لما سافرت الفيوم كنت مقرر أقضي يوم مختلف مع أسرتي، سمعت عن الخُضرة ووادي الريان والقرى اللي على بحيرة قارون، قولت خسارة مستمتعش بالجمال ده ومروحش. الطريق كان لطيف، ساعة ونص بالكتير من بيتي في الجيزة لحد هناك، ووجهتنا كانت قرية سمعت أنها بتعلم الحرف زي الفخار والزراعة وحلب الماشية ودي تجربة جديدة عليا رغم أن عمري عدى الأربعين، بس كانت فرصة لعيالي ومراتي يستمتعوا بيها.
القرية اسمها تونا، والمفروض أنها بتبص على البحيرة، قررنا نروح بليل ونبات هناك والصبح بدري نستمتع بكل لحظة، الساعة تسعة، سايق العربية لقيت حاجة سودا خبطت في الإزاز. فرملت، مراتي نور الهدى صرخت، ولادي ياسين وياسمين ورا اتخضوا، بصيت لقيت بقعة دم اتشكلت على إزاز العربية جهة اليمين. ركنت على جنب ونزلت أبص لقيتها كبيرة تقريبًا خبطنا في طائر أو حاجة!
مراتي مش مستوعبة وعمالة تشاور على المكان أمسحه، بس قولت مش وقته علشان الطريق ضلمة وخطر ومش عايز أقف كتير، ركبت وكملنا الطريق وهي ساكتة. شغلت أم كلثوم وبدأت أدندن معاها، العيال ورا بيلعبوا، الطريق مفيش فيه عربيات غيرنا تقريبًا، على اليمين البحيرة أتحولت للأسود وعلى الشمال مزراع وأنوار من بعيد لبيوت الفلاحين والأهالي.
الهواء ينعش الروح، ريحة الزرع ترطب القلب.
لفت نظري أن بقعة الدم بدأت تختفي، يمكن من الهواء أو أي حاجة، المهم لقيت يافتة على اليمين مكتوبة بخط الإيد “قرية تونا” وسهم لطريق جانبي.
اللوكيشن لسه مديني ربع ساعة على القرية، بس اللافتة واضحة، أخدت قراري بسرعة ودخلت الطريق براحة خالص علشان الأرض طينية ورملية وكلها حُفر، يادوب الطريق ياخد عربية واحدة.
فضلنا ماشين، الضلمة بتزيد، على اليمين البحيرة والشمال تل رمل طويل مش مخلينا نشوف الطريق، دقايق مرت وأنا سايق، لحد ما لقيت قدامي طوب جيري ضخم سادد الطريق، قلقت، ممكن تكون خدعة من قطاع الطرق، الدنيا ليل ومفيش حد معانا، العيال بدأوا يبصوا ويستغربوا، مراتي قالت بقلق “لف وأرجع خلينا على اللوكيشن” أنا بلعت ريقي وبدأت أتوتر وبصيت ورايا علشان أرجع لقيت في المراية طوب جيري محطوط!
بصيت قدامي لقيت الطريق مكمل عادي!
“إيه الهبل ده” قولتلها بعصبية وكملت لقدام، فضلت ماشي دقايق كمان لحد ما لقيت نار مولعة على اليمين وممتدة للطريق نفسه! الطريق مسدود بالنار!
القلق بدأ يكتفني، يقلقني، الخوف على ملامح مراتي واضح، صريح، وقفت العربية بفرملة وجيت أرجع لورا لقيت في المراية نور!
النار كانت ورايا.. بصيت قدامي لقيت الطريق مكمل عادي!
“لأ لأ كده في حاجة غلط يا حمزة خلينا نرجع” قالتها مراتي.
رديت بعصبية: “ما أنا متنيل عايز أرجع، أعمل إيه الطريق مقفول بالنار مش فاهم إزاي”!
سكتت ومردتش.
“بابا هو لسه بدري على القرية”؟ سألني ياسين ابني. قولتله “لسه يا حبيبي هانت قربنا”. قاطعتنا ياسمين: “طب ما تسأل عمو ده”؟ وشاورت من الإزاز على واحد قاعد على حجر كبير وقدامه نار.
مكنتش شايفه، مش عارف جه منين!
اترددت أنزل ولا لأ. فكرت أنزّل إزاز العربية وأسأله عن الطريق بس خوفت يفتكرني جبان أو تنك. عزمت أمري وفتحت ونزلت، روحت له بخطوات حاولت أنها تكون واثقة: “السلام عليكم يا شيخ، متعرفش أطلع إزاي الطريق الرئيسي”؟
بص ليا، وشه كله تجاعيد، جلبيته سودا، دقنه رمادي في أبيض، لافف كوفيه على رقبته وجزء منها مدفي بيه راسه.
رد بصوت منهك وتعبان: “طريقك غير طريقهم، أنت تكمل طوالي لحد ما تلاقيه”.
جسمي قشعر من الرد. “أيوة يعني على طول وأطلع على الطريق”؟ جاوب وهو بيلعب في النار بعصاية وبيطير بيها الشرر: “على طول هتلاقي طريقك”.
رجعت وركبت ونور بتسألني وقولتلها الراجل قالي إيه فسكتت، دورت العربية وكملت بمنتهى التردد، بصيت ورايا لقيت النار لسه شغالة مانعة الرجوع، مش عارف ظهرت إمتى ولو طفيتها فهلاقي الحجارة، مش لاقي حل غير أني أكمل.
كملت وأنا ساكت، دقايق والعربية بترجرج في الطريق، مفيش حوالينا صوت غير الصمت، الظلام طابق، الهواء بارد، الخوف مسيطر.
فكرت أتصل بحد من أصحابي بس أنا نفسي مش عارف انا دخلت طريق إيه! ومعتقدش أن حد هيجيلي المشوار ده كله علشان تهت في طريق جانبي!
وصلت لحد حاجة شبه العواميد الرخام على اليمين، على ضفة البحيرة، عواميد ضخمة زي اللي بشوفها في الأفلام القديمة. لفت نظري أن مكتوب عليها كلام بلغة مش مفهومة! بدأت اسمع صوت حوالينا غريب! همسات، حد بيتكلم وحد بيرد عليه بس مش قادر ألقط تفاصيل الكلام!
نور جسمها لبش في الكرسي، رفعت إزاز العربية كله بس برضه الصوت واصل لينا، عشرات الأصوات المتداخلة! على اليمين مكان البحيرة لقينا مجموعة كلاب سودا كتير واقفين، نبحوا في مرة واحدة وبعدها جريوا في الضلمة واختفوا!
شغلت إذاعة القرآن الكريم بس الراديو مش شغال! صوت خربشة بيطلع من الكاسيت! ياسمين ورا لقيتها شهقت في مرة واحدة وبرقت وهي بتبص برا الشباك وبعدها عيطت بشنهفة جامد!
مراتي لفت ليها وأنا مكمل سواقة، عايز أخرج من المكان ده بأي شكل. “في إيه يا ياسمين، مالك يا حبيبتي شوفتي إيه”! البنت ردت بخوف وهي بتعيط: “شفتهم يا ماما، دول زعلانين أننا دخلنا أرضهم”!
جسمي قشعر أكتر وحسيت أني هيغمى عليا من الخوف بس لازم اتماسك. مراتي عينها وسعت من الصدمة، حاسس بيها. أكيد عايز تلف للعيال تطمنهم!
وصلت لطريق مسدود!
قدامي تل رمل وصخور كتير!
وقفت العربية ونورت النور ولسه الصوت حواليا بيهمس بكلام مش مفهوم، في ذئاب وتعابين حوالينا على الرملة والطوب واقفين كلهم بيبصولنا!
اعوذ بالله من الشيطان الرجيم. قولتها وأنا بحاول أطمن نفسي. “ياسمين، هما قالولكي هما مين أو أرضهم إزاي”؟!
بصت ليا وعينها كلها دموع وقالت بصوت واطي خايف: “أرض الجن يا بابا”!
وقتها جسمي اتنفض كأنت دخلت في مكعب تلج فجأة. مراتي شهقت، ياسين ابني كش في نفسه.
حاولت أفهم إحنا في حلم ولا حقيقة، أكيد واقع، أكيد إحنا دخلنا فعلا مكان غريب مالهوش تفسير، والبداية كانت دم حاجة خبطت في الإزاز. دم! ما يمكن الدم هو اللي دخلنا هنا وهو الل يخرجنا!
الخوف بيكبلني، عيون الذئاب اللي بالطول والتعابين اللي بتتحرك قدامي مخلية جسمي شبه متجمد، في نظرية لازم أجربها، طلبت منها دبوس الإيشارب لقيتها بتبص ليا وبتقولي “لأ لأ”. عايزة تمنعني بس أنا طمنتها، نزلت من العربية وأنا واثق أنهم هما لو كانوا عايزين يؤذونا كانوا عملوا كده من بدري!
وصلت لنفس النقطة اللي كان فيها الدم وجرحت إيدي جامد وحطيت إيدي بالدم على الإزاز. شيلت إيدي لقيت الدم بدأ يختفي!
نظريتي صح!
الدم فتح ثغرة في الطريق خلانا ندخل المكان ده. جرحت إيدي تاني بشكل أكبر والدم بينطق على الأرض وحطيتها على الإزاز وبسرعة ركبت ومراتي بتصرخ “الطريق اهو”! وبتشاور قدامها من الصدمة.
دورت العربية بسرعة ودوست بنزين وانطلقت وأنا شايف قدامي مطلع رمل وعواميد كهرباء بتاعت الطريق على الشمال.
دوست بنزين وشايف الدم بتاعي على الإزاز بدأ يختفي، قربت من الخروج، الدم فاضل فيه نقاط بسيطة، خلاص هطلع، نور كاتمة نفسها، سامع صوت تنفس ياسين المتوتر العالي، دايس بنزين بأقصى قوة عندي والعربية بتفرك في الرمل والطين وبتطلع التبة والدم خلاص بدأ كله يتلاشى. فووووووووو العربية طلعت وبمجرد ما طلعت على الطريق وقفت خالص.
“يا حبيب إمبارح وحبيب دلوقتي” الراديو اشتغل! ام كلثوم بتغني! نور الهدى بتعيط من الفرحة والعيال ورا بيصرخوا من السعادة. انا جسمي بتنفض من التوتر وماسك الدريكسيون جامد كأني حاضنه. بصيت ورايا لقيت تبة رمل وطوب!
نزلت ونور بتبص ليا بتساؤل، طلعت على التبة وبصيت ملقتش قدامي طريق أو حاجة، مجرد طوب البحيرة والضلمة، بس لوهلة سمعت همس كتير وسكت خالص.
رجعت العربية وبدأت أتحرك ومفيش ثواني ولقيت قدامي لافتة بتقول “تصحبكم السلامة” وطريق جانبي هو نفسه اللي دخلناه من شوية بس كان مسدود بالطوب وقطع شجر ضخمة وقدامه الراجل اللي قابلته جواه قاعد قدام نار بيلعب فيها ويطلع شرر. شاورلي بالتحية ورديت عليه وأنا بهمس “وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته”!