنك يا حسن؛ لكن الموضوع جاي من فوق، وأنت عارف إن مُش كل الأيادي بتطول إنها تطلع لفوق.
لمَّا لاحظ إني ملامحي اتغيّرت، ولمحة الأمل اللي كانت في وشي راحت قال لي:
-وبعدين كلها مزلقانات وبلوكات تحويلة، وزي ما اتعوّدت على هِنا؛ مسيرك تتعوّد على هناك.
شكرته؛ واعتذرت له على الكام دقيقة اللي ضيَّعتهم من وقته، وبعدها طبَّقت الجواب ورجَّعته جيبي من تاني.. خرجت من مكتبه وطلعت على البيت، ولما وصلت رميت شنطتي على الترابيزة، وقعدت على الكنبة اللي جنبها، وساعتها لمحت خيريّة خارجة من الأوضة والنوم في عينيها، وقبل أي حاجة بصَّت في الساعة وسألتني:
-راجع متأخر من الشغل ساعة؛ مُش عوايدك يا حسن!
كنت بقلَع جزمتي وشرابي وأنا بسمعها، ولما شمّيت في كلامها ريحة تحقيق؛ رديت عليها من غير ما أبُص ناحيتها:
-كُنت عند ناظر المحطة.
-خير يا حسين؛ أوعى تكون عملت مشكلة في الشغل!
رفعت عيني ناحيتها وأنا بستنكر طريقة كلامها، ورديت وأنا بشِد عليها في الكلام:
-محسِّساني إني كنت عند ناظر المدرسة عشان مِسكوني بسرق سندوتشات زمايلي.. دَه ناظر المحطة اللي المزلقان تبعها، وعادي لما أروح عنده.
-مقصدش؛ أنت عارف إن لساني زي المَدَب، اتوغوشت بَس وافتكرت إن في حاجة.
أخدت نفس عميق؛ عشان أستعد للمرحلة التانية من كلامها لما تعرف، وبعدها قُلت:
-أيون يا خيريّة في حاجة.
-متوقَّعش قلبي يا حسن، ومتبقاش عامل زي الحنفية اللي جلدتها بايظة وتفضل تنقَّطني بالكلام.
-خلاص يا ستّي؛ مش هنقَّطك بالكلام.. أنا جالي جواب نقل لمزلقان تاني، والمنطقة بعيدة عن هنا، وده معناه إننا هننقل للمنطقة اللي هنروحها، ارتاحتي كده؟
ملامح خيريّة اتغيَّرت، وشِّها فِضل يجيب ألوان لما عرفت اللي فيها، مُش كده وبَس، دي عملت أكتر حاجة بتضايقني؛ وهي إنها خبطت على صدرها وهي بتقول لي:
-وإيه لزومها الشحططة؟!
-قُلت لِك مليون مرة بلاش الحركة دي، وبعدين دي حاجة مُش بإيدي، القَطر مُش بيمشي بمزاجه، في سوَّاق بيسوقه، وإحنا نفس النظام، سيب هِنا وروح هناك بنقول حاضر وبننفّذ، وبعدين متقلبيش دماغي، كفاية سارينة القُطرات طول الليل!
لمَّا شدّيت عليها في الكلام حطَّت لسانها في بوقّها، أصل في نوعية ستّات لو مفرمِلتهاش بتسوق فيها، وخيريّة مراتي من النوعية دي، بَس ده ميمنعش إن قلبها طيّب وإني بحبها، عشان كده لما شافت منّي الوِش الخشب؛ سابتني وقامت دخلت المطبخ عشان تجهّز اللقمة اللي متعوّدة تجهّزها لما أرجع من النبطشية.
سندت ضهري على مسند الكنبة ورجَّعت راسي لورا، غمضت عيني وأخدت نفس عميق وأنا بقول لنفسي: وبعدين يا حسن؛ ياريتها كانت على قَد تغيير المزلقان، دَه أنت هتغيَّر حياتك كلها، بيتك وجيرانك، والشوارع اللي أنت متعوّد تمشي فيها، والناس اللي اتعوّدت تسلم عليها في الرايحة والجاية، بَس كل التفاصيل دي مش شاغلة بالي في الوقت الحالي، كل اللي شاغل دماغي هو البيت؛ الأربع حيطان وسقف اللي هنعيش جواهم، واللي لازم يكون موجود قبل ما أستلم في المنطقة الجديدة.
فتحت عيني على صوت خيريّة؛ وهي بتحُط صينية الأكل على الكنبة جنبي وبتقول لي:
-بالهنا والشِّفا.
سمّيت الله وبدأت آكل، بَس لقيت اللقمة ماشية في زوري بالعافية، ولما خيريّة لاحظت ده سألتني:
-الأكل مُش عاجبك ولا إيه يا حسن؟
-بالعكس، عاجبني وتسلم إيدك وكل حاجة، لكن سرحان شوية في البيت اللي المفروض نأجَّره.
وزي ما توقَّعت؛ خيريّة مش بتحب تشوف الوِش الخَشب مرّتين ورا بعض في نفس اليوم، عشان كده كلامها كان خفيف معايا وقالت:
-بُكره ربنا يدبَّرها.
أكلت على قد نِفسي وقُمت، دخلت الحمام وأخدت دُش دافي، وعلى ما خلَّصت كانت خيريّة مجهّزالي هِدمة نضيفة، لبست ودخلت ريَّحت على السرير، الإرهاق كان قاتلني، عشان كده مأخدتش وقت طويل ورُحت في النوم، ومفتحتش عيني غير على صوت خيريّة وهي بتهزّني في كتفي وبتقول:
-اصحى بقى يا حسن، ميعاد النبطشية قرَّب.
قُمت وجهّزت حالي؛ وانتظرت لحد ما خيريّة جهّزت لي لقمة أتقوّت بيها في الشغل، وبعدها أخدت بعضي ومشيت، ولما وصلت البلوك، كان لسَّه شوية وقت على ما النبطشية بتاعتي تبدأ، عشان كده كان في وقت أدردش مع علي، وأول حاجة سألته عنها هي المنطقة اللي هيتنقل فيها، ساعتها بَص لي وقال:
-الحمد لله يا صاحبي؛ مشواري مطلعش بعيد، الموتسيكل بتاعي هيقضي الغرض.
تمنّيت لو كنت أنا كمان اتنقلت لمكان قريّب، عشان كده قُلت له:
-أنا بقى مشواري طويل يا صاحبي، ويا عالم يا علي هيبقى المحولجي اللي قصادي طيّب وابن حلال زي حالاتك ولا لأ.
-الدنيا فيها الحلو وفيها الوحش يا حسن، بَس إحنا شَعب طيّب ومليان خير، عشان كده هتلاقي اللي زيي وأحسن منّي كمان.
بعدها سألني عن اسم المنطقة، ولما قُلت له اسمها قال لي:
-المنطقة فعلًا بعيدة؛ ربنا يكون في عونك على ما تنقل وتستقر، بَس في هناك كام بيت في بطن السكة الحديد، البيوت دي تبع الهيئة.
كلامه لفت انتباهي؛ عشان كده قُلت له:
-تُقصد بيوت بجد؛ ولا مخازن تبع الهيئة وأنت فاكرها بيوت.
-لأ بيوت بجد، مبنية من أيام الانجليز، ولما غاروا عننا، البيوت دي سكن فيها ناس من اللي بتشتغل في الهيئة، لكنها فاضية دلوقت.
-تَعرف لو كلامك طلع مظبوط وربنا كرم الواحد وسكن في بيت من ده تبقى آخر حلاوة.
لما نبطشية علي خلصت أخد بعضه ومشي.. قضيت طول الليل سرحان في الكلام اللي قاله، ومكانش قدامي غير إني لما أخلَّص شغلي؛ آخد بعضي وأطلع على مكتب الأستاذ رمزي ناظر المحطة، أكيد هو اللي هيبقى عنده خُلاصة الحكاية..
وفعلًا لما خلَّصت أخدت بعضي ورُحت على مكتبه، دخلت وصبَّحت عليه كالعادة، وبعدها قُلُت:
-معلش يا أستاذ رمزي لو بتقَّل عليك؛ بس كنت قاصد حضرتك في خدمة.
ابتسم كالعادة وهو بيكلمني وقال:
-تحت أمرك يا حسن.
-سمعت إن المنطقة اللي هتنقل ليها فيها بيوت في بطن السكة الحديد، وإنه ينفع أسكُن فيها أنا والمدام، أصل الموضوع حصل فجأة ومكنتش عامل حسابي، فلو حضرتك ممكن تساعدني في الحكاية دي يبقى كتّر ألف خيرك.
-لحقت تسأل يا حسن وتعرف البيوت اللي في بطن السكة الحديد؟
-لا والله يا أستاذ رمزي؛ الحكاية مكانتش في بالي أصلًا، الكلام جاب بعضه وعرفت بالصدفة.
-عمومًا في هناك فعلًا كام بيت تبع الهيئة في بطن السكة الحديد، بس عاوز أقول لَك إن حكاية السكن فيها دي موضة قديمة، دي بيوت قديمة من اللي الانجليز بنوها من الحجر الجيري، والمعلومة اللي عندي إن محدش ساكن فيها من سنين، بس على أي حال مفيش حاجة مستحيلة.
بعدها مَد إيده وناولني ورقة فاضية وقلم وقال…
-اكتب طلب وهنبعته الهيئة ونكلم حبايبنا هناك، وطالما البيوت فاضية ومقفولة أنت أولى بيها.
شكرته لأنه مقفلش الباب في وشّي، الحكاية دي لو تمَّت يبقى خير، ولو مفيش نصيب؛ تبقى محاولة ومش هخسر حاجة.
الحكاية مشيت على عكس ما كنت متوقع، بعد كام يوم الأستاذ رمزي بلَّغني إن طلبي اتوافق عليه، وقبل ما أنقل شُغلي بكام يوم طلعت على هناك استلمت البيت.. كان قديم والرطوبة ماسكة في حيطانه، سقفه كان مشقق ولمبات الكهربا كلها مكسورة، حتى الأرضية قديمة وفي أماكن منها على التراب، وكمان لاحظت إن في شباك مكسور، بَس كُل دَه مكانش هاممني، لأن إيجار البيت كان مبلغ بسيط جدًا، حاجة رمزية بتتخصم كل شهر من الراتب، يعني بإيجار شهر في بيت عادي أقدر أظبَّط الحاجات اللي محتاجة تظبيط..
الأيام فاتت ونقلنا عفشنا، وساعتها نزلت الشغل في البلوك الجديد، استلمت من المحولجي اللي قابلي، كان اسمه حمدي، وشّه كان سِمِح وباين من لهجته إنه ابن حلال ميتخيَّرش عن علي، وده في حد ذاته خلاني مرتاح نفسيًا، دَه غير حاجة كمان نسيت أقول عليها، نبطشيّتي كانت بالنهار، وده معناه إني هعيش زي مخاليق ربنا وهبطّل أكون كائن ليلي، هرجع آخر اليوم أبات في بيتي وخيّرية مش هتكون لوحدها؛ خصوصًا وإننا يُعتبر مفيش جيران حوالينا، كل البيوت اللي في بطن السكة الحديد قديمة ومقفولة، إلا البيت اللي جالي نَجدة من السما.
رجعت البيت بعد أول يوم شُغل، وبمجرَّد ما دخلت لقيت خيرية منتظراني، حسِّيت إنها عاوزة تقول لي حاجة، ولمَّا سألتها إيه الحكاية لقيتها بتبتسم وبتقول:
-شَكله حصل يا حسن.
نَفخت لأني كنت راجع وسارينة كل قَطر فات عليا كانت بترن في دماغي، عشان كده قُلت لها:
-انجزي يا خيرية؛ مُش هتبقي أنتِ والقُطرات عليا، هو إيه اللي حصل؟
_وهو إحنا منتظرين إيه غير حتة عيِّل يملا علينا البيت يا حسن!
بمجرد ما سمعت كلامها حسيت إني انفصلت عن الدنيا. نسيت دوشة القُطرات وخبطها طول النهار في وداني، رميت شنطتي على الكنبة وقرَّبت منها وقُلت لها:
_ألف حمد وألف شكر ليك يارب، أحلى خبر سمعته في حياتي.
منتظرتش ردها عليا، وسألتها وكأني بأكّد على كلامها:
_أنتي متأكدة من الخبر ده؟
ردَّت عليها وكانت واثقة من نفسها:
_وهو في سِت ممكن تتوه عن حاجة زي دي، من وقت ما دخلت البيت ده وأنا حاسَّة بأعراض الحمل، مفارقتنيش طول اليوم لحد ما بقيت متأكدة منه.
_ياريتنا جينا هنا من زمان، الواحد كان حامل هم تغيير الشغل والبيت، بس تغيير العتبة طلع سره باتع وجاب نتيجة بسرعة، البيت وشه حلو علينا.
مفكرتش في حاجة غير إني أتأكد أكتر من كلامها، أصل مش من السهل أقتنع إنه حصل بعد السنين الطويلة دي. أخدت بعضي وطلعت على أقرب صيدلية واشتريت اختبار الحمل، ولما رجعت البيت خلِّيت خيرية تتأكد، والنتيجة طلعت إيجابية..
في اليوم ده اتعشينا وقعدنا نتكلم عن الطفل اللي هييجي، لحد ما الوقت أخدنا ولقيت النوم كبس فوق دماغنا، دخلنا الأوضة عشان ننام، وبعد ما طفيت النور وكل واحد فينا نام في مكانه والنوم أخدنا، حسيت بإيد بتهزني في كتفي، ومعاها سمعت صوت خيرية بتهمس في ودني:
_حسن؛ اصحى يا حسن.
رديت عليها بصوت كله نوم:
_مالك يا خيرية؛ في حاجة تعباكي؟
_حسيت بحاجة كابسة فوق نفسي، ولما فتحت عيني لقيت قطة سودة كبيرة فوق صدري، وعينيها كانت بتلمع في الضلمة!
كلامها طيَّر النوم من راسي، قعدت من النوم وأنا بقول لها:
_أكيد كابوس ولا الجاثوم اللي بيقولوا عليه ده يا خيرية.
_كان حقيقة يا حسن؛ وكنت واعية للقطة زي ما أنا واعية ليك دلوقت.
_كلام إيه اللي يلبِّش الجتة ده يا خيرية؟
_أنا مش قادرة أتلم على أعصابي؛ قوم يا حسن شوف القطة دي دخلت منين.
قُمت من السرير أشوف إيه الحكاية، خرجت من الأوضة وعيني كانت بتمسح كل ركن في البيت، الباب كان مقفول والشبابيك كمان مقفولة، حتى الشباك اللي كان مكسور واتصلَّح كان مقفول كويس، يعني مفيش مجال إن قُطة تدخل من برَّه البيت، إلا بقى لو كانت موجودة في البيت من قبل ما نيجي وكانت مستخبية في ركن مأخدناش بالنا منه.
لفِّيت لفّتي في البيت من غير ما ألاقي حاجة، ومكنش قدامي غير إني أرجع من تاني، وعلى باب الأوضة لقيت خطوتي تقلِت، لأني شُفت عين خيرية بتلمع في الضلمة وهي قاعدة على السرير، غمَّضت عيني وفتحتها من الصدمة، وساعتها شُفتها في شكلها الطبيعي، كان تفسيري للي شُفته إن عيني اتوهّمت المنظر ده بسبب إني صحيت على نبرة صوتها وهي مرعوبة من وجود قطة فوق صدرها.. دخلت الأوضة وبمجرد ما قعدت على السرير سألتني:
_لقيتها يا حسن؟
_البيت مفيهوش قطط يا خيرية، ما أنا قُلت لِك زمانه كابوس أو جاثوم، ولما فتحتي عينك كانت لسّه أثاره مسيطرة عليكي.
مددت على ضهري وحطيت راسي على المخدة، وطلبت من خيرية تنام لأنها كانت لسَّه قاعدة وعينها على باب الأوضة.. عيني راحت في النوم لأني كُنت هلكان، وبرغم إن في البيت ده سمعت أكتر خبر انتظرته سنين طويلة؛ لكن كان واضح إني مش مكتوب لي أتهنّى بالكام ساعة اللي هنامهم، لأني بعد شوية فتحت عيني على صوت غليظ كان بيزوم، رفعت راسي وبدأت أبُص حواليا، الرؤية كانت مشوّشة قدامي والأوضة ضلمة، لكن الصوت كان لسه مستمر.. مديت إيدي جنبي عشان أتأكد إن خيرية نايمة، بس لقيت إيدي بتنزل في مكان بارد، خيرية مكانتش جنبي، وبرودة المكان معناها إنها سايبة السرير من وقت طويل..
النوم طار من عيني للمرة التانية، قعدت في مكاني وأنا بسأل نفسي فين خيرية والصوت ده جاي منين، ساعتها لمحت حد واقف قدام التسريحة.. لما ركّزت معاه لقيتها خيرية، كانت بتبُص في المراية وهي حاطة إيدها على بطنها، كنت مستغرب تصرُّفها، واستغربت أكتر لما لقيت الصوت طالع منها، خيرية كانت بتزوم بصوت غليظ، قُمت من السرير وأنا حاسس إن رجليا مش شيلاني، خطواتي كانت مهزوزة، وبرغم إن المسافة بيني وبينها مكانتش كبيرة؛ لكنّي أخدت وقت لحد ما وصلت عندها من شدة الحذر اللي كنت فيه.. وساعتها وقفت وراها وقلت:
_أنتِ كويسة يا خيرية؟
بمجرَّد ما سألتها التفتت ناحيتي وقالت بصوتها الطبيعي:
_أنت صاحي يا حسن؟
_وهو حسن هيجيله نوم في الليلة الهباب دي؟
_ليه بتقول كده؟
_يعني مش دريانة بنفسك يا خيرية؟ واقفة قدام المراية وبتزومي ليه؟
بصَّت لي وقالت بكل هدوء:
_القطة رجعت من تاني يا حسن، فتحت عيني لقيتها واقفة فوق صدري، وطلبت منّي أقف قدام المراية وأبُص لنفسي، ولمّا عملت اللي قالت عليه لقيت نفسي بعمل الصوت ده غصب عني.
بعد ما قالت كلامها الغريب ده سكتت لثواني، وبعدها كمّلت بهدوء أكتر من المرة اللي فاتت:
_أصل لما بصيت في المراية شُفت نفسي براس قطة سودة، ومعرفش الصوت ده كان طالع منّي إزاي!
-هو أنتِ اتخبلتي يا خيرية ولا جرى لمخك حاجة؟ قطة إيه اللي كلِّمتك وطلبت منك تبصي في المراية!
-أنا قُلت لك على اللي حصل.
نفخت عشان أفرَّغ طاقة الغضب اللي كانت جوّايا بدل ما أطلعها فيها، مهما كان إحنا لسَّه عارفين بخبر الحَمل ومش عايز أزعّلها، وقُلت في نفسي: جايز برضه متكونش مستوعبة خبر الحَمل وعقلها فَك من الفرحة، عشان كده طبطبت على كتفها وقُلت لها:
-طيب تعالي نامي يا خيرية الله يهديكي، خلي الليلة تعدي على خير.
في الليلة دي عيني مشافتش النوم، كُنت بفكّر في كلام خيرية، ومن وقت للتاني كنت ببُص ناحيتها، ولاحظت أكتر من مرَّة إنها بتتفزِّز وهي نايمة، زي ما تكون بتحلم أحلام مش سعيدة بالمرَّة. كل ده بدأت أفسَّره على إنها أعراض الحمل وصدمة الفرحة، أيون بقول صدمة، ما هو الشيء لما بيزيد عن حده بينقلب لضدّه، يعني جايز الفرحة الشديدة تكون جابت معاها نتيجة عكسية، خلَّتها تهلوس بكل دَه..
دماغي مفصلتش تفكير غير على صوت المنبه، مديت إيدي وفصلته عشان صوت الرَّنة ميقلقش خيرية، بعدها قُمت من السرير وأخدت هدومي من على الشماعة، خرجت من الأوضة على طراطيف صوابعي وشديت الباب بهدوء ورايا. دخلت الحمام غسلت وشي، ولما خرجت غيَّرت هدومي وخرجت من البيت، أخدتها مشي لحد البلوك لأن المسافة مكانتش بعيدة، ولمّا وصلت لقيت حمدي قاعد بيفطر، أول ما شافني قال وهو بيمضغ اللقمة اللي في بوقّه:
-بِسم الله يا حسن؛ وشَّك بيقول إنك على لحم بطنك.
-تسلم يا حمدي كلك زوق.
-يا جدع مِد إيدك متتكسِفش، أي نعم أنا إحنا معرفة يومين بس أنا ابن بَلد وأحِب العِشرة.
محبّتش أكسر بخاطره، وكمان افتكرت إني خرجت فعلًا على لحم بطني، قعدت وأكلت معاه، ولما لاحظ إني سرحان قال:
-شكلك بيقول إنك مش مرتاح هنا، بَس يومين تلاتة وهتاخد على الجَو.
وقبل ما أعلَّق على كلامه لقيته بيسألني:
-ألا صحيح، أقول لَك يا أبو مين؟
بصِّت ناحيته وأنا بفتكر خيرية وهي بتبلَّغني بخبر الحَمل، وساعتها ابتسمت وجاوبته:
-لسَّه والله يا حمدي، مراتي حامل جديد ومش عارف هبقى أبو مين، ده أنا حتى لسّه عارف الخبر امبارح، في اليوم اللي وصلنا فيه هنا.
-عرفت بقى إن الشغل وشُّه حلو عليك، ربنا يكمّل لها على خير ويرزقك بولي العهد وتفرح بيه يا أبو علي.
-تسلم يا حمدي، شكلك ابن بلد بصحيح.
لمَّا الكلام أخدنا وإحنا بناكل، لقيت نفسي بسأله:
-تعرف إيه عن البيوت اللي في بطن السكة الحديد؟
-أعرف إنها في بطن السكة الحديد يا أبو علي.
-مُش القصد، أقصد مين كان ساكن فيها، حصل فيها حاجة غريبة قبل كده ولا لأ.
-اللي نعرفه إنها قديمة ومقفولة من سنين، كان في ناس ساكنين فيها بدون ورق، وبعد ما خرجوا منها والهيئة أخدتها اتقفلت.. بيني وبينك، كنت عاوز أقدّم طلب وأسكن في بيت منهم، وبعدين جبتها من قاصرها وأخدت شقة سكن، بصراحة خُفت يكون البيت اللي هقعد فيه آيل للسقوط وسقفه ينزل فوق نافوخي أنا والعيال.
-على فكرة مُش ده اللي عاوز أسمعه منك.
-ما تجيب الكلام على بلاطة يا أبو علي، عاوز تقول إيه؟
-أنت عارف إن السكة الحديد بتحصل عليها حوادث يا ما، والبيوت قريّبة من شريط القَطر، يكون في حادثة حصلت قدامها مثلًا، القَطر داس حد وهو معدّي وموته اتسبّب في إن المكان مبقاش كويس.
-من ساعة ما اخترعوا القُطرات والحوادث دي موجودة يا أبو علي وأنت سيد العارفين، لكن بتسأل ليه.
-أصل من أول ليلة في البيت ومراتي بتقول إنها بتشوف قطة سودة بتظهر لها في الضلمة، ده غير شويّة أحداث غريبة تانية حصلت معاها.
لمّا استفسر منّي أكتر وحكيت له، وقُلت له إني خمّنت إنها شافت كوابيس في البيت لقيته بيقول لي:
-مُش أنت قُلت إن مراتك عرفت إنها حامل يوم ما وصلتوا؟
-حصل فعلًا.
-والكوابيس اللي بتقول إن مراتك شافتها كانت في نفس اليوم.. يعني جايز يكون تغيير هرمونات بسبب الحمل وبيعمل عندها توتّر.
بصّيت له باستغراب ولقيته بيضحك وبيقول لي:
-متستغربش كلامي، أي نعم أنا محولجي سكة حديد لكن أب لخمس عيال، يعني شُفت من دَه كتير، الهرمونات عندهم في الفترة دي بتعمل أكتر من كده، يعني الحكاية مفيش وراها حوادث خلَّت المكان مش كويّس زي ما أنت فاكر.. بُكرة تتعود وربنا يرزقك بكام عيّل وتعرف إن حمدي كلامه صح.
على ما خلَّصنا فطارنا وكلامنا كانت نبطشية حمدي خلصت وأخد بعضه وروَّح على بيته، قضّيت اليوم ودماغي فيه دوشة أكتر من اللي القُطرات بتعملها، لحد ما لقيت تليفوني بيرِن. كانت خيّرية، فتحت المكالمة وردّيت وأنا حاطط إيدي على قلبي لأنها مش متعوِّدة تكلمني وأنا في الشُّغل:
-أنتِ كويسة يا خيرية؟
-أنا تمام يا حسن، لسَّه صاحية من النوم.
بعد ما اتطمِّنت عليها قفلت المكالمة، وساعتها الدوشة رجعت لدماغي من تاني، وفضلت على الحال ده لحد ما النبطشية خلصت ورجعت على البيت.. أخدت دُش سريع وقعدنا نتعشى، كُنت ملاحظ إن خيرية ساكتة مبتتكلمش، عينيها كانت بتزوغ في أركان البيت من وقت للتاني، لحد ما لقيتها بتبُص جنبي والفزع كان باين على وشّها، وده اللي خلاني سألتها:
-بتبُصّي على إيه يا خيرية؟
رفعت إيدها وشاورت جنبي وهي بتقول:
-القُطة السودة جنبك يا حسن!
بصِّيت للناحية اللي شاورت فيها وملقتش حاجة، في اللحظة دي عرفت إن خيرية بتهلوس، افتكرت كلام حمدي وقُلت في سرّي: الله يخرب بيت الهرمونات، شكلهم هيبقوا تسع شهور سواد على دماغ اللي جابوني..
كان في بالي وقتها إني آخدها ونروح لدكتور نفساني، لكن رجعت في الفكرة لأني عارف إن الحامل مينفعش تاخد أدوية، كل ده يضُر بالجنين وإحنا ما صدَّقنا، عشان كده مكانش قدامي غير إني أتحملها بهرموناتها لحد ما الفترة دي تعدّي على خير.
الأيام مشيت على نفس المنوال، بل كانت بتسوء أكتر، لدرجة إني قرَّبت أصدَّق إن في قطة سودة عايشة معانا لكني مش قادر أشوفها. حياتنا كلها اتشقلبت، ومبقتش عارف ألاحقها من دوشة القُطرات، ولا من صريخ خيرية المفاجئ كل ليلة، خصوصًا وهي في الحمام، لحد ما دخلت عليها الحمام في مرة ولقيتها واقعة في الأرض وماسكة بطنها، كُنا في أواخر الشهر السابع من حملها، لكن المرة دي طلعت بتصرخ من ألم المخاض، اتصرَّفت في عربية وأخدتها وطلعت على المستشفى، وهناك عرفت إنها هتولد، يعني ابني اللي انتظرته من سنين طويلة هييجي للدنيا وهو ابن سبعة..
الولادة تمَّت وخيرية كانت صحّتها كويسة، دَه غير إن المولود مكانش محتاج حضانة لأن وزنه كان مقرَّب على الكيلو ونص، يعني الحكاية كلها يومين في المستشفى والبيت هيرجع ينوَّر بمراتي وابني، وخصوصًا إني هكون خلصت من هلوسة خيرية في فترة الحمل..
قرَّرت اسمي المولود عطية، وده لسببين، أولهم إنه عطية ربنا ليا بعد سنين طويلة، والسبب التاني هو إنه اسم أبويا، ونويت في أقرب فرصة أروح السجل المدني وأسجّل الواد.
الوقت اتأخر ودماغي تقلِت، طلبت من خيرية تاخد الواد عشان أدخل أرتاح ساعتين قبل النبطشية.. واستمرت الأيام على الحال ده، لحد ما في ليلة كنت سهران وشايل عطية والنوم كبس فوق دماغي، ناولت الواد لخيرية ودخلت الأوضة فردت ضهري على السرير، عيني عمَّضت ورُحت في النوم، بس بعد شوية سمعت صرخات الواد، فتحت عيني وكنت فاكر نفسي بحلم، لكن اتضح لي إن الواد بيصرخ بجد، قُلت أكبر دماغي وأسيبه لأمه، لكن صرخات الواد سكتت فجأة وبدون مقدمات..
استغربت الحكاية، قُمت من السرير وأخدت بعضي وخرجت، عشان أشوف قدامي منظر عُمري ما كنت أتوقَّعه.. خيريّة كانت باركة فوق الواد في أرضية الصالة وإيدها حوالين رقبته، والواد تحت منها وشه أزرق، جريت وشديتها من فوق الواد ورميتها في الأرض، بعدها شيلته في إيدي وأنا بهِز فيه وبصرخ:
-عطية، يا عطية!
محسيتش بنفسي غير وأنا واخد الواد في إيدي وطالع أجري حافي من البيت، خطواتي موقفتش غير جوَّه المستشفى، دخلت أوضة الكشف وحطيت الواد قدام الدكتور وأنا بقول له:
-اعمل معروف يا دكتور؛ الحق ابني!
طلب منّي أنتظر برَّه الأوضة، نفّذت طلبه وأنا على أعتاب الانهيار، وفضلت واقف لحد ما الدكتور خرج عشان يبلَّغني أسوأ خبر في حياتي، وهو إن ابني مات، وإن الموتة مش طبيعية، وده كان سبب في إن المستشفى تبلَّغ الشرطة ويبقى في محضر، حكيت فيه اللي حصل، وبعد إجراءات طويلة وتقرير طب شرعي، عرفت إن سبب الموت هو الاختناق وكسور في عظام الرقبة..
خيرية اتقبض عليها، واتوجّهت لها تهمة قتل ابنها، وبعد أيام طويلة من التحقيق مكانتش بتقول غير حاجة واحدة، وهي إنها مخنقتش ابنها، دي كانت بتخنق القُطة السودة اللي بتطاردها من ساعة ما دخلت البيت، عشان كده اتحكم عليها بإنها تدخل مصحَّة نفسية!
الحياة مبتبقاش فارقة لما الواحد لما بيخسر كل حاجة، مبقتش طايق البيت ولا بلوك التحويلة، كُنت عامل زي العروسة الخشب اللي حد بيحركها بدون رغبتها، مكانش بيهوّن عليا غير كلام حمدي معايا، كان كل ما نسلّم بعض النبطشية يصبّرني بكلمتين، لحد ما في ليلة رجعت البيت وكان حيلي مهدود، اترميت فوق السرير بهدومي، وعلى عكس كل ليلة لقتني بروح في النوم، بس بعد شوية فتحت عيني على صوت عطية وهو بيعيَّط، واتفاجئت إني مش قادر آخد نفسي، حسيت زي ما يكون في قالب طوب فوق صدري، ولما ركّزت شوية لقيت حاجة سودة فوقي. وبعد ثواني لمحت عيون بتلمع، عشان أكتشف إن اللي فوق صدري قُطة سودة، وأول ما أدركت دَه لقيتها بتزوم بنفس الصوت الغليظ اللي سمعت خيرية قبل كده بتزوم بيه!
مقدرتش أرجَّع دماغي للمخدة ولا قدرت أكمّل قعدة، فضلت متخشِّب في مكاني وأنا مبحلق في عينيها، لاحظت إن النِّن بيضاوي وقاسم العين بالطول، بلعت ريقي وأنا بحاول أحرَّك لساني عشان أنطق بأي كلمة، لكن لساني كان ناشف زي الحطب ورافض يتحرَّك، زي ما أكون أكَلت حيفان شَبَّة كلبِش لساني..
متحرَّرتش من الحالة اللي كنت فيها غير لما القطة نزلت من فوق صدري وخرجت من الأوضة، في اللحظة دي موازين كل حاجة اختلَّت، يعني خيرية مكانتش مجنونة لما قالت إنها شافت قُطة سودة وهي السبب في كل اللي حصل معاها، والأيام دارت لحد ما اتأكدت من دَه بنفسي، لكن بعد إيه؟ بعد خراب مالطا!..
خرجت من الأوضة وقلبت البيت على القُطة، وكالعادة فَص ملح وداب، رغم إني متأكد إن كل منافذ البيت مقفولة، يعني مفيش مجال إنها تدخل أو تخرج، وده اللي أكِّد لي إن الحكاية فيها حاجة مُش طبيعية..
قرَّرت أروح أزور خيرية، لأني مكنتش طايق أشوف وشها بعد ما خنقت ابننا اللي انتظرناه سنين، وكنت بجهّز نفسي عشان أطلَّقها وأبعت طلاقها على المصحَّة، لكن اللي حصل خلاني عايز أفهم أكتر..
كنت عامل حسابي إني أخلَّص شغلي وأطلع على المصحة، عشان أجيب إذن زيارة وأزورها، بس قبل الضُّهر وأنا في البلوك؛ لقيت واحد داخل عليا وبيسألني:
-أنت حسن عطية أبو العينين؟
-خير.. يلزم خدمة؟
ساعتها مَد إيده ناحيتي بورقة وهو بيقول:
-البقية في حياتك، خيرية مراتك انتحرت بالليل، ودي ورقة من المصحَّة عشان تروح تستلمها وتطلَّع تصريح الدفن!
للمرة التانية الدنيا تضلِّم في وشي زي ما ضلِّمت وأنا بسمع خبر موت عطية، بلَّغت المحطة باللي حصل وساعتها كلموا حمدي ييجي يستلم مكاني، ولمَّا حمدي وصل وبدأ يواسيني كالعادة على حظّي؛ خرجت من البلوك وطلعت على المصحَّة، وهناك عرفت إن خيرية شنقت نفسها بملاية السرير، لمَّا ربطتها في حديد الشباك وعلَّقت نفسها من رقبتها..
الأسئلة بتكون مؤلمة لما مبيكونش ليها إجابة، عشان كده أخدت أجازة كام يوم من الشغل وعيشت في عذاب البحث عن تفسير لكل حاجة حصلت لي، وفي الفترة دي كان بيشرَّفني كل ليلة ضيف تقيل؛ اللي هو القُطة، واللي بظهورها حياتنا اتقلبت، وبصراحة مكنتش عارف إن كان ظهورها هو السبب ولا البيت نفسه هو اللي فيه مشكلة، باعتبار يعني إن كل حاجة حصلت من وقت ما وصلنا..
وفي ليلة؛ وفي عز ما كنت مبحلق في القطة اللي كانت واقفة في ركن الأوضة لقيت تليفوني بيرن، بصيت في تليفوني ولقيته علي، المحولجي اللي كان قصادي في البلوك قبل ما أتنقل هنا، معرفش إيه اللي فكَّره بيا بعد الشهور دي كلها.. فتحت المكالمة ولقيته بيقول لي:
-ازيك يا أبو علي، طمّني على أخبارك.
ردّيت عليه وأنا ببُص ناحية ركن الأوضة اللي كان فيه القُطة السودة، عشان أتفاجئ إنها مش موجودة، ساعتها صوتي اتوتَّر وأنا برُد عليه، ولما لاحظ نبرة صوتي المهزوزة سألني:
-صوتك ماله يا حسن؟ أنت كويس؟
معرفش ليه كنت عامل زي البالونة المنفوخة؛ اللي ما صدَّقت حد نَكشها بدبّوس فخرَّجت كل الهوا اللي فيها. سؤال علي خلاني أحكي كل حاجة، ولمَّا خلصت كل اللي جوايا لقيت علي بيقول لي:
-أنت إزاي ساكت على كل ده يا حسن؟
-إيه اللي بإيدي ممكن أعمله ومعملتوش؟
-يا حسن أكيد اللي معاك في البيت دي مُش قطة، دي حاجة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وأكيد هي السبب في قلبان حياتك بالشكل ده.
-ومين بقى اللي هيأكد إن كانت قطة؛ ولا حاجة أعوذ بالله من الشيطان زي ما بتقول؟
-اللي يأكّدوا كتير يا حسن، بقول لَك إيه، أنت لازم تيجي وأشوفك.
بمجرَّد ما النهار طلع أخدت بعضي وطلعت على الموقف، ركبت أول عربية رايحة للمكان اللي علي اتنقل فيه، ولما وصلت أخدت توكتوك لحد البلوك، اتقابلت فيه وسلّم عليا وقعدنا، وبعد ما عزَّاني للمرة التانية لقيته بيقول لي:
-أنت هتيجي معايا للشيخ بَرَكَة، وهو هيعرف إيه الحكاية.
بصِّيت له باستغراب وسألته:
-يطلع مين الشيخ بَرَكَة ده؟
-ده راجل سِرُّه باتع وصاحب كرامات، البلد هنا كلها بتشكر فيه، وبيقولوا إنه عالج ناس ياما من السِّحر والمَس، وبيفِك المعقود ويحِل المربوط.
استغربت كلامه، لكنه لحقني قبل ما أتكلم وقال:
-أنا سمعت عنه كتير، ولما عرفت اللي حصل معاك لقيته جِه في بالي.
ضِحكت ببرود وقُلت له:
-وهيعمل إيه الشيخ بَرَكة ده؟ هيرجَّع ابني ومراتي اللي راحوا، لو كان يعني اللي ورا موتهم حاجة أعوذ بالله من الشيطان زي ما بتقول.
-اللي بيموت مش بيرجع يا حسن وكلنا عارفين كده، لكن الواحد بيرتاح لما يعرف سبب اللي حصل معاه.
-بَس مش كل الحقايق بتريَّح يا علي، في حقايق عدم معرفتها أحسن من معرفتها.
-متنساش إن الموضوع طايلك أنت كمان، بدليل إن القُطة دي بدأت تظهر لَك بعد موت خيرية، يعني أنت كمان ممكن تيجي في الرجلين.
انتظرت علي لحد ما النبطشية خلصت، بعدها أخدنا وطلعنا على بيت الشيخ بَرَكَة، المسافة مكانتش طويلة، كمان كنت فاكر إننا هنروح بيت قديم محدوف وسقفه واقع زي ما بنشوف بيوت الناس دي في الأفلام، لكن لقيت بيشاور على بيت أشبه بالفيلا وبيقول لي:
_وصلنا.
دخلنا من البوابة اللي كانت مفتوحة، بعدها مشينا في طريق صغير وسط الجنينة، لحد ما وصلنا لباب البيت من جوّه، ضربنا الجرس وانتظرنا، وشوية ولمحت خيال بيقرَّب من ورا إزاز الباب، بعدها الباب اتفتح ولقيت قدامي شيخ وشُّه بشوش، شعره أبيض ودقنه بيضا، عُمره في الستينات، وساعتها علي قال له:
_إزيك يا شيخ بَرَكَة.
وقفت ساكت وحسيت إن في سابق معرفة بينهم، لكن شيلت الفكرة من دماغي لما الشيخ بَص له وقال:
_نحمد الله، أنتوا مين يا ولدي؟
_إحنا قاصدينك في خدمة.
ساعتها الشيخ بَص لي وهو بيقول:
_ربنا وحده اللي في إيده الحلول يا ولدي، إحنا مجرَّد أسباب مش أكتر.
طلب مننا ندخل وشاور لنا ناحية أوضة ننتظره فيها، دخلنا وقعدنا، وملفتش نظري أي حاجة تقول إنه دجال أو مشعوذ أو إنه من بتوع التلت ورقات، ومفيش ثواني ولقيناه داخل علينا وبيقفل الباب وراه، وبعد ما قعد بَص لي وقال:
_أنا شايفه في عينيك.
كُنت هضحك لكني تمالكت أعصابي، لكن سألته:
_مين ده اللي أنت شايفه في عيني يا مولانا؟
_اللي كاتم على أنفاسك وأنفاس مراتك الله يرحمها قبل منك، اللعنة السودة اللي اتوجدت في حياتك وأنت مكنتش حاسس.. مش هقول أكتر من كده، أنا عاوز أسمع الحكاية منَّك، وقبل ما تحكي حرف واحد، بلاش تقول إنك جيت هنا بعد فوات الأوان، مفيش أوان بيفوت يا ولدي، كل حاجة بتحصل بميعاد، الإنسان نفسه له ميعاد يتولد فيه وميعاد يموت فيه، يعني دخولك عندي مكانش هيغيَّر من قدر ربنا، احكي؛ عاوز أسمع منك.
بدأت أحكي وأنا كل كلمة بتطلع منّي كان طعمها أمَر من اللي قبلها، من وقت ما دخلت البيت اللي في بطن السكة الحديد؛ لحد ما النصيب جابني لبيت الشيخ بَرَكَة، وبعد ما خلصت الحكاية انتظرت ردَّه عليا، لكنه غمَّض عينه لفترة وكان بيحرَّك شفايفه وكأنه بيوشوش حد مُش شايفينه، ولما فتَّح عينه بَص لي بصة طويلة وصامتة وقال بعدها:
_غضَّاب، شيطان ملعون، كان ساكن البيت اللي أنت سكنته، ولمّا اقتحمتوا مكانه بدأ يأذّي فيكم واحد ورا التاني، بدأ بمراتك لأنها كانت بتقضي وقت أكتر منك في البيت، استفرد بيها وسيطر عليها وبدأت تشوفه في هيئة قطة سودة، وهو اللي خلاها تتصوَّر ابنك في نفس الهيئة، ووسوس لها تقتله، وهو كمان سبب انتحارها في المصحَّة، ومبقاش فاضل غيرك عشان كده ظَهر لك، ووجودك هنا في الوقت ده عشان لسّه في عمرك بقيَّة، لكن مراتك وابنك أعمارهم كانت خلصت لحد كده ولحظة الموت مش بتتأخر.
كنت مصدوم وأنا بسمع كلامه، وفضولي أخدني وسألته:
_وإيه اللي خلّى غضَّاب ده يسكن البيت اللي أنا ساكن فيه؟
_شياطين الإنس ألعن بكتير من شياطين الجن، لازم تعرف إنهم مش بيدخلوا حياتنا غير لما إحنا نستدعيهم بنفسنا، أو نعمل الشيء اللي يفتح أبواب حياتنا قدامهم.
_بَس مفتكرش إن خيرية أو أنا عملنا حاجة تستدعي ده.
_مش شرط يكون حد منكم، يعني لو مشيت في شارع وواحد دلق شوية مَيَّة وأنت منتبهتش مش هيزحلقوك؟ أكيد هتتضرر منهم بالرغم إن اللي رماهم حد غيرك.
_قصدك إن حد هو اللي استدعى الشيطان ده قبل ما نروح البيت؟
_بس أنا معرفش هو مين عشان أجيب أطرُه.
_لكن أنا عايز أطَر البيت.
بصّيت له باستغراب فقال لي:
_كل حاجة ليها أطَر، وزي ما الإنسان أطَره شيء منه، ضافر؛ خُصلة شَعر، هِدمة، البيت أطرُه حفنة تُراب، دوَّر كويس أكيد هتقدر تجيب الأطَر، وأنا منتظرك ترجع ومعاك المطلوب.
خرجنا من عند الشيخ بَرَكَة، وأول حاجة علي قالها كنت مستغرب منها، لأنه كان بيعتذر لي عشان هو صاحب فكرة البيت، بَس أنا قُلت له إنه مالوش ذنب، وإنه لما عرض عليا الفكرة كان غرضه مصلحتي، محدش فينا يعرف إيه اللي ورا الأبواب المقفولة، ده غير إن قضاء ربنا نافذ نافذ.
لما جيت راجع البيت، علي رفض وطلب يستضيفني في بيته لحد الصبح، بحجة إنه مش ضامن إيه اللي ممكن يحصل الليلة دي هناك، ولما النهار طلع أخدت بعضي ورُحت على البيت، دوَّرت في كل ركن موجود عشان أشوف الأطَر اللي الشيخ بَرَكَة قال عليه، وفي الأوضة عيني جَت على شوية تراب في الرُّكن، وبالمناسبة ده أكتر رُكن القُطة السودة كانت بتظهر فيه.. بدون تفكير جيبت شنطة وعبِّيت فيها كام حيفان تراب وأخدتهم عشان أرجع للشيخ بَرَكَة، ولما وصلت كانت نبطشية علي قربت تخلص، انتظرته وبعدها طلعنا على هناك، ولما قعدنا مع الشيخ أخد شوية تراب من الشنطة وقرَّبهم من وشُّه وبدأ يهمس فيهم لوقت طويل، وبعدها رفع عينه وقال:
_اللي سخَّر غضَّاب مشعوذ ملعون، كان بيستغل البيت لأنه قديم ومهجور وبيمارس فيه طقوس السِّحر الأسود، واستخدم في تحضيره دَم قُطة سودة وقرأ عليها تعويذة الاستحضار، وبعدها دفن القُطة في البيت عشان غضَّاب يفضل موجود في المكان ويقدر يستخدمه وقت ما يحب.
ساعتها الغضب أخدني وسألته:
_مين الشخص ده يا مولانا؟
_مش هينفع أقول يا ولدي، وده مش خوف ولا معناه إني عاجز أعرفه، أنا بحافظ عليك، شايف الغضب اللي أنت فيه؟ لو قُلت لك عليه هتوصل له وهتعرَّض نفسك للخطر، جايز يأذيك، وجايز أنت اللي تعمل فيه حاجة وتضيَّع نفسك، وفي الحالتين ضياع يا ولدي، كفاية اللي أنت خسرته.
بعدها طلب مني أهدى، ولما قعدت وتمالكت أعصابي الشيخ طلَّع إزازة من جيبه وناولهاني:
_خُد الإزازة دي يابني، احفُر مكان الأطَر وطلَّع المدفون، ارميه برَّه البيت ورُش من الإزازة دي مكانه، ساعتها غضَّاب هيسيب المكان وتقدر تعيش.
أخدت الإزازة وشكرتُه، بعدها خرجنا من البيت، وفي المرَّة دي رفضت طلب علي بإنه يستضيفني في بيته لحد النهار ما يطلع، صمِّمت أرجع على البيت عشان أخلَّص الموضوع، ولما وصلت؛ حفرت مكان الأطَر، وساعتها لقيت قماشة سودة مدفون فيها قُطة سودة مدبوحة، متخشِّبة وفي رقبتها أثر دبح، بمجرَّد ما شُفتها جسمي قشعَر وحسيت إني اتكهربت، وفي اللحظة دي قررت إني مش هقعد في البيت يوم واحد بعد النهاردة.
بعد ما ردمت الحفرة، بدأت ألِم في عفش البيت، لأني خلاص قررت أسيبه في أسرع وقت، مكنتش متحمل وجودي في المكان اللي حياتي اتدمَّرت فيه، ومُش كده وبَس، ده أنا بعد ما سيبته قدِّمت على معاش مبكر وقررت أشتغل أي شغلانة تانية، لأني كرهت الوظيفة اللي اضطرتني أسكن في المكان ده، وكرهت كل حاجة ليها علاقة بالبيت.. حتى العفش اتخلَّصت منه، مسيبتش غير حاجات بسيطة تكفّي أوضة أجرتها فوق السطوح أعيش فيها، وبدأت أشتغل شغل باليومية، يوم أشتغل واتنين لأ، وفي يوم لقيت حمدي المحولجي اللي كان بيشتغل قصادي بيتصل بيا، ردّيت عليه وقلت له:
_إزيك يا حمدي.
_إزيك أنت يا أبو علي، إيه الدوشة اللي حواليك دي؟
_في الدنيا الواسعة يا راجل يا طيب.
_الدنيا مقلوبة يا أبو علي، البيت اللي كنت ساكن فيه لقوا طالع منه ريحة جيفة، ولما الناس اتلمَّت لقوا جثة واحد الدود بياكل فيها، وطلع مشعوذ كان بيعمل حاجات كُفر في البيت ومات هو بيعمل البلاوي اللي بيعملها، ربنا يعوَّض عليك يا حسن ويوفقك في شغلك الجديد، كويس إنك نفَدت بجلدك من البيت ده.
خلصت معاه المكالمة وقفلت وأنا ببتسم.. أصل لو فاكرين إن خروجي من البيت والشُّغل كانت نهاية الحكاية تبقوا غلطانين، أصل مش كل الحقوق ممكن نسامح فيها، في حق لازم يتَّاخد، وهو ده اللي أنا عملته..
في الأيام اللي كنت بقعد فيها من الشغل كنت بروح أراقب البيت، أصل كنت عارف إن الشَّخص ده هيرجع لما البيت يتهجر من تاني، وظنّي مخابش، في ليلة شُفت واحد بيقرَّب من البيت وبيكسر نفس الشباك اللي كان مكسور وبيدخل منه، ولما اتأكدت إنه رجع نفّذت اللي كنت مخطَّط له، أصل لما ردمت الحفرة مكنتش اتخلَّصت من جثة القطة، ده أنا حطيتها مكانها تاني وردمت فوقها، كل اللي اتغيَّر إني أخدت حيفان تُراب في شنطة؛ أطَر يعني، ولما راقبت البيت واللي في بالي حصل، قلبت الدنيا على واحد ابن حرام زي اللي قلب حياتي، من الناس اللي ممكن يحرقوا الدنيا عشان الفلوس، لحد ما وصلت للشخص المناسب، وساعتها كنت محتفظ بالمبلغ اللي أخدته لما طلعت معاش مبكّر، ده غير القرشين اللي طلعوا من بيع العفش اللي حيلتي، ساعتها طلبت من الشخص ده يقلب السِّحر على الساحر، وده سبب إني سيبت جثة القطة عشان الشيطان يفضل ساكن البيت، وطلبت إنه يقلب غضَّاب على المشعوذ اللي سخَّره، والشخص ده أخد اللي طلبه وقد كان..
بعدها راقبت البيت، لحد ما لقيت الشخص اللي قلب حياتي داخل من الشباك المكسور، انتظرته يخرج كالعادة لكنه اتأخر، ولأني كنت رامي وداني مع البيت سمعت صرخاته جوَّاه، بعدها صوته اتقطع، عرفت إن اللي خطَّطت له حصل، ومن بعدها راقبت البت بشكل دايم وأنا مستني اللحظة اللي ريحته تطلع فيها وسرُّه ينكشف قدام الناس، لحد اللحظة اللي حمدي كلمني فيها، أصل بالمناسبة، الدوشة اللي حمدي سألني عنها كانت هي الدنيا المقلوبة اللي اتصل عشان يبلَّغني بيها، أنا كنت واقف أتفرج زي الناس اللي اتلمَّت قدام البيت، بدون ما حد يعرف إن نهاية الشخص ده أنا اللي كتبتها على كيفي، زي ما كان سبب في نهاية حياتي حتى ولو بدون قَصد، أصل العين بالعين والسِّن بالسِّن والبادي أظلم، ولو مكنتش عملت كده كان أذاه هيوصل لكتير غيري، وزي ما قُلت لكم قبل كده، مُش كل الحقوق تنفع تتساب.
***
تمت…