“القصة مستوحاة من أحداث حقيقية”
=أنا عندي اعتراف ليكم، أنا كنت بضحك على نفسي وعليكم، حاطط نفسي في إطار، راسم شخصية الرجل الحديدي، المستمع الصبور، المحقق اللي عنده رؤية استثنائية وقدرة على تحليل القضايا، فاكر نفسي موضوعي، بسمع ومبتأثرش، اللي اكتشفته مؤخرًا إني حقيقي اتأثرت بكم التفاصيل الغريبة والمرعبة اللي سمعتها منكم على مدار البرنامج من وقت ما ابتدا، المصيبة إن التأثير مش بيبان مرة واحدة، مفيش عرض قوي واضح بيحصل، بعد فترة اكتشفت إن التغيير حصل وحدة وحدة، اترسبت جوايا آثار رهيبة من قصصكم، حولتني لشخص تاني، وأظن حالتي زي حالة دكتور المشرحة أو ظابظ المباحث أو وكيل النيابة، مع اول ساحة جريمة بيبقى عندهم ذعر وبيجيلهم صدمة، وحدة وحدة بيتعودوا والموضوع بيبقى عندهم روتيني، الجثث زي كده قطع الغيار عند الميكانيكي مهما كانت بشاعة الحالة، وبيفتكروا إن بقى عندهم مناعة، وبياخدوا المواضيع ببساطة، لكن ده مش حقيقي، سواء أدركوا في مرحلة ما أو مأدركوش، في تغييرات بتحصل في نفسيتهم، زي كده اللي بيعرض نفسه للصقيع، بيقعد في التلج بلبس خفيف وفاكر عشان مش حاسس بحاجة عضمة وجسمه تمام، لكن اللي تحت الجلد ليه رأي تاني، الموضوع مش بالبساطة دي، الإنسان مش آلة، مش حتة حديدة من غير مشاعر، كلنا، كلنا بنتأثر، لكن الأعراض بتختلف من واحد للتاني..
أظن نفس القاعدة تنطبق على الدكاترة النفسيين…
مش بستهين بأي فرع من فروع الطب لكن في رأيي جسم الإنسان أبسط بكتير من نفسيته وعقله اللي عبارة عن دهاليز معقدة، متاهة هو نفسه معندوش فكرة عن تفاصيلها ومداها، ميعرفش إيه بالظبط اللي مترسب جواه، كون إن شخص يتعرض كل شوية لحالة مختلفة، حالات من التخبط والفوبيا والوسواس والانفصام والنرجسية وغيره وغيره، أكيد ده بيعمل اثر رهيب في شخصيته، الذكاء بقى لما الدكتور يدرك حجم التأثير اللي بيحاول يتسلل ليه ويقدر يوجهه بطريقة صحية، يمكن حتى يحوله لطاقة معينة…
آسف للمقدمة الطويلة دي لكن حقيقي كنت محتاج أفضفض..
ومعانا أول اتصال للحلقة دي…
(التليفون بيرن)
-سبحان الله يا “قاسم”!
=بداية غريبة جدًا، إزي حضرتك الأول..
-الحمد لله، أنا إسمي “حليم”..
=الله إيه الاسم الحلو ده، نادر كمان.
-شكرًا على ذوقك، أنا عندي 55 سنة ومهنتي “دكتور نفسي”!
=اااه، عشان كده، فعلًا سبحان الله، كإني حاسس بالمكالمة بتاعتك.
-معندكش فكرة قد إيه أنت صح، أنا عارف إنك مش دارس علم نفس وكنت بتحاول توصل اللي حاسس بيه بطريقتك، وأنا بحييك على وصفك، قدرت فعلًا توصل لنا وجهة نظرك.
=وإيه رأيك فيها؟
-بالنسبة لحالتي أنت دقيق بطريقة مرعبة! أنت اتكلمت على التأثير النفسي بشكل عام، تأثر الدكتور بالحالات اللي بتعدي عليه، اللي بتبقى أعراضها مختلفة وقصصها متنوعة، أنا ليا قصة عن نمط معين من المرضى وإن كانت حالاتهم تبان مختلفة عن بعض…
=ياريت ندخل في الموضوع علطول، عشان أنت كده حمستني وأكيد حمست المستمعين، وخد بالك إحنا مش مسؤولين عن اللي هتقوله، لو مش مستعد لنتايج اللي هتحكيه يبقى ممنوع الاتصال أو التصوير…
-على بركة الله…فتحت أول عيادة خاصة بيا وأنا عندي 25 سنة وده عشان ابويا مقتدر، عنده أراضي في الفيوم، ودي حاجة أنا متحرجش منها، أنا اجتهدت ومحطتش في دماغي ثروة أبويا وأملاكه وإني ابقى الوريث وكلام من ده، بالعكس كان ليا دماغي واختياراتي الخاصة بيا واخترت الطب النفسي وحبيته، اشتغلت من وأنا بدرس في عيادات خاصة ومستشفيات عامة وكملت شغل بعد ما تخرجت بتقدير عالي، لحد ما قررت أفتح عيادتي الخاصة وأبويا مـتأخرش عليا بالتمويل، وفي البداية كنت بستعين بدكاترة كبار في السن والخبرة يساعدوني، واديتهم فلوس كويسة وفي منهم اللي مقبلش وكان بيتبرع بوقته فضلًا منه عشان شايفني مجتهد واستحق المساعدة.
طبعًا إنك توصف حالة في مجالنا إنها غريبة ده مش احترافي أبدًا، عشان تخصصنا أصلًا هو الغرابة! وكل شوية في جديد، زي ما قلت كده يا “قاسم” النفسية الإنسانية معقدة جدًا، زيها زي الكون ملهاش نهاية ولا حدود، لكن في حالة لسبب ما معدتش عليا كده وخلاص…
راجل هسميه “بسام” عشان طبعًا مينفعش أقول أسماء المرضى الحقيقية…
في ليلة من ليالي شهر مايو حيث الرياح اللي بتراب والمطرة والحر والجو اللي مش مفهوم، كنت خلاص بقفل العيادة وبشيل حاجتي ومستعد إني أمشي والمساعد بتاعي أديته الإذن يمشي وبقيت لوحدي وألاقيلك باب العيادة بيخبط…
كانت خبطة واحدة وبعد كده سكوت…
إيدي ثبتت على الوضع اللي كانت عليه، فضلت ماسك الفايل اللي معايا وبالإيد التانية ماسك شنطة الضهر من غير ما اتحرك، بعد لحظات رجعت أتحرك عادي عشان قلت بيتهيألي، أصلها كانت خبطة واحدة بس، مش معقول لو في حد هيخبط مرة واحدة ويسكت، وبعدين ده معاد مريب جدًا حد ييجي فيه ومن غير حجز وفي وسط مناخ عجيب، مين اللي هينزل من بيته في الجو ده وييجي لسعادتي؟
وإذا بالخبطة تتكرر…
إيه ده أنا مكنش بيتهيألى بقى، ده في زاير بجد…
روحت للباب وفتحته…
لقيت قدامي شاب أصغر مني وقتها، في بداية العشرينات، شعره وهدومه مبلولين وجزمته متمرمغة في الطين وبينهج جامد…
منطقش ولا كلمة!
فضل باصصلي بعنين حيرانين وأنا برضه ببصله، لحد ما في الآخر قررت أقطع عرض النظرات ده وقلت:
-خير يا أستاذ؟
-مكتوب على العمارة من بره “عيادة طبيب نفسي”..
-مظبوط، وأنا الدكتور.
-م..مكن؟…
-أنت بتشتكي من حاجة؟
هز راسه بيأكد ده في تردد…
-طب استأذنك تجيلي بكره، زي ما أنت شايف الجو صعب أوي والوقت اتأخر، أنا اصلًا قفلت، مواعيد العيادة من 5 بعد الظهر ل11 بليل..
هز راسه من غير جدال ولف عشان يمشي…
كان باين عليه مكسور، وكنت حاسس إنه لو مشي مش هييجي تاني، عشان كده وقفته…
-بقولك! اتفضل..
في ابتسامة صغيرة اترسمت على وشه، إبتسامة ممزوجة بمرارة، كان ممتن ليا لكن حزين ومكسور..
فتحت الأوضة من تاني وولعت النور الهادي…
شاورتله عشان يمدد على الشيزلونج وقعدت على المكتب..
-اتفضل احكي..
-هو مش المفروض أدفع الفيزيتا الأول؟
-متقلقش، بعد الجلسة، أو في أي وقت مش مشكلة، هاه…
-مش عارف ابدأ منين..
-براحتك، ابدأ من أي جزء يريحك.
غمض عينه وأخد نفس عميق وبدأ يحكي ويقول:
-الموضوع ابتدا من…مش عارف بالظبط ابتدى من إمتى، أظن من حوالي 6 شهور…أنا عمر ما كان عندي مشاكل في النوم أو اضطرابات، أول ما بحط راسي على المخدة بنام علطول، بنام بعمق ومش بصحى غير في المعاد الطبيعي ليا، لكن حصل تغيير من 6 شهور…في عز ما أنا نايم في حد دخل عليا الأوضة، حسيت بحركته وقلقت، فتحت عيني ولقيت واحدة ست، كانت غريبة عني! معرفش مين دي وإزاي دخلت البيت وإزاي دخلت أوضتي، إزاي أمي تسمحلها؟ دي واحدة قريبتنا من البلد؟ لأ، لأ دي مش قريبتنا، أنا معرفهاش..وكمان كان شكلها غريب أوي، شعرها خفيف ومنكوش، بشرتها فيها تجاعيد كتيرة، عمري ما شفت كم التجاعيد دي في وش بني آدم، فاتحة بوقها وسنانها مكسرة، مفيش غير كام سنة هم اللي موجودين، لابسة جلابية سودة مبقعة ومقطعة، كاشفة أماكن كتير من جسمها المترهل.. الست فضلت تتمشى في الأوضة كإنها بتدور على حاجة وأنا…أنا جيت أقوم معرفتش! عيوني مفتوحين على الآخر، صاحي، لكن مش قادر أتحرك وكمان مش قادر حتى أقفل عيني، جسمي مشلول ولساني مشلول، كل اللي كنت عايزه إني اقدر أغمض عيني قبل ما الست تاخد بالها مني وتكتشف إني صاحي، عايز أستخبى منها بالنوم، أعمل كإني مش واعي، مش شايفها..
الست فجأة وقفت كإنها أدركت حاجة، إن في حد مثلًا نايم على السرير، لفت وبقت في مواجهتي وعينها جت في عيني!
كإنها لقت لقية، ابتسامتها وسعت، وشها بقى مرعب أكتر، وبدأت تتحرك ناحيتي…
حركتها كانت مريبة، كإنها بتجر رجليها، وأنا نبضات قلبي بقت سريعة، عيني مش بتطرف، بحاول أحرك لساني، أقرا قرآن، لكن مش عارف، زي ما أكون مريض في أوضة عمليات، متخدر، مش قادر يتحرك، لكن واعي…
الست وصلت لحد السرير وبعدين طلعت عليه وزحفت وحدة وحدة عليا…
كنت حاسس بوزنها على جسمي وحركتها ولسه مش قادر أتحرك، عايز أستنجد، أصوت، أقول أذكار وآيات، مش عارف، مش عارف، وصلت لحد وشي، فتحت بوقها على الآخر، ولعابها بدأ يسيل عليا…
كانت متحكمة بالكامل فيا، ليها سيطرة غريبة، وقوة، قوة رهيبة، جسمها مكنش تقيل أوي، ومع ذلك كإنها هي اللي سببتلي الشلل، فضلت مراقبها وهي بتأذيني من غير إرادة، لحد ما بعد وقت كبير قدرت أغمض عيني وافتحها تاني وكانت اختفت..
ودي بس كانت البداية..
“حكالي بعدها إن التجربة اتكررت معاه، نفس الحلم بنفس التفاصيل تقريبًا، أيوه أنا شخصت الحالة دي على إنها حلم طبعًا، معاناة الشاب دي كانت إن الحلم ده اتكرر كتير، كان كل كام يوم بينام ويشوف نفس التفاصيل المرعبة، الست اللي بتتجول في أوضته وبتفضل تفتش فيها وبعدين تقفشه وهو صاحي ومشلول وتزحف عليه وتغرز صوابعها على لحمه و لعابها اللي بيسيل على وشه، ومع مرور الأيام، بقى يشوف نفس الحلم كل يوم، سواء بليل أو الضهر، أي وقت في اليوم…الحلم في حد ذاته يا “قاسم” كان مزعج، إحساس العجز، إنك مش قادر تهرب، إن في حد بيفعل ما يحلو له، بيأذيك وأنت مش قادر تدافع عن نفسك، لكن مش ده بس اللي كان مسبب مشكلة ل”بسام”، هو كان حاسس إن الحلم ده مش زي الأحلام التانية، مش زي أي كابوس شافه في حياته كلها، الحلم كان حي قوي، كإنه واقع”
“بسام” بعد ما خلص كل اللي عنده سألني:
-إيه تفسيرك يا دكتور للي بيحصل لي؟
-متأكد إنك عايز تسمع تفسيري الجلسة دي؟ أنا دوري اسمعك، ممكن نأجل التفسير بعدين.
-لأ، أرجوك، أنا عايز اسمع تفسيرك.
قفلت نوتة الملاحظات وقلعت النضارة وقلت:
-الواقع المرعب إن الوحوش والعفاريت بنبقى شايلنها جوانا، يعني مثلًا إنت ممكن تكون متخيل شكل معين لحياتك، فاكر إن جدولك محدد، ليك ذوق ونمط معينين، بتخاف من كذه ومش بتخاف من كذه، بتحب كذه وبتكره كذه، ده يمشي معاك وده ميمشيش، لكن الحقيقة إننا منعرفش حاجات كتير عن نفسنا، ومن ضمن الحاجات اللي محجوبة تجارب عدينا بيها، تجارب ممكن تبان بسيطة، زي كلمة اتقالتلك وأنت عيل، علقة اتضربتها، عقاب اتعاقبته، مواقف عقلك بيسقطها كأداة دفاع، بس في الحقيقة بيبقى في رواسب، الأثر موجود والمصدر محجوب…
-حضرتك عايز تقول إن في مصدر مسببلي القلق وبيخرج في صورة الكابوس ده؟
-مظبوط..
-واشمعنى من 6 شهور، ليه الكوابيس مظهرتش قبل كده؟
-زي ما قلتلك دماغنا معقدة جدًا، يمكن في حاجة حفزت مصدر القلق وخلته يخرج من جحره، كلمة أو موقف عابر، زي كلمة السر اللي بنفتح بيها أجهزتنا..
اللي عمله يا “قاسم” بعد كده ، إنه فضل باصص في الفراغ، بيحاول يستوعب الكلام اللي قلته ويهضمه، بعدين شفت هزة بسيطة من راسه، هزة نفي، مش مقتنع بالتحليل بتاعي، وده طبيعي، إحنا لسه كنا في أول جلسة…
=وحصل إيه في الجلسات اللي يعد كده، اقتنع؟
-محصلش جلسات بعد كده..
=نعم؟ مجاش تاني؟
-مجاش، فضلت مستنيه على مدار الأسابيع اللي بعد كده، متوقع ييجي في أي يوم، حتى إني كنت بقصد أفضل قاعد في العيادة ليالي بعد المواعيد الرسمية، لكن مظهرش…
عدى الوقت ونسيت، مبقتش مستنيه، باقي المرضى وقصصهم ومشاعرهم الغريبة لهوني عنه، وبعدها بسنتين جالي مريضة تانية…
هنسميها “هند”، “هند” وشها كان باهت، باين عليها التعب الشديد، إيديها كانت بتترعش، علامات تدل على قلة التغذية أو قلة النوم أو الاتنين…
مددت على الشيزلونج وبدأت تحكي:
-أنا عايزه أنام، نفسي أرجع أنام تاني، لكن مينفعش…مينفعش أنام!
-ليه مينفعش تنامي؟
-عشان هتيجي، هتأذيني.
-مين اللي هتأذيكي؟
-الموضوع ابتدا من سنة وكام شهر… أنا عايشة لوحدي، بس في نفس الشارع اللي فيه عمتي وجوزها وولادها، مكنش ينفع أقعد معاهم عشان طبعًا جوزها وعندها شبان كبار، وأنا شغلي وحياتي كلها بقت هنا، وكل يوم والتاني بروح عندهم وبيشقروا عليا، المهم إني عشان عايشة لوحدي لازم اتأكد إن الباب والشبابيك مقفولين كويس قبل ما أنام، حتى لو نومة الضهرية، وده اللي عملته يومها زي باقي الأيام، قفلت الباب بالمفتاح واتأكدت إن الشبابيك مقفولين ودخلت أنام..
أوضتي كمان كانت مقفولة، مسمعتش الباب وهو بيتفتح لكن فجأة فتحت عيني…
كنت سايبة الأباجورة منورة قبل ما أنام وهو ده اللي خلاني أشوف…
ست، ضهرها محني، حركتها بطيئة، شعرها منتور، كله رمادي، لابسة جلابية مهرجلة كده، فيها قطعات كتير، كانت بتتمشى هيمانة في الأوضة، بتبص وتدور، دخلت منين؟ أنا عايشة لوحدي، يعني محدش فتحلها، حرامية؟ لو كده، لو فعلًا كانت حرامية يبقى أكيد في ناس تانية معاها، مهو مش هتدخل لوحدها، مش هتعرف تطفش باب أو تتسلق وتدخل من الشباك، دي ست عجوزة، عجوزة أوي، كم التجاعيد في وشها رهيبة، وده عرفته لما اتلفتت ليا، عيني كانت مبرقة، مفتوحة على الآخر، مش عشان الصدمة بس، أنا كنت مشلولة، معنديش تحكم في جسمي كله، مش قادرة اغمض عيني عشان أهرب منها، ما هي لو كانت حرامية، هي واللي معاها كانوا ممكن ياخدوا اللي عايزينه ويمشوا من سكات، لو أنا المفروض نايمة ومش حاسه بحاجة ومش هفضحهم، لكن أهي لقطتني وأنا معرفش ليه مش قادرة، مش قادرة أغمض، أكيد كانت هتعمل فيا حاجة، ده اللي جه في بالي ساعتها.. بدأت تتحرك ناحيتي وأنا لسه مشلولة، الجديد بقى إني مش بس مش عارفة احرك جسمي، كمان صوتي مكنش طالع، كنت عايزه أصرخ، يمكن الجيران يسمعوني وينجدوني، طب بلاش، أقرا قرآن، أقول الشهادتين في حالة إن الست قررت تموتني، مفيش، صوتي محبوس، مشلول زي باقي جسمي وإرادتي…
بس الست عملت تصرف غريب أوي، طلعت على السرير وزحفت عليا…كنت حاسه بإيديها تقيلة، بتغرز صوابعها على جسمي، بتستمتع وهي بتعمل كده، بتراقب الخوف في عيني وهي بتبتسم، لحد ما وشها بقى على وشي، فتحت بوقها على الآخر ولعابها سال عليا، عيني ثابتة عليها، الدموع متجمعة فيها ومش بتنزل، حركت إيديها لحد رقبتي وبدأت تخنقني…
“يتبع”
“الجزء الثاني والأخير”
“هند” سكتت بعدها شوية فأنا سألتها إذا كان الحلم ده اتكرر، ردت وقالت إنه اتكرر بنفس التفاصيل تقريبًا لحد اليوم اللي جاتلي فيه العيادة وإنها بقت تضغط على نفسها عشان متنامش، مبقتش قادرة على جرعة الرعب الرهيبة والألم الجسدي اللي بتحس بيه خلال التجربة، لكن قلة النوم بوظت أعصابها وعلت ضغطها وبقى عندها فقدان شهية، وطبعًا مش محتاج أقول إنها لازم كانت تنام، اللي لفت انتباهي في قصتها تفصيلة معينة..
=تفصيلة بس هي اللي لفتت انتباهك؟ مش القصة كلها ومش الشبه اللي بينها وبين قصة “بسام”؟..
-لأ وهقولك ليه حالًا، بس خليني اقولك الأول التفصيلة دي… “هند” قالت إنها كانت بتحس إن التجربة حية أوي، كإنها بتحصل فعلًا مش مجرد حلم، ومرة من المرات، وهي في حالة الشلل والست موجودة في الأوضة معاها بصت على الساعة على الحيطة، كانت 4 العصر و6 دقايق بالظبط، والحلم خلص في 3 دقايق عبال ما قدرت أخيرًا تفوق منه وتتحرر من حالة الشلل على كلامها، لما فاقت وبصت في الساعة كانت الساعة 4 و9 دقايق، السؤال بقى من إمتى الخط الزمني في الحلم بيتوافق مع الخط الزمني في الواقع؟ إزاي الساعة في الحلم زي في الحقيقة وإزاي نفس الوقت عدى؟ كمان في ملاحظة تانية لفتت انتباهي، كل مرة كانت بتعيش التجربة كانت بتفوق في وقت أكبر، كإن مقاومتها بتضعف كل مدى، في الأول كان إحساسها بالتجربة إنها بتاخد وقت معين وبعدين تفوق بعدين التجربة تقعد وقت أكبر وأكبر وأكبر، طبعًا أنا متفهم تمامًا ليه تبقى مرعوبة تنام، كل مدى بتصحى من الكابوس بصعوبة أكتر، أكيد كانت بتفكر هيحصل إيه بعد كده، هتفضل قد إيه عبال ما تقدر تصحى…
=طب حضرتك قلت إن القصة نفسها مكنتش غريبة بالنسبة لك، إزاي؟ وتفسر بإيه الشبه ما بينها وبين قصة “بسام”؟
-بص يا “قاسم”، الظاهرة اللي حصلتلهم علميًا إسمها “شلل النوم”، اللي هي إن الشخص يصحى في عز نومه، يكون واعي بس مش قادر يتحرك ومن أعراضه ضيق التنفس والهلوسة والسبب بيبقى إن دماغ الشخص بتبقى نشيطة جدًا وبيحصل خلل نتيجة للنشاط ده، أما السبب الغير مباشر فهو ممكن إن النوم مش منتظم أو الوراثة، يعني في تاريخ مرضي لشلل النوم في الأسرة، لكن بصراحة كلها افتراضات، يعني مفيش تشخيص حاسم للحالات دي، ومن ضمن الهلوسة اللي بيعاني منها الواحد لما يجيله شلل النوم هو التوهم بوجود شخص تاني معاه في أوضته، تقريبًا كلنا حصلنا الظاهرة دي مرة واحدة على الأقل في عمرنا وكلنا حسينا أو شوفنا حد تاني معانا في الأوضة…
=الجاثوم..
-أيوووه، ده اسم تاني ليه، الإسم المعروف في مجتمعاتنا، لكن طبعًا ده اسم من ضمن أسماء كتير، حسب هتاخد الموضوع بزاوية علمية ولا ثقافية، وبحسب كمان البلد اللي أنت فيها، كل بلد ليها تصور ووصف للظاهرة دي، أو لو هنفترض إنه “كيان”، كل بلد برضه ليها تصور ليه..
=كيان؟ حلو أوي، بدل ما احنا عمالين نلف وندور حوالين الموضوع ده، ندخل فيه على طول، أنت يا دكتور مقتنع فعلًا إنه ممكن يكون “كيان” مش مجرد ظاهرة علمية؟
-الموضوع مش بسيط يا “قاسم”، خليني أكملك القصة…أنا مقعدتش أحلل وأقول لها ما يمكن ويمكن، كل اللي كان يهمني وليه الأولوية عندي هي صحة “هند”، لازم كانت تنام، دي أهم حاجة، اقترحت عليها تنام في جو مريح بالنسبة لها، مكان تحس فيه بالأمان، عند عمتها مثلًا، تستأذنها تروح عندها بأي حجة، مثلًا إن مكنش عندها وقت تطبخ وعايز تاكل عندهم، وبعدين تدخل تريح في أي أوضة فاضية، أو إن عمتها تجيلها وتقعد معاها وتنام في وجودها، تخلق البيئة اللي تخليها مش حاسة بقلق وإنها مش لوحدها…وبعدين بقى نبقى نشوف موضوع شلل النوم ده..
=وعملت كده؟
-كانت خايفة جدًا من الخطوة دي، لكن في نفس الوقت منهارة، هتموت وتنام، كانت محتاجة زقة من حد متخصص زيي، حد يقول لها إن ده الصح، إنها لازم تنام…”هند” جاتلي بعدها بإسبوع…وشها كان غريب، مكنتش عارف أحدد بالظبط ليه غريب، بس كان غريب، مكنتش شاحبة زي المرة الأولى، لكن في حاجة تانية…
قالت إنها طبقت اللي إحنا اتقفنا عليه والموضوع نجح…
=طب الحمد لله..
-في الكام مرة الأولانيين! وبعدين شلل النوم رجع، وبشكل أقوى! نزلت البلوزة بتاعتها شوية وكشفت عن رقبتها عشان أشوف علامات، كدمات على رقبتها وجروح، مطرح صوابع، كإن حد كان بيحاول يخنقها..
=إيه اللي جه في بالك ساعتها يا دكتور؟
-تفتكر أنت إيه اللي جه في بالي؟
=أنها بتختلق قصة شلل النوم، وإنها بتتعرض لإساءة من شخص قريب منها، حد بيضربها وبيهينها…
-الله ينور عليك يا “قاسم”! بالظبط، بالظبط هو ده اللي جه في بالي، إنها كانت بتحاول تطلب مساعدة، لكن من كتر الخوف والضغط النفسي اللي بتتعرض ليه من المسيء اخترعت أي قصة، وكانت عايزاني أفهم لوحدي وأحاول أساعدها.. بعد ما بصيت على الكدمات سألتها إذا كانت مخبية عني حاجة، حاجة عايزه تحكيها لكن خايفة.. دموع اتجمعت في عنيها وبعدين قالت إن اللي بتشوفه مش حلم، مش شلل نوم، وإن الست هتفضل وراها وهتأذيها، الست العجوزة اللي من غير سنان..شوف برغم إن اللي يبان إنها كانت متمسكة بقصة الست اللي بتجيلها وبتسببلها بطريقة ما الشلل أو بتستغله وبتزحف عليها وبتأذيها، لكن أنا كنت شايف إنها بداية كويسة وإنها هتبقى منفتحة أكتر في الجلسات اللي بعد كده ووحدة وحدة هتحكي النسخة الحقيقية من القصة، لإني كنت متخيل إنها بتقول رموز، يعني “الست هتفضل وراها” تقصد بيها الواحد أو الواحدة اللي يتضربها وبتطير من عنيها من الخوف، ببساطة هي البعبع، وممكن مثلًا تكون عمتها أو جوز عمتها، لإن خد بالك هي قالت إن الست دي بتزحف عليها وبتغرز صوابعها فيها، ممكن يكون ده تعدي جنسي من جوز عمتها أو حد من ولاد عمتها، وهي بترمز ليه بزحف ست بشعة عليها بتشلها وبتسلب إرادتها، وده بالمناسبة مش غريب، كتير مننا وإحنا أطفال أو مراهقين أو حتى كبار ممكن نتعرض لتجربة مُرة اسمها “التحرش” وعشان نتخطى بشاعة التجربة خيالنا بينسج صورة مش حقيقية عن التجربة، تشويش، زي إن اللي لمسنا أو اتعدى علينا هو عفريت أو وحش، ولك أن تتخيل إن ده بيبقى أهون بالنسبة لنا من إننا اتعرضنا لتحرش، يعني لو جن أوكيه، حد اتحرش لأ! نسخة الجن مش مرعبة بنفس القدر…
=وبعدين؟ لما جاتلك تاني قالتلك إيه؟
-مجاتش، دي آخر مرة شفت “هند” فيها.
=يووه، دي حاجة محبطة جدًا، أكيد حضرتك كنت بتضرب كف على كف، وكان نفسك تعرف الحالات دي وصلت لإيه؟
-يا “قاسم” الحالات على قفا من يشيل، الدكتور معندوش رفاهية يضرب كف على كف ويقول يا ترى فلان حصل له إيه، هو مش بيلحق يفكر في مصيره أساسًا، بيلاقي سيل من العيانين، ولازم يساعدهم، وكل حالة أغرب وأعقد من التانية… المهم يا سيدي إن عدى على موضوع “هند” 7 سنين، خلالهم جاتلي طبعًا حالات بتشتكي من شلل النوم من ضمن حالات تانية كتير، كانت حالات فردية، أو ده اللي كنت فاكره، عشان كده مركزتش معاهم، مركزتش يعني في تربيطهم ببعض، عادي، يمكن أكتر من نص البشر بيعانوا من شلل النوم أو “الجاثوم” يا سيدي عشان متزعلش.
لحد ما جاتلي حالة…
كان راجل ومراته، الراجل كان ساكت تمامًا ومبلم، الست هي اللي اتكلمت مع المساعد بتاعي لما سأل مين فيهم المريض، قالت اسم جوزها وشاورت عليه، مكنوش حاجزين، عشان كده فضلوا مستنيين كتير لكن مزهقوش، أو بمعنى اصح الست مزهقتش، كانت مصرة تدخل بجوزها، وهو فضل مش بينطق لحد ما دخلولي…
طبعًا أنا كان عندي فضول أفهم في إيه؟ إيه تفسير اللي بيحصل..
الراجل راسه كانت مدلدلة، بيبص في الأرض، الست فضلت ساكتة لحظات كإنها بتشوف هتبتدي منين وبعدين بصتلي وقالت:
-ده جوزي، “تميم”، هو…عنده مشكلة، بصراحة أنت مش أول حد نلجأله، قبليك روحنا لشيوخ بس مقدروش يساعدونا، قلت مش هنخسر حاجة لما نستشير دكتور نفسي، مع إني لسه شايفه إنه…. الموضوع أكبر من مرض نفسي أو جسماني…
-أرجوكي احكي من غير مقدمات…
-حح..اضر، من 5 سنين فاتوا، دخلت على “تميم” الأوضة وهو نايم، لاحظت إنه بيتشنج، جسمه بيتهز وعينه بتتحرك جامد وهي مقفولة، قعدت جنبه ومسكت إيده، قام وهو بيصرخ وقال “مكنتش عارف أقوم، مكنتش عارف أقوم”… لما سألته جاوب إن في حد كان معاه في الأوضة، واحد شكله كان صعب أوي، في حتت من عضمه مكشوفة، في وشه وإيديه ورجليه، كان لابس هدوم مقطعة واللحم اللي باين منها برضه نفس النظام، في حفر في الجلد والعضم باين، الراجل عينه كانت مبرقة على الآخر، معندوش جفون، كإنه سمع نفس “تميم” أو بطريقة ما حس بوجوده، لف وبص عليه، وابتسم، وهو بيبتسم اللحم اللي متبقي في وشه كان بيقع على الأرض، قرب من السرير، حط إيده على الفرش وشكله كان ناوي يزحف عليه، في نفس الوقت ده “تميم” كان مفتح عينه، مش قادر يغمضها، مش قادر يتحرك أو يصرخ أو يقرا قرآن حتى في سره، صوته كان مش بس محبوس، كمان إرادته! لإنه مكنش عنده القدرة يقول آيات في سره حتى، واللي أنقذه على كلامه هو إني دخلت الأوضة ومسكت إيده وده اللي فوقه… ودي كانت بس البداية يا دكتور، من وقتها وحياتنا اتقلبت، خمس سنين عايشين في جحيم، “تميم” كان أوقات مش بيعرف يقوم، أصحيه، اهزه، أزعق، مفيش، وهو أصلًا نومه مش تقيل، وكنت بشوف عينه بتتحرك حركة سريعة وجسمه متشنج أو بارد تلج، ودي مش اصعب الحالات، الأصعب لما كان بيقوم وهو بيتحرك بعنف وبيضربني أو يضرب بنتنا عشان متهيأله إننا الوحش اللي كان بيهاجمه، لدرجة إنه مرة كسر مناخيري، مسك المفاتيح اللي على الكومودينو جنب السرير وضربني بيها، سمعت عضمة مناخيري وهي بتتكسر وشلال دم خرج منها، ومن ساعتها وأنا بنام مع بنتي في أوضتها وبنحط ورا الباب طرابيزة المكتب بتاعتها في الوقت اللي “تميم” نايم فيه ولحد ما نتأكد إنه فاق تمامًا عشان ميعملش فينا حاجة، إحنا حياتنا كانت زي الفل، مثالية، من وقت ما اتنقلنا من البلد للقاهرة من 15 سنة، “تميم” ده كان أحسن جوز، طيب وهادي وصبور ومش بيشتكي من أي وضع، لو يوم كنت تعبانة وحصل لي ظرف ومقدرتش أطبخ كان بياكل عيش وجبنة ولا أي حاجة موجودة في البيت، ولو غبت ومقدرتش اوضب البيت هو اللي كان بيوضبه…
-“تفتكر يا “قاسم” إيه الحاجة اللي شدت انتباهي في كلامها وخلتني أسرح وبوقي يتفتح؟”
=حاجة؟ مثلًا إنه بيشوف شخص شكله مرعب، عضمه باين واللحم المتبقي بيسيح ويقع على الأرض والراجل الطيب ده بيزحف عليه وأكيد بيغرز صوابعه في جسمه، معروفة يعني، وإنه كمان بقى يجيله نوبات وبيضرب في مراته وبنته وبيأذيهم وبيبقى يأما مشلول يا فاقد الوعي، يا متوهم..
-لأ مش كل ده! كلمة مراته قالتها …”من وقت ما اتنقلنا من البلد”، في جرس ضرب في دماغي، عدد من المرضى زي “بسام” و”هند” وغيرهم، ذكروا في وسط كلامهم “البلد”، المشترك ما بينهم إنهم كانوا من مكان تاني غير القاهرة وبيوصفوه ب”البلد”، وأنت عارف البلد بتبقى عادة مكان زراعي في المحافظات المختلفة سواء بحري أو قبلي، اللي ييجي في بالك غيطان أو أماكن الناس فيها عايشة حياة بسيطة، مش حياة المدن الزحمة المعقدة، معرفش، فجأة ربطت المرضى ببعض، كنت مدرك إنه ربط ساذج، وممكن يكون مجرد صدفة، بس أهو ده اللي حصل، الجرس في دماغي رن.. قاطعت مدام “غادة” وسألتها:
-مدام “غادة” إنتوا منين؟
-نعم؟
-قلتي إنكوا جيتوا من البلد، البلد دي فين بالظبط؟
-الأقصر، ليه؟
-ولا حاجة، كملي..
الوقت كان خدنا، وهي كانت تعبت، فمقالتش كلام كتير تاني والجلسة خلصت على كده…
لغيت كل الجلسات التانية اليوم ده، واللي عملته هو إني فضلت أدور في الملفات ، لقيت بيانات لمرضى، كلهم عانوا من شلل النوم، من ضمنهم “هند” و”بسام”، قريت بياناتهم وسمعت تسجيلاتهم، 8 يا قاسم، 8 من أصل 10 طلعوا من الأقصر! واتأكدت من قبل ما أعمل أي بحث إنهم من نفس البلد، قرية أو منطقة واحدة!
الوقت كان اتأخر ومكنش ينفع اكلمهم على الأرقام المتسجلة عندي، وفضلت مش على بعضي لحد الصبح، لحد ما اتواصلت معاهم…
الأرقام المتسجلة عندي كانت أرقام تليفونات أرضية لإن جزء منهم قابلتهم في وقت مكنش في اختراع الموبايل ده تمامًا، والجزء التاني كان يدوبك الموبايل بدأ يظهر بس مكنش موضة، الناس كانت لسه معتمدة على التليفون الأرضي، وده نتيجته إني لما جيت أتكلم على الأرقام اللي عندي 2 منهم مكنوش بيدوا جرس خالص، ال6 الباقيين، 3 منهم المرضى نفسهم ردوا عليا وال3 التانيين واحد من اسرتهم اللي رد عليا وده عشان المرضى اتوفوا…
=عادي، وارد، عدى عليك أكيد مرضى كتير خلال السنين دي واحتمالية إن 3 يموتوا عالية…
-اه، معاك، المشكلة في سبب الموت… ال3 ماتوا وهم نايمين! وال3 كانوا بيعانوا من اضطرابات رهيبة قبل ما يموتوا وكانوا بيتكلموا عن ست أو راجل بيزحف عليهم وهم نايمين وبيتحداهم وبيهددهم إنه هيقتلهم..
=أنا مش قادر استوعب، دي حاجة بره المنطق، ولو صدقتها متهيألي صعب أنام تاني في حياتي، الجاثوم هو اللي اتسبب في وفاتهم؟؟
-خليني أكملك وهسيبك تحلل في الآخر، كده فاضل كام واحد؟ 3 مش كده؟ زي ما قلتلك ال3 ردوا عليا بنفسهم، واحد أول ما سمع اسمي انفجر في العياط، وقال لي إن الوضع بقى أوحش وإنه مش قادر يتخلص من الشيطانة وإنها كل مرة بتبقى أقوى وكل مرة قدرته على إنه يفوق بتضعف والوقت بيطول عبال ما يقدر يتحرك والشلل يتفك، التاني قال إن التجربة بتتطور والست العجوزة بتبقى حية أكتر وجسمها أتقل وعنفها بيزيد والتالتة حكت عن إن الست اختفت وبدالها ظهر راجل في بقع في وشه وجسمه من غير جلد والعضم باين وبيعمل نفس التصرفات اللي الست كانت بتعملها…
دماغي كانت هتاكلني، مش قادر أوصل لتفسير طبي، كل حالة لوحدها ممكن نلاقيلها تحليل، لكن كون إنهم كلهم من محافظة واحدة ده اللي مش منطقي، كمان الشبه في الكيانات اللي بيشوفوها والأحداث اللي بتحصل لهم…
=طيب حضرتك قلت إن تقديرك إنهم كمان من منطقة واحدة، ده طلع صح؟
-إن صبر القاتل…فات أسبوع، وجاتلي حالة جديدة، مريضة شاكلها شاحب، مبهدلة، تحت عنيها اسود، كانت في التلاتينات، الست مددت على الشيزلونج، طلبت الأول كوباية ميه، كانت بتنهج جامد، وبعدين نفسها شوية شوية انتظم…وبدأت تتكلم:
-الحياة بقت مرعبة أوي، كل اللي بفكر فيه الفترة دي هو إن الموت سلام وأمان وهروب…
-هروب من إيه يا استاذة “ريم”؟
-منهم..
-هم مين؟
-اللي بيجولي لما بدخل أنام.
انتبهت، قلتلها متكملش لحد ما اشغل الشريط وأسجل…
-قوليلي بقى مين دول اللي بيجولك، حاولي متفوتيش تفصيلة..
-لما بغرق في النوم، بغيب تمامًا عن الوعي، بتظهرلي واحدة ست كبيرة، لابسة عباية، وشها مليان تجاعيد لدرجة ملامحها مخفية، عنيها مش باينة، ومنظرها كله صعب، وجنبها بيظهر راجل، وشه فيه فجوات، عضمه باين من الفجوات، والاتنين بيقربوا مني، واحد من اليمين والتانية من الشمال أو العكس، وبيزحفوا عليا، ووراهم بتظهر خيالات كتير، خيالات بتتحرك بسرعة وفي كل الاتجاهات، كإنهم بيهربوا من حاجة وبسمع صوت حاد زي لهيب..
قاطعتها وقلت:
-إنتي من الأقصر؟
=متقولش إنها قالت اه!
-عنيها وسعت وبوقها اتفتح وسألتني : “عرفت منين؟”، قلتلها إني مضطر أنهي الجلسة بس هكلمها في أقرب وقت… في نفس اليوم ده يا “قاسم” جاتلي مدام” غادة”، والمرة دي كانت لوحدها، جتلي بخبر وهو إنه جوزها مات، مات وهو نايم، سمعت دوشة فدخلت عليه لقيته متشنج، بيرفس وبيتحرك بعنف، أكتر من أي مرة فاتت وهو نايم، حاولت تصحيه، عملت المستحيل، زعقت، عيطت، هزته، طلبت الإسعاف، لكن مفاتش دقايق وجسمه بقى ساكن تمامًا، عينه بطلت تتحرك..قالتلي إنها لما قامت من جنبه لفت انتباهها حاجة على الأرض، حطت الحاجة دي في كيس وجابتها معاها… فتحت شنطتها وخرجت الكيس الشفاف، وجواه كان…قطعة لحمة، لحمة من وش بشري..
=الراجل…الراجل اللي لحم وشه بيسيح وبيقع على الأرض!
-أيوووه، الراجل اللي لحم وشه بيسيح، أو اللي بيمثل”الجاثوم” في ثقافتنا، إيه بقى تفسيرك لده يا “قاسم”؟
=تفسيري إيه؟ مش مهم تفسيري، المهم تفسيرك أنت يا دكتور..
-تفسيري كان مرعب، مواجهة نفسي بالحقايق مرعبة، الكيانات دي كانت حقيقية، كل اللي الضحايا اشتكوا منه حقيقي، زي ما احساسهم بيه كان حقيقي، مقدرتش استقبل أي حالات تانية يومها، بقيت مهووس بالقضية بتاعة شلل النوم والرابط العجيب ما بين الضحايا واستهداف الكيانات ليهم، أكيد، أكيد كان في سبب، في سر ورا المنطقة اللي في الأقصر اللي كلهم أصلًا منها..
كلمت المرضى اللي لسه عايشين، وأهالي الضحايا اللي ماتوا وطلبت منهم يجولي العيادة تاني يوم ضروري…
الملفت كمان إن أعمارهم كانت مختلفة، في الشاب وفي الكبير في السن، وهقولك ليه النقطة دي كانت غريبة بالنسبة لي…
مدخلتش حد أوضة الكشف غير لما كلهم جم، في منهم كانوا بيبصوا لبعض جامد كإنهم بيشبهوا على بعض، وزي ما توقعت كلهم مش بس من نفس المحافظة، دول كمان من نفس المنطقة، شوية منهم كانوا معارف وشوية ميعرفوش بعض لإن مش كلهم عاشوا في المنطقة في نفس الوقت، وده اللي كان غريب، يعني المنطقة بشكل ما هي السبب في اللي بيحصل لهم برغم إنهم عاشوا فيها في أوقات مختلفة!
=وبعدين؟ قدرت توصل لحاجة؟
-من الواضح إنهم هم نفسهم مكانش عندهم فكرة إيه الحاجة اللي حفزت الكابوس اللي بيعيشوه، مش معاهم مفتاح اللغز، أو بمعنى أصح معاهم بس مش عارفين هو فين بالظبط، وأنا لازم كنت أساعدهم، اختبار بسيط ليك يا “قاسم”، لو أنت مكاني هتبتدي منين؟
=امممم، خليني أفكر…مت..هيأليي، هبدأ بآخر حالة، “ريم”، وده عشان تجربتها فيها تفاصيل أكتر من الباقي، مبدأيًا كده شافت الراجل والست، الاتنين، وشافت خيالات تانية، ناس غيرهم، وفوضى، وسمعت نار..
-برافو! وهو ده اللي عملته، سألتهم:
-في حدث معين حصل في المنطقة بتاعتكم؟ حادثة، حريقة، ماس كهربائي، حاجة زي كده؟
ضيقوا عنيهم كإنهم بيحاولوا يفتكروا وبعدين أكبر واحد فيهم رد:
-أيوه، حصل، يااه، ده من زمان، كنت لسه مراهق، حريقة كبيرة، شالت بيوت ومحلات بقالة وغيره اكتير، والضحايا كان عددهم كبير، أنا كنت نسيت الحادثة دي، سقطتها قاصد من بشاعتها، ناس كتير كانت بتجري والنار ماسكة فيها…
واحدة منهم قاطعته وقالت وهي سرحانة في اتجاه معين:
-كان في واحدة ست، ست غلبانة كانت بتقور المحشي وتغسله وتبيعه في أكياس، كانت عجوزة أوي، بتصرف على نفسها عشان عيالها اتخلوا عنها وأهملوها، كبيرة لدرجة محدش يقدر يحدد سنها، بنتها الكبيرة كانت جدة! وهي التجاعيد كانت مالية وشها، لدرجة خافية عنيها وملامحها، وكانت بتلبس دايمًا عباية سودة مبهدلة، أنا فاكرة منظرها لما النار قفشت فيها وهي بتجري وبتصرخ، أنا كنت واقفة على مسافة، مش فاكره إيه السبب اللي خلاني أطلع من البيت ومش فاكره مين كان معايا من أهلي، كل اللي فاكراه منظر الست “نعيمة” والنار بتاكلها، أنا كنت أصلًا بخاف منها وهي عايشة، مكنتش متخيلة إن مستوى خوفي منها هيزيد عن كده، إني ممكن أشوف المنظر ده..
“غادة” قالت:
-أيوه، أيوه، أخويا الكبير حكالي عن الحادثة دي، كنت فاكراه بيهول أو بيضحك عليا، عايز يخوفني وخلاص، وقال لي إنه شاف بعينه راجل كان بيتحرق واتمرمغ في الأرض والنار اتطفت بس الحروق في جسمه كانت رهيبة لدرجة في حتت في وشه كانت سايحة والعضم مكشوف، إيه ده، ده نفس وصف الراجل اللي “تميم” كان بيشوفه..
وواحدة تالتة كملت وقالت:
-وأنا أمي حكتلي عن الحريقة اللي راح فيها أكتر من 20 واحد، وكانت من بعيد تشبه حرايق الغابات من كبرها، البلد فضلت في حالة حزن وحداد كتير، وقالت إن البداية كانت مش معروفة بس في الغالب بسبب أنبوبة عند الراجل بتاع الفول وحكتلي تفاصيل شبه التفاصيل اللي سمعتها منكوا…
“أنا بقى يا “قاسم” سألتهم واحد واحد، سواء اللي حضر بنفسه الحريقة أو اللي اتحكاله عن إحساسهم بيها، لأي مدى الحريقة اثرت فيهم والإجابة كانت…
=كلهم اترعبوا منها وتأثيرها عليهم كان جامد، الحريقة عملتلهم عقدة أو فوبيا ، استهلكت فترة من حياتهم ومن نفسيتهم، المشترك ما بينهم إن الحريقة معدتش عليهم بالساهل، كانت زي الوحوش المستخبية جوه الدولاب أو تحت السراير بالنسبة للأطفال!
-مظبوط يا “قاسم”، أنت عمال تقرب من فك اللغز…
أخيرًا، مسكت طرف الخيط، النقطة اللي هبدأ منها العلاج، الحريقة، قبل كده كنت جاهل، معرفش المصدر، المصدر اللي بدأ منه الكابوس الجماعي ده.. وده اللي اشتغلت عليه مع كل واحد فيهم بعد كده، حتى أهالي الضحايا اللي هم نفسهم مكنوش اتعرضوا لشلل النوم، وده عشان في رأيي مكنوش بعاد عن الخطر، هم كمان كانوا معرضين يحصل لهم نفس التجربة، ومن ضمنهم اللي بدأ فعلًا في رحلة الرعب بعد وفاة حد قريب منهم زي “غادة” اللي ابتدت تشوف الراجل اللي وشه متاكل، وبغض النظر عن طرق العلاج، لكن الأساس هو إنهم يقتنعوا إن الحادثة هي مربط الفرس، وإنها عدت خلاص، خلصت من زمان ومش ممكن تأذيهم، الحريقة مش هتطولهم بإذن الله، وضحايا الحريق ماتوا يومها والله يرحمهم ونحتسبهم من الشهداء ولا نزكيهم على الله، والغريبة الأثر الرهيب اللي سابته الحريقة فيهم، وهم كمان اكتشفوا ده معايا، مكنش عندهم فكرة قد إيه الحريقة سابت رواسب جواهم، حتى اللي سمع القصة من حد يعرفه ومشافهاش بعينه، وده يفسر تشابه التجارب لحد التطابق تقريبًا برغم فروق السن ما بينهم…
=والموضوع نفع يا دكتور، اتعالجوا من شلل النوم؟
-الحمد لله، كلهم اتعالجوا وعاشوا حياة هادية وسعيدة وكانوا بيطمنوني عليهم من وقت للتاني..
=لكن، ثانية واحدة ده معناه إيه؟
-قول لي أنت كده..
=لو بالعلاج مبقاش يجيلهم شلل النوم ومبقوش يشوفوا الست العجوزة والراجل المحروق والخيالات فده معناه… مش الجاثوم؟ يعني مش قرين الضحايا اللي في الحريقة؟ بص هو أنا جه في بالي إنهم مثلًا يكونوا حصلهم مس من قرين الضحايا، اللي منهم حضر الحادثة او اللي برضه اتحكاله وقرناء الضحايا هم اللي بيأذوهم، لكن دلوقتي، لما قلت إنهم اتعالجوا بعد ما اتطمنوا واتأكدوا إن الحريقة خلصت، وإنهم لازم ينسوا المشاهد اللي شافوها في الحريقة وسمعوا عنها فده معناه إن الموضوع نفسي بحت، مفيهاش لا جاثوم ولا قرين ولا حاجة خارقة للطبيعة، ببساطة اللي بيربطهم هي التجربة المأساوية اللي بتطاردهم وعملت اضطرابات في النوم والأعصاب وخلت مشاهد محفورة وحية جواهم، خصوصًا إن ده محصلش في نفس الإسبوع إحنا بنتكلم على سنين، خلالهم عدد منهم كان بيتعالج عندك، أنا ماشي صح ولا إيه؟
-كمل، كمل يا “قاسم”..
=لكن برضه…في حاجة مهمة، لو الموضوع نفسي، واضطراب وكلام منده، إزاي “غادة” لقت قطعة اللحمة حوالين سرير جوزها؟ إزااي بقى؟؟…إلا لو… إحنا بنفكر بطريقة غلط، حاطين إحتمالين بس، يا نفسي يا خارق للطبيعة، وممكن الاتنين يكونوا واحد.
-قصدك إيه؟
=قصدي احتمال مرعب أكتر من الاتنين يا دكتور، سيناريو معقد عنهم وهو إنه.. بطريقة ما الخوف اتحول لطاقة سلبية واتجسد وبقى واقع، يعني البداية كان خوف واضطراب و…
-واللي خاف من العفريت طلعله…
=أنا كنت قريت عن حاجة زي كده قبل كده، في اسطورة بتقول إن الواحد لو تخيل شكل معين لكيان مرعب، ومع تكرار الصورة في دماغه الكيان هيتجسد ويتحول لحقيقة ويعمل نفس الدور اللي كان في خيال الشخص.. لكن لو الكلام ده صح، دي تبقى…يا خبااار، دماغي هتنفجر، إحنا كده نبقى فتحنا باب وراه وحوش بشعة، رعب ملوش زي، يا ريتني ما حللت ولا حاولت أوصل لتفسير، يا ريتنا قلنا اضطرابات ولا حتى جاثوم وخلاص، أقول لك يا دكتور، يا ريتك ما اتصلت! أهو أنا اللي طلعت مش قد الحكاية، التحذير الحلقة دي المفروض كان ليا، ممنوع الاتصال أو التصوير!…
“تمت”