

-مساء الخير يا عم صِدقي.
-مساء النور يا أستاذ بشير.
-الدكتور وسام معاه حد ولا فاضي؟
-الدكتور فاضي ومفيش حد عنده.
-طيِّب هسيبك أنا بقى وأدخل أشوف إيه الدنيا.
دَه كان كلامي مع الأستاذ بشير، مندوب شركة المستلزمات الطبية، اللي بيفوت على العيادة من وقت للتاني، عشان يشوف إيه المستلزمات اللي ناقصة، وكالعادة، لازم الحوار ده يدور ما بينّا كل مرة، لأن الدكتور وسام ومع إنه دكتور أسنان ممتاز، لكن تصرفاته غريبة ومزاجه مش مضمون، بيتعصَّب فجأة والدنيا بتقفّل معاه، وجايز ده سبب إنه أعزب ومتجوّزش لحد دلوقت، رغم إنه وصل أربعين سنة. وأحيانًا بيسيب العيادة وبيمشي بدون سابق إنذار، حتى وإن كان في مرضى موجودين، دَه مرَّة حصل منه تصرُّف غريب، لمَّا عَطى لمريض حقنة البنج وسابه شوية على ما البنج يعمل مفعول، وفي الوقت ده لقيته خارج متعصَّب من أوضة الكشف، وساب المريض بوقّه خدلان من البِنج ومشي، ساعتها اضطريت أعتذر للمريض، واتحججت بإن الدكتور حصل له ظرف طارئ، ومع تكرار التصرفات اللي زي دي؛ زباين العيادة طفشوا، والرِّجل بقت خفيفة، ماعدا كام زبون مواظبين على العيادة في مواعيد محددة، بيتابعوا حالة أسنانهم ويعملوا اللي بيقولوا عليه ده تنضيف وتبييض، عشان كده مش عايز حد يستغرب إن الأستاذ بشير سألني عن دكتور وسام، وقُلت له مفيش حد عنده، لأن كلكم عارفين، لا عيادات الأسنان بتفضى، ولا الدكاترة اللي فيها بيبقوا فاضيين.
أما عن نفسي؛ فأنا شغلتي إني ماسك العيادة من سنة، الكشوفات والحجوزات وكل اللي بالكم فيه ده، ولو مستغربين إن اللي بيعمل الشغل ده راجل مش بِنت، فأحب أقول لكم إني هرجع لنفس البداية، وهي إن بنات كتير اشتغلوا هنا وسابوا العيادة، لنفس السبب اللي خلّى المرضى يطفشوا، لكني اشتغلت الشغلانة دي وكمّلت فيها، ده غير إني حياتي كلها هنا، لأني لما مواعيد الشغل بتخلص بنام في الاستراحة، لأني ماليش مكان تاني، ده غير إن العيادة في شقة مِلك الدكتور وسام، وهو اللي سمح لي إني أنام في العيادة لما حكيت له عن ظروفي.
الأصل بقى؛ بعد ما الأستاذ بشير دخل أوضة الكشف؛ قعدت في مكاني كالعادة. كنت بسلّي نفسي في التليفون بتاعي، مفاتش وقت كتير لحد ما سمعت باب أوضة الكشف بيتفتح، ومفيش ثواني وسمعت الأستاذ بشير وهو خارج وبيتكلم معايا وكان رايح ناحية باب العيادة، ساعتها لقيت التليفون بيقع من إيدي غصب عني؛ وده لأني لمحته ماشي حافي.
اللي حصل قدامي كان أكبر من إن أعصابي تتحمله، عشان كده جريت ناحية الباب بمجرَّد ما خرج ولَف وشه ناحية السلم، بس بمجرَّد ما خرجت من الباب لقيت السلم فاضي، الأستاذ بشير اختفى، ومن الحيرة اللي كُنت فيها؛ ندهت عليه بعلو صوتي:
-أستاذ بشير، أنت رُحت فين؟!
السلم كان فاضي، ولما وقفت ومقدرتش أفهم اللي بيحصل، أخدت بعضي وطلعت العيادة، وبمجرد ما وصلت فوق، سمعت صرخة خارجة من أوضة الكشف. كانت صرخة الأستاذ بشير، جسمي اتلبّش في بعضه لما سمعته، لأنه نزل قدام عيني من كام دقيقة.
الصرخة اللي اتكررت من تاني في أوضة الكشف، خلتني أنسى اللي فات وأركز في اللي جاي، لأن اللي بيحصل النهارده في العيادة شيء غريب، أغرب من تصرفات الدكتور وسام المُريبة.
رجلي أخدتني لحد باب الأوضة، وقفت ورميت ودني عشان أفهم إيه الحكاية، لكنّي مسمعتش غير كركبة وخبط، زي ما يكون الأستاذ بشير اللي خرج قدام عيني لسَّه جوَّه وبيتخانق مع الدكتور وسام. مديت إيدي اللي كانت بترتعش ومسكت الأوكرة، وقبل ما آخد القرار عشان أدخل الأوضة؛ الباب اتفتح من جوَّه، وساعتها لقيت الأستاذ بشير خارج بيجري من الأوضة، مكانش منتبه لوجودي، لدرجة إنه خبط فيا، ومن شدة اندفاعه وقعت في الأرض.
كل دهَ مكانش هاممني، مفكَّرتش إزاي خرج يجري من أوضة الكشف رغم إنه خارج قدام عيني من شوية، لأني ساعتها شُفت الدكتور وسام في هيئة غريبة، كان لابس البالطو الأسود؛ اللي دايمًا بيعلَّقه على شماعة في أوضة الكشف وبيلبسه في الشتا، برغم إننا في عز الصيف، دَه غير إنه كان مغطي راسه ووشه بشال أسود، يعني اللي كان على المكتب كُتلة سودة، وده كان شيء غريب، وجايز الأستاذ بشير خرج مفزوع بسبب اللي أنا شُفته ده!
قُمت من الأرض وأنا حاسس بإن الدنيا بتلف بيا، عيني كانت على الدكتور وسام، مشيت ناحيته وأنا مرعوب، كل ما كنت بقرَّب منُّه خطوة كنت بقول بصوت مهزوز:
-أنت بخير يا دكتور وسام؟
كان زي التمثال، متحرَّكش من مكانه ولا رَد على كلامي، وقفت قدامه وكرَّرت سؤالي تاني قبل ما آخد الخطوة اللي بفكر فيها، وهي إني أمِد إيدي وأرفع الشال من على راسه ووشه، وبسبب الصمت والسكون اللي كان فيه، لجأت بالفعل إني أعمل دَه، كنت خايف من رد فعله، لكنه مكانش بيقاوم ولا صدر عنه أي رد فعل، مسكت الشال بطراطيف صوابعي، بعدها أخدت نفس عميق وبدأت أعِد عَد تنازلي، 3-2-1.
رفعت الشال بسرعة من فوق راسه، لكني تفاجأت إن راسه مش موجودة، والأغرب من كده، إني ملقتش باقي جِسمه، ولا حتى لقيت البالطو الأسود، كله اتبخَّر، ده غير إن خوفي زاد بمجرَّد ما سمعت صوته جاي من ورايا:
-بتعمل إيه عندك يا عم صدقي؟
رقبتي كانت زي الجنزير المصدّي وأنا بلتفت على الصوت، لكني قاومت إحساس الخوف وبصيت، عشان أشوف الدكتور وسام خارج من الحمام اللي في أوضة الكشف، كان واقف بينشِّف إيده وبيبُص لي وعلى وشُّه ابتسامة هادية، ولأنه مكانش لابس البالطو، فبصيت على الشماعة، ساعتها لقيت البالطو في مكانه، والدنيا دارت بيا أكتر.
-ساكت ليه يا عم صدقي؟
لمَّا كرر سؤاله لساني منطقش؛ لأن مكانش عندي حاجة أقولها، كل الأحاسيس اللي بتسبب الفزع سيطرت عليا في نفس اللحظة، الخوف؛ الفزع؛ الرعب، ورغم إن كلهم يبانوا بنفس المعنى، لكن كل كلمة قُلتها تأثيرها عليا كان مختلف، كل إحساس كان عامل زي الحبل اللي مربوط حوالين طرف من أطرافي، وبيشد كل طرف فيّا في ناحية عكس الطرف التاني، كل ده دار في دماغي وأنا عيني على ابتسامة الدكتور وسام الغريبة، وساعتها مكانش قدامي غير إني أنسحب بهدوء وأخرج من الأوضة.
بالمناسبة، دي المرَّة الأولى اللي بشوف فيها حاجة زي كده، اللي كنت متعوّد عليه كان سلوك الدكتور وسام الغريب، إنما إني أشوف حاجات غريبة قدامي، أو الناس تبدأ تختفي من أماكن وتظهر في أماكن تانية؛ دَه اللي كان جديد على عيني، بس حاولت أصبَّر نفسي: قُلت جايز لأني كبرت في السِّن والضَّغط والسُّكر عاملين الواجب معايا، فاحتمال يعني أكون بدأت أشوف تخاريف من كُتر العلاج، عارف إنه مُش سبب مقنع، لكن الغريق بيتعلَّق في قشَّاية، والخوف لما يبدأ ياكل في البني آدم بيحاول يطمّن نفسه بأي حاجة.
انتظرت أي شيء غريب يحصل، لكن على عكس اللي توقعته، الدنيا كانت هادية، لدرجة إن باب أوضة الكشف مَتفتحش ولا سمعت حركة جواها. كان صمت غريب، سمعت فيه ضربات قلبي اللي بيتنفض ورا ضلوعي، الصوت الوحيد اللي سمعته، كان صوت رنة تليفوني اللي رن فجأة، اتفزعت من مكاني، بلعت ريقي وأنا بلمح اسم المتصل اللي على الشاشة؛ كان الأستاذ بشير المندوب، افتكرت منظره وهو خارج بيجري من أوضة الكشف وملامحه كلها خوف، وجايز ده اللي خلاني أتردد في الرد عليه، لكن لما الرنة اتكرَّرت، لقيت إن لازم أرد عليه، ساعتها فتحت المكالمة ورديت:
-مساء الخير يا أستاذ بشير.
اللي كان واصلني هو صوت أنفاسه العالي، اللي بتدل على إنه متوتر، وبعد ما أنفاسه بدأت تهدا لقيته بيسألني بصوت مبحوح:
-الدكتور وسام فين يا عم صدقي؟
مكنتش ناقص حيرة، لأن الحيرة اللي فيها كانت كفاية، وده اللي خلاني أرُد عليه بدون تردُّد:
-معناه إيه سؤالك ده يا أستاذ بشير، ما أنت كنت معاه في أوضة الكشف من شوية!
-أنا لمَّا دخلت أوضة الكشف مكانش فيها حد، لكني قعدت على أساس إن الدكتور وسام في الحمام، لكن بعد شوية حسيت بهوا سخن بيخبط في ضهري وراسي من ورا، ولمَّا بصّيت لقيت ورايا شيء غريب؛ كيان مش مفهوم، كُتلة لونها أسود بدون ملامح، اتفزعت وغصب عني لقيت نفسي بجري ناحية باب الحمام، فَتحته عشان أشوف الدكتور وسام، ومكنتش هعمل حاجة زي دي لولا الخوف اللي كهربني، لكن لقيت الحمام فاضي، وساعتها لقيت الكيان الغريب ده قاعد على الكرسي مكان الدكتور وسام، عشان كده خرجت بالشكل اللي أنت شُفتني فيه، هو إيه اللي بيحصل بالظبط يا عم صدقي!
لمَّا سألني؛ افتكرت المثل اللي بيقول جِبتك يا عبد المُعين تعين، عن نفسي كنت محتاج حد يفهّمني اللي بيحصل، عشان كده ردّيت عليه:
-العلم عند الله وحده يا أستاذ بشير، أنا معرفش أكتر من اللي أنت تعرفه، واللي بتقول عليه دَه معنديش معلومة عنُّه.
لحد هِنا؛ عرفت إن الحكاية بدأت معايا من نفس النقطة اللي انتهى عندها الأستاذ بشير، لأني بمجرَّد ما عيني جَت في أوضة الكشف شُفت الشيء اللي بيقول عليه دَه قاعد على مكتب الدكتور وسام، ولأني معرفش إيه الحكاية جاوبت على سؤاله بإن العلم عند الله، لكن المعلومة الوحيدة اللي بقيت متأكّد منها من غير ما حد يقولها، هي إن الدكتور وسام أصلًا مش في العيادة، وأي نعم هو بيمشي فجأة وبيرجع فجأة، لكن بشوفه وهو خارج وراجع، إنما النهارده ملمحتوش من بعد ما دخل أوضة الكشف، ومكانش عندي تفسير خرج إمتى وإزاي!
-يا عم صدقي؛ أنت رُحت فين!
-معاك يا أستاذ بشير؛ أنا مُش عارف أقول إيه، أنا زيي زيك بالظبط.
-طيِّب لو حصل حاجة جديدة بلَّغني، وياريت تخلّي بالك من نفسك.
قفلت معاه المكالمة وبدأت أواجه خوف جديد، أنا حياتي كلها في العيادة، قايم نايم فيها، ومعرفش بعد اللي حصل النهارده هعيش فيها إزاي، وللأسف؛ ماليش مكان أروحه غيرها.
قعدت في مكاني، الدنيا هادية ولا كأن حصل فيها شيء من أغرب ما عيني شافت، وفي وسط الصمت؛ سمعت رنة تليفوني من تاني، ولما بصيت أشوف اللي بيرِن حسّيت بذهول، لأن الرقم اللي على شاشة التليفون كان رقم الدكتور وسام.
مديت إيدي والخوف بيعَض كل حتة في جسمي، مسكت التليفون وفتحت المكالمة وقرَّبته من ودني:
-آلو.
-أنا مش راجع العيادة تاني النهارده يا عم صدقي، ببلَّغك عشان لو حد سأل عني.
الكلام كان زي الرصاص اللي بيتصب في وداني، لكن فضولي في إني أفهم الحكاية خلاني أسأله:
-هو حضرتك خرجت إمتى يا دكتور؟
-لمَّا كنت خارج كنت أنت في الحمام.
افتكرت وقتها إني دخلت الحمام كام مرَّة قبل ما الأستاذ بشير يوصل، أنتوا عارفين السُّكر بقى وعمايله، قلت أكيد خروجه صادف مرَّة من المرَّات دي، ولكن مُش ده المهم، اللي شاغل دماغي وهيطيَّر البرج اللي فاضل في نافوخي، هو إزاي شُفته خارج من الحمام، وقبل كل ده، إزاي أنا والأستاذ بشير شُفنا الشيء الأسود اللي ظهر في أوضة الكشف!
قفلت المكالمة لأني مكانش عندي حاجة أقولها، طول الوقت كنت رايح جاي في العيادة، لأول مرَّة أحِس إن الوقت بيجري، كأنه عاوز ينقلني بأقصى سرعة للحظة الخوف اللي منتظراني، واللي من جوايا كان نفسي أهرب منها؛ واللحظة دي باختصار هي اللي هقفل فيها باب العيادة على نفسي، لكن على رأي المثل، اللي بيخاف من العفريت بيطلع له، لأني لما بصيت في الساعة لقيت إن ده الوقت اللي العيادة بتتقفل فيه، ولأن دَه مكان شُغل، يعني بيتفتح بميعاد ويتقفل بميعاد، اضطريت إني أقفل على نفسي وأدخل الاستراحة كالعادة، وبمجرَّد ما انتهيت من الروتين اليومي وقفلت باب العيادة والشبابيك، دخلت على الكنبة اللي بنام عليها، فردت ضهري وأنا جوايا حذر شديد، من جوايا مكنتش مطَّمن، ولأن قلب المؤمن دليله، اللي خُفت منه حصل، وده لأن الكهربا فصلت في العيادة!
بالمناسبة، مُش من عادة العيادة إن الكهربا تقطع فيها، عشان كده حسيت إن اللي حصل مش طبيعي، وبالفعل اللي حصل مسابش عندي فرصة للتخمين، لأن بمجرَّد ما الضلمة سيطرت على المكان؛ بدأت أسمع صوت حاجة بتتجرجر على الأرض، الصوت كان شديد، بالظبط زي ما يكون في حلقات حديد بتخبط في بعضها، ومن الصوت عرفت إن اللي بيتجَر فوق الأرض سلسلة حديد تقيلة، أو اللي بنقول عليها بالبلدي؛ جنزير.
من شدة الضلمة مكنتش قادر أحدد الاتجاهات من حواليا، برغم إن لمحت من شباك الاستراحة ضوء في الشارع، لكن على غير العادة، الضوء ده مكانش مأثر على الضلمة اللي حواليا، حتى مقدرش يكسرها بنسبة بسيطة.
الصوت كان لسَّه مستمر، في الدقايق الأولى؛ كنت فاكر إن الصوت جاي من برَّه، لكن بعد شوية اتضح لي إن الصوت جوَّه العيادة، الرعب اتملِّك منّي أكتر، ومعرفتش إزاي أواجه الضلمة اللي بلعت المكان، عشان كده لقيتني بفكَّر في كشَّاف تليفوني، افتكرت إني حطيته تحت المخدة قبل ما أفرد ضهري على الكنبة، مديت إيدي وطلَّعته وبدأت أفتح الكشاف، لكن التليفون مكانش بيستجيب معايا، والحكاية دي مبتحصلش غير لما تكون البطارية فصلت شحن تمامًا.
مكنتش مستغرب؛ لأن دي مش أغرب من اللي بيحصل حواليا، أصل في العادي؛ بطارية التليفون بتكفّيني باليومين والتلاتة، وأنا كُنت شايله من على الشاحن قبل ما الأستاذ بشير يوصل العيادة بكام دقيقة، ولمَّا بدأت أربُط الأحداث ببعضها، اتأكدت إن في شيء خفي هو اللي بيرتّب كل اللي بيحصل.
مع الوقت الدنيا اختلفت، الإضاءة رجعت لكن كانت مختلفة، عبارة عن خليط ما بين الضوء الأبيض والأزرق، بدأت ألِف حوالين نفسي وكأني عقرَب في ساعة بطاريتها قرَّبت تفضى، حركتي كانت بطيئة وأنا بحاول أستوعب المكان اللي أنا فيه، لأن المكان نفسه بقى مختلف، زي ما تكون الضلمة اللي حصلت عبارة عن فجوة زمنية، أو آلة انتقال عبر الزمن، دخلت فيها وخرجت في مكان تاني مش عارف هو إيه ولا مكانه فين.
الحيطان من حواليا مكانتش حيطان العيادة، دي كانت عبارة عن حيطان صخرية، حتى السقف من فوقي كان صخور، الضلمة لما بلعت المكان نقلتني لكهف في جَبل، الوقت فات وأنا مُش عارف أتحرَّك من مكاني ولا أفضل واقف، سألت نفسي: طيب وبعدين؟!
بغض النَظر عن المكان الغريب ده؛ أنا هفضل واقف لحد إمتى، وبعدين هو أنا نِمت وبحلم ولا دَه واقع، سؤال خطر في بالي وكانت إجابته جاهزة في دماغي، أكيد دَه مُش حلم، لأن وقت الحلم الشخص مبيكونش واعي إنه بيحلم. إجابتي فرضت عليا خوف جديد، لأن قناعتي بإن كل ده واقع خلتني أسأل نفسي سؤال تاني، إيه علاقتي بالمكان دَه؟
بدأت أدوَّر على إجابة وأنا بدور حوالين نفسي، عيني كانت بتفحص كل مكان في الصخور اللي حواليا، ساعتها بدأت أشوف فتحات في الحيطان، كانت أشبه بمداخل ممرَّات أو أبواب دهاليز، الضلمة مسيطرة عليها من جوَّه، ولأن اللي قدامي كان أكتر من فتحة حسّيت بحيرة، مكنتش عارف أتحرَّك ناحية أي واحدة منهم، خوفي من إن كل باب من اللي قدامي يبقى بداية متاهة جديدة خلاني أفضل واقف مكاني، وبمرور الوقت؛ بدأت أحِس إن أبواب الدهاليز بتقرَّب مني، أدركت إن مساحة المكان بتصغَر، الكَهف بيضيق عليا، إحساس الخوف زاد عندي لمجرَّد ما حسّيت إن الكَهف ده ممكن يتحوّل لقبري، أصل لو الحال استمر على كِدَه، الحيطان هتطبَق على جسمي، والنتيجة ساعتها هتكون حتمية ومعروفة، وفي عز خوفي؛ سمعت صوت حد ماشي في الدهاليز الضلمة، الخطوات كانت بتقرَّب، زي ما يكون في ناس ماشية وجاية ناحيتي، عيني فضلت على أبواب الدهاليز وقلبي بيتنفض، هواجس كتير كانت بتدور في دماغي، يا ترى إيه اللي ممكن يخرج من الضلمة؟ ويا ترى إيه اللي جوَّه الدهاليز؟
الأسئلة فضلت تدور جوَّه عقلي لحد ما لمحت شيء في ضلمة الدهليز اللي قدامي، خيال أسود كان بيتحرَّك في الضلمة، سواده كان مُختلف عن السواد اللي حواليه، ومفيش ثواني، وشُفت قدامي نفس الكيان اللي لقيته على كرسي الدكتور وسام، كان خارج من الدهليز، بنفس البالطو الأسود، وبنفس الشال الأسود اللي مغطّي راسه ووشه، الاختلاف الوحيد إنه كان ماسك كتاب في إيده، الكتاب كان شكله غريب، غلافه قديم ومن الجِلد الأسود، ومحفور فيه رموز غريبة، اتخشِّبت في مكاني لما شُفت المنظر، أخدت كام خطوة لورا لما لقيته كان بيقرَّب عليا، واللي قدرت أعرفه إنه مكانش شايفني، لأنه مأخدش أي رد فعل ناحية وجودي، دَه وصل لحد نُص الكهف اللي أنا فيه وكأني شيء شفاف، بعدها نزل في الأرض وحط الكتاب قدامه، وبمجرَّد ما ضَم كفوف إيده لبعضها وقرَّبهم من صدره، لقيت الكتاب بدأ يتفتح من نفسه، الجِلدة اترفعت بدون ما حد يقرَّب منها، بعدها أوراق الكتاب بدأت تتقلب ورقة ورا التانية، كل ده كان بيحصل وسط رياح شديدة هبَّت فجأة، عاصفة شديدة خرجت من الدهاليز الضلمة، واللي خمّنت إن هي السبب إن الكتاب اتفتح، الوقت فات وأوراق الكتاب كانت بتتقلّب، لحد ما وصلت لورقة في نُص الكتاب، ولحد هنا العاصفة اختفت، عشان الورقة دي هي اللي تفضل موجودة:
“ألزمتني بالحضور وها أنا أحضر في موعدي، أمرتني بالقرابين واستجبت، استجِب أنت أيضًا؛ فإنه اليوم الذي تستجيب فيه لأتباعك. الوحا الوحا؛ العَجل العَجل؛ الساعة الساعة”.
الدنيا ضلِّمت فجأة وكل اللي بيحصل قدامي اختفى، وفي الضلمة سمعت باب بيخبَّط، بعدها سمعت صوت جَرس بيرِن، دَه جرس العيادة، التفتت حوالين نفسي لكن الضلمة خلتني زي الأعمي، مكنتش قادر ألمح إشارة أمشي وراها وأعرف أنا فين، وخبطة ورا التانية وجرَس ورا التاني، لحد ما اتفاجئت إني واقف في استراحة العيادة، والنور موجود عادي وكل حاجة طبيعية، كنت زي اللي نزل فوق دماغه جردل مَيَّه متلِّج، مصدوم ومش عارف إيه اللي بيحصل حواليا، واللي صدمني أكتر، إني لمحت نور الشمس من شباك الاستراحة، ومحدش يسألني الساعات دي كلها فاتت إزاي والليل راح فين، لأني معنديش تفسير ولا إجابة، في شيء غريب حصل خلاني أفقد إحساسي بالزمن.
لمَّا قرَّبت من الباب، لمحت خيال حد واقف ورا الإزاز، وبشكل تلقائي عيني جت على ساعة الحائط، وعرفت إن المفروض أكون فتحت العيادة من نُص ساعة، لكن اللي مكنتش فاهمه هو أنا كُنت فين أصلًا من نُص ساعة، أو كُنت فين طول الليل.
قبل ما أفتح الباب حاولت أكون هادي عشان مفيش حاجة غريبة تبان على وشّي، ولمّا فتحت؛ لقيت الأستاذ بشير قدامي، وأوّل ما شافني قال:
-راحت عليك نومة ولا إيه يا عم صدقي؟
-عيني غفِّلت والمنبّه مرنّش زي كل يوم.
-هيرِن إزاي وأنت تليفونك مقفول.
-اللي حصل بقى يا أستاذ بشير، الدنيا مخربِتش يعني.
دَه كان ردِّي على كلامه، لأني حسّيت إنه هيستدرجني في حوار يخليني أرجع لكل اللي حصل، وأنا مُش عايز أفتكر حاجة، عشان كده قطعت معاه الكلام وسيبته ورجعت على مكتبي، لكنه دخل ورايا، حط شنطته على المكتب قدامي وفتحها وهو بيقول:
-الدكتور وسام هيوصل إمتى؟
-على وصول، قدامه حِسبة نُص ساعة، لو في حاجة كان طالبها ومش عايز تنتظره، سيبها كالعادة وأنا هوصَّلها.
-ما هو ده اللي ناوي أعمله يا راجل يا بَركة.
بعدها مد إيده في الشنطة وطلَّع منها كام علبة وقال لي:
-دَه البِنج اللي قرَّب ينقص وكان طلبه مني، قول له إن بشير جاب لَك الطلبية في ميعادها زي ما اتفق معاك.
-مواعيدي معاكم مظبوطة أهي، النهاردة 13 أغسطس، والكمية مكتوبة وكل حاجة تمام، عايز بقى توقيعك الجميل على الاستلام.
أخدت منه نسخة من الورقة بعد ما وقَّعت عليها، حطيتها في الدرج واستعديت عشان أقوم أفتح شبابيك العيادة وأشوف باقي شغلي، لكن سؤاله خلاني أقعد مكاني وأبحلق فيه وأنا مُش لاقي إجابة، لأنه قال لي:
-أنت معرفتش سبب اللي حصل ليلة امبارح؟
رغم إني كنت عارف سؤاله بيرمي على إيه، لكنّي حاولت أتوِّه في الكلام، وساعتها ردّيت عليه بسؤال تاني:
-بتتكلم عن إيه يا أستاذ بشير؟
-هكون بتكلم عن إيه، أكيد عن اللي حصل ليلة امبارح في أوضة الكشف.
-زي ما قُلت لَك قبل كده، العلم عند الله، معنديش تفسير ولا أعرف السبب إيه؟
ساعتها ضحك وقال بسخرية:
-العيادة اتسكنت وبقى فيها عفاريت يعني ولا إيه؟
-عيادة إيه اللي هتتسكن بس، دي عيادة أسنان، هي مشرحة وفيها أموات وجثث ولا إيه؟
-مالك اتعصَّبت ليه كده يا راجل يا طيب، أنا قلبي عليك، أنت اللي بتبات في العيادة، إنما أنا مندوب طيَّاري، أي نعم بفوت على العيادة كل يوم، لكن كبيري نُصَّاية وبخلع، الخوف عليك أنت.
وبعد ما فضلنا ناخد وندّي في الكلام بدون فايدة، لقيته بيبُص في الساعة وبيقول لي:
-هطير أنا بقى يا عم صدقي وهبقى أكلمك، خلي بالك من نفسك.
أخدت طلبية البِنج ودخلت بيها أوضة الكشف، حطيتها على المكتب زي ما اتعوّدت أعمل مع أي حاجة المندوب يسيبها والدكتور وسام مش موجود، لكن وأنا في الأوضة؛ لقيت عيني جت على البالطو الأسود اللي متعلَّق، ساعتها حسيت بحاجة خبطتني في دماغي، مُش حاجة بالمعنى اللي وصل لكم، لأ؛ كل الحكاية إن البالطوا فكَّرني بكل اللي حصل، ومجرَّد إني افتكرت الأحداث دي كانت بالنسبة لي خبطة، وجايز أشد من الخبطة كمان.
-صباح الخير يا عم صدقي.
كان صوت الدكتور وسام؛ اللي اتفاجئت إنه موجود في أوضة الكشف، ارتبكت أوّل ما شُفته وسمعت صوته، لدرجة إنه لاحظ توتري اللي ظهر في نبرة صوتي وأنا بقول له:
-صباح النور يا دكتور.
-مالك يا عم صدقي، بتبُص لي كده ليه وواقف مش على بعضك؟
-لأ أبدًا يا دكتور، بس اتفاجئت إن حضرتك موجود.
-ما أنا دخلت لقيتك مش في مكانك ولقيت باب أوضة الكشف مفتوح؛ قُلت أكيد أنت جوَّه.
-أصل الأستاذ بشير المندوب جاب لحضرتك البِنج الناقص، وكالعادة يعني أي حاجة بتيجي وحضرتك مش موجود بسيبها على مكتبك لحد ما توصل.
كان بيسمعني وهو بيقرَّب من المكتب وبيحط تليفونه ومفاتيحه، وبعدها قال لي:
-خير ما عملت يا عم صدقي.
-تحِب أعمل لحضرتك القهوة؟
-ياريت لأن دماغي مصدَّعة ومش شايف قدامي.
اتحرَّكت من قدامه عشان ألحقه بالقهوة، أصل كلمة مصدع ومش شايف قدامي دي أنا حافظها كويس، وعارف السيناريو اللي بيكون وراها، في أي وقت مزاجه هيقفل ويتعصَّب ويسيب العيادة ويمشي كالعادة، عشان كده قُلت ألحقه قبل ما الحكاية تزيد، لكن وأنا على باب أوضة الكشف لقيته بيقول لي:
-لحظة يا عم صدقي.
بلعت ريقي وبصيت ورايا وأنا بقول في سري: خير يا رب، ولما بصيت له ابتسمت في وشه وقُلت له:
-أأمرني يا دكتور.
-الأستاذ رشيد هيوصل كمان شوية، مش عايزك تخليه منتظر كتير.
وقفت متنَّح قدامه، أصل الأستاذ رشيد ده من الكام زبون اللي مواظبين على العيادة، من اللي بييجوا يعملوا فحص لأسنانهم وتبييض والكلام ده، ولأن عدد زباين العيادة محدود، فأنا حافظ مواعيد كل واحد، وده اللي خلاني قُلت له:
-بَس يا دكتور الأستاذ رشيد ميعاده يوم 15، يعني بعد بُكره.
بَص لي باستنكار وقال لي:
-وهو جاي النهارده، إيه يا عم صدقي؛ هنمشّي المرضى على مزاجنا ولا إيه؟
-أكيد مقصدش يا دكتور، اللي تشوفه حضرتك.
محبّتش أطوِّل في الكلام معاه عشان معكَّرش مزاجه، اللي أصلًا واضح إنه متعكَّر جاهز، أخدت بعضي وخرجت من الأوضة ودخلت المطبخ، عملت فنجان القهوة على السريع وأخدته ورجعت أوضة الكشف، حطيته قدام الدكتور وسام وأنا بقول له:
-يلزم خدمة تانية يا دكتور؟
-تسلم إيدك يا عم صدقي.
قفلت عليه باب الأوضة ورجعت مكاني، افتكرت تليفوني اللي مكنتش فاهم إيه اللي حصل له ليلة امبارح، زي ما أنا مكنتش فاهم أي حاجة تانية حصلت، ولأني كنت واثق إني دخلت الاستراحة بالتليفون، فأخدت بعضي ودخلت هناك، دوَّرت عليه لحد ما لقيته موجود تَحت المخدة اللي بحُط راسي فوق منها وأنا نايم، ولما بدأت أضغط على الزراير، لقيته شغّال ومشحون والدنيا تمام، وده معناه إنه مكانش فاصل شحن ليلة امبارح لما حاولت أفتح الكشاف والكهربا قاطعة، يعني إيه، كل اللي فات دَه كان تهيؤات؟ الكهف والضلمة والدهاليز والكيان الأسود والكتاب الغريب، كل دي كانت خزعبلات؟ طيب والأستاذ بشير، كان بيشوف خزعبلات هو كمان؟
قطعت تفكيري وخرجت من الاستراحة لما سمعت صوت برَّه، ولما خرجت لقيته الأستاذ رشيد، اللي أول ما شافني قال لي:
-إزيك يا عم صدقي.
-الله يسلم حضرتك.
-الدكتور وصل ولا لسه؟
-الدكتور وصل وموجود.
-طيّب هتخليني أدخل ولا هتقول لي لازم حجز مُسبق.
-مفيش الكلام ده طبعًا، الدكتور لما وصل قال لي أدخَّل حضرتك أول ما تيجي.
-شكرًا يا عم صدقي.
بَس مع الوقت بدأت ألاحظ حاجة غريبة، فات وقت طويل بدون ما أسمع صوت جهاز تنضيف الأسنان، وده معناه إن وجود الأستاذ رشيد في اليوم ده مكانش الغرض منه إنه يتابع أسنانه كالعادة، عشان كده حسيت جوايا إحساس غريب، زي ما بنقول بالبلدي كده؛ الفار بدأ يلعب في عبّي.
مكانش قدامي غير إني أقطع الشك باليقين، قُمت من مكاني ومشيت على طراطيف صوابعي، قربت من باب أوضة الكشف وحطيت ودني عليه، كنت عاوز ألقُط خيط كلام أو أي صوت، كل اللي قدرت أسمعه هو صوت أنفاس عالية، ولأن دَه مكانش كفاية، فضلت واقف وأنا واخد حذري، عشان لو حد منهم قرَّب من الباب وفتحه فجأة، بس بعد دقايق، بدأت أسمع كلام مش غريب على ودني.
“ألزمتني بالحضور وها أنا أحضر في موعدي، أمرتني بالقرابين واستجبت، استجِب أنت أيضًا؛ فإنه اليوم الذي تستجيب فيه لأتباعك. الوحا الوحا؛ العَجل العَجل؛ الساعة الساعة”.
الكلام كان بيتكرر، وضربات قلبي كانت بتزيد مع كل مرة الكلام كان بيتعاد على وداني، فضولي خلاني أنزل في الأرض وأقرب عيني من فتحة مفتاح الباب، بصيت في الأوضة، ولأن مكتب الدكتور وسام في وِش باب الأوضة قدرت أشوفه، كان بنفس الهيئة، قاعد على مكتبه ولابس البالطو الأسود، ومن فوق راسه شال أسود، راسه ووشه مكانوش ظاهرين من تحته، والأغرب من كل ده، إن الأستاذ رشيد كان واقف وراه، إيده الشمال كانت فوق راس الدكتور وسام، كان مغمض عينه وباصص في السقف، هو اللي كان بيقول الكلام الغريب دَه، بنفس الصوت اللي سمعته لما شُفت نفسي في كَهف، والضلع التالت من المثلث اكتمل، لأني شُفت قدامهم على المكتب نفس الكتاب القديم، كان مفتوح قدامهم بنفس الطريقة، كل اللي اختلف هو إن الكتاب كان طالع منه دخان أسود، الدخان كان عامل زي الخيوط اللي بتخترق صدر الدكتور وسام وبتدخل جواه، وبعدها بتخرج من ناحية راسه ورقبته.
كان منظر مُخيف، خلاني أبعِد عيني عن فتحة المفتاح لأني مكنتش قادر أتحمّل المنظر، مكنتش محتاج حد يقول لي إن اللي بيحصل في الأوضة سِحر، بَس يا ترى ليه؟ إيه اللي يخلّي دكتور ومتعلم يمشي في طريق زي ده!
رجعت قعدت في مكاني وأنا بفكر في اللي شُفته، وافتكرت كلام الأستاذ بشير، لما قال بسخرية: هي العيادة اتسكنت بالعفاريت ولا إيه، أكيد كلامه كان من باب الهزار، لكن انطبق عليه المقولة اللي بتقول: كلمة صادفت قدرًا، عشان كده كلامه طلع حقيقة حتى وإن كان ميقصدش، وبعد اللي شُفته بعيني، بدأت أفسَّر سلوك الدكتور وسام الغريب، اللي كل الدنيا بتستغربه، ومن هنا عرفت السبب، أكيد العفاريت اللي بيتعامل معاها لبساه، ولما بتحضر عليه بتخيله في الحالة دي وبيبعد عن الناس، ده غير الأستاذ رشيد، اللي طلع داهية هو كمان.
الوقت فات وأنا قاعد على أعصابي، وفجأة حسيت إن ضربات قلبي وقفت، في اللحظة دي كنت بسمع صوت باب أوضة الكشف وهو بيتفتح، بعدها خرج الأستاذ رشيد، أول ما شُفته قدامي حسيت إن عفاريت الدنيا بتتنطط قدامي، لكني تمالكت أعصابي ومنطقتش، خصوصًا لما قرَّب منّي وقال لي:
_هي العيادة بتنِش كده ليه يا عم صدقي؟
مكنتش طايق أسمع صوته، لكن منعًا للمشاكل في الوقت الحالي رديت عليه لكن من تحت ضرسي:
_أرزاق بقى يا أستاذ رشيد، دلوقت ربَّك يبعت.
ابتسم لي وخرج من العيادة، بعدها حسيت بقلبي وكأنه هيقف للمرة التانية، وده لما سمعت صوت الدكتور وسام وهو بيندَه عليا!
مكانش ينفع أتجاهله ومردّش عليه، أخدت بعضي ورُحت له عشان أروح أشوفه محتاج إيه، وقدام مكتبه؛ فضلت منتظر لأنه كان مشغول في كتاب قدامه، لكنه مش الكتاب اللي في بالكم؛ لأ، ده كتاب علمي، أما الكتاب اللي بالكم فيه ده اختفى، في الوقت ده عيني جت على البالطو الأسود، كان متعلَّق في مكانه، كل شيء كان طبيعي لدرجة حسيت للمرة التانية إن اللي شُفته من فتحة مفتاح الباب كان هلاوس، بس فجأة الدكتور وسام رفع عينه من الكتاب وقال لي:
_معلش يا عم صدقي هتقل عليك، فنجان قهوة كمان لأن الصداع عامل عمايله معايا النهاردة.
خرجت من الأوضة ورُحت على المطبخ، بدأت أعمل القهوة، ولما خلصت وقبل ما أصُبّها في الفنجان؛ سمعت صرخة خارجة من أوضة الكشف، وبعدها سمعت خبطة وكركبة.
حطيت كنكة القهوة من إيدي وخرجت من المطبخ أشوف إيه الحكاية، وعلى باب أوضة الكشف؛ لقيت الدكتور وسام واقع في الأرض جنب الكرسي، جريت ناحيته، لكن قبل ما أوصل له بكام خطوة، لقيت جتتي اتلبّشت ورجليا اتمسمرت في الأرض، منظره كان غريب، كفوف إيده كانت شكلها يرعِب، لونها مايل للأزرق وعروقها بارزة، لدرجة حسيت إن العروق موجودة فوق الجِلد، ده غير إن ضوافره كانت طويلة ولونها أسود، وكأنها مخالب حيوان مفترس، أما وشُّه فكان بنفس اللون، والعروق اللي في رقبته كانت نفس عروق إيده.
شهقت وكأني طفل اتفزع لما قابل كلب مسعور في الشارع، حاولت أرجع لورا لكن رجليا مطاوعتنيش، وفي اللحظة دي، لقيته بيرفع وشه ناحيتي، عينيه كانت ممسوحة ولونها أبيض، وساعتها قال بصوت مبحوح:
_أنا هناك يا عم صدقي؛ هناك، اللي قدامك ده صورته اللي هتعيش جوايا للأبد.
بعدها راسه سقطت في الأرض زي ما يكون السر الإلهي خرج منه، مقدرتش أقرَّب ناحيته بعد ما شُفته بالمنظر ده، خصوصًا لما لمحت دخان أسود خارج من جسمه، كان نفس الدخان اللي لمحته خارج من الكتاب الغريب وبيدخل في صدره.
الفزع كان هيخليني أقع من طولي، جمدت أعصابي وبدأت أستعيذ بالله، ساعتها اتضح لي إن لساني بيتحرَّك بالعافية، ومع الوقت، قدرت أتحرَّك من مكاني وأخرج من الأوضة، قربت من التليفون الأرضي اللي على مكتبي ورفعت السماعة، طلبت رقم الإسعاف، ولما ردُّوا عليا بلَّغتهم بمكان العيادة، وقُلت لهم إني دخلت على الدكتور لقيته واقع في الأرض وقاطع النفس.
مفيش نُص ساعة والإسعاف كان واصل، وفي الفترة دي مقرَّبتش من الدكتور وسام، ولا حتى دخلت أوضة الكشف، بيني وبينكم؛ كل اللي حصل معايا من ليلة امبارح كوم، والمنظر اللي شُفته فيه كوم تاني، لأن لو جرى له حاجة هيقولوا شُبهة جنائية، عشان كِدَه لا قرَّبت منه ولا لمسته، لكني دخلت مع المُسعفين لما وصلوا، وده عشان أقول لهم على مكانه، ساعتها بلعت ريقي من الصدمة، الدكتور وسام كان نايم في الأرض طبيعي، وكل اللي شُفته مكانش له أثر.
فضلت واقف لحد ما المُسعفين اتأكدوا إنه لسَّه فيه الروح، ساعتها شالوه على النقّالة اللي معاهم ونزلوا بيه، ومن بعد اللي حصل ده، بقى عندي زيارة أسبوعية لمستشفى الأمراض العصبية، أصل الدكتور وسام بقى مقيم هناك، والسبب إنه لما فاق في المستشفى طاح في الدكاترة والممرضين، اتهجّم عليهم وكان بيقول نفس الكلام اللي سمعته لما شفت نفسي في الكهف، ولما حطيت ودني على باب أوضة الكشف والأستاذ رشيد جوَّه، “الوحا الوحا؛ العجَل العجَل؛ الساعة الساعة”، ساعتها طلبوا الشرطة وعملوا محضر، والمحضر اتحوّل نيابة وبقت قضية، وانتهت بإثبات إنه مريض عقلي، ولما كنت بروح له زيارة، كان دايمًا يبُص لي ويسألني:
_أنت جاي تزورني ولا تزوره يا عم صدقي؟
مكنتش عارف هو بقصد إيه، لكن خلاص؛ معادش ينفع آخد له على كلام، ده غير إني مكنتش الوحيد اللي بزوره، ده الأستاذ بشير كان بيطُل عليه من وقت للتاني، والغريبة إني عرفت إن الأستاذ رشيد بيزوره برضه في نفس مواعيد زيارته للعيادة، وده لما لقيته رُحت له آخر زيارة ولقيته قاعد معاه، والأغرب من كل ده؛ هو إني لما دخلت عليهم فجأة لقيته جايب بالطو أسود ومخلّي الدكتور وسام يلبسه، وكان مغطّي راسه ووشه بشال أسود، وكان بيعيد عليه نفس الكلام، ساعتها صرخت فيه وقُلت له:
_سيبه يا ملعون.
أفراد الأمن في المستشفى اتجمعوا على صوتي، وانتهت الحكاية بإنهم خرَّجونا برَّه المستشفى، أخدت بعضي ورجعت على العيادة، ومتستغربوش إني لسَّه هناك، أصل كل حاجة زي ما هي، كل الحكاية إن الدكتور وسام مالوش حد، لا زوجة ولا ابن، عشان كِدَه العيادة اتقفلت عليا، وفضلت عايش فيها زي ما أنا، لأني ماليش مكان تاني زي ما أنتوا عارفين من البداية، ماليش مكان غيرها، عشان كِدَه بزوره، أصل مينفعش أكون عايش في مكانه وأقطع زيارتي ليه، لحد ما ربنا يأذن وياخد بيدُّه، ويرجع عيادته ويشتغل من تاني.
في اليوم ده لما رجعت، دخلت العيادة وقفلت الباب عليا، بس قبل ما أتحرَّك خطوة ناحية الاستراحة سمعت حد بيخبط، ولما فتحت الباب لقيته الأستاذ بشير، ساعتها طلبت منه يدخل لكنه قال لي:
_عندي شغل كتير يا عم صدقي، بس كنت فايت ورجلي أخدتني لفوق كالعادة، طمني على الدكتور وسام، مفيش جديد؟
_ولا قديم يا أستاذ بشير، ادعيله.
متستغربوش إني مجيبتش سيرة عن الخناقة اللي حصلت بيني وبين الأستاذ رشيد في المستشفى، أصل بعيد عن إن الأستاذ بشير ميعرفوش، لكن اللي شُفته في أوضة الكشف مخرجش برَّه لساني، فضل سِر جوايا، عشان لما الدكتور وسام يرجع الدنيا تبقى طبيعية، أصل حاجة زي دي لو اتعرفِت هتدمَّر حياته للأبد.
بعد شوية كلام على الباب الأستاذ بشير سابني ومشي، بعدها قفلت ودخلت الاستراحة، فردت ضهري على الكنبة والنوم أخدني، مفتحتش عيني غير لما الباب خبَّط، ومن الشباك عرفت إن الليل دخل، قُمت أشوف مين اللي جاي في الوقت ده، ولما فتحت لقيته الأستاذ رشيد، الدم فار في عروقي، ولسه همسِك في خناقه لقيته بيمسِك إيدي وبيحاول يهدّيني وقال:
_حلمك عليا بس يا راجل يا طيِّب، عارف إنك شايفني شيطان، لكن الحقيقة غير كده، أنا كنت بحاول أساعد الدكتور وسام.
معرفش ليه حسيت الثورة اللي جوايا خمدت شوية، وساعتها رديت عليه:
_تساعده ولا تخليه يوصل لهلاكه!
ابتسم في وشي ومعلَّقش على اندفاعي في الكلام وقال:
_هنتكلم على الباب؟
من باب خليك ورا الكداب لحد باب الدار، سمحت له يدخل العيادة لحد ما أفهم إيه الحكاية، وبعد ما دخلنا وقعدنا بدأ يتكلم:
_أنت تعرف الدكتور وسام وهو على الحال ده، الكل فاكر إنه بيتعصَّب فجأة وبيمشي من أي مكان ويعتزل الناس لحد ما يرجع لطبيعته، لكن الحقيقة إنه ممسوس.
_بقى عايزني أصدق الكلام ده؟
_ومتصدَّقش ليه؟ المَس والسحر والجِن موجودين في الأديان السماوية.
_بس إيه اللي يخلّي الدكتور وسام يتمَس.
_من كام سنة كان في زيارة للمغرب، كان بيحضر مؤتمر، وهناك خرج في جولة مع دكتور مغربي، واتقابلوا في شيخ مغربي من اللي بيشتغلوا في الروحانيات، الليلة دي صادفت ١٣ أغسطس، وساعتها الشيخ اتكلم معاه عن مغارة الجِن، اللي السَّحرة بيزوروها في اليوم ده من كل مكان في العالم، وقال له إن المغارة دي أكبر بوابة بين عالمنا وعالم الجِن، وإن السَّحرة اللي بيدخلوها كل سنة خُدَّامهم من الجِن بيفضلوا مستمرين معاهم، وبيجنّدوا خُدَّام جُداد كمان، ساعتها الدكتور وسام فضوله أخده واتكلم مع الشيخ أكتر، ومن بين الكلام جَت سيرة كُتب تسخير الجن، والكلام جاب بعضه والشيخ منح الدكتور وسام كتاب تسخير، لكن نصحه ميقرأش منه حاجة، لأن وجود الكتب دي في حد ذاته مفيهوش ضرر، الضرر في استخدامه، لكن الدكتور وسام قرأ منه، ومن حظه السيء إنه قرأ فيه تعويذة استحضار، وساعتها حضر جِن سفلي لعين ومَس الدكتور وسام، ولمَّا داخ على ناس كتير تعالجه وقع في طريقي، لأني مش زبون من زباين العيادة زي ما أنت فاكر، أنا الشيخ اللي بيعالجه، وبتردد عليه في أوقات معينة أجدد الهدنة اللي بينه وبين الجِن، لأنه بيتأذى أذى شديد لو الهدنة متعملتش، ولأن محاولات علاجه في شقته فشلت، بسبب إن أرض العمارة اللي ساكن فيها كانت مقابر زمان، والأماكن دي بتزيد من قوة الجِن، فكانت المحاولة الأخيرة إني أعالجه هنا؛ في العيادة، عشان كده طلبت منه يجيب الكتاب هنا وبعالجه هنا من سنة، والمفروض له جلسة علاج في ١٣ أغسطس، عشان ده اليوم اللي المغارة بتفتح فيه، وحاولت في اليوم ده أستعين بجن من المغارة عشان يطرد الجن اللي عليه، لكن المحاولة برضه فشلت، وده لأن الجِن اللي عليه أصلًا من جِن المغارة، ودول من أقوى الجن وبيخدموا بعض ومحدش يقدر عليهم، ومفيش جِن طلبنا مساعدته وقدر عليه، والنتيجة إن اللي كنت خايف منه حصلت، الجِن استحوذ عليه لما المغارة اتفتحت، ويا عالم، هقدر في يوم أستعيده من الجِن ولا لأ، مش أنا اللي أذيت الدكتور وسام زي ما أنت فاهم، هو اللي أذى نفسه لما دخل عالم مالوش علم بيه واتعامل مع مخلوقاته. أنا خلصت كلامي، والكتاب في البالطو الأسود اللي متعلَّق في أوضة الكشف. هستأذنك إني هاخده معايا عشان مفيش حد يتأذى منه.
بعد مسلسل ألف ليلة وليلة اللي سمعته أخد الكتاب وسابني ومشي، لكن عارفين، كنت مقتنع بكل كلمة سمعتها منه، لأن اللي شُفته في أوضة الكشف يومها أكِّد لي إن اللي حصل من أفعال الجِن، أي نعم وقتها كنت بشتغل من سنة في العيادة، لكن كله كوم واليوم ده كوم تاني، وجايز كمان الكهف اللي شُفته كان هو المغارة، وإن ده حصل بسبب الكتاب اللي دخل العيادة في السر زي ما الأستاذ رشيد قال، أو الشيخ رشيد بقى، ما خلاص كل حاجة اتكشفت!
كان عندي أمل إن الأستاذ رشيد يستعيد الدكتور وسام زي ما قال، لكن اليوم كان بيفوت ورا التاني، والشهر ورا الشهر ومفيش حاجة اتغيّرت، وفي كل مرّة كان الأستاذ رشيد بيزورني في العيادة عشان يبلغني أخبار الدكتور وسام كنت بشوف يأس في عينيه، عشان كده عرفت إن مفيش أمل، ودي حاجة كنت متأكد منها.
أما أنا بقى، فمُش عم صدقي ولا حاجة، صدقي ده لو سألتم عنه هتعرفوا إنه مات من سنين طويلة، ده لو عرفتوا توصلوا له كمان، لكن في الحقيقة، أنا الجِن اللي الدكتور وسام قرأ تعويذة استحضاره؛ وهو لابس البالطو الأسود والشال الأسود على راسه، بدون ما يعرف إنه لو معرفش يصرفني الاستحضار هيتحول لاستحواذ، وده سبب إن الهيئة دي اتكررت كذا مرة في الحكاية، عشان كِدَه اخترت شخص مات من سنين وظهرت في صورته، وسميت نفسي على اسمه: صدقي، واشتغلت في عيادة الدكتور وسام، أو عشان أكون واضح، دخلت العيادة في نفس اليوم اللي الكتاب دخلها فيه، بعد ما كنت سبب في إن اللي اشتغلوا فيها طفشوا، أصل أنا لازم أكون مع الكتاب من وقت ما تم استحضاري، وبالمناسبة، الكتاب اللي أخده الشيخ رشيد كتاب مُحرَّف، الكتاب الأصلي أنا محتفظ بيه هنا، عشان أفضل موجود.
الأستاذ بشير كان عنده حق، لما قال إن العيادة اتسكنت، لكنه مكانش يعرف إنه واقف بيتكلم مع الجِن اللي سكنها، يعني أنا دلوقت برُد على نفسي، لما قُلت في شيء خفي ورا كل ده، أنا الشيء الخفي اللي رتّب كل حاجة في الضلمة، عشان عملية الاستحواذ تتم على العيادة، زي ما تمّت على شقة الدكتور وسام، أصل اللي حكيت عنه في المغارة كان طقوس الاستحواذ، وساعتها الدكتور وسام مشافنيش زي ما عرفتم، لأن مفيش إنسي بيقدر يشوف جِن.
أنا عارف إن كله اتخدع، أصل مزاج عند الجِن يخدع بني آدم ويلعب بيهم، لأنهم فاكرين إنهم ملكوا الكون واتحكّموا فيه، لدرجة إنهم بيتعاملوا باستهزاء مع العالم بتاعنا، وفاكرين إنهم يقدروا يسخّرونا ويصرفونا على مزاجهم، لكن الحقيقة عكس كده تمامًا، واللي حصل مع الدكتور وسام كانت قرصة ودن لُه؛ ولكل واحد يفكر يعمل حاجة زي دي.
ودلوقت حققت غايتي، استحوذت عليه وعلى كُل حاجة تخصه؛ لأنه معرفش يصرفني، وبالتالي شروط التعويذة اتحققت، والنتيجة إنه دخل مستشفى الأمراض العصبية بدون رجعة، ودلوقت بعلن عن نفسي وأنا متأكد إن محدش هيقدر يثبت بالدليل إني مش صدقي، ولو كان في حد يقدر، كان من الأولى إن الشيخ رشيد اللي كانت مهمته يصرفني كان اكتشفني وهو رايح جاي قدامي طول الفترة اللي فاتت، بدون ما يعرف إني أنا الجِن اللي المفروض يطرده، وبالمناسبة؛ لهجتي الحادة مع الشيخ رشيد مكانش سببها إنه ضيَّع الدكتور وسام؛ الدكتور وسام هو اللي ضيَّع نفسه، لكن أنا مكنتش بطيقه لأنه كان بيحاول يصرفني، حتى وإن كنت عارف إنه مهما حاول هيفشل، لكن في العموم وعلى أي حال؛ مفيش جِن بيقبَل أي حد بيحاول يصرفه، ولحد كده كفاية عليكم، لأني حكيت كتير، ودي مش من عادة الجِن.
***
تمت…
#عيادة_الأسنان
#محمد_عبدالرحمن_شحاتة