قصه رياح برمهات
قصه رياح برمهات
البلد فيها معتقد غريب جدًا، وهو إن الهواء البارد بتاع برمهات ليه سر قديم ورسالة محدش يعرفها من الأجيال الجديدة. جدتي كانت بتتكلم عن فترة في بلدنا الناس فيها كانت بتتعرض لرياح السموم دي ومرة واحدة جسمهم بيترعش وبيقعوا على الأرض زي الممسوسين، ومنهم اللي من وقتها اتغيرت شخصيته ومنهم اللي ساب البلد ومحدش يعرف عنه حاجة.
حكيتلنا أمثلة كتير لناس حصل معاهم كده، والغريب أن اللي بيقعوا مكانوش فاكرين إيه اللي حصلهم بس كل اللي فاكرينه أنهم شافوا ناس ميتة وسط الغبار والريح ولما الهواء البارد وصل جسمهم اترعشوا كأن كهرباء مسكت فيهم ومفاقوش غير على الأرض!
اليومين دول فكروني بقصة جدتي الله يرحمها، والصدفة أني سافرت البلد وراكب الميكروباص وسامع صرير الريح العاتي حواليا في الخلا كأنه بيهدد اللي يمس جسمه، وصلت البلد بليل، الجو برد تلج، الهواء قوي بس مش زي ما كانت جدتي بتوصف سموم الريح اللي هي المفروض رياح محملة بالأتربة والغبار وبتكون بين الشتاء والربيع.
المكان متغيرش كتير، الأرض الجرداء قدامي لسه محتفظة بشموخها، الرملة الصفراء واضحة فيها، وبعدها الطين والزراعة حواليها لحد بلدنا البسيطة اللي فيها 100 بيت بالظبط وده سبب تسمية المكان “بلد الميت بيت”.
بقالي سنين مجيتش، بس المرة دي وصلت علشان أشوف بيعة للبيت القديم لأني محتاج فلوس، الوشوش لسه بسيطة، بس حسيت فيها بشوية خوف، يمكن علشان الهواء والجو اللي بيفكرهم بأساطير المكان.
“نورت يا عم مصطفى” سمعت الجملة وخرجتني من ذكرياتي، قالها الشيخ محمد إمام الجامع الوحيد اللي في البلد. هز راسه يرحب بيها بشوق وسألني عن أحوالي ورديت عليه بحب لأني بعز الراجل ده وكان سبب أني أحفظ أجزاء كتير من القرآن.
قصه رياح برمهات
العشاء لسه خلصانة، الناس خارجين كلهم متلحفين ببلاطي وجواكت فوق الجلالايب. هبت ريح جامدة حركت لمبة الجامع وبص ليها الشيخ محمد بخوف وقالي بسرعة: “يلا يا ابني ادخل بيتك ريح، مش عايزينهم يحسوا بوجود حد غريب”.
الكلمة ضربت في ودني. “هما مين دول يا شيخ”؟ سألته ومردش، أخد بعضه ومشي رايح بيته وهو بيرفع ياقة الجاكيت على رقبته وبيبص حواليه بخوف.
الشوارع حاسس أنها فضيت فجأة، الهواء هو السيد الوحيد للمكان، “فوووووووووووو” صوته بيتسلل لكل حتة، مش عارف ليه حسيت أني سامع أصوات وسط الريح بتنادي اسمي!
جسمي قشعر وضميت الجاكيت على جسمي أكتر ومشيت بسرعة ودخلت بيتي وقعدت.
المفروض بكرة الصبح الراجل اللي هيشتري البيت جاي، المكان محتاج نظافة ب
س مش عارف ليه المحلات كلها قافلة من الشباك، الجو صعب بس مش لدرجة أن الناس تسيب لقمة عيشها!
الهواء بقى أقوى، سامع صوت شبابيك بتتهز، الأرض كأنها بتترج، الجامع شغل قرآن! لأ كده الوضع بقى غريب!
طلعت الموبايل أكلم عابد ابن الحاج علي، المفروض أنه عايش هنا وصديق الطفولة، الشبكة واقعة!
“فوووووووووووووووووو” الهواء مش بيهدى ده بيزيد، حسيت ببرودة في المكان، حد في مكبر صوت الجامع بيقول “بسم الله الرحمن الرحيم، قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، الريح خلق من الله، فاستعينا عليها بذكره، وأذكركم بأن إشعال النار للتدفئة مهم، البرد القارس خطر وأنتم تعلمون العاقبة، وإنا لله وإنا إليه راجعون”!
مش فاهم، نار إيه وريح إيه وبرد مين! هي أه كل حاجة ربنا خلقها بس مش لدرجة أنهم يحذروا بعض في الجوامع من الجو ده ويولعوا نار في البيوت ودي كارثة ممكن تعمل حرايق أو اختناقات!
سمعت صوت الريح تاني بتضرب، كأنها بتخبط في الأبواب والشبابيك بعنف! صوت عيال صغيرة بتعيط من بعيد، أكيد خايفين من الجو، بس الهوا ده عادي، ما أنا في القاهرة بسمع صوته وأقوى من كده كمان!
“عااااااااااااااااااااااااا” ايه الصوت ده!! كأن حد بينوح! فتحت إزاز الشباك وبصيت برا بس مفتحتش الشيش، مش شايف حاجة غير اللون الأصفر للتراب! لأ ثواني! في أشكال بشرية! في ناس ماشية متجهة ناحية الأرض الجرداء!
الشبابيك بتخبط، ركبي بتخبط، الأبواب ببتتهز، الهواء بيزيد “فووووووووووووو” جسمي بيترعش ووشي اتجمد من برد مفاجئ!
جريت على المطبخ وولعت البوتجاز وحطيت إيدي قدامه ادفي نفسي. “أذكركم، محدش يا اخوة يفتح الشبابيك أو يسيب مساحة لدخول الريح منعًا للأذى”. الإزاز! انا فتحته وسيبته!
لسه هطلع من المطبخ لقيت قدامي جدتي الله يرحمها! واقفة! في عينها عتاب! حواليها دوامة تراب من الأرض والمطبخ بيترج من هواء كان هيطيرني مش عارف أزاي دخل وإزاي عمل كده!
قربت مني، صرخت، مسكت سكينة جنبي من الخوف، رفعتها. “فوووووووووووووو” الرياح شغالة برا أقوى، رجرجة في الحلل القديمة ووقعت من رف خشب جنبي. “في ايه” قولتها بكلمات مخنوقة من الخوف. البرد جمد جسمي، مش قادر أرفع دراعي. جدتي قربت أكتر، طيف محاط بالتراب!
“اقفل باباك يا ولدي ومتخليش منفذ ليك”! سمعت الجملة وجسمي بيترعش بشكل متواصل. جدتي اختفت! اتحولت لدوامة تراب وسمعت برا الصوت بيهدى.
قعدت على الأرض وفضلت أعيط من الخوف، تجربة صعبة، غريبة، زحفت لحد ما طلعت برا وسندت جسمي وقفلت الإزاز وقعدت تحت الشباك ضامم رجلي في بعض وبتنفض من البرد والخوف. مش عارف عدى عليا وقت قد إيه، بس تقريبًا نمت مكاني وصحيت مع نور الشمس اللي ضرب عيني وصوت خبط هادي على باب البيت.
قومت وأنا مش مستوعب كنت بحلم ولا بجد، فتحت لقيت قدامي الشيخ محمد، ابتسم، قالي: “كنت خايف عليك تكون رحت معاهم”!
الكلمة ضربت عقلي، مكنتش بحلم! نور الشمس والشيخ محمد هدوا جسمي، خففوا رعبي، سألته “إيه ده يا شيخ محمد، أنا شوفت ستي الله يرحمها، الهواء كان مرعب، مين دول”!
طبطب الشيخ على كتفي وسحبني برا البيت، الشوارع كلها تراب والشبابيك مردومة غبار خفيف. قالي بهدوء: “من سنين مالهاش عدد حصلت خناقة كبيرة على الأرض الملعونة برملتها الصفرا، مات فيها أكتر من 20 واحد من البلد، دمهم فتح حاجة أو رجع شر محدش يعرف هو إيه، بقينا كل سنة في نفس الميعاد ده يحصل كده، الأول كانت ريح السموم بتهب في شوارعنا من غير حساب ويضيع مننا اللي يضيع، وبعدها حسبنا وقتها، وكفانا الله شرها بالمعرفة، بناخد بالنا واحتياطتنا.
“وليه مقولتليش إمبارح يا شيخ”؟! سألته بغضب واضح. رد: “علشان مينفعش، لو قولت يبقى أفشيت سرهم، أنا خليت صالح بتاع الجامع يحذر الكل يعلموا إيه، النار بتهدي شرورهم، ولما تتسد منافذهم بيعدوا بأمان من غير ما يأذوا حد منا”.
بلعت ريقي، إيدي ساقعة تلج، عقلي العملي مش مستوعب اللي بسمعه، سمعت صوت حد جنبي بيقول “أستاذنا، أنا منير الأشرف كنت كلمتك على بيع البيت”. سابني الشيخ محمد واتعاملت مع الراجل اللي هيشتري البيت وعرفت منه أنه هشتريه ويضمه لكذا بيت تاني يعملهم بيوت عمال ويشتغلوا في الأرض الصفرا علشان شاكك أن فيها زيت. معلقتش، الصفقة خلصت، أخدت فلوسي، مشيت من القرية وعديت على الجامع أسلم على الشيخ محمد، قابلت واحد قاعد جوا سألته على الشيخ محمد بص ليا باستغراب وقالي: “الله يرحمه”!
مستوعبتش، بصيت حواليا زي المجنون، وسألته أنت مين قالي “الشيخ صالح إمام الجامع اللي استلمت بعد وفاة الشيخ محمد من 6 سنين”.
خرجت من الجامع، الصدمة على وشي، البلد اتغيرت كتير، الريح أثرت فيها، خلطت الأحياء بالأموات بسبب لعنة غريبة! طلعت الموبايل وكلمت بسرعة الراجل اللي اشترى البيت وطلبت أقابله. مكانش لسه مشي من البلد، طلبت منه يسترد فلوسه وسط نظراته المندهشة لأني كنت مستميت على البيعة دي.
خلصت معاه ومشي وأنا رجعت البيت، بيقولوا بكرة في رياح أقوى من بتاعت الليلة اللي فاتت، ودي فرصتي الوحيدة أني أعرف سر اللي بيحصل هنا في المكان ده وإزاي جدتي شوفتها وليه الشيخ محمد قابلته وحذرني وإيه سر الرياح والأرض دي.. بكرة هعرف أكيد!
قصه رياح برمهات
الجزء الثاني
قصه رياح برمهات
السما حمراء بلون الدم، الشمس حواليها هالة سودا، البوم واقف على جذوع الشجر بينعق بقوة. مش عارف إيه اللي جابني هنا، قدامي بير ضخم واقف حواليه 7 أشخاص عرايا من فوق بس مغطيين وشهم بحاجة سودا، واقفين بيقولوا كلام مش مفهوم برتم صوت متصاعد، قشعر جسمي.
قربت منهم، تحت رجليهم في جسم بشري مربوط من إيده ورجله، راجل أصلع، عينه فيها خوف ورعب، السبعة خلصوا ترانيمهم ورفعوا ببطء لحد فتحة البير وبعدها حدفوه!
عملوا كده بالتزامن مع الهالة السودا اللي بعدت عن الشمس، رموه ورفعوا إيدهم لفوق كأنهم بيدعوا، الأرض اترجت، البوم خاف وهرب من فوق الشجر، في إيد سودا ضخمة مشعرة خرجت ومسكت حافة البير الطينية وغرست فيها وبعدها سمعت صوت “فوووووووووووووو” لرياح قوية ضربت المكان وطيرت أغطية الراس اللي مخبية ملامحهم، كانوا ناس معرفهمش، بس أنا منهم!!
صرخت لقيت نفسي على السرير، كابوس غريب، لسه في البلد وريحت بعد اللي حصل إمبارح بس الظاهر أنه أثر على نفسيتي جامد، لوهلة حسيت أني لسه في الحلم بسبب صوت الهواء اللي برا، قمت بهدوء لقيت جدتي الله يرحمها واقفة على طرف السرير بتبص ليا وفجأة فتحت بقها وخرج منها ظلام حاوط المكان وفضلت أصرخ!
قومت وجسمي كله عرق، أول مرة في حياتي أحلم حلم مزودج، حلم جوا حلم! صدري معترض على أنفاسي السريعة، إيدي ساقعة، وشي سخن. فضلت واقف مكاني بحاول استوعب اللي أنا فيه، ايه اللي خلاني أكمل والفضول يقعدني!
بصيت على الساعة لقيتها 4 العصر، فاضل ساعة واحدة والدنيا تبدأ تضلم وريح السموم تبدأ تاني، المرة دي مستعد للي هيحصل، معايا ولاعة كبيرة في جيبي وطبنجة صوت كنت مرخصها من سنين وكشاف كبير مشحون يكفي 6 ساعات إضاءة قوية وكبريت وعلبة صغيرة فيها شوية جاز وطبعًا جاكيت جلد ودفاية وبلوفر وتي شيرت نص كم وواحد بكم. الخلاصة أني لازم أعرف اللي بيحصل.
دخلت المطبخ أكلت حاجة سريعة لقيت الساعة بقت 4 ونص، مسكت الموبايل شوية. الشبكة شغالة، تقريبا بتفصل مع الجو بس، عملت كذا مكالمة وحاولت أفصل دماغي وفتحت الفيسبوك ونزلت بوست وكله تمام، الساعة 4 إلا خمسة.
“فووووووووووو” الريح بدأت على خفيف، بصيت من الشباك لقيت الناس بدأت تدخل بيوتها، الخوف واضح، النهاردة أصعب يوم في الجو، حاولت أشجع نفسي بشوية حماسة جوايا وأستعد للي جاي. “فووووو” “فووووووووووووووو” الريح بدأت تشد، الشبابيك بتتهز تاني، لمض الشارع بتنور وتطفي بتذبذب غريب، ونورها بدأ يبهت.
“أذكركم اخوتي أن تغلقوا النوافذ جيدًا، اليوم اختبار وكان الله رحيمًا بعباده” جملة مقتضبة قالها شيخ الجامع في الميكروفون خلت أعصابي تبدأ تتهز. “فوووووووووووووووووووووووو” الهوا أقوى جدًا، سرعة الريح علشان المكان مفتوح مش بتوقفها حاجة، بتضرب في الأبواب أقوى من إمبارح كأنها عايزة تقتحم بيوت البشر!
“سوناكيرر، بوناي، سوناااكييير، اشميين” في صوت أغنية بتتقال في الشارع! الكلمات دي زي اللي سمعتها في الحلم!!
الخوف بدأ يتمكن مني، بصيت براحة من الشباك وأنا ضامم عيني من الريح القوية، لقيت صف الناس الميتة بيحرك برضه، ماشيين ببطء، بحزن، باصين على البيوت، سمعت شهقات أطفال تقريبًا بيتفرجوا زيي من ورا الإزاز. ثانية كده! جدتي وسطهم! وأبويا اللي شوفته في الصوت ومات وانا عمري سنة! هو أكيد! ماشي قدامي، وصل لحد البيت، بص على الشباك، ابتسم!
جدتي اختفت من وسطهم! “مرجعتش ليه يا ولدي”! سمعتها بتتكلم من ورايا! التفت وأنا بصرخ ورفعت السلاح في وشها. نظرتها عتاب، لابسة جلبية سودا زي ما كنت بشوفها وانا صغير ووشها معضم بس مريح.
قبل ما أتكلم، لفت وخبطت على مكان في الحيطة خبطتين وبعدها رجعت بصت ليا وابتسمت. النور طفى، رجع، اختفت! جسمي بيترعش من التوتر والخوف والإثارة، رجعت بصيت على الشارع، موكب الموتى وصل عند أخر الشارع، متجه ناحية الرملة الصفرا، زاوية الشباك مش هتساعد أني أشوف حاجة. “فووووووووووووووووووووووووو” الشباك بيتهز، لقيت قدامي وش واحد باصص من الشباك! رجعت لورا من الصدمة وكنت هقع، الشباك بيتهز أقوى كأنهم بيحاولوا يكسروه، زحفت بضهري وأنا رافع المسدس، النور طفى تاني، حسست لحد ما وصلت للكشاف وفتحته، المكان منور وفي إيدين بتحاول تفتح الشباك، إيدين مشوهة!
قصه رياح برمهات
“فووووووووووووووووووووووووووووووووووووو” الريح عاتية زي ما بيقولوا، ريحة الغبار في أنفي، فكرت أضرب نار بس خوفي منعني، نور الكشاف مبين حاجة على الحيطة اللي جدتي خبطت عليها! في كلمات غريبة مكتوبة!
4 كلمات جوا دايرة بتلمع بشكل غريب، الإيدين بتحاول تفتح الشباك تاني، بتزقه، بس واضح أن في حاجة منعاها! زحفت لحد ما وصلت وزقيت الإزاز قفلته. صوت الرياح برا هدي بعد ما كتمت صوته شوية، الكلمات بتلمع، قومت وحسست عليها، الحيطة دافية رغم أن الجو تلج! خبطت على المكان لقيته مفرغ، في حاجة وراه! مسكت السكينة وبدأت أقشر الحيطة لقيتها أبلكاش، خبطتها جامد ومديت إيدي لقيت علبة صغيرة مسكتها وطلعتها.
فتحت بسرعة، جواها ورقة قديمة مطوية، وساعة رملية، وسلسلة سودا رفيعة جدًا!
“كركركركركر” في صوت حاجة بتخبط في الشباك جامد! قربت بخوف وفتحت الإزاز، شايف ظلالات سودا قدامي، والصوت مستمر، حاجة بتنقر! “استعينوا بالصبر يا مؤمنين، فلكل آن آوان ولكل ظلام نور” الصوت في الجامع. بصيت لقيت وش بوم! بوم بيحاول يكسر خشب الشباك بمناقره اللي بدأ ينزل دم! بوم ضخم ملعون!
“البس سلسلتك يا ولدي وواجه مصيرك راجل زي أبوك” سمعت الصوت ضرب في ودني، صوت الشيخ محمد! بصيت حواليا ملقتش حد معايا! مسكت السلسلة بصيت فيها لقيتها دافية ومصنوعة من مادة غريبة، لبستها وأنا بستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وبمجرد ما لبستها حسيت أن جسمي دافي، الخوف قل! “حطيت الساعة في جيبي والورقة وحاولت ازعق أدور على الشيخ محمد بس صوت الريح بقى أقوى جدًا كأنه في حالة جنون. “فووووووووووووووووووووووووووووووووووووو”. الصوت اتكلم تاني: “قربان، البير، قربان، له” مش فاهم! قربان إيه! وبير مين! ومين هو اللي مقصود بيه “له”! البير! أكيد الرملة الصفرا كانت بير!
بحاول استوعب المطلوب مني، سمعت صوت جدتي في حواليا بتصرخ! “ولدااااااااااااااااااي” جسمي اتنفض، بصيت حواليا زي المجنون. مسكت المسدس وقررت أعمل أكتر حاجة مجنونة ممكن أعملها في حياتي. فتحت الباب!
الهواء كان هيطيرني، التراب غمى عيني، البرد نخر عضمي رغم اللي لابسه، الريح بتضرب جسمي كأنها بتمنعني أتحرك أو أروح المكان الملعون، بتحرك خطوة لقدام بالعافية، صوت الجامع بيردد “ادعوا لله كثيرًا”. ياااااااااااااااااااااااارب قولتها وأنا بطلع لقدام، “ياااااااااااااااااااااارب” بصرخ بيها وبيدخل بقي تراب وغبار وبكح بس بكمل. مشيت شوية، في ناس معرفهاش في البلد لقيتهم بيقربوا مشاعل من الشبابيك! فهمت! بيبعدوا الشر وبيعملولي مسار أمشي فيه، قربت من البيوت وبقيت ماشي في محازاة الشبابيك، سامع بودني الدعاء لله أني أوصل! مش فاهم فيه إيه! هما كانوا مستنيني! الخطوات بقت أسهل. “ادعوا لله كثيراااااااااااااا” قالها إمام الجامع بحماسة أكبر، سامع صوت تكبير في البيوت، جسمي بتنفض، في حاجة مالحة على بقي مش عارف دموع ولا دم، خرجت من الشارع ووصلت لحافة الرمال الصفرا، كانت مفتوحة!!
قصه رياح برمهات
الجزء الثالث
قصه رياح برمهات
الأرض الجرداء الصفرا كانت بير، بيخرج منها أشكال ضبابية غريبة، ورياح بتلف زي الدوامات شايف فيها وشوش!
“فوووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووو” ضربتني ريح قوية جدًا رفعتني من مكاني ووقعتني على الأرض، قومت بالعافية، جسمي متكسر، دراعي منمل، صوت الشيخ محمد في ودني. “أرمي الورقة والساعة في البير” حاولت أقرب بس مش قادر، طاقتي خلصت، صوت الناس بدأ يخفت والرياح عكس اتجاه صوتهم، مديت إيدي لقدام كأني مستني حد يساعدني.
عيني بتحرقني من الغبار، صدري بيوجعني، أنفاسي بتتقطع. شديت همتي وقومت، قربت خطوة وبخطوة وأنا رافع إيدي قدام وشي تحميني، وصلت لحافة البير، لقيت قدامي سواد جواه، فجوة ضخمة جدًا، صوت صراخ جاي من تحت، مديت إيدي في جيبي وطلعت الورقة والساعة ورميتهم، الهواء طير الورقة بعيد ومش عارف أزاي نطيت ومسكتها قبل ما تروح للأبد، فضلت أقرب لحد ما نمت على بطني وقدامي حافة البير، ومديت دراعي ورميتها لتحت.
مش فاهم إزاي بمجرد ما عملت كده الريح هديت! التراب عالق في الهوا، قدامي جدتي وأبويا والشيخ محمد واقفين الناحية التانية من البير وبصوا ليا مبتسمين واختفوا وسط هبة رياح ورمال خرجت من البير ورجعت تاني!
قومت بالعافية، بصيت حواليا، الرملة الصفرا طبيعية، البير اتغطى بيها، وورايا سمعت صوت تكبير وناس واقفة على حدود الشارع يحضنوا بعض!
محدش قرب مني، كأن المنطقة دي محظورة عليهم، خرجت أنا ليهم، قدامي الشيخ صالح، حضني وسحبني من إيدي وأنا مش مستوعب أي حاجة خالص، ودخلنا الجامع وقعد قدامي وبدأ يحكي ودموع الفرحة في عينه.
“جدتك الله يرحمها كانت صح لما قالت إنك انت اللي هترجع الوضع لصوابه”. الكلمة لفتت انتباهي. “إزاي يا شيخ مش فاهم حاجة” رديت عليه، وكمل والإبتسامة مالية وشه: “من سنين، نقول آلاف السنين، ده كان بير ملعون، بيقدموا فيه قرابين لشيطان محبوس جواه، مش بيخرج لأن مكانه تحت الأرض بس بيتغذى على البشر وروحهم، وفي عهد المماليك استغلوا البير ده أنهم يرموا فيه المعارضين أو اللي واقفين في سكتهم لحد ما جه عهد محمد علي ووصل المعمار قريب من هنا واكتشفوا البير وأنه لعنة فقرروا يردموه”.
كمل وهو ساند إيده على الأرض: “حاولوا كتير، كل مرة يتردم الرملة تختفي ويظهر، لحد ما وصل الأمر لسحرة حط ليهم الوالي مكافأة ذهب للي يعرف يسد البير، وفعلًا بدأ السحرة يجوا المكان، حاولوا، فشلوا، بس واحد منهم نجح، فكر أنه يستدعي الشيطان ده ويقتله بس المسخ الملعون مش هو اللي طلع. كان ابنه، وبمجرد خروجه الساحر ده قدر يكبله ويدمره بتعاويذ كتير وموته، ولما مات المسخ الضعيف ده اتحول لتراب وغطى البير”.
سكت شوية أخد نفسه وكمل: “محدش كان عارف إزاي مسخ يتحول لتراب بس الساحر قال إن الشيطان ده ليه سيطرة شوية على الطبيعة، بيلعن حاجات معينة وربنا مديله قوة لكده زي ما في جن مائي وهوائي وأرضي وعُمار مكان، فالساحر علشان يضمن أن ميحصلش حاجة أو يقوم الشيطان ده وينتقم من البشر تاني عمل تعويذة تمنع دخول أي بشر فيها، اللي يدخل بيحس أنه مش طبيعي وبيخرج من المكان بشكل لا إرادي، والتعويذة دي بتتجدد كل سنة بس في يوم واحد بتكون باطلة.
قاطعته بسرعة: “يوم الخناقة اللي مات فيها ناس كتير”؟ قالي: “أه، بالظبط، والدم اللي سال على الرملة دي إدى قوة للشيطان اللي في البير أنه يتحكم تاني ويبدأ يستعيد قوته، كان عايز أضحيات بشرية تاني، بس طبعًا مش هيعرف يعمل كده لوحده، فبقى يستنى اليوم ده كل سنة ويطلق ريحه تخطف أراوح أو تخلي الناس تقرب وترمي نفسه في البير أو تمسهم وتسحب قوتهم، وفضل على الحال ده سنين، اللي يموت بسبب البير يظهر في اليوم ده للبشر، يمشوا في الشوارع يفكروا الناس بيهم، يعملوا مسيرة من أول البلد لأخرها لحد ما يرجعوا تاني البير.
استغربت، قولتله بتعجب: “وجدتي”؟! ضحك كأنه افتكر ذكريات الماضي وقال: “جدتك ماتت وهي بتحاول تنقذ عيلة صغيرة خرجت في يوم الريح وكانت رايحة البير، طلعت وراها ورجعتها بس وقعت في الأرض ميتة ممكن من الصدمة أو المجهود أو الشيطان قتلها”.
وكمل: عايز أقولك إنكم أقدم ناس في المكان ده، متعرفش السبب إيه؟!
مردتش.
كمل: “انتوا من نسل الساحر ده، دمكم هو اللي يقدر يوقف اللعنة أو يقومها، أبوك الله يرحمه لما لقى الشيطان بتزيد قوته حاول يواجهه بس فشل ومات في سبيل ده، مكانش عارف أن المواجهة ليها طرق تانية لما جدتك ماتت بعده بسنين عرفتها وحاولت توصلك ليها، عالم الأرواح برضه ليه طرق تواصل غيرنا يعرفوا بيها المستور.
تمتمت: “الساعة والورقة” شاور بإيده وقالي: “ايوة، الساعة دي فيها رملة من الملعونة، الساحر عملها علشان يوقف بيها الشيطان بس مكانش عارف أنه كده بيستفزه أكتر لأنها تعتبر جزء من جسم ابنه اللي مات، فكتب ورقة عبارة عن عهد أنه هيرجع باقي الرملة مقابل أن الشيطان يكف شروره عن البشر.
“والسلسلة”؟ سألته. رد بسرعة: “أبوك كان لابسها لما مات، وجدتك كانت بتلبسها كتير يوم الريح، بس مكانش موجودة معاها لما ماتت، فيمكن دي علامة أنك من نسل الساحر بتسمح لكم أنكم تقربوا من المكان أو بتديكم قوة”.
“هو أنت عرفت كل ده منين يا شيخ، وأهل البلد عرفوا منين”؟
سألته بفضول رهيب. ابتسم وقال: “أهل القرية عارفين كل حاجة، مستنيين اللعنة تتفك بقالهم سنين، أنت لما بعدت ورجعت عرفوا أن رجوعك رسالة، بس رسالة مقصودة.
مفهمتش، لسه هسأله تاني لقيت حد بيقول “سلام عليكم” لقيته الراجل اللي كان هيشتري مني البيت، سلم على الشيخ وابتسموا لبعض.
كنت هضحك بصوت عالي بس مسكت نفسي: “يعني أنت يا شيخ اللي خليته يكلمني ويقولي إنه هيشتري البيت علشان أرجع اليوم ده بالذات ويحصل اللي حصل”؟ “كملت وأنا بضحك بصوت مكتوم: “بتغريني بالفلوس يا شيخ”؟ رد عليا بضحكة بسيطة هو والراجل وقالي: “المهم أنك عرفت قيمة بيتكم، وقيمة نفسك”.
الراجل معلقش وراح قعد بعيد، وأنا سألت الشيخ أخر سؤال “أنت عرفت منين يا شيخ كل ده”؟ طبطب على إيدي ومردش وقام وهو بيقول: “هكبر للفجر، استنى نصلي جماعة”.
قالها ولف، ولفت نظري سلسلة زي اللي معايا بالظبط حوالين رقبته، سلسلة نسل الساحر، راح وكبر وأنا فردت ظهري على الأرض وغمضت عيني وباصص على سقف الجامع وسامع برا صوت رياح خفيفة، عادية، بتتحرك في الشوارع بس من غير ما تأذي اللي ماشيين فيها!
تمت
قصه رياح برمهات
عبدالرحمن_دياب
قصه رياح برمهات